چهارشنبه 19 ارديبهشت 1403  
 
 
المبحث الرابع ــ التبرم من الحياة والشيب
من الطبيعي ان يشكو الانسان من حياته ويتبرم من وجوده بعد ان يتعرض لبعض المحن والمصائب, ولاسيما تلك التي تشبه ما أصيب بها الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في تلك المرحلة من عمره, سواء تلك المتمثلة بفقد الأولاد الصغار, أم تلك المتمثلة بغدر الأصدقاء, وتخاذل الأخوان من حوله.
فمن ذلك قوله شاكياً الدهر بعد ان اختطف منه أحد ابنائهـ من الطويل([1]):
من الدهر أشكو أم على الدهر أعتب

 
وفي الحق أغضي أم على الحق أغضب

لعمر الليالي ما غلبن تجلدي

 
ولكن على حكم المقادير أغلب

عجايب لم أعجب لها غير أنني

 
بقيت عليها من بقائي أعجب

فليت القضا يقضي علي بحكمه

 
فأقضي بنحبي ساعةً أتنحبُ

 
فهو حتى عندما يريد التنفيس عن آلامه وأحزانه بالشكوى من الدهر, تقف أمامه مسألة ارتباط الموت بالانسان, وكونه حقاً يجب التسليم به, فيزداد صدره ضيقاً وحرجاً, وتصيبه حالة من التردد والاختلاط بين الدفاع عن حقه في الإبقاء على ولديه الصغيرين وبين كون الموت نفسه حق كتب على بني البشر لا يجوز الغضب منه. فلا يجد أمامه بعد ذلك من منفذ يتخلص به من عذابه وأحزانه إلا بتمني الموت الذي يجد فيه الراحة والخلاص.
وكذلك تظهر هذه الشكوى من القضاء في خماسيات الشيخ التي يقول في احداها ــ من المتقارب([2]):
بليتنا جري هذا القضاء

 
ومحنتنا جور حكم القدرْ

وردت واصدرت قبل الرشيق

 
فماذا الورود وماذا الصدرْ

ونغّص عيشِيَ فكري بما

 
سألقاه من سطوات القدرْ

وفي أي عاصفة من خريف

 
عمري يقلع هذا الشجرْ

ولم تبق مني سوى دوحة

 
تساقط أوراقها والثمرْ

 
فكأن المحن والمصائب مكتوبة على جبين الانسان في هذه الحياة, ولكثرة ما أصاب الشيخ منها، تولد في فكره هاجس من الخوف والرعب والتوجس من الأحداث, التي نغصت عيشه ولم تترك له إلا هيكل شيخ كبير ضعيف أمام عواصف الدهر.
 وفي بعض الاحيان يجمع الشيخ الشكوى من الدهر والتبرم من قومه, وكيف اتحد الجميع على مهاجمته وأذيته، فيقول ــ من الوافر المجزوء([3]):
لمن أشكوك يا زمني

 
ومن ذا منك ينصفني

تهاجمني بارزاءٍ

 
وانواع من المحن

فلا تلقى سوى جلدٍ

 
ولا ألقى سوى شجنِ

ومنك بليتي عظمت

 
ومن قومي ومن وطني

فلو أني ملكتهم

 
لبعتهم بلا ثمن

 
وزيادةً على شكوى الشيخ من الدهر الذي اختطف منه أولاده، وشكوى غدر الاصدقاء وتخاذلهم، يشكو الشيخ أيضاً الشيب الذي ملأ رأسه بالبياض وقلبه باليأس والمرارة، فيقول ــ من مجزوء الرمل([4]):
شيبةً لاحت برأسي

 
منعت جنبي قراره

افعمت قلبي أشجا


~
 
ناً ويأساً ومرارة

عرفوها: لتولي

 
زهرة العمر إشارة

إنما الشيبة في الرأ

 
س هشيم وشرارة

 
ولكنه على الرغم من ذلك يراه:
هو للحكمة والحنكة

 
والعقل إمارة

ويحاول ان يقنع نفسه ويجد لها السلوى بعد الشيب وابيضاض الرأس، إلا ان الحقيقة لا يمكن تجاهلها، فيقول:
وصحونا بعد سُكرٍ

 
قد مضى إلا خماره

فإذا الغابر حلمٌ

 
أكثر القلب ادكاره

وإذا المقبل غيب

 
دونه قامت ستاره

.........................................................
 
.........................................................
هكذا صرت وقد

 
ألبسني الشيب وقاره

لا أرى شيئاً جميلاً

 
فيه حسن ونظارة

فكأني أبصر الدنيا

 
بعينٍ مستعارة

ومن ذلك كله يتضح بان شكوى الشيخ في هذه المرحلة من حياته كان تنفيساً عما أصابه من محن ومصائب, وما اجتمع عليه من فقد الأولاد وغدر الأصدقاء وشبح الشيخوخة والشيب وما تركه كل ذلك على مشاعر الإنسان وأفكاره.


([1]) الحسن من شعر الحسين: 215.
([2]) خماسيات روضة الحزين: 11.
([3]) المصدر نفسه: 20.
([4]) وجدت هذه القصيدة مخطوطة بخط الشيخ في دفتر مذكراته. الموجود في مكتبة نجله الشيخ محمد شريف كاشف الغطاء في النجف الأشرف.
 
امتیاز دهی
 
 

 
Guest (PortalGuest)

دبيرخانه كنفرانس‌هاي بين‌المللي
مجری سایت : شرکت سیگما