جمعه 10 فروردين 1403  
 
 
المبحث السادس/ الشكوى

وهو من أقدم أغراض الشعر العربي، عبر من خلاله الشعراء عن أحزانهم وآلامهم، فقد كان هذا الغرض «وسيلة يصب فيها الشاعر تبرمة بالحياة وسخطه عليها لمجرد أنها حياة نظر إليها الشاعر من زاويتها المظلمة، أو لأنه ينظر إلى الزمن على أنه قدر محتوم وقضاء مبرم»([1]).
أما في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين فقد تحولت الشكوى من الزمن أو الحياة إلى وسيلة يتطلع الشاعر من خلالها إلى حياة أفضل وعيش رغيد، ويصور فيها أثر الذل والظلم الذي كان يعاني منه الشاعر العراقي, وأغلب أبناء الشعب من قبل العثمانيين وولاتهم([2])، فقد كان هذا الشعر يشبه العدسة التي تلتقط صور التخلف والتردي في ذلك المجتمع ومصادرة الحريات والسياسات العنصرية السائدة فيه([3]).
وكان الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء أحد الشعراء الذين حملوا مثل هذا الشعور, الذي ترجم إحساسه الكبير بالعزة والكرامة, وحبه العارم للوطن والأمة([4]),وما كان يعانيه من زمنه وبعض أفراد مجتمعه([5])، فهو الذي يقول: «ان ما أشاهده ليؤكد لي ما يقصه التأريخ من شذوذ وظلم من مناصرة البسطاء وخذلان العلماء. ولست بأول قارورة»([6]).
فهو يجد في رثاء الإمام الحسينu المجال المناسب لبث ألمه وشكواه، وما يعانيه من جور الدهر وغدر أبناء الزمان، أولئك الذين ورثوا الغدر من آبائهم الذين خذلوا الحسينu وقتلوه, فيقول ــ من الكامل ــ ([7]):
تعساً لدهر اصبحت أيامه

 
والغدر نجح عداتها وعداتُها

لاغرو أن تعقد بنوه الغدر

~
فالأبناء من آبائها عاداتها

 
فقد كان ذلك الزمن التعيس لا يفتأ يشن الغارات عليه. ولا يترك له مجالاً للراحة والسكينة:
كم غارة لك يا زمان شننتها

 
لم استطع دفعاً لها فشنأتُها([8])

وارى الليالي منك حبلى لم تلد

 
للحر غير ملمةٍ عدواتها

 
فكم من مصيبة عظيمة لم يستطع الشاعر دفعها. فتحملها مبغضاً بعد أن أعيته السبل وأتعبه ذلك الزمن الذي وجد في الحر الكريم مقصداًلسهامه.
ومن قصيدة بعثها الشاعر إلى والده في (أسطنبول) بعد أن تركه وهو في مقتبل الشباب، تضمنت شكواه من الزمن الذي وجد الفرصة السانحة لينقض عليه بمخالبه وأنيابه، فيتوجه إلى والده ويقول ــ من البسيط ــ ([9]):
اليكَ شكواي من دهرٍ يناهشني

 
في كل يوم بأنياب من النوبِ

يا نائياً قد ناى عزي به فغدا
 
~
الزفيرُ في صعدٍ والدمع في صَبِ

لعبتُ بالدهر لما كنت مقترباً

 
ومذ تباعدت صار الدهر يلعبُ بيِ

فشبتُ لاكبراً لكنَّ من لعبت

 
به خطوبُ زماني كيف لم يشبِ

 
فالشعور بالوحدة وكثرة المصائب؛ جعلامن الشاعر أشبه باللعبة التي تتقاذفها أيدي الدهر القاسي، الذي شاب فيه الشاعر وهو شاب صغير, ولعله في هذا يسعى إلى التأثير في والده كي يعود من اغترابه الذي طال.
 
وقد يستثمر الشكوى للفخر بنفسه في مقاومة نائبات الدهرـ. كما في قوله ــ من الوافر ـــ([10]):
عظام النائبات أبين إلا

 
بأن ينـزلن بالرجل العظيمِ

بمعوج بليت وما أراني

 
بُليتُ من الزمان بمستقيمِ

ومالي لا أرى إلا لئيماً

 
وكأبى أن أذل إلى اللئيمِ

 
فلم تقصده النائبات الجسام إلا لأنه رجل عظيم، لم يرض بالذل والمهانة، ولم يجد من مجتمعه إلا اللئام والمتخاذلين، الذين يراهم قروداً وخنازير. أولئك الذين افتقروا إلى الفضائل الكريمة، وهو ذو المجد الباسق والشرف العريق. فولد هذا التناقض شعوراً بعدم القدرة على الإنسجام، ورفض التعايش مع مثل هذا الواقع المر. فقال ــ من الطويل ــ :(2)
تناهبني حرب الزمان وسلمُه

 
وأبلينني بيض الليالي وسودها

..................................................................
 
..................................................................
على ما مقامي في ديارٍ تريست

 
خنازيرها قسراً بها وقرودها

تعاوت بها سود الكلاب فأصبحت

 
تعض على الأقذار طرفاً أسودها

فلا علم من آرائهم أستفيده

 
ولا هبةٍ من مالهم استفيدها

ولي النسب الزاكي اذا ينسبونني

 
وفيَّ طريفات العُلا وتليدها

 
وأخيراً يمكننا القول بأننا لم نرَ في حياة الشيخ الخاصة في هذه المرحلة ما يدعو إلى الشكوى. إلا أنه أظهر شكواه وبرمه من الحياة ومظاهر التخلف والتردي في المجتمع. الأمر الذي يعكس تجاوز هموم الشيخ وطموحاته اطار حياته الخاصة الضيقة، وحمله لهموم المجتمع والبلاد منذ تفتح أفكاره. فما كان ذلك إلا بداية لتلك النزعة الإصلاحية التي تبناها في حياته ليس كرجل دين وإرشاد فقط. بل كونه رجل نهضة وإصلاح.
 


([1]) حركة التطور والتجديد في الشعر العراقي الحديث: 21.
([2]) ينظر: الشعر العراقي أهدافه وخصائصه في القرن التاسع عشر: 149.
([3]) ينظر: الشعر السياسي العراقي في القرن التاسع عشر: 242.
([4]) ينظر: شعراء الغري: 8/112, 118.
([5]) ينظر: المصدر نفسه: 8/102.
([6]) المصدر نفسه: 8/102.
([7]) مقتل الحسينu المقرم: 379.
([8]) (شَنأهُ) ــ شنئاَ وشناناً: ابغضه وتجنبه, المعجم الوسيط, مادة (شنأ): 1/497.
([9]) الحسن من شعر الحسين: 33.
([10]) المصدر نفسه: 171.
(2) الحسن من شعر الحسين: 97.
 
امتیاز دهی
 
 

 
Guest (PortalGuest)

دبيرخانه كنفرانس‌هاي بين‌المللي
مجری سایت : شرکت سیگما