جمعه 10 فروردين 1403  
 
 
المبحث الخامس ــ الشعر التأملي
وهو غرض من أغراض الشعر العربي الحديث، يتجه فيه الشاعر نحو الحياة الروحية والموضوعات المجردة، ويدخل في خبايا النفس الإنسانية، متأملاً ودائعها, ومحاولاً الكشف عن بعض غوامضها وعلاقتها بمشاكل الوجود وقضايا الفناء والخلود([1]).
ويعكس هذا الغرض اضطراب الحياة، واختلاط المرتكزات والمفاهيم التي عانى منها المجتمع، ولا سيما في العقد الثاني من القرن العشرين، فقد واجه المثقف العربي صراعاً شديداً قائماً بين «مدنية العصر التي طغت بماديتها وحولت عالم الإنسان إلى تكالب ونزاع, وبين حنين النفس إلى عالم روحي يلجأ اليه ويلوذ تحت أفيائه من قسوة الحياة وشقائها»([2]).
وخلق هذا الصراع قلقاً شديداً في العقل العربي، واضطراباً كبيراً في المسارات، وحالة من حالات النزوع ورفض الواقع. تركت آثارها الواضحة في الأدب والشعر.
وذلك ما نجده في قول الشيخ محمد حسين ــ من المتقارب ــ ([3]):
سأمت حياتي بهذا النفق

 
فكم ذا العناء وكم ذا القلقْ([4])

أمرعى ــ وما هو إلا الوبيل

 
ووزر ـ وما هو إلا الرنقْ([5])

أيقبلني موج هذي الصروف

 
فلا للحياة و لا للغرقْ
 
 
فقد سام الشيخ ذلك القلق والاضطراب الذي حول المرعى الفسيح في نظره كئيباً وخيماً. والماء العذب في فمه مراً كدراً، وأصبحت الحياة لا تفتأ تقلبه من حال إلى حال، لا للسعادة و لا للفناء.
فتتولد عنده نوازع الإستنكار, ورفض الواقع, فلا يجد أمامه من يسمع شكاته إلى نفسه الإنسانية التي يخاطبها بقوله([6]):
أجلَّك يا نفسُ ان تقنعي

 
بهذا الطعام وهذا الطبقْ

تحدرت من عالم نيرَّ

 
تصبب بالقدس ماءً غدقْ([7])

فكيف هبطت إلى سافلٍ

 
وقد كنت شامخ علم سبقْ

أعيذك من كون هذا الفساد

 
ومن باطل قد تزيا بحقْ

وكنت سراجاً بروض النعيم

 
فمن ذا رماك بهذا الوهقْ([8])

وكيف اتحدت بهذا الكثيف

 
وطبعك أرقى سما بل أرقْ

 
فهو يرفض هذه الحياة المادية، ويشخص ببصره نحو ذلك المنبع الصافي والجمال الأزلي الذي انحدرت منه نفوس الخلائق، فهو منتهى الجمال الذي يريد, لا الذي تخدعه به الدنيا من غرور ومفاتن ولين قوام أو لذيذ مقبل. فيقول([9]):
اغرك زبرج هذا الجمال

 
ولا تعلمين اذا ما اعتلقْ

تالق زخرفه مُعجبا

 
ولم تدر ما خلف هذا الالقْ

أبيحك اني عنه رغبت

 
اذا ما عشى نحوه من عشقْ

وخاطرت حمرة هذي الخدود
ج



 
فان الظلام وراء الشفقْ

وعفت القوام على انه

 
لذيذ المقبل والمعتنقْ

................................................................
 
................................................................
اريد جمالاً خلا من أذى

 
واطلب عيشاً صفا من رنقْ

 
وربما لا يجد الشيخ جواباً لندائه أو مخرجاً في حيرته، إلا في البحث عن مكان سرمدي يصعد إليه وحيداً في ملكوت السماوات، حيث الفضاء الصامت والسكوت التام، ليتجرد جوهراً ومعنىً من دون مادة أو فساد, يتلمس هناك السلام والطمأنينة. فيقول ــ من الخفيف ــ ([10]):
خلياني ملازم الخلوات

 
حول درس الأكوان والكائنات

خلياني أجوب قفر الفيافي

 
وأزور الوحوش في الفلوات

وأناجي النجوم في الليل رامٍ

 
بشواظ النيران للنيران

خائضاً في السماء لجي بحرٍ

 
كم له في المجر من غمرات

حيث تطفو الشموس فيه حباباً

 
وتهاوي النفوس كالثاقبات

حيث ساد السكون في الأرض حتى

 
ما لغير الأرواح من همسات

حيث مرج الأثير يقدح ناراً

 
ترتمي للضمير في جذوات

................................................................
 
................................................................
خلياني هناك جوهر فكر

 
أو كروح تطير في نفثاتي

 
ثم يصل إلى السبب الحقيقي وراء كل هذا البحث والقلق، فيقول([11]):
سائلاً واللسان سائل دمعي

 
شاكياً والزفير بث شكاتي

أين مثوى السلام والحب في الأر

 
ض وأين الهنا بغير هنات

 
فيخلص إلى أن هذه الحياة ليس فيها إلا العذاب و الآلام. والاضطراب والقلق. فيتوجه إلى معنى الحب الحقيقي. الذي يجده قريباً منه في علياء السماء. فتظهر أمام عينيه تداعيات وجدانية ونفثات (صوفية) ترنوا إلى مصدر الكائنات وعلة الوجود. ذلك الحب الذي يجد عنده المعرفة الحقيقية.والأجوبة الصادقة لكل ما يحيره من ماهية النفس وعلة الوجود. فهو الحقيقة الخالدة. والحس الحقيقي. الذي وهبه الشاعر قلبه وحياته. فيقول ــ من الخفيف ــ ([12]):
ظلمات ياحب انت وحقاً

 
إن ماء الحياة في الظلماتِ

إن خلف الشهود غامض سرٍ

 
من وراء الشكوك والشبهاتِ

لو تجلى عرفت في الكون نفسي

 
او تبدى علمت ماكنه ذاتي

هو معنى والحب أدمج فيه

 
كاندماج الحروف في الكلماتِ

هو معنى الجمال والحسن لفظ

 
والمسمى والحسن بعض السماتِ

أنا بعت الجمال بالحب اوحي

 
يوم قال الجمال هاك وهاتِ

 
 


([1]) ينظر: حركة التطور والتجديد في الشعر العراقي الحديث: 203.
([2]) المصدر نفسه: 209.
([3]) الحسن من شعر الحسين (العصريات والمصريات): 253.
([4]) (نَفَقَ) الشيء ــ نفقاً: نَفِدَ: لسان العرب مادة (نفق).
([5]) (الوبيل): المرعى الوخيم, لسان العرب مادة (وبل). (رَنَقَ): كَدِرَ: لسان العرب مادة (رنق).
([6]) الحسن من شعر الحسين (العصريات والمصريات): 253.
([7]) (الغدق): الكثير، لسان العرب، مادة (غدق).
([8]) (الوهق): الحبل المغار يرمي فيه انشوطة فتوخذ فيه الدابة والإنسان، لسان العرب مادة (وهق).
([9]) الحسن من شعر الحسين (العصريات والمصريات): 253 ــ 254.
([10]) شعراء الغري: 8/148.
([11]) شعراء الغري: 8/148.
([12]) شعراء الغري 8/148 ــ 149.
 
امتیاز دهی
 
 

 
Guest (PortalGuest)

دبيرخانه كنفرانس‌هاي بين‌المللي
مجری سایت : شرکت سیگما