شنبه 1 ارديبهشت 1403  
 
 
اولا : المقدمات الرئيسه
مقدمة القصيدة العربية ظاهرة فنية برزت مع نشأة القصيدة في العصر الجاهلي, وظل الشعراء يصدّرون بها قصائدهم على امتداد العصور الادبية التالية, والمقدمات أنواع مختلفة, فإلى جانب المقدمات الغزلية والطللية, كان هناك ثمة مقدمات أخرى في الشيب والطيف وغيرها([1]).
 وقد اعتنى النقاد بالمقدمات ومضامينها, ولعل ابن قتيبة (276هــ) من اقدم من اشار الى ذلك, وذكر كيف يستميل الشاعر قلوب السامعين ويستدعي اسماعهم بما يقدمه من غزل ونسيب([2]), وهو تفسير انصب على الأثر الخارجي للمقدمة من دون اعتناء بالجوانب الأخرى المتعلقة بمعاناة الشاعر وتجربته الذاتية. تلك التي أشار إليها بعض المحدثين, الذين أوعَزوا إلى أن وجود المقدمات في القصائد العربية يرتبط بذات الشاعر الذي كان وقوفه على الأطلال أكثر من مجرد بكاء على الحبيبة او السعادة التي انقضت, بل كانت صرخة يائسة أمام حقيقة الموت والفناء([3]).
ومن جانب آخر تعد المقدمة «جسر الملتقي ومنفذه الى عالم التجربة التي بعثت الشاعر على قول القصيدة برمتها»([4]). فهي تمثل ذلك الجزء الحيوي الذي تتمحور فيه تجربة الشاعر الخلاقة.
وفي القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين في العراق.كان لزاما على الشاعر أن يبدأ القصيدة بالغزل أو النسيب أو وصف الفرس أو الناقة أو الليل أو الخمر, او وصف الرياض والرياحين والورود بمختلف اشكالها والوانها([5]), وغيرها من المقدمات التي ورد الكثير منها في شعر الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء, وعلى شكل مقدمات منفردة تارة ومركبة أخرى, وبحسب ما يأتي:
 
أولاً: المقدمات الرئيسة:
وهي المتمثلة ب ــ
v   مقدمة الطلل.
v   مقدمة الغزل.
v   مقدمة الظعن.
v   مقدمة الطبيعة الفرحة.
ثانياً: المقدمات الثانوية.
ثالثاً: المقدمات المتعددة

 
 
 
 
 
تعد المقدمات الطللية بداية المرحلة الشعورية التي مرر من خلالها الشاعر العربي القديم احاسيسه, وبسط افكاره, لتتناسق في إطار موضوعي متكامل.
فقد وجد الشعراء في مواقف الطلل ما يثير عواطفهم, ويلزمهم بالوقوف أمامه لبرهة من الزمن, فقد ذابت بين حنايا اثار ديارهم ايامهم العزيزة, واندثرت عند نؤيها واحجارها أجمل الذكريات, تلك التي كانت صورها تتداعى في اذهانهم ملوية مشوهة, وتتعالى امام أعينهم خافتة و مندثرة([6]).
وقد كان تذكر الديار والاطلال بمثابة «الرموز لتجربة الالم التي يجد فيها الشاعر راحة ولذة نفسيتين يطمئن اليهما في التعبير عن بعض مشاعره الحبيسة»([7]), وتؤدي وظيفة خلق الجو الشعري الذي يمنح الشاعر القدرة على القول, لأنه يصبح في حالة معاناة شعرية حادة تمده بالمشاعر التي تمكنه من التنفيس عن كل ما يحتمل في قلبه من عواطف وأفكار؛ وهو في ذات الوقت يهيئ الجو المناسب للمتلقي الذي يجد في هذه المعاناة شبها لما يعانيه أو يحس به([8]).
والمقدمات الطللية تحتوي على الكثير من المواقف التي دأب الشعراء على تناولها في قصائدهم, ولاسيما الوقوف على الطلل, وتحديد المنازل،واستعجام الدِّمَن،ووصف بقايا الآثار, واثر الرياح والأمطار, ووصف قطعان الوحوش في عرصاتها, زيادة على استيقاف الاصحاب وسؤالهم, والبكاء معهم, واستذكار الأيام الماضية, وتذكر أهلها الراحلين([9].)
 
وقد قدم الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء الكثير من قصائده بهذه المقدمات, مستثمرا إيحاءاتها في خلق الجو الشعري الذي يمنحه القدرة على الدخول في الغرض, ومقتفيا في ذلك أساليب القدامى في مقدماتهم, زيادة على ما تمليه التجربة الخاصة, وطبيعة العصر والبيئة من لمسات وابعاد تميزه عن غيره.
فمن قصيدة يرثي فيها الامام الحسينu قوله ــ من الكامل ــ([10]):
أقوت فهن من الأنيس خلاءُ

 
دمنٌ محت آياتها الأنواءُ

درست فغيّرها البلى فكأنما

 
طارت بشمل أنيسها عنقاءُ
ج
يادار مقرية الضيوف بشاشة
ج
 
وقراي منك الوجد والبرحاءُ

عبقت بتربك نفحة مسكية

 
وسقت ثراك الديمة الوطفاءُ
ج
عهدي بربعك آنِسا بك آهلاً
ج
 
يعلوه منك البشر والسرّاءُ
ج
وترى ربوعك للنواظر أثمد

 
والعقد حلي ضيائك الحصباءُ

قد كان مجتمع الهوى واليوم في

 
عرصاته تتفرق الأهواءُ

أخنى عليه دهره والدهر لا
ج
 
يُرجى له بذوي الوفاء وفاءُ
ج
 
حيث سار الشاعر في هذه المقدمة على نهج القدماء من الاشارة الى اقواء الديار واندثار معالمها, والدعاء لها بالسقيا بعد أن اقفرت من أهلها, واخنى عليها الدهر, وكأنه معنيّ بملاحقة هذه التفاصيل الجزئية من الحديث عن الطلل, وبصورة تعكس خضوع الشاعر للتقاليد الفنية القديمة التي تاثر بها مع معاصريه في ذلك العصر, ومحاولة اضفاء ايحاء صورة الطلل وتداعيات الآثار والماضي الحزين لتلك الديار التي تركها الحسينu بعد استشهاده خالية مبعثرة بعد سلبها وحرقها في كربلاء.
وله في رثاء بعض العلماء قوله ــ من السريع ــ([11]):
يا هل يجيب الربع تسالي

 
عن رسمه المنطمس البالي

كم موقف لي بثنايا الحمى

 
بين ظلال السمر والضالِ

غارت جياد الوجد في مهجتي

 
بغور آياتٍ وأطلالِ

معالم اقوت ودور خلت

 
يا لاعداها صيّب الحالِ

اغلت بنار الوجد مني الحشا

 
وأرخصت في دمعي القالِ

وقفت في أجراعها حائراً

 
اعثر في فاضل اذيالي

 
حيث ذكر الشاعر بعض عناصر لوحة الطلل من الوقوف والسؤال ومخاطبة الديار, مع توسع في البكاء والحيرة, ووصف الالم والمعاناة من دون مزيد من التفصيل بذكر النؤي والاوتاد والاثافي, واثر حيوان الصحراء التي تبعد الشاعر كثيرا عن زمنه وبيئته.
وكذلك قدم الشاعر بعض قصائده في المديح بالمقدمة الطللية([12])التي كانت اكثر تقليدا وتاثيرا بمقدمات القدامى واساليبهم, فقد قال في احدى المقدمات ــ من الطويل ــ([13]):
أميلا رقاب اليعملات النجائب

 
على تلعات المنحنى فالأخاشبِ

وعوجا على سقط اللوى يا سقى اللوى

 
وأهليه نوء المدجنات الأهاضبِ

وإن جزمتما أكناف نجدٍ فحييا

 
قريباً إلى قلبي وان لم يقاربِ

.............................................................
 
.............................................................
فكم وقفةٍ لي بين دارس رسمها

 
أنادي وما غير الصدى من مجاوبِ

 
فقد ذكر (اليعملات النجائب), ومر على (تلعات المنحنى والاخاشب وسقط اللوى واكناف نجد), ودعا للديار بالسقيا, وذكر أيام الصبا الماضية, ووقف مناديا احبته الراحلين, فلم يرد عليه إلا الصدى المتلاطم بين تلك الآثار والأطلال, فكأن الشاعر في ذلك قد تناسى البيئة التي يعيش فيها, والزمن الذي يبعده عن البداوة والصحراء, وبصورة تعكس تقليده وتمسكه بطرق القدامى وأساليبهم.
أما في التهاني فلم تخل قصائد الشيخ من الطلل وذكر الديار, فقد قال في مقدمة قصيدة يهنيء فيها السيد جعفر الحلي في دار عمّرها.
 ــ من الطويل ــ([14]):
سقى الدار من جون الغوادي عهودها

 
ولا زال منهل السحاب يجودها

وسار بريا البشر عرف الهنا بها

 
فأورق ذاويها وازهر عودها

حيث اقتبس الشاعر من لوحة الطلل تلك العناصر التي تنسجم مع الغرض الرئيس من القصيدة (التهنئة في بناء دار), فقد دعا لها بدوام السقيا, وانتشار الهناء, والبشر بين ربوعه, تاركا تفاصيل الاثار والحزن واللوعة والفراق التي وجدها بعيدة عن غرضه وغير متناسبة مع الاطار العام لقصيدته.
وفي بعض الاحيان يحاول الشاعر ان يخرج في مقدمته الطللية من اثار التقليد الواضح, ويمنحها شيئا من الحداثة والتجديد, فالديار البالية تتحول الى قصور, واماكن الصحراء يستغني عنها بوادي الغري([15]), فلا وجود لبقايا الاثافي والاوتاد, ولا أثر الوحوش وفعل الرياح,كما يظهر ذلك في مقدمة احدى قصائده مخاطبا رفقاء سفره ــ من الطويل ــ([16]):
خذوا لوعة المشتاق يا ايها السّفرُ

 
إلى الحي حيث الحي آرامه عفرُ

وعوجوا على وادي الغري فلي به

 
غرائر الحاظٍ لها اوجهٌ غرُ

وقولوا لسكان القصور صبابتي

 
وصيّب اجفاني على حوركم قصرُ

 
ومعنى ذلك يظهر بأن الشيخ في مقدماته الطليلة كان متأثراً ومقلداً للقدامى في مقدماتهم, فقد ذكر الاماكن التي اعتادوا على ذكرها, ووقف عليها، وسأَل الاخوان, وتذكر الراحلين, ودعا بالسقيا, دون عناية بتفصيل صورة الاثافي والاثار والاطلال, بل كان يركز على البكاء واثر الفراق الذي يناسب كل بيئةٍ وزمان, مع محاولة خجولة لتوظيف المقدمة الطللية في اطار عصري جديد.
 
قدم الكثير من شعراء العربية قصائدهم بالغزل والنسب, فشكوا شدة الشوق والم الفراق وفرط الصبابة, ملفتين في ذلك انتباه السامعين, ومستدعين اسماعهم, لان النسيب قريب من النفوس لايط بالقلوب, لما جعل الله من تركيب العباد من محبة الغزل والف النساء, فليس يخلو احد من ان يكون متعلقا منه بسبب او ضارب فيه بسهم حلال ام حرام([17]).
وفي الوقت نفسه يجب ان نعرف بان حيوية الغزل وصورة المرأة لها القدرة على الفعل والانفعال والقابلية على التعبير عن مدلولات اكثر تشعبا واثارة من تلك التي يعبر عنها الطلل([18]).
فقد كان لها ان تضع الشاعر امام تجربة اكثر إجهادا ولكنها اقدر على توفير عناصر الايحاء, المطلوب من الشاعر توفيرها ليدخل إلى الغرض الرئيس من القصيدة ويمهد للمتلقي تقبله.
وعادة ما تتالف هذه المقدمة من حديث عن صد المحبوبة وهجرها او بعدها وانفصالها, وما يخلفه الهجر والمطل والفراق من تعلق شديد, وشوق مستبد, ودموع غزار, يسكبها الشاعر حسرة والما ولهفة, وسرعان ماتفد على خاطره أيامه الماضية السعيدة وذكرياته الحلوة الجميلة,حيث كان يلتقي بمحبوبته ويبوح كل منهما لصاحبه بحبه ويبادله اعجابا باعجاب وشوقا بشوق حتى اذا ما انتهى من ذلك مضى يصف محاسنها ومفاتن جسدها([19]). لينتقل بعد ذلك إلى الرحلة أو الغرض.
وقد احتلت هذه المقدمة حضورا واسعا في شعر الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء([20]). وربما كان ذلك لتاثره بالبحتري الذي حفظ اغلب غزلياته وصدور مدائحه منذ الصغر([21]).وكذلك مناسبة استعمال الغزل وعلاقته بالمراة كمعادل موضوعي في قصائد المديح والتهنئة ورسائل الشوق والفراق. فقد كان يختار من الغزل مشاعر الحب والشوق وبعض العواطف الأخرى والتي يمكن ان تتشابه مع مشاعره تجاه من يقصده من اصدقائه وأقربائه.
ففي مقدمة احدى قصائده التي يمدح فيها احد اصدقائه من السادة العلويين([22]). قوله ــ من الكامل ــ([23]):
من لي بلثم سوالف الآرام

 
وبضم قدٍ اهيفٍ وقوامِ

وبمهجتي الرشأ الذي في مهجتي

 
يرتاد لا في سوسن وبشامِ

أهوى مقبله وأخشى عقرب

 
الصدغ الذي يرمي الحشا بسمامِ

عذب اللمى استعذبت فيه تعذبي
ج
 
وغدوت فيه مغرماً بغرامي
ج
ياريم كم لك في القلوب مراتع

 
من هدب لحظك اثخنت بسهامِ

تبدو فترنوا عن نواظر جؤذر

 
في دل غانية وقدّ غلامِ

 
فقد قدم الشاعر قصيدته بمقدمة غزلية عبر من خلالها عن عواطفه وأحاسيسه تجاه المرأة, تلك المحبوبة التي تشبه الظبي المرتاد في مهجته وحشاه عوضا عن المراتع والرياض, وهي ذات القوام الرشيق والقد الاهيف, وذات اللمى العذب, ونظرات الجؤذر التي ترمي الشاعر بسهام لحظها الفتاك, مع مالها من رقة ودلال.
وقد اتسمت مقدمات الشيخ الغزلية بالطول, ولاسيما في الشعر الاخواني, ولعل ذلك نابع من حرص الشاعر على اظهار براعته في النظم والتفنن في الشعر. لان اغلب تلك القصائد كانت تُقرأ وتلقى في محفل من الناس, يتباهى فيها الشاعر مع بعض اخوته ومحبيه من الادباء والشعراء, فيبذل من اجل ذلك جهدا فنيا واضحا في تلك القصائد, هذا فضلا عن كون المقدمة الغزلية اقدر المقدمات على استيعاب مشاعر الشاعر, وأكثر قابلية على تلبية رغباته وعواطفه تجاه اصدقائه واقربائه.
فمن ذلك قوله مهنئا أحد أصدقائه بالزواج ــ من الخفيف([24]):
يا أخا الظبي حبذا لك قلبي

 
مرتعاً لا كبى الحمى والشيحا

اعر الروض من شذاك نفوحاً

 
واعطِ للشمس من سناك وضوحاً

............................................................
 
............................................................
ما انثنت نحوك الجوارح إلا

 
عدن من ذلك التثني جروحاً

تتهادى مثل المهاة فتهدى

~
الوجد للعاشقين والتبريحا

شق قلبي شقيق خدّك لما

 
فتحت روضة الصبا تفتيحا

 
فالشاعر يتمنى أن يكون قلبه مرتعا لذلك المحبوب الذي أعطى الرياض شذاها والشمس نورها وسناها, وعذب جوارح العشاق وشغل قلوب المحبين, بشقيق الخدود, ونبل النواظر, وعبر عن عواطفه, ولواعجه بمقدمة احتلت أكثر من نصف حجم القصيدة.
وربما يظهر استعمال الشيخ للغزل كمعادل موضوعي بصورة واضحة في رسالة شعرية بعثها إلى صديقه الشيخ اغا رضا الاصفهاني([25])احتلت معاني الجمال ومشاعر الوجد والشوق اغلب القصيدة وبالاعتماد على ضمير المذكر.فقد قال ــ من الرجز([26])ــ :
أروضةُُ هزَّ الصبا أراكها

 
أم قامة تهتز ما أراكها

ووجنة ما قد زها ام وردة

 
بين ضلوعي انبتت اشواكها

وتلك الحاظك ام شوك القنا

 
أو لا فهذي مهجتي من شاكها

يا كعبة تنسكت أهل النهى

 
فيها ولكن فتنت نُساكها

ويا ملوكا في القلوب ما سقت

 
من غير انهار الأسى املاكها

ويا كواكباً بافلاك الحشا

 
قد أشرقت فاحرقت افلاكها

كم فيك لي من سكن لم تستطع

 
روحي بثقل حُبه حراكها

مد على حبة خالِ خده
ج
 
للصيد من اصداغه اشراكها

 
فقد عبر عن عواطفه وحبه في هذه المقدمة الغزلية التي اختار منها صفات الجمال ومشاعر الود وتباريح الهوى وبشكل لا يختص كثيرا بالنساء, ومن الممكن اطلاق بعضها على الأصدقاء والأحباب, وليعكس الشيخ بذلك نموذجا واضحا في توظيف المقدمة الغزلية في قصائد شعره حيث كانت المقدمة الأوسع والأكثر استعمالاً فيها من دون بقية المقدمات.
 
وهي من المقدمات القديمة التي افتتح بها الشعراء العرب قصائدهم في العصر الجاهلي والعصور التي تلته. مصورين منظر الظعائن والتحمل والإرتحال, فقد انتشرت قصة الظعائن في الشعر العربي انتشار الظعائن نفسها في الصحراء, فكانت لوناً من أغاني الشعراء زاخراً بالحب والحزن والحنين ترثه الأجيال جيلاً بعد جيل([27]).
وعادة ما استعملت مقدمة الظعن بعد الطلل, وربما قدمت في صدور القصائد في بعض الأحيان([28]), حيث يتوسع الشعراء بذكر تفاصيلها؛ من اعلان خبر الرحيل, ومماشاة الركب, والوقوف عند بعض معالم الطريق, ووصف الظغائن والهوادج, وذكر النساء, والتحدث معهن, وموقف الوداع والألم, وشكوى الفراق, وانسيال الدموع([29]).
ونجد مثل هذه المقدمة في بعض قصائد الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء, ولا سيما تلك التي بث فيها أشواقه وأحزانه, وأرسلها إلى بعض أصدقائه وأخوانه, فمن قصيدة بعثها متشوقاً إلى بعض أصدقائه قوله ــ من الوافرــ ([30]):
بمن ياقلب تستبقي العزاءا

 
وذا ظعن الأحبة قد ثناءا

تناجوا للفراق فان طلبت

 
النجاة فسر وراءهم النجاءا

وإلا فادعهم فعسى يبلوا

 
غليل جواك إن سمعوا الدعاءا

فإني كم دعوتهم اسيراً

 
فلا منا أصبت ولا فداءا

............................................................
 
............................................................
وقفنا موقف التوديع سكرى

 
ولا كاساً ندير ولا طلاءا

على ظمأ ومن كبدي وعيني

 
جمعت هناك نيراناً وماءا

نأوا في الأرض أقماراً فصرنا

 
نرامقُ في طلوعهم السماءا

وأبنا والحنين غدى أنينا

 
عليهم والدموع جرت دماءا

 
حيث صدر الشاعر قصيدته بهذه المقدمة التي وجدها مناسبة للتعبير عن مشاعر الشوق وألم الفراق تجاه ذلك الصديق الذي ارتحل عنه([31]).
ففي مخاطبة الإنسان قلبه دليل على الوحدة والغربة المشوبة بالحزن والألم, فالأحبة قد تناءت ظعونهم, تاركين الشاعر يرزح تحت وطأة الفراق يناجي قلبه ويسليه, ويخبره بعدم جدوى البكاء والنحيب, فقد ابتعد الرحل ولا يستطيع سماعه أحد, فيرجع إلى دياره التي أصبحت أطلالاً تشبه جسمه البالي الضعيف, يسألها عن أهلها الظاعنين, ويشكوا ألمه وبلواه فيقول([32]):
وعجنا نسأل الأطلال عنهم

 
وهن كجسمي البالي عفاءا

وقلت لصحبتي خلو دموعي

 
سوائل لم غدت منهم خلاءا

ومالي قد عدمت قواي لما

 
رأيت ربوعها أمست خلاءا

فلا عدمت رباها من سحاب

 
المدامع لا من السحب الرواءا

 
واختزال لوحة الطلل وتأخيرها ياتي بعد أن استفرغ الشاعر عواطفه وأحزانه في لوحة الظعن والوداع, والتي وجدها الأكثر مناسبة للغرض الرئيس للقصيدة من الوقوف على الديار التي ربما كانت في الواقع ماثلة سليمة أمام عينيه لا تشكو إلا من خلوها ومغادرة أصحابها.
وكذلك يقول في قصيدة بعثها إلى احباب فارقهم ــ من الطويل([33]):
ولما وقفنا للوداع وقد بدى

 
هنالك للواشين كل مصون

دعوني وجاؤا بالمطايا رواحلا

 
فقلت أصيحابي ارحلوا ودعوني

ضعوني ولو ملقى على الأرض عندهم

 
ولا ترفعوا عنهم قطين ظعوني

فساروا إلى أن عبَّ دمعي فبدلوا

 
ظعونهم من سيله بسفين

فهب بدلوا أظعانهم بسفائن

 
فمن ذا يقيهم زفرتي ويقيني

أحبة قلبي اليوم أنتم وهذه

 
أمانيه منكم بدلت بمنون

............................................................
 
............................................................
ظعنا وأنتم قاطنون فديتكم

 
بكل الورى من قاطن وظعين

فما غير طرف بالسهاد موكل

 
وما غير قلب بالبعاد رهين

 
فقد وصف الشاعر موقف الوداع وإعداد الرواحل وبكائه على الأحباب الذين سيفارقهم, وكيف أبدل الركب رواحلهم بالسفائن خوفاً من الغرق في بحر دموعه, وعلى الرغم من تخلصهم ذاك لم يستطيعوا الخلاص من أنينه, وصراخه الذي ملأ الأرجاء.
إلا ان الجديد في هذه اللوحة ان الشاعر هو الذي غادر ورحل مع الركب, وعلى غير عادة الشعراء في مثل هذه المواقف والمقدمات, عندما كان الشعراء هم الذين يغادرون, فالشاعر قد بعث بهذه القصيدة إلى أهله الذين فارقهم في وطنه بعد أن غادر في احدى أسفاره([34]).
فقد استثمر بذلك االمقدمة التقليدية بما يتناسب مع حالته الشخصية, حيث كان هو الذي رحل عن أحبته, فهو وإن اشترك مع القدماء في الإطار العام, فقد خالفهم في بؤرة الحديث, وهذا يعني أن الشاعر حاول أن يطوع الإطار التقليدي لتجربته الذاتية, وان تفرد بها.
وعلى العموم نجد بأن الشاعر في مقدماته تلك قد ركز على موقف الوداع والفراق, وشكوى البعد وترك البقية, من دون تفصيل بذكر الرحلة, ووصف الهوادج, والأماكن التي مر بها الركب, كما هي عادة الشعراء في مثل هذه المقدمات([35]). وما ذلك إلا لبعد الشاعر عن حياة الصحراء, وعدم واقعية وجود الظعائن في تجربته التي لو حذفت منها كلمة (الظعن) فقط لظهر مدى تلائمها وانسجامها مع أي مشهد وداع وفراق في أي زمان ومكان.
 
وهي من المقدمات الشعرية التي ظهرت جذورها في العصر العباسي, بعد أن ابتعد شاعر ذلك العصر عن حياة الصحراء والبداوة وعاش في أكناف المدن والحضارة.
فقد أخذ في شعره «يحتفظ أحياناً في مقدمات مدائحه بوصف الصحراء وأحياناً يتركها إلى وصف الطبيعة في الحاضرة ببساتينها ورياحينها»([36]). كمحاولة منه للتجديد وكسر نظاق القديم([37]).
وكان من الطبيعي أن تنتقل مثل هذه المقدمات إلى شعراء النجف والعراق في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين, فقد كان ذلك العصر يتسم بالتقليد واجترار قصائد الماضين ونتاجاتهم([38]). وكان من ضمن أولئك الشعراء الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء الذي كان كثيراً ما يذهب إلى بساتين الكوفة([39])حيث الطبيعة الجميلة التي هيجت مشاعره, وأنعكست في الكثير من مقدمات قصائدِهِ, ولا سيما في التهنئة والاخوانيات التي حاول فيها الشيخ خلق جو من البهجة والسعادة في مقدماتها؛ وبصورة تتناسب مع الموضوع, وتهيئ المتلقي لتقبل الغرض.
فمن ذلك قوله مهنئاً بعض ارحامه بزفاف ــ من مخلع البسيط ــ([40]):
عَرَّسْنَ ببشرك المحامل

 
حتى سجعت بها البلابل

قد أملكنا السرور عقداً

 
فيه انعقد الهنا معاقل

فالطير له بها تهانٍ

 
قد ألفها الهوى رسائل

تتلو صحف السرور بشراً

 
يملأن مسامعي هلاهل

والأفق قد انجلى فَجَلا

 
بدراً بسنا السعود كامل

والشهب مصابح انارت

 
في الجو ومالها فتائل

والروض من النبات حلىّ

 
من جيد رباه كل عاطل

والريح تُرقِّصُ غصونا

 
تستضحك زهرة الخمائل

مارقصت الغصون إلا

 
غنت هزجاً لها العنادل

 
فقد شارك الشاعر سعادته عناصر الطبيعة المحيطة من حوله, فهذه الطيور تزف التهاني كالهلاهل, والأفق ظهرت عليه علائم السعادة, وأنارت الشهب بمصابيحها الوجود, والروض والنبات والغصون والأزهار تتمايل مغنية مع الريح في تهنئةِ ذلك العريس.
وقوله في أخرى مهنئاً والده بعد رجوعه من السفر ــ من السريع([41]):
فالنهر قد صفّق والطير قد

~
غرَّد حتى أرقص الأغصنا

وهلهل القمري في الدوحِ مذ

 
وعى من القيان رجع الغنا

وابتهج الجو بنشر الصبا

 
وراح يطوي برده الأدكنا

وبالشقيق انشق جيب الثرى

 
مذ عانق الآس به السوسنا

وذا الندامى اعتنقوا فأغتدى

 
يُحسب فرداً زوجهم والثَنا

فليس الشاعر هو الوحيد الذي يفرح بعودة والده من السفر, بل يشاركه في ذلك الجماد والحيوان زيادة على الأصدقاء والأخوان, بل ان الشاعر يحاول القول بأن الدنيا كلها تفرح بهذا الحدث السعيد, وتهني والده العزيز, وهو بذلك يشير من جانب آخر إلى مكانة والده ويمدحه بصورة غير مباشر.
وبذلك يكون الشيخ قد حاول التجديد في مقدماته, وإدخال ألوان جديدة إليها تتناسب مع الغرض وتنسجم معه, مما يجعله في مقدمة شعراء ذلك العصر الذين حاولوا التجديد والتنويع في قصائدهم مع الإحتفاظ بالإطار العام للهيكل الموروث للقصيدة العربية.
 


([1]) ينظر: مقدمة القصيدة العربية في العصر الجاهلي, حسين عطوان, دار المعارف, مصر. 1970م: 114.
([2]) ينظر: الشعر والشعراء: 1/75 ـــ 76.
([3]) ينظر: بناء القصيدة العربية في النقد العربي القديم: 218.
([4]) نصوص من الشعر العربي قبل الإسلام, «دراسة وتحليل»: د. نوري حمودي القيسي, د. محمود عبد الله الجادر, د. بهجت عبد الغفور الحديثي دار الحكمة للطباعة والنشر ــ بغداد 1990م: 158.
([5]) محاضرات في الشعر العراقي الحديث: 7.
([6]) ينظر: وحدة الموضوع في القصيدة الجاهلية, د, نوري حمودي القيسي, مؤسسة دار الكتب للطباعة والنشر. الموصل ــ العراقية. 1394هـ ــ 1974م: 9.
([7]) المرثاة الغزلية, عناد غزوان, ط1, مطبعة الزهراء ــ بغداد 1974: 2.
([8]) ينظر: وحدة الموضوع في القصيدة الجاهلية: 10.
 ([9]) ينظر: مقدمة القصيدة العربية في الشعر الجاهلي د. حسين عطوان: 91.
([10]) الحسن من شعر الحسين: 18.
([11]) الحسن من شعر الحسين: 166.
([12]) المصدر نفسه: 25, 170, 204.
([13]) المصدر نفسه: 25.
([14]) الحسن من شعر الحسين: 64.
 ([15]) وهو أحد أسماء النجف الأشرف القديمة. والغري نصب يذبح عليه الذبائح, والغريان صومعتان. بناها المنذر بن أمرئ القيس بن ماء السماء. بظاهر الكوفة. خلف قبر الإمام علي بن أبي طالبu, ينظر: معجم البلدان, ياقوت بن عبد الله الحموي, تحقيق مصطفى السقا, ط3, دار الفكر بيروت 1403هــ: 4/196.
([16]) الحسن من شعر الحسين: 120.
([17]) ينظر: الشعر والشعراء: 1/75 ــ 76.
([18]) ينظر: نصوص من الشعر العربي قبل الإسلام: 19.
([19]) مقدمة القصيدة العربية في الشعر الجاهلي: 128.
([20]) الحسن من شعر الحسين: 78،83،87،92،96،120،134،137،142،156،170،175،182،216،269
([21]) ينظر: عقود حياتي:27.
([22]) لم يذكر الشاعر اسمه في الديوان.ينظر الحسن من شعر الحسين:175.
([23]) المصدر نفسه: 175.
([24]) ينظر: الحسن من شعر الحسين: 87, 92, 96, 175.
([25]) سبقت ترجمة في صفحة (55) من هذا الكتاب.
([26]) الحسن من شعر الحسين: 142.
([27]) ينظر: مقدمة القصيدة العربية في الشعر الجاهلي: 137.
([28]) ينظر: الرحلة في القصيدة الجاهلية. وهب رومية. ط1. اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينين. 1975: 18.
([29]) ينظر: الرحلة في القصيدة الجاهلية: 22.
([30]) الحسن من شعر الحسين: 8.
([31]) لم يشر الشاعر إلى إسم ذلك الصديق ولم يدل عليه داخل القصيدة: ينظر:الحسن من شعر الحسين: 8.
([32]) المصدر نفسه: 8..
([33]) الحسن من شعر الحسين: 201 ــ 202.
([34]) ينظر: المصدر نفسه: 201.
([35]) ينظر: الرحلة في القصيدة الجاهلية: 33.
([36]) العصر العباسي الأول, د. شوقي ضيف, ط9. دار المعارف ــ القاهرة 1986م: 165.
([37]) مثل قصيدة أبي تمام التي مطلعها:
    رقت حواشي الدهر فهي تمر مرُ           وغدا الندى في حليه يبتكسرُ
ينظر: شرح الصولي لديوان أبي تمام. دراسة وتحقيق د. خلف رشيد نعمان, ط1, وزارة الإعلام. العراق: 1/ 536.
([38]) ينظر: حركة التطور والتجديد في الشعر العراقي الحديث: 31 ــ 32.
([39]) ينظر: عقود حياتي: 6.
([40]) الحسن من شعر الحسين: 267.
([41]) الحسن من شعر الحسين:181
 
امتیاز دهی
 
 

 
Guest (PortalGuest)

دبيرخانه كنفرانس‌هاي بين‌المللي
مجری سایت : شرکت سیگما