جمعه 10 فروردين 1403  
 
 
ج ــ الرحلة
اعتاد الشاعر الجاهلي بعد الحديث عن الطلل وما يثيره في نفسه من ذكريات وآلام, ان ينهي وقفته ويبدأ برحلة صحراوية يتخذ فيها الناقة وسيلة لامضاء الهم, ورفيقاً يسليه عن أحزانه, وواسطة توصله الى مبتغاه بعد طول سفر واجتياز مصاعب واهوال.
ويشير استقراء الموروث الشعري الى ان اغلب الشعراء ظلوا حريصين على ان يكون المهرب الى رحلة اسطورية في مجاهل الصحراء, تجسد نموذج البطولة الذي يراود طموح الشاعر البدوي في مواجهة تحدي الواقع المفروض, وتعد الناقة في تلك الرحلة الأداة الشاخصة في ميدان تلك الصحراء([1]).
«ولم يكن التحول الى الناقة سهلاً ولا هينا,ولكن الشعراء توسلت إليه بالحزن والحب والفرار من الديار المهجورة واللحاق بالأحباب الراحلين, والضيق بالدهر, والرغبة في رؤية الممدوح»([2]).
وكانت الرحلة وسيلة الشاعر في استدرار عطف الممدوح والفوز بنوال المكافأة «فبعد الغزل عقب بايجاب الحقوق, فرحل في شعره, وشكا النصب والسهر, وسرى الليل وحر الهجير, وانضاء الراحلة والبعير, فاذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء وذمامة التاميل, وقرر ما ناله من المكاره في المسير, بدأ في المديح»([3]).
واستمر الشعراء في عدم اغفال الرحلة في قصائدهم, إلا انهم في العصر العباسي وبعد أن تطورت نواحي الحياة فيه؛ قد أتخذوا من الرحلة رمزاً لصراع الإنسان في هذه الحياة؛ ونموذجاً لبحثه عن مصيره المجهول([4]).
 
وكذلك نجد الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء قد ذكر الرحلة في عدد من قصائده, ولا سيما في قصائد المديح([5]),حيث أستوعب فيها مختلف عناصر تلك الرحلة, فقد ذكر الناقة والصحراء والتعب والنصب وكيف قاسى مع ناقته حر الصحراء وظلمة الليل البهيم.
فقد قال في قصيدة يمدح فيها والدهـ من البسيط([6]):
يا حبذا نزوات الأنيق النُجُبِ

 
وحبذا السير من وخدٍ ومن خببِ

وحبذا البيد والوجناء خائضة

 
فينا ببحر طمى من مأئها الكذبِ

من لي بان امتطى للمجد غاربها

 
وأملا البيد في التصعيد والصببِ

أقول ان خمدت نيران همتها

 
عن المسير أيا نار السرى ألتهبي

هوجاء قد فوف البيداء منسمها

 
كما يفوف بالأقلام في الكتبِ

لم تجر قط مع الأفكار في أمدٍ

 
إلا كبت دونها الأفكار للركبِ

لاطوينَّ عليها البيد مُعتسفاً

 
حتى أنال من العليا بها اربي

 
حيث حاول الشاعر في هذا المقطع من القصيدة أن يعود بنا إلى تلك المغامرات المرتبطة بالناقة والصحراء, وعصر المخاطرة والفتوة والشباب, فقد ارتسمت في مخيلته مشاهد اللوحة وهو يمتطي ناقته الوجناء, خائضاً فوق ظهرها البيداء, لا يشكو معها الخوف ولا يعرف التعب, فهو يحثها على المسير ان اصابها الوهن او النصب, على الرغم من كونها ناقة قوية قد أعتادت خوض الصحراء, وسريعة تسبق سرعة الأفكار في المضمار.
 
إلا أن ما يميز هذه الرحلة في شعر الشيخ, أنها لم تكن في سبيل الوصول إلى الممدوح أو وسيلة اتخذها الشاعر لتسلية همومه وأحزانه؛ بل كانت محوراً تراثياً وظفه الشيخ ليستوعب فخره واعتداده بنفسه وهمته في الوصول إلى المجد والعلياء.
وهذا ما يتميز به الشيخ في بناء قصائده. وهو إخضاع الموروث للتجربة الذاتية وتوجيهه الوجهة التي تحقق له ما يريد, فكانت الرحلة رحلة إلى المجد الذي يسعى إليه؛ فإذا كان الشاعر القديم يرحل إلى الممدوح حتى ينال شيئاً من اعطياته؛ فالشاعر يرحل هنا إلى العلا؛ وشتان ما بين الرحلتين على الرغم من التشابه الظاهري الموجود.
كما يظهر في قوله متشوقاً ومادحاً احد اصدقائهـ من الطويل([7]):
واني اذا دار نبت بي عن العلا

 
تراني إلى خير الديار أدورُ

واني فتى قطع الفيافي محببٌ

 
إليَّ اذا شطت بخلي دورُ

أمر باجواز الفلى فاجوزها

 
واقلع عنها والسراب يمورُ

............................................................
 
............................................................
وقمت أجوب البيد منفرداً بها

 
كأني سرُّ قد طواه ضميرُ

ومالي سوى صوت الصدى من مصاحبٍ

 
ولا غير خفاق النسيم سميرُ

اميرَُ عليّ المهر والسيف والقنا

 
وما غير عزمي فوقهن أميرُ

ولا ملك إلا الجواد وماله
ج
 
سوى العزم في يوم اللقاء وزيرُ
ج
 
ويستمر الشاعر بعد ذلك في عرض تفاصيل رحلته وما يعترضه فيها من حوادث وأهوال. لتستغرق أكثر من ثلثي القصيدة, التي يختمها بمدح صاحبه والتشوق إلى لقائه.
 
ولعل أهم ما يميز هذه الرحلة في شعر الشيخ كونها لم تأت بعد ذكريات الطلل والآثار؛ فلم يكن هناك ثمة ذكر لها في مقدمة القصيدة, فقد كانت الرحلة هي التي افتتح بها الشاعر قصيدته؛ إلا أن ذلك لا يعني عدم معرفة الباعث الذي دعا الشاعر لركوب هذه الرحلة؛ فقد ذكر ذلك صراحة في المقدمة؛ حيث كانت رحلة الشيخ هروباً من واقع بلده المزري؛ ومعاناته فيه؛ وبحثه عن وطن جديد, يحقق فيه احلامه ومجده.
والملاحظة الثانية في هذه الرحلة هو اعتماد الشيخ على الفرس؛ الذي لم يكن وسيلة الشعراء في الرحلة التراثية, وإنما كانت الناقة؛ وبما أن الشيخ جعل من الرحلة سبيلاً للفخر بنفسه اختار الفرس ليتناسب مع الفخر, وان خالف المألوف التراثي؛ ومن هنا تظهر إمكانية الشاعر في إخضاع الإطار التراثي للتجربة الذاتية, فيكون في تقليده مجدداً أو في تجديده مقلداً.
وفي قصيدة أخرى, بعد أن وقف الشاعر على الأطلال وآثار الديار, وتذكر الأحبة وأهلها الراحلين, وشكا الفراق, ولوعة الصبابة والنسيب. انتقل إلى مقطع الرحلة والغوص في البيداء. فقال ــ من الوافر([8]):
سألوي عن عناق الغير كشحي

 
وألبس شملة الليل البهيمِ

وأَركبها حوافي من وجاها([9])

 
بايصال الذميل إلى الرسيمِ

كأني في حشى البيداء سرٌ

 
تغلغل في حشا القلب الكتوم

فانشر سبط هاتكِ الموامي

 
وأطوى سهلهن على الخرومِ

أقول لهمتي اذا اقعدتني

 
على طرف من البلوى أليمِ

لعاً([10]) لك ما أنتظارك والمواضي

 
بكفي فانهضي فيها وقومي

سأطلب ماأروم من المعالي

 
بعربٍ كالضياغمِ أو برومِ

 
فعلى الرغم من مناسبة موقع مقطع الرحلةفي القصيدة التي يتخلص عن طريقها الشاعر من لواعج الهموم, وذكريات الماضي, وبكاء الأحباب, إلا أن ذلك يمنعه من توظيف الرحلة في التعبير عن فخره بنفسه واعتزازه بهمته وشجاعته وكما هي العادة في توظيفه لمقطع الرحلة في شعره. ولينتقل بعدها إلى المديح وهو الغرض الرئيس من القصيدة.
وعلى هذا يمكن لنا أن نقول بأن الشيخ في قصائد المديح هذه قد التزم بالهيكل الموروث للقصيدة العربية؛ ولم يغفل ذكر الرحلة في شعره, إلا أنه وظفها توظيفاً جديداً, وجعلها وسيلة للتعبير عن اعتداده بنفسه وشجاعته, وطريقاً رمزياً يوصله إلى المجد والعلياء.
 


([1]) ينظر: وحدة الموضوع في القصيدة الجاهلية: 34.
([2]) الرحلة في القصيدة الجاهلية: 53.
([3]) الشعر والشعراء: 1/74 ــ 75.
([4]) ينظر: العصر العباسي الأول: 163.
([5]) الحسن من شعر الحسين: 33, 38, 77, 108, 171.
([6]) المصدر نفسه: 33.
([7]) الحسن من شعر الحسين: 108.
([8]) الحسن من شعر الحسين: 171.
([9]) (الوجا) طريقة يستخدمها العرب مع فحل الإبل. تهيجه وتزيد سرعته. المعجم الوسيط. مادة (لوجا): 2/1023.
[10] ) (لعاً): كلمة تقولها العرب للعاثر, لسان العرب مادة (علل).
 
امتیاز دهی
 
 

 
Guest (PortalGuest)

دبيرخانه كنفرانس‌هاي بين‌المللي
مجری سایت : شرکت سیگما