پنجشنبه 6 ارديبهشت 1403  
 
 
2 ــ الصورة الذهنية
وهي الصورة التي يكون للذهن الأثر الأكبر في رسم أبعادها, فهو الذي يقوم ببناء علاقات جديدة بين الأشياء تمنح الصورة إيحاءاً أو إثارة.
فقد يألف الشاعر عالم الإدراك الحسي الذي يعيشه يوميا, فينزع في صوره إلى مستوى أرفع من الشمولية والتجريد([1]), ويتجه إلى خلق صورة فنية جديدة, تكون «دائما غير واقعية،وإن كانت منتزعة من الواقع, لأن الصورة الفنية تركيبة وجدانية تنتمي في جوهرها إلى عالم الوجدان أكثر من انتمائها إلى عالم الواقع»([2]).
ويفرق النقاد بين الصورة التي يتلقاها الإدراك عن العالم الحسي والصورة التي يخلقها الخيال, وهي المقصودة في العمل الأدبي, والتي يقوم الخيال ببنائها مما خلفه الإدراك من خبرات, ويستلزم خلقها في الخيال أن بكون موضوعها الخارجي معدوما أو في حكم المعدوم, فالخيال يلغي وجود ما حصله الإدراك ويعيد خلق صورته الجديدة بديلا من وجوده المادي(3).
وليست فاعلية الصورة تكمن في محاكاتها للعالم الخارجي, أو خلق عالم جديد في الذهن, بقدر ما تكمن أهميتها في كونها تقدم عقدة فكرية وعاطفية في برهة من الزمن, فإن «ما يعطي الصورة فاعليتها ليس حيويتها كصورة بقدر ميزتها كحادثة ذهنية ترتبط نوعيا بالإحساس»([3]).
ويقسم النقاد الخيال إلى خيال أول وخيال ثان, فالأول مشترك بين الناس جميعا, وهو الذي يسيطر على شعر الشعراء الموهوبين, لأنه نوع من الذاكرة المتحررة من قيود الزمان والمكان, ويعتمد على قانون التداعي, أما الثاني فخاص بالشعراء العباقرة, ومنه يأتي التمييز المصاحب لشعر الأفذاذ من الشعراء, وهو القوة الفاعلة في الخلق الشعري([4]).
وقد كان أغلب شعراء العراق في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين يفتقرون إلى ذلك النوع الثاني من الخيال, القادر على خلق عوالم جديدة تتوحد فيها الأشياء والمدركات, فقد كانوا في ذلك لا يختلفون كثيرا عن الناس العاديين في تخيلهم([5]).
وعلى الرغم من كون الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء عاش في تلك الحقبة الزمنية, إلا أننا نجد في شعره الكثير من الصور الذهنية التي تفصح عن براعته وسعة خياله, ومحاولته الابتعاد عن التقريرية والمباشرة, وذلك من خلال التجريد الذهني والتفاعل مع ما خلفه الإدراك من صور وخبرات.
من ذلك قوله في رثاء الإمام الحسينu ــ من البسيط ــ([6]):
أفدي الأولى للعلا أسرى بهم ظعنٌ
 ج
 
وراء حادٍ من الأقدار يزعجه

 
حيث استثمر الشاعر لوحة الظعن التراثية, وجعلها أساسا لصورته التي أطرها بلمحات جديدة, أضفت عليها مزيدا من الإيحاء والتأثير, فالركب قد يمم وجهته صوب العلياء, فرحلته ذات مقصد عظيم وغاية نبيلة, فضلا عما أدخله الشاعر في عجز البيت من أنغام صورة سمعية حزينة تتمثل بصوت ذلك الحادي الذي كان يجسد الأقدار والمحن التي صاحبت ذلك الظعن الجليل.
وكذلك قوله ــ من البسيط ــ([7]):
عار يحوك له الذكر الجميل رِداً
 ج
 
أيدي صنائعه بالفخر تُنسِجُهُ

 
فالشاعر في معرض وصف حالة الإمام الحسينu بعد إستشهاده, وصورة جسده الطاهر مُلقىً على الرمضاء, وكأنه يرفض حقيقة كونه ظل عاريا مسلوب الرداء, فتصور أن رداءا من الفخر قد نسجه له الذكر الجميل فيغطيه, وهي محاولة من الشاعر في تجسيد المعاني الذهنية, وإعطائها ملامح إنسانية, تزيدها إيحاءا وإثارة.
 
وفي لوحة الرحلة التي تضمنتها إحدى قصائد الشيخ نراه يقول ــ من الوافر ــ([8]):
كأني في حشا البيداء سرَُ
 ج
 
تغلغل في حشا القلب الكتوم

 
حيث شبه الشاعر صورته وهو وحيد في أعماق البيداء, بذلك السر المتغلغل داخل القلب الكتوم, عن طريق إيجاد مقارنة بين الصورة المادية والمعنوية, التي أعطت لصورته وحيداً في البيداء بعدا جديدا, منحها مزيدا من الوحشة والعمق والإيحاء.
وفي مجال الشكوى قال الشيخ ــ من الطويل ــ([9]):
فَبِتُّ وللأشجان في مسقط الحشى
 ج
 
طرادُ خيولٍ والفؤاد طريد ها

 
فقد حاول الشاعر من خلال هذه الصورة أن يعبر عن اضطراب أشجانه, فتصورها في حشاه خيولا تطارد فؤاده, مما أدخله في المبالغة المفرطة التي أفقدت الصورة تأثيرها, على الرغم مما بذله الشاعر من جهد فني غير قليل في انتقائها وتركيبها.
وله متغزلا ــ من البسيط ــ([10]):
أوقفت مسكين أمالي ببابكم
 ج
 
عسى عليه مليك الحسن يَحتسِبُ

فقد جسد الشاعر آماله بوصل المحبوب بذلك المسكين الذي يقف على باب مليك الحسن والجمال, يطلب منه نظرة من العطف والحنان, في صورة نجح الشاعر في جعلها معبرة عن مقدار حبه, وموحية عن ضعفه وإنكساره.
وكذلك قوله يشكو الدهر ويصفه ــ من المتقارب ــ([11]):
وما هو إلا كساقي يدير
 ج
 
لقوم سكارى كؤوس الأجل

 
حيث أعتمد الشاعر على صورة الساقي ودوران الكؤوس التي كثيرا ما ترددت على ألسنة الشعراء في لوحات الخمر والغزل, إلا أن الشاعر هنا قد وظفها توظيفا مغايرا. أكتنف جوانبها اليأس والجزع, فهذا الساقي يدير على جلاسه كؤوس السم والموت, وهم في غفلة عما يشربون, وهي صورة فيها شيء من الجدة والغرابة, نجح الشاعر في جعلها موحية تعبر عن نظرته الشاكية من الحياة.
 


([1]) ينظر: الصورة في الشعر العربي/ حتى آخر القرن الثاني الهجري, د. علي البطل, ط1. دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع ــ 1980م: 21.
([2]) الشعر العربي المعاصر, د. عز الدين اسماعيل, ط2, دار العودة للثقافة ــ بيروت 1981م: 10.
(3) ينظر: الصورة في الشعر العربي: 27,28.
([3]) نظرية الأدب: 241.
([4]) الرأي لكوردج. نقلاً عن الصورة في الشعر العربي: 23.
([5]) ينظر: تطور الشعر العر بي الحديث في العراق: 38.
([6]) الحسن من شعر الحسين: 67.
([7]) المصدر نفسه: 68.
([8]) الحسن من شعر الحسين: 171.
([9]) المصدر نفسه: 96.
([10]) المصدر نفسه: 225.
([11]) المصدر نفسه: 146.
 
امتیاز دهی
 
 

 
Guest (PortalGuest)

دبيرخانه كنفرانس‌هاي بين‌المللي
مجری سایت : شرکت سیگما