جمعه 31 فروردين 1403  
 
 
المبحث الأول ــ بناء القصائد المكتملة (المتعددة الأجزاء). الف
نهج الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في بداية رحلته الشعرية نهج الشعراء العرب القدامى في بناء قصائدهم, شأنه في ذلك شان اغلب شعراء العراق ممن عاصروه في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين([1])، ولاسيما النجفيون منهم, اولئك الذين امتاز شعرهم بالرصانة والقوة والالتصاق بعمود الشعر العربي([2])، والعناية بالابيات الثلاثة:المستهل والتخلص والختام, التي يجب أن تكون بارزة وناتئة عن بقية ابيات القصيدة([3]), زيادة على الاجزاء الاخرى التي يتكون منها البناء التقليدي للقصيدة العربية التي سنسلط الضوء على اجزائها كل على حدة وبشيء من التفصيل.
 
يعد المطلع مفتاح القصيدة المتنـزل منها منـزلة الوجه والغرة, فهو الطليعة الدال على ما بعده،والدليل على ما ستؤول إليه القصيدة من قوة او ضعف, ويشير الى غرضها من طرف خفي([4]).
وقد اوجب النقاد على الشاعر ان يجوّد في ابتداء شعره, وان يصدر الكلام بما يكون فيه تنبيه وايقاظ لنفس السامع, وان يُشرب ما يؤثر فيها انفعالا, ويثير لها حالا من تعجيب او تهويل او تشويق([5]).
وكذلك اشترطوا في المطلع ان يكون مبتكرا يؤثر في السامع ويدفعه إلى الإصغاء, وان يكون بعيدا عن التعقيد يمتاز بالعذوبة والبراعة والجودة مع الأخذ بنظر الاعتبار مراعاة القاعدة المشهورة «مطابقة الكلام لمقتضى الحال» التي طبقوها على المطلع حين ارادوه ان يكون متمشيا مع موضوع القصيدة ومع من تقال فيه([6]).
وهذا ما نجده في شعر الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء, الذي اعتنى باختيار مطالع قصائده وحاول تجويدها, فمن قصيدة يرثي فيها الإمام الحسينu قال في مطلعها ــ من الكامل ــ([7]):
نفسٌ اذابتها أسىً حسراتها

 
فجرت بها مُحمرةً عبراتها

 
حيث اضفى الشاعر على مطلعه جوا في الحزن والاسى, ساعد فيه المتلقي, وهيأه للتفاعل مع القصيدة, والدخول في الرثاء, فهذه النفس التي أذابتها الحسرات الحارة فوق ذوبانها وخرجت دموعها حمراء دامية بفعل تلك العبرات, تدل صراحة على مقدار الألم وعظم الفاجعة التي تجسدها هذه القصيدة في عرض مصيبة الإمام الحسينu في كربلاء.
وكذلك قوله في مطلع مرثية اخرى في الامام الحسينu. من ــ البسيط ــ([8]):
في القلب حرُّ جَوىً ذاكٍ توهُّجُه

 
الدمعُ يُطفيه والذكرى تُؤججهُ
ج
 
فقد حاول ان يبتدئ قصيدته بما تحتله ذكرى الحسينu في قلبه, وكيف تتجدد مرارتها فيه عبر الأيام, فهذا القلب يحترق بنيران الألم المتوهجة التي لم تستطع الدموع كبح جماحها؛ فالذكريات ترفض الانزواء خلف ستائر النسيان, فهي التي تشعل نيران القلب مهما حاولت الدموع إطفاءها, فتتعاقب عملية إخماد النار وإشتعالها, ليزداد بذلك الم الشاعر وحزنه, متجددا مشتعلا عبر الايام والسنين, وليمهد الشاعر بهذا المطلع للدخول في الرثاء؛ ويناسب بينه وبين الغرض.
وكذلك تظهر عناية الشيخ في اختيار المطالع المناسبة لقصائده في الأغراض الشعرية الاخرى التي احتواها ديوانه, فمن قصيدة يهنيء فيها والده عندما رجع من الحج, قال في مطلعها ــ من الرجز ــ([9]):
بشرى فقد أقبلت العقائل

 
وواصلتك والرقيب غافل

 
فقد أشار إلى غرضه من أول كلمة في مطلع قصيدته, فالبشرى تدل بصورة واضحة على الفرح والسرور, مع التصريح بوصول ذلك الركب بالسلامة وعلى غفلة من الناس, فالشاعر جمع بين التعبير عن عواطفه والإشارة إلى المناسبة السعيدة, وهيأ المتلقي لسماع القصيدة من أول بيتٍ فيها.
وقوله في تهنئة بعض الإشراف بعرس ولده ــ من البسيط ــ([10]):
لك الهنا ولي الافراحُ والطربُ

 
مذُ ساعفتني بكَ الآمالُ والأربُ

 
فزيادة على ابتداء القصيدة والمطلع بالدعاء لصاحب العرس بالسعادة والهناء كما هي العادة في مثل هذه المناسبات, نجد الشاعر قد أستعمل (الهناء والأفراح والطرب)جميعا في الدلالة على الحدث السعيد, وتكاد تكون هذه سمة ثابتة في تهاني الشيخ التي كثيراً ما يشير إلى غرضها في المطلع عن طريق المفردات الدالة على ذلك من أمثال (بشرى, وعيد الهناء، وعرس، وتغنت وغيرها) ([11])فضلا عن خلق الجو البهيج, واشاعة الغبطة والسرور.
اما في رسائله الشعرية ومخاطبته الخلان والاصدقاء بعد طول الفراق وبعد المسافات, نجده يفتتح قصائده بمطالع تعبر عن احاسيس الشوق وألآم الفراق, وما يترك ذلك كله في قلب الشاعر وعواطفه.
فمن قصيدة بعثها الى عمه الشيخ محمد حسن([12])آل كاشف الغطاء بعد طول السفر وبعد الغياب.قال في مطلعها ــ من الطويل ــ([13]):
بمن أنت بعد المستقلين آنِسُ

 
وها أنت يا قلبي من العيشِ آيسُ

 
فقد جعل الشيخ المتلقي يستشعر غرض القصيدة من أول وهلة, فالمطلع فيه مناجاة للقلب بعد فراق الأحبة, وفقدان الأمل بعودتهم, واليأس من لقائهم, وهو ما تناوله بالتفصيل في باقي أجزاء القصيدة.
وللشيخ قصيدة طويلة في الإمام المهدي#, أشاد قبل الدخول في القصيدة ببراعة الاستهلال والمطلع فيها([14], فقد بدأها بقوله ــ من الطويل ــ)([15]):
بنفسي بعيد الدار قربه الفكر

 
وادناه من عشاقه الشوق والذكرُ

 
فالشاعر يفدي الإمام# بنفسه ويتشوق إلى رؤيته, ويستعجل خروجه, وعلى الرغم من كون الإمام بعيدا وغائبا عن العيون إلا انه قريب من أفئدة محبيه, يدنو إليهم بالذكر والشوق, وبذلك يكون الشاعر قد عبر عن مقدار حبه وإيمانه إزاء الإمام#, وبلور حقيقة غيبته وعلاقته بمحبيه, منذ البيت الأول من القصيدة.
وأخيرا يمكننا القول بان الشيخ قد حافظ على جمال مطالع قصائده دائما وحاول تجويدها والاعتناء بها سواء باختيار المفردات المناسبة أو الإيحاءات والمعاني المنسجمة مع الغرض, وبصورة تعكس اهتمام الشاعر بالمطلع والتفاته إلى أهميته وموقعه من القصيدة وما يتركه من اثر في نفس المتلقي.
 


([1]) ينظر: حركة التطور والتجديد في الشعر العراقي الحديث:32.
([2]) ينظر: في الأدب العربي الحديث بحوث ومقالات: 155.
([3]) ينظر: محاضرات في الشعر العراقي الحديث: 7.
([4]) ينظر: منهاج البلغاء وسراج الأدباء: 305 ــ 309.
([5]) ينظر : منهاج البلغاء وسراج الأدباء: 305 ـ 309.
([6]) ينظر: بناء القصيدة في النقد القديم (في ضوء النقد الحديث), د. يوسف حسين بكار دار الأندلس, بيروت ــ لبنان ــ د. ت: 205 ــ 209.
([7]) مقتل الحسينu, المقرم: 378.
([8]) الحسن من شعر الحسين: 67.
([9]) الحسن من شعر الحسين: 156.
([10]) المصدر نفسه: 224.
([11]) ينظر: المصدر نفسه: 181, 269, 87.
([12]) هو الشيخ محمد حسن بن الشيخ محمد رضا بن الشيخ موسى بن الشيخ الكبير, ولد في كربلاء ونشأ في النجف وأقام أخريات ايامه في أصفهان ولقب هناك بشيخ العراقين. توفي سنة 1336هـ . ينظر: ماضي النجف وحاضرها: 3/182.
([13]) ينظر: الحسن من شعر الحسين: 129.
[14] ) فقد قال: «فعرضت الأمر على أستاذنا النوري. فكتب رسالة بديعة اسماها الأستار عن وجه غيبة الإمام الغائب في الأنظار, وذكر نصوص جماعة من كبراء علماء السنة صرحوا بوجوده ودحض تلك الشبه بأقوى حجة. فنظمت جميع تلك الرسالة بقصيدة... في مطلعها براعة الاستهلال». ينظر عقود حياتي: 10.
([15]) الزام الناصب في اثبات الحجة الغائب: 2/366.
 
امتیاز دهی
 
 

 
Guest (PortalGuest)

دبيرخانه كنفرانس‌هاي بين‌المللي
مجری سایت : شرکت سیگما