پنجشنبه 6 ارديبهشت 1403  
 
 
المبحث الثاني ــ رثاء ولديه
رثاء الاولاد احد الوان غرض الرثاء في الشعر العربي, بكى فيه الشعراء أولادهم الذين ماتوا أمام أعينهم بدموع غزار وحزن عميق([1]).
وربما يجد الشاعر صعوبة في مثل هذا الرثاء, وذلك لقلة المعاني والصفات التي يُرثى بها الأولاد الصغار، «فأشد الرثاء صعوبة على الشاعر ان يرثي طفلاً أو أمرأة»([2]).
ولكن على الرغم من ذلك, نجد بان الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء رثى ولديه الصغيرين اللذين فقدهما في عام واحد بقصيدة طويلة ومجموعة من الخماسيات, فقد فجع بفقد ولده العزيز الذي كان أعجوبة في الذكاء والنباهة, وامتلاك القلوب والمشاعر, بلطف حركاته وسحر نغماته وسرعة حفظه لما يلقى عليه من شعر او نثر, وبعد ان تجاوز الخامسة من العمر اصيب بالحصبة ولازمته الحمى لستة أشهر متوالية لتقضي عليه بعد ذلك على الرغم من كل تلك الجهود والمتاعب والآلام, فحزن عليه الشيخ حزناً عميقاً استمر الى ان رزق بولد آخر حسبه جبراً لذلك الكسر فكان كسراً على كسر, إذ توفي بعد أيام قليلة من ولادته, فتضاعف حزن الشيخ, وعلا أنينه وبكاؤه([3]).
فمن قصيدة يرثي فيها ولده الأول قولهـ من الطويل([4]):
بَعُدتَ فموتي من حياتي اقربُ أقربُ

 
وبنتَ فما في العيش بعدك مطلبُ مطلبُ

وقد كنت روحاًٍ للمعنىّ وراحة

 
بها القلب في روح الهنا يتقلبُ

منى النفس ما للنفس عنك تصبرَُ

 
ولا في هنيِّ العيش دونك مذهبُ

اغثني رعاك الله بالطلعة التي

 
بها تنجلي عني الغموم وتغربُ

فأنت الذي قد كنت أبهج سلوة

 
لأحزان قلب بالشجى يتلهبُ

وكنت له حصناً غدت كل نكبةٍ

 
من الدهر عن ساحاته تتنكبُ

وساعة ما شطت به الدار أقبلت

 
عليه الرزايا موكبٌ ثم موكبُ

 
فهو يشكو فقد ذلك الولد الذي كان سلوة حياته, وأمله في الحياة, وراحته من كمد العيش الذي لا يجد في نفسه تصبراً لفقده, ولا في هني العيش وجوداً بعده, ذلك الولد الذي يخاطبه الشيخ بخطاب الموجود الحاضر, وكأنه يرفض حقيقة موته وفقده, ويتوسل إليه ملتمساً رؤية وجهه من جديد, فقد تكالبت عليه عاديات الدهر, وفقد حصنه الذي كان ملجأه من النوائب والمحن, وسلوته من الأحزان والآلام. وتظهر اللوعة الصادقة في هذه الأبيات, ووهن الشيخ وضعفه أمام فقدان ولده على الرغم من كبر سنه, وموقعه الديني الذي يحتم عليه التجلد والصبر, ومهما يكن من أمر فهو يبسط عواطفه بصدق, وبصورة تعكس الألم العميق الذي أصابه.
وكان رثاء الشيخ لولديه قد احتل مرتبة بارزة من خماسياته، فقد رثاهما بتسع عشرة خماسية. قال في احداهما ــ من الطويل([5]):
أناديكما لو تسمعان ندائي

 
وأبكيكما لو ترحمان بكائي

وأرثيكما والنفس تقطرُ أدمعاً

 
فنفسي أولى منكما برثائي

وقد كنتما لي سلوةً في مصابتي

 
فعنكم بماذا سلوتي وعزائي

فيا قمرّي أفقي غداة انكسفتما

 
فها هي أرضي أظلمت وسمائي

أقل قليلٍ قد ثويتم وبنتُمُ

 
وبعد نواكم ما أقل ثوائي

 
فالشاعر وهو في خضم رثائه وبكائه على أولاده يلتفت الى نفسه الحزينة التي يجدها أحق بالرثاء والبكاء, بعد ان فقدت رغبتها في الحياة, وسلوتها في المحن والآلام, فقد كانا لها القمرين اللذين أضاءا درب الحياة والأمل؛ فيأخذ بنعي نفسه التي يتوقع فراقها بعدهما بقليل.
يقول ــ من الطويل([6]):
سلوا الليل عني يوم شطت ظعونكم

 
هل اكتحلت بالغمض مني أجفانُ

وهل سح هذا الدمع من بعض مقلتي

 
به أطفأت من لاعج الوجد نيرانُ

وقفتُ على شط الفرات وقد طغى

 
فلم ادر دمعي فاض أم فاض طوفانُ

وقد كنتما لي سلوة في نوائبي

 
فما لي بشيء بعدكم قط سلوانُ

فديتكما هل تسمحان بنظرةٍ

 
فإني الى تلك الشمائل ظمآنُ

 
حيث تتأجج ذكريات الشاعر دموعه وتفيض عينيه من الألم وكأنها طوفان الفرات الذي يقف عليه راثياً أحبته وأفلاذ كبده.
ويخاطب الشاعر الزمان ويعاتبه بعد ان استرجع ما أهداه إليه من وردة عباقة بأريج النسيم الشذي بحيث يخرج الى رؤية جديدة متألمة للحياة. فيقول ــ من السريع([7]):
يا زمني أعطيتني وردة

 
ارتاح منها بالنسيم الشذي

وعدتَ فاسترجعتَها آخذاً

 
ليتك لم تَعْطِ ولم تأخذِ

قذفت لي من جمرات الأسى

 
ولُجَّة الوجد فمن منقذي

أودعتني السجن وقيدتني

 
وقلت لي ان تستطع فانفذِ

وهكذا القوة والضعف والناس

~
على ناموسها تحتدي

 
فقد شبه الشاعر حالته بعد فقد ولده وكأنه في سجن فاقد الأمل، ضعيف القوى، قد يأس من الحياة, فقد غدر به الزمن وأخذ منه قوته وسلوة حياته.
وهكذا كان الشيخ في رثائه لأولاده صادق العاطفة، متهيج المشاعر، فاقد الأمل، عاتباً على الزمن والحياة، لا يجد لنفسه بعدهم سلوة للعيش والوجود.


([1]) لعل من أشهر تلك المراثي قصيدة أبي ذؤيب الهذلي في رثاء ابنائه الخمسة:
أمن المنون وريبها تتوجع        //     والدهر ليس بمعقب منيجزع
ينظر: المفضليات, المفضل بن محمد الضبي (ت 178هـ ) تحقيق شاكر وهارون, ط3, دار المعارف مصر, 1964: 422.
([2]) العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده: 2/154.
([3]) نظر: عقود حياتي: 16.
([4]) الحسن من شعر الحسين: 215.
([5]) خماسيات روضة الحزين: 8.
([6]) خماسيات روضة الحزين: 20.
([7]) المصدر نفسه: 11.
 
امتیاز دهی
 
 

 
Guest (PortalGuest)

دبيرخانه كنفرانس‌هاي بين‌المللي
مجری سایت : شرکت سیگما