شنبه 8 ارديبهشت 1403  
 
 
ثالثاً: المتعددة المقدمات
وهي ظاهرة واضحة في شعر الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء, فقد حاول توظيف أكثر من مقدمة في صدور بعض القصائد.
فمن ذلك قوله يهنئ صديقه السيد جعفر الحلي في دار شيدها ــ من الرجز([1]):
ألا اسلمي يا ربة الدمالج

 
ويا مهاة الرمل رمل عالج

ولا عدا ربعك هطال الحيا

 
بمائجٍ يعب أثر مائج

قد نسج الربيع من أزهاره

 
على ثراك أحسن المناسج

فليمزج الخمرة لي مديرها

 
بالخمر من عذب اللماء الثالج

وليدن نحوي بعد مزجها فما

 
لبانتي إلا عناق المازج

صفقت الأنهار فأرقص طرباً

 
والطير بين لاحن وهازج

أما ترى الرياض كيف اصبحت

 
تختال في أثوابها البواهج

 
فكان الشاعر في اشاراته السريعة لبعض المقدمات, قد حاول أن يفتتح تهنئته لصديقه العزيز بصور مختلفة عن ذكر ألوان السعادة المختلفة التي اعتاد عليها أغلب الشعراء, وبصورة تتناسب مع إطار القصيدة العام وغرضها السعيد.
فبعد أن افتتح الشاعر قصيدته بمطلع الغزل وعرج على ذكر الديار, ومقطع الخمر والسمر, وذكر الطبيعة والطرب, عاد مرة أخرى ليقف على تلك الديار, ويتذكر أهلها الراحلين فيقول([2]).
فغنياني بالأولي ناوا وما

 
ابقوا سوى حر الغليل الواهجِ

وذكراني عالجا ومن به

 
عسى بذكرهم يُبل لاعجي

وقف على ربوعهم فانها

 
كانت بهم زاهية المدارجِ

ولتعج الدمع عليها سائلاً

 
فالدمع خير سائل وعائجِ

سروا بدوراً في ذرى حدائج

 
يا من راى البدور في الحدائجِ

وخلفوني بعدهم مرتهناً

 
على البكا اروح والتناشجِ

 
لينتقل بعد ذلك إلى الغزل وعلى عادة الشعراء في ذلك([3]),فيقول([4]):
شوقاً إلى خرائد خصورها

 
تنوء بالأكثبة الرواجج

مغلقة الوشاح من لين الحشى

 
لكنها مفعمة الدمالج

وإن رنت رمت بكل مهجة

 
سهماً من الحواجب الزوالج

 
حيث كان الغزل الباب المناسب الذي مهد للشاعر الدخول إلى الغرض وتهنئة صاحبه بداره الجديدة. وبذلك يظهر بأن ذلك التنظيم في لوحات الإفتتاح كان مقصوداً وواضحاً في ذهن الشيخ وهو ينسج أبيات قصيدته ويجمع أطرافها, حتى تتلاقى الأفكار وتمتزج الصور واللوحات في إطار شعري متجانس, تنمو من خلاله القصيدة نمواً فنياً متكاملاً, وتتألف من وحدات اطار عام, يوحي بإدراك واعٍ واحساس عميق, ينظم الأفكار والمشاعر في تكامل وإنسجام.
ومن قصائد الشيخ التي احتوت عدداً من المقدمات, تلك التي هنأ بها والده بعد عودته من الحج, حيث جمع في مقدمتها الغزل والطبيعة والطلل, فقد قال بعد المطلع ــ من الرجز ([5]):
واطلعت لمياء من جبينها

 
بدراً له بدر السماء آفلُ

أهلاً بها ومرحباً من غادة

 
تُحيى بها أيامنا الأوائل

ترقص عند مشيها قوامها

 
حتى يغني الطوق والخلاخل

وعرس الأنس على عشاقها

 
فكل ما تلفظوا هلاهل

 
لينتقل بعدها إلى وصف الطبيعة المرحة. فيقول([6]):
والجو صاح والشمال منتشي

 
خمر الرياض والهزار قائلُ

صفقت الأنهار والجداول

 
لما استهلت فوقها العنادلُ

وغردت ورق التهاني طرباً

 
مذ رجعت هديلها الهوادلُ

فيا نديمي ونديم المرء من
 
 
يعينه في كل ما يحاولُ

قد صدحت بلابُلِ الأُنسِ ولي

 
بَلابِلٌ تُذهبها البلابُل

ولتستغرق هذه القطعة خمسة أبيات من القصيدة. يعود بعدها الشاعر إلى الغزل فيقول([7]):
يا ملكا للحسن دون ثغره

 
قد شرعت أعطافه الذوابل

وكلما وافاه دمعي سائلاً

 
يرتد نهراً منه ذاك السائل

عامرُ شوقي عاد مجنوناً به

 
لما غدا وهو لقلبي عاقل

جال وشاحاه على اراكه

 
ماء الصبا والحسن فيها جائل

فلا اجتلينا الصبح من جبينه

 
لو لم يحل ليل الجحود الحائل

ولا اجتلينا الورد من خدوده

 
لو لا سهام لحظها الخواتلُ

 
ويستمر الشاعر في غزله ووصف جمال محبوبته, مستغرقاً في ذلك ما يقارب اربعين بيتاً من القصيدة, ينتقل بعدها إلى الطلل والوقوف على آثار الديار, وهي محاولة أخرى بعدم التقيد بقوالب السابقين, وقدرة من الشاعر على التغيير والإبداع. فيقول([8]):
فيا عذولي اتركاني واقفاً

 
على ربوع مية أسائل

فكم لنا من ليلة بظلها

 
بتنا لغزلان النقى نغازل

............................................................
 
............................................................
أقول والسحب عليها فوفت

 
برداً تجيد نسجه الشمائل
 
لئن عدتك السحب الهواطل

 
كفاكِ صوب الدمع يا مَنَازل

وأنت يا ربع لئن اوحشت من

 
تلك الظبا فالقلب منها آهل

 
ليتخلص بعد ذلك ويدخل الى الغرض الرئيس من القصيدة والمتمثل في تهنئة والده بعد عودته من اداء مناسك الحج.
وعند ملاحظة هذا الافتتاح المركب, نجد بان الشيخ قد وظف لوحة الطبيعة ولوحة الطلل بما ينسجم مع الاطار العام للمقدمة المتمثل بالغزل, فما كان فرح بعض مكونات الطبيعة الا طرباً لغناء محبوبته وجمالها, وما وقوفه على الديار إلا لتذكر تلك الساعات التي اجتمع فيها مع محبوبته, وبهذا يخضع الطلل لهذه التجربة الجديدة, حيث يدع الجزئيات التقليدية في حديث الشعراء عن الطلل, ويجعل ذلك سبباً لذكر المرأة, ويأخذ ما يتوافق مع حالته النفسية, حيث الفرح بعودة أبيه من سفره, فيتذكر عيشه الرغيد مع المرأة صاحبة الطلل.
ومن ذلك يمكننا القول بان تعدد المقدمات في قصائد الشيخ, ما كان الا مظهراً من مظاهر شاعريته وموهبته؛ ومقدرته على استيعاب التراث وتوظيفه بالشكل الذي يلائم الاطار العام للقصيدة والتجربة الشعرية, وهو في الوقت نفسه نتيجة طبيعية لطول نفس الشيخ في قصائده.
وعموماً نجد الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء قد وظف اكثر نماذج مقدمات الشعراء القدامى في شعره, واختار منها ما ينسجم بعض الشيء مع عصره وزمنه, فالاطلال لولا بعض الاشارات للاماكن التراثية التي اعتاد تناولها القدامى كان من الممكن ان تنطبق على أي دار او محل غادره أهله واصحابه, وفي أي زمان ومكان. ومقدمة الظعن لولا ما فيها من اشارة صريحة لمفردة (الظعن) أو (الرحل) كان من الممكن تطبيقها على أي مسافر غادر أهله, وعلى أي موقف وداع, وما الغزل او الحكمة او الشكوى الا مواقف يتخذها الانسان في حياته لا تتحدد بعصر معين وليست حكراً على أحد.
    وهذا ما يجعلنا نعتقد بان الشيخ في مقدماته تلك قد التزم بالاطار العام للمقدمات التراثية، تاركاً لذوقه القرار في اقتناص ما يجده مناسباً من عناصرها التي وجد فيها بعض الانسجام مع العصر والذوق العام والتجربة الشعرية.
 


([1]) المصدر نفسه:64.
([2]) الحسن من شعر الحسين:64.
([3]) ينظر: الشعر والشعراء: 1/75.
([4]) الحسن من شعر الحسين: 65.
([5]) الحسن من شعر الحسين: 156.
([6]) المصدر نفسه: 156.
([7]) المصدر بنفسه: 157.
([8])الحسن من شعر الحسين: 158.
 
امتیاز دهی
 
 

 
Guest (PortalGuest)

دبيرخانه كنفرانس‌هاي بين‌المللي
مجری سایت : شرکت سیگما