شنبه 8 ارديبهشت 1403  
 
 
المبحث الثاني استفهام
تشكل الألفاظ وطرق الصياغة المحاور الرئيسة في لغة الشعر, فمثلما يُعنى الشاعر باختيار ألفاظه, يُعنى كذلك باختيار صياغته وطريقة نظم كلماته وترتيبها داخل البيت الشعري.
فان غاية الشعر هي التأثير, والتأثير يعني تغيراً في الإتجاه وتحولاً في السلوك, والبداية الأولى للتأثير هي تقديم الحقيقة تقديماً يبهر المتلقي ويبدهه, ولا يتم ذلك بمجرد النظم العادي للأفكار, بل يتم بضرب بارع من الصياغة, تنطوي على قدر من التمويه تتخذ معه الحقائق أشكالاً تخلب الألباب وتسحر العقول([1]).
فقد ورد عن حازم القرطاجني (ت 684هـ) في معرض كلامه حول قصيدة المدح قوله «يجب أن تكون ألفاظ المديح ومعانيه جزلة, مذهوباً بها مذهب الفخامة في المواضع التي يصلح بها ذلك, وأن يكون نظمه متيناً, وأن تكون فيه مع ذلك عذوبة»([2]), حيث أكد إختيار الألفاظ والتراكيب (النظم) ليشكلا معاً تلك اللغة التي تتميز بها القصيدة, والبناء الفني للقصيدة ليس في سلامة الوزن والإعراب وأداء اللغة فحسب وإنما هو ايضاً في ترتيبها وعدم اضطراب نضمها وسوء تاليفها وهلهلة نسجها([3]).
وعرض الأمدي (ت 370هـ) لصفحة التأليف في القصيدة فرآها أقوى دعائمها بعد صحة المعنى. فقد قال: «كل من كان أصح تأليفاً كان أقوم بتلك الصناعة ممن أضطرب تأليفه»([4]).
وربما يعمد الشاعر إلى إجراء تغيرات في ترتيب الجملة, بقصد معنوي يهدف إلى تقوية الطاقات الإيحائية التي تتميز بها اللغة الشعرية, أو بسبب لفظي يتعلق بالوزن والقافية.
«فالشاعر قد يستعمل كل حيل اللغة من البساطة الكاملة إلى البلاغة المعقدة. فيذكي حرارة عاطفته آنا من خلال الإيجاز, و آنا من خلال الأطناب, وطوراً من طريق حذف التفصيلات, وطوراً من طريق التكرار»([5]). أو غيرها من الأساليب.
فانتقاء الجمل ذات الجاذبية المناسبة التي تضفي على القصيدة جمال الصور وروعة الخيال, وترتيبها على وفق نسق معين أشبه ما يكون بعمل الصائغ الذي يصوغ الحلي.
 
 ولهذا قيل في صيغة الشعر بأنها «صياغة وضرب من التصوير»([6]) وعند دراسة الصياغة في شعر الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء, في مراحله الشعرية الثلاث. لا بد أن نشير إلى أن المرحلة الأولى التي عاش فيها الشيخ كان تقليد أساليب الأقدمين والنسج على منوالهم من أهم ما يستهوي الشعراء فيها. فقد كانت لغتهم الشعرية لا تشمل نظم الكلمات على وجه مخصوص, قدر ما كانت تمثل لديهم حسن التأليف بين صيغ وأنماط وأطر لغوية واسلوبية سابقة, بحيث لم يكن التمايز بين شاعر وآخر قائماً على موهبة كل منهما في إبداع لغة شعرية مميزة قدر قيامه على التفاوت في براعة صنعة التأليف وإحكام الصياغة([7]).
فإن إحساس الشعراء بأصالة ماضيهم وبراعتهم الشعرية دفعتهم إلى تقليد الأسلوب القديم, والشيخ شأنه شأن غيره من هؤلاء الشعراء, سار على وفق هذا المنهج, فهو في المرحلة الأولى يتأخر إلى الوراء بقوة بحيث تضاهي طبيعة شعره الشعر القديم, وفي المرحلة الثانية يندفع إلى الإلمام بقوة كما فعل بتجديده بلغة شعره وموضوعاته كما ألمحنا إلى ذلك في مبحث الألفاظ, ومن ثم يعود بصياغته إلى البساطة والوضوح والاقتراب من أسلوب الكلام الدارج بين الناس في المرحلة الثالثة.
وقد كانت أساليب الصياغة عند الشيخ تختلف باختلاف الأحاسيس والمواقف, فضلاً عن تلونها لكثرة الموضوعات التي طرقها في شعره, ورغبته في الإفضاء بأحاسيسه أكثر من رغبته في تعميق العملية الإبداعية.
لذا سوف ننتخب بعض هذه الأساليب التي تشكل ظاهرة في شعر الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء.
ونسلط بعض الضوء عليها:
هو طلب العلم بشيء لم يكن معلوماً من قبل, ولا يكون حقيقياً دائماً, فقد يستخدم لأغراض ثانوية أخرى تفهم من سياق الكلام ودلالته([8]).
فكثيراً ما يخرج الاستفهام عن غايته, ويستغني عن طلب معرفة المجهول, فقد يراد منه أغراض أخرى كالتوبيخ والتقرير والتسوية والتمني... وغيرها من الأغراض التي لها أثر كبير في إثارة الانفعالات والعواطف لدى السامع, يقصد إليها الشعراء في مختلف مقاصدهم وأغراضهم.
وللإستفهام حضور كبير في شعر الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء, فقد وظفه في كثير من أغراضه وقصائده.
فمنها ما جاء في رثاء الإمام الحسينu قوله ــ من البسيط ــ([9]):
فأين جدك والأنصار عنك ألا

 
هبت له أوسه منهم وخزرجه؟

واين فرسان عدنان وكل فتى

 
شاكي السلاح لدى الهيجا مدججه؟

واين عنك أبوك المرتضى أفلا

 
يهيجه لك اذ تدعو مهيجه؟

فمن الواضح أن الشاعر لم يقصد الاستفهام الحقيقي في هذه الأبيات, بقدر قصده إلى بعث الأسى في النفوس, والعتاب على من تخلى عن نصرة الإمام الحسينu وسمع نداءه ولم يلبيه.
وفي رثاء الشيخ لعمه الشيخ عباس كاشف الغطاء قوله ــ في الكامل ــ([10]):
من ذا الذي داس العرين مشمراً

 
فاغتال في الاجام اسد الغيلِ؟

ومن أرتقى لشوامخ الشرف التي

 
شأت السما فاستامها لنزولِ؟

 
نجد أن الشيخ لم يقصد الاستفهام الحقيقي أيضاً في هذه الأبيات, بقدر ما كان يقصد إلى تعظيم المرثي وذكر فضائله.
وفي الغزل, نجد للشيخ استخدامات مختلفة لأسلوب الاستفهام. منها قوله ــ من الطويل ــ([11]):
فكيف إلى سعدى السبيل ودونها
 
 
مهامه ينضين النجائب بيدها؟

 
الذي وظف فيه الإستفهام ليوحي إلى استبعاد الشاعر الوصول إلى محبوبته التي كانت دونها تلك المهامة والفلوات التي لا تقدر على اجتيازها حتى النجائب الكريمة من النياق.
وقال أيضاً ــ من الطويل ــ([12]):
فهل تصدق الأحلام فيمن احبه
 
 
وتشفي غليلي في الهوى وسقامي؟

فالشاعر لا يستفهم عن صدق الأحلام أو كذبها و إنما يتمنى تحقيقها, لتشفي شيئاً مما يعانيه من آلام وأسقام.
وفي معرض وصف جمال المحبوب نجد الشيخ يستخدم أسلوب الإستفهام والترديد, ليقرر بعض ما تمتلكه محبوبته من صفات الجمال ومزايا الحسن. فيقول ــ من الوافر ــ([13]):
أخدك أم جنى وردٍ تراءى
 
 
ووجهك أم سنابرق أضاءا؟

 
حيث الشاعر يظهر للمتلقي بانه متردد حائر في حقيقة ما يراه, زيادة منه في تشويق المتلقي لتصور جمال محبوبته ومبالغة منه في حقيقة ذلك الجمال.
ويكثر الشاعر من استخدام الاستفهام الإنكاري وهو يتحدث عن وضع العرب والمسلمين في مواجهة الإستعمار, عند مطالبتهم بالنهوض والثورة.
فيقول ــ من الطويل ــ([14]):
ياعرب أين المجد والجود والقـوى
 
 
وأين الأيادي والبيض والأربع؟ الخضرُ

واين الحمى مرهبوبة جنباته

 
ومأ نوسة للوفد أوجهُهُ الغرٌُ؟

واين الطباع الفيح عباقه الشذى
 
 
يفوح على طي الدهور لها نشر؟

وأين أفاويق المفاخر ثرة

 
يروق بأفواه الثناء لها در؟

 
فالشاعر لا يبحث عن مكان وجود تلك الأيادي البيضاء والحمى العزيزة و لا عن تلك الشمائل الكريمة التي عرفت بها أمة العرب. بل يجعل ذلك الإستفهام وسيلته للتحسر على تلك الخصال التي لا يجد لها مكاناً في عالمه. ولا وجوداً في مجتمعه ويوظفها في توجيه اللوم والتوبيخ لمن تناسوا مجدهم العريق.
وقوله أيضاً ــ من الرجز ــ([15]):
وقفت في اثار ابائي الأُلى
 ج
 
أسأل والدمع كنهر سائل
ج
أسألها عن باسق المجد ال ــ ذي

 
قطوفه دانية العثاكل
ج
............................................................
 
............................................................
فكيف أضحى خاملاً من بعدما

 
زها كزهو الروض في الخمائل؟
ج
 
حيث يقف الشاعر باكياً على آثار آبائه وأمته, سائلاً إياها عن ذلك المجد الذي صنعوه, متعجباً من ذلك الخمول والخضوع في أمتة اليوم. فهو ينكر عليها خمولها وضعفها.
وله أيضاً ــ من الطويل([16]):
أكلك يا عمري هموم وهمة

 
وكلُكِ يا أيام لهو وباطــلُ؟

وكلكم ياقوم في القول فارس
ج
 
ولا رجل إلا وفي الفعل راجـلُ؟
ج
فحتى متى هذا الخمول و ربما

 
ذوت فزهت بعد الذبول الخمائل؟
ج
 
فقد وظف الاستفهام في مجال الشكوى والنقد والتألم على ما يراه من ذل وخمول وادعاء وزيف بالأقوال والأفعال.
وبعد ذلك يمكننا القول بان الشيخ قد برع في توظيف الاستفهام في الأغراض المختلفة من إنكار وتوبيخ وتحسر وتمنٍ... وغيرها. وفي مختلف الأغراض التي طرقها في شعره.
 


([1]) ينظر: مفهوم الشعر/ دراسة في التراث النقدي. د. جابر أحمد عصفور. المركز العربي للثقافة والعلوم 1982م: 73.
([2]) منهاج البلغاء: 351.
([3]) ينظر: الوساطة بين المتنبي وخصومه, القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني (ت 366) تحقيق محمد ابو الفضل ابراهيم, ط3, طبع عيسى البابي الحلبي وشركاه 1951: 413.
([4]) الموازنة: بين شعر ابي تمام والبحتري, لابي القاسم الحسن بن بشر الأمدي, تحقيق السيد احمد صقر, ط1, دار المعارف بمصر, 1961م: 383.
([5]) الشعر كيف نفهمه ونتذوقه: 87.
([6]) كتاب دلائل الإعجاز في علم المعاني, الإمام عبد القاهر الجرجاني, تحقيق محمود محمد شاكر, القاهرة، 1984م: 346.
([7]) ينظر: لغة الشعر الحديث في العراق: 183.
([8]) ينظر: جواهر البلاغة. أحمد الهاشمي, ط 13.مطبعة السعادة ــ مصر 1963م: 85, 93.
([9]) الحسن من شعر الحسين:68.
([10]) المصدر نفسه: 163.
([11]) المصدر نفسه: 98.
([12]) من قصيدة مخطوطة في مكتبه الشيخ محمد شريف نجل الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء. ألحقت بالديوان. ينظر الملحق رقم (5).
([13]) الحسن من شعر الحسين: 9.
([14]) المصدر نفسه: 257.
([15]) المصدر نفسه: 245.
([16]) الحسن من شعر الحسين: 261.
 
امتیاز دهی
 
 

 
Guest (PortalGuest)

دبيرخانه كنفرانس‌هاي بين‌المللي
مجری سایت : شرکت سیگما