شنبه 1 ارديبهشت 1403  
 
 
المبحث الرابع ــ الغزل

يعد الغزل من أهم الفنون الشعرية، وأعلقها بالقلب, وأقربها إلى طبيعة الإنسان([1]), فله صلة وثيقة بحياة الرجل و المرأة, وهو لغة الوجدان والعواطف([2]).
والغزل من «أكثر أبواب الشعر من حيث الكم, وأغنى أبواب الشعر من حيث الذوق والفن والعاطفة»([3])، عبر من خلاله الشعراء عن أشواقهم وأحاسيسهم نحو المرأة, وما يلقون منها من وصال أو هجر, من وعد أو اخلاف, ودل وغنج، وصوروا فيه سعادتهم وشقاءهم وآمالهم وآلامهم([4]).
وقد أحتل هذا الغرض المكانة البارزة في الشعر العربي «فلم يحفل العرب بشيء احتفالهم بالغزل»([5]), ورافق مسيرته في مختلف أدواره وعصوره، منذ العصر الجاهلي وحتى الوقت الحاضر على الرغم من كون الغزل أحد أهم الموضوعات الشعرية (التقليدية) في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين في العراق([6]). إلا أنه كان قد «فقد الصورة المشرقة الجميلة بعد أن ابتعد عن الإستقلال الذاتي وعاش في أجواء القرن نفسه»([7]).
فقد كان أكثر شعراء ذلك العصر لا ينظمون الغزل إلا ليبرهنوا على أنهم ذوو مقدرة فيه, زيادة على اهتمام غزلهم بالصفات المادية الحسية التي تركزت في الجسد الدافئ والوجه المشرق، فطغت هذه المادية الحسية وسيطرت على الشعراء، وحالت من دون السمو بشعر المرأة لم تكن عندهم إلا متعة يريد الرجل أن يتمتع بها([8]).
وكان الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء أحد شعراء ذلك العصر، ومن الذين جعلوا المرأة موضوعاً لبعض قصائدهم أو جزءاً من قصائد أخرى، فقد تناول من المرأة جمال وجهها, وعذوبة ريقها, وسحر عينيها, ورشاقة قوامها, وحسن تقاطيع جسدها.
كما نجد ذلك في قولهـ من الكامل ــ ([9]):
أهوى مقبله وأخشى عقرب

 
الصدغ الذي يرمي الحشا بسمامِ

عذب اللمى أستعذبت فيه تعذبي

 
وغدوتُ فيه مُغرماً بِغرامي

ياريمُ كم لك في القلوبِ مراتعٌ

 
من هدب لحظِكَ اثخنت بِسهامِ

تبدو فترنو عن نواظر جُؤذرِ

 
في دَلِّ غانيةٍ و قدِّ غُلامِ

 ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ
 
 ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ
بقوام قدك قد أقمت قيامتي

 
وسقام خصرك زاد فيه سقامي

لي منك يا عدل القوام مُقبل
 
 
عذبٌ وسالفة ولين قوامِ

 
إلا أن الشاعر في أكثر غزله كان حذراً جداً في وصف مواطن الأنوثة التي تميز جسد المرأة, والتي طالما توله الشعراء بوصفها.
فمن ذلك قولهـ من الطويل ــ ([10]):
ومرتجة الأرداف أما قيامها

 
بطيءٌ ولكن السريع قعودها

ومهزوزةٌ هزَّ القضيب اذا مشت

 
تمايل عطفاها وماست قدودها

 
فالشاعر يقصد من وصف ارتجاج بعض أعضاء المرأة, وبطء قيامها وسرعة قعودها واهتزاز جسمها وتمايله في أثناء المشي، إبراز عناصر الأنوثة في جسد المرأة. وهو الذوق الجمالي التقليدي الذي كان سائداً عند شعراء العرب القدامى([11])، والصورة الأكثر شيوعاً لجسد المرأة في الشعر العربي([12]).
والشعراء وهم يتغزلون بمحبوباتهم ويعبرون عن عواطفهم وأحاسيسهم، يصفون تلك المفاتن الحسية ــ الجمال الحسي ــ وكذلك المفاتن المعنوية الجمال الأخلاقي ــ([13])والمتمثل بلذة حديثها, ونبل أخلاقها, وأحاسيسها وعواطفها, بل وإنسانيتها،وكل ما يسمو بالإنسان عن مادية الحب وحسيته. وهو مالم يظهره أغلب شعراء القرن التاسع عشر وبداية العشرين, الذي ظل شعراؤه يتغنون بالجسد وجمال المرأة المثال([14]).
وهذا ما نجده في شعر الشيخ محمد حسين أيضاً, فقد كان وصف الجمال الجسدي (المادي) هو الأمر العام الطاغي على غزله أما وصف الجوانب الخلقية والنفسية للمرأة فلا نجده إلا في صورة الصد والهجر والتمنع الذي طالما قاساه الشاعر من محبوبته, وزاد عذابه وهيامه, كما يظهر ذلك في قولهـ من الكامل ــ ([15]):
حتى مَ أنت تصد عن مُضنى الحشا

 
بهواك حلف الوجد والآلامِ

أمُعذبي بالهجر دون رفاقتي

 
رفقاً بفرط صبابتي وهيامي

أنا من علمت حليف وجدٍ كامنٍ

 
لا ينقضي بتعاقب الأعوامِ

ياريم جد لي بالوصال فإنها

 
رؤياك أقصى منيتي ومرامي

 
فالشاعر يذكر ما يلقاه العاشق المحب من وجدٍ وشوق وهيام، وما يعانيه من الم الصد والهجر والفراق، حتى أصبح من فرط ذلك حليف الوجد الكامن على الرغم من تعاقب السنين والأيام، يمني النفس باللقاء ويعذب القلب بالرجاء، فلا يجد له من مجيب, ولا يلبي رغبته أحد، سوى ما قد تتكرم عليه من أحب ويزوره طيفها في المنام, فيقول في قصيدة كاملة عن زيارة طيف محبوبتهـ من الطويل ــ ([16]):
سلامي على من زار في النوم طيفها

 
فهيّج أشواقي وزاد هيامي

وقد قمت من ذاك المنام مُولعِاً

 
برؤية طيفٍ زارني بمنامي

فهل تصدق الأحلام فيمن أحبه

 
وتشفي غليلي في الهوى وسقامي

فطوراً تقاضيني وطوراً تضمني
 
 
وطوراً تواسيني بطيب كلام

رشفت رضاباً من لماها كأنه

 
رحيقٌ أرى ريّاه مسك ختام

عجبت لما قد كان في النوم بيننا

 
وقد نلت منها نيتي ومرامي

 
وربما كان كل هذا الصد والبعد يمثل انعكاساً لواقع الحياة الإجتماعية المحيطة بالشيخ، وغلبة المفاهيم الدينية على الحياة العامة في النجف خاصة، والمفاهيم الدينية والعشائرية في العراق عامة([17])،زيادة على ما تعكسه شخصية الشاعر نفسه؛ بوصفه رجل دين يتحرج كثيراً في الحديث ــ أو التصريح ــ عما يدور بين الرجل والمرأة من علاقات ــ حتى لو كان ذلك في أثناء حلم في المنام ــ فيصفها الشاعر بكثير من الإختزال والتلميح.
ومما زاد ألمه ومعاناته, أولئك الوشاة وأفعالهم الخبيثة وأقوالهم الكاذبة ومحاولاتهم التفريق بين الشاعر وبين من يحب, مما جعل الشاعر يجاهر ببراهين حبه. ويثبت دلائل صدقه في الكثير من الأحيان، فنراه يقول ــ من الطويل ــ ([18]):
علمت بأني في هواك أسيرُ

 
فحتى مَ ياعدلَ القوام تجورُ

أعيذك من قول الوشاة فإنه

 
وعينيك ياماضي اللواحظ زورُ

فلي رنَّةٌ من بعدها ألف رنةٍ

 
اليكم ومن بعد الزفير زفيرُ

فهل من فؤادٍ سالم أستعيره

 
فإنَّ فؤادي في هواك كسيرُ

 
وليس الوشاة فقط من آذوه, بل هناك اللائمون ايضاً, الذين أنتقدوا حبه ولاموا عواطفه, فزادوه غصة فوق غصصه وعذاباً فوق عذابه, فيقول ــ من الوافر ــ ([19]):
أقول للائمي في الحب لؤمُ

 
ملامك في الهوى غير الملومِ

فإنك لو رأيت الشمس تبدو

 
بقامة ذلك القد القويمِ

وغرته التي كالشمس حُفّت

 
بليلٍ من ذوائبه بهيمِ

لأعذرت المحب اذا تصابى

 
ومال عن السراط المستقيمِ

 
وعند تصفح ديوان الغزل في الشعر العربي نجد هناك الكثير من الشعراء الذين جاهروا بمغامراتهم العاطفيةوخلواتهم المريبة, التي صوروا فيها جمال المرأة ومفاتن جسدها، وما كان يدور بينهم في مثل تلك الخلوات, في كثير من الجرأة والصراحة([20]).
وهذا ما حاوله الشيخ أيضاً عندما ذكر مغامرة من تلك المغامرات أختلى فيها مع حبيبتة وفي مأمن من النظار والحساد فقال ــ من الكامل([21]):
وافاك نشوان المعاطف ناشي

 
ظبي كحيل المقلتين نجاشي

وسرى إليك مع الهوى مستأنساً

 
من غير ما فَرَقٍ ولا استيحاشِ

وأتاك في جنح الظلام تحرجاً

 
من أن يساير ظله ويماشي

والأفق قد نظم النجوم قلائداً

 
وكسى الدجى بَرَداً رقيق حواشي

في ليلة بسنا الوصال منيرة

 
حسد الصباح لها الظلام الغاشي

 
فصاحبته غضة الشباب، ترفل بالسعادة، لها عيون الظبي الكحيل وقد وافته في جنح الظلام وتسترت بستاره، مع كونها واثقة الخطى، تمشي من غير فرق ولا استحسان (شجاعة قوية الإرادة). وهذا على خلاف المعهود من الشعراء في مثل هذه المواقف، عندما يقصدون خدور فتياتهم، ويتجاوزون الحراس والعيون، توقاً لرؤية المحبوب، وتشوقاً للقائه، وربما كان السبب وراء ذلك انعكاس شخصية الشاعر واعتزازه بنفسه([22]). وكونه المقصود في جميع الأحوال والظروف. شأنه في ذلك شأن عمر ابن أبي ربيعة، وكيف كانت حاشية النساء والجواري يطلبن حبه ورضاه([23]). ومن ثم يقول([24]):
حتى إذا طاب اللقاء وسكنت

 
أنفاسه نفسي وروعة جأشِ

وسدته زندي وافرش زنده

 
خدي فبتنا في الذ معاشِ

لولا خفوق جوانحي لفرشتها

 
لمبيته وطويت عنه فراشي

وغدا يعاتبني عتاباً زانه

 
دَلَّ بلا هجر ولا إفحاشِِِِ

ورشفت من فيه البرود سلافة

 
أروت بنشوتها غليل عطاشي

وبدى الصباح فقام ينفض ذيله

 
اسفاً ويجهش ايما إِجهاش

ودعته والدمع من جفني ومن

 
جفنيه بمزج وابلاً برشاش

ما كان أشرق ضوئها في ليلة

 
حضر الحبيب وغاب عنا الواشي

 
فقد ذكر كيف قضى ليلة كاملة مع حبيبته. وارتشف من فمها البرود، وبادلها الحديث والعتاب، حتى حان وقت الصباح، ولاحت تباشير الفراق، فاغرورقت العيون بالدموع، وعلت منهما زفرات الأسف والفراق.
وعلى الرغم من ذلك كله نجد الشاعر يتحرج في وصف مفاتن حبيبته, على غير عادة الشعراء في مثل هذه المواقف، مما يعكس تقيده الشديد بشخصية رجل الدين الطاغية عليه.
ويظهر من كل ذلك أن الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء كان في غزله يساير الإتجاه العام للغزل الذي كان سائداً في ذلك العصر، من الإقتصار على التغزل بالجوانب المادية من مفاتن المرأة من دون المعنوية منها، فهي تمثال الجمال الذي ينظر إليه الشاعر من بعيد، فلم يكن هناك وجود لصوتها أو رنة حديثها بل ومشاعرها المملوءة بالحب والعاطفة، وكان في كثير من الأحيان يتكلف الفاظ النسيب التي دأب على تكرارها الشعراء. الأمر الذي يظهر خضوع الشيخ للتقليد أكثر من خضوعه للعاطفة الصادقة والتجربة الحقيقية التي تمثل روح شعر الغزل.
 


([1]) ينظر: الشعر الجاهلي/خصائصه وفنونه:163.
([2]) ينظر: المرثاة الغزلية في الشعر العربي. د. عناد غزوان اسماعيل, ط1, مطبعة الزهراء ــ بغداد, 1972: 1.
([3]) الغزل عند العرب, حسان أبو رحاب, مطبعة مصدر القاهرة ــ 1947م:5.
([4]) ينظر: الشعر الجاهلي/خصائصه وفنونه: 165.
([5]) المصدر نفسه:163.
([6]) ينظر: حركة التطور والتجديد في الشعر العراقي الحديث. د. عربية توفيق لازم. ط1. مطبعة الأيمان ــ بغداد, 1391هـ ــ 1971م: 12.
([7]) الشعر العراقي وأثر التيارات السياسية والإجتماعية فيه في القرن التاسع عشر, د. يوسف عز الدين. مطبعة أسعد بغداد. 1379هـ ــ 1960م:165.
([8]) ينظر: الشعر العراقي وأثر التيارات السياسية والإجتماعية فيه في القرن التاسع عشر: 165.
([9]) الحسن من شعر الحسين: 175, 177.
([10]) الحسن من شعر الحسين: 97.
([11]) ينظر: الصورة في الشعر العربي/حتى أخر القرن الثاني الهجري. د. علي البطل, ط1, دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع ــ 1980: 58.
([12]) ينظر: المصدر نفسه: 61.
([13]) ينظر: المرثاة الغزلية في الشعر العربي: 1.
([14]) ينظر: الشعر العراقي وأثر التيارات السياسية والإجتماعية فيه في القرن التاسع عشر: 165.
([15]) الحسن من شعر الحسين: 177.
([16]) قصيدة وجدت مخطوطة في مقدمة أوراق ضمت كذلك ما كتبه الشيخ مترجماً لحياته (عقود حياتي), موجودة في مكتبة نجل الشيخ محمد حسين الشيخ محمد شريف كاشف الغطاء في النجف الأشرف. ينظر الملحق رقم (5) في آخر الكتاب.
([17]) ينظر: تطور الشعر العربي الحديث في بالعراق:22
([18]) الحسن من شعر الحسين: 125.
([19]) المصدر نفسه: 170.
([20]) أمثال أمرئ القيس. فهو الذي قال:
وبيضة خدر لا يرام خباؤهـ ا     تمتعت من لهوٍ بها غير مُعجل
تجاوزت أحراساً إليها ومعشراً   عليَّ حراصاً لو يسرون مقتلي
 ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ              ــ ــ ــ ــ ــ ــ إلخ القصيدة
ينظر: شرح المعلقات السبع, أبي عبد الله الحسين بن أحمد الزوزوني. منشورات دار البيان للطباعة والنشر بيروت ــ لبنان ــ 1990: 21 ــ 33.
وكذلك المنخل اليشكري عندما قال:
ولقد دخلت على الفتا               ~ ة الخدر في اليوم المط ــ ــ ير
الكاعب الحسناء ت ــ ر          ~ فل في الدمقس وفي الحرير
 ــ ــ ــ ــ ــ ــ  ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ إلخ
ينظر: الاصمعيات: الاصمعي. عبد الملك بن قريب. تحقيق احمد شاكر وعبد السلام هارون, ط2, دار المعارف بمصر 1964: 60.
([21]) الحسن من شعر الحسين: 132.
([22]) ينظر: شعراء الغري: 8/118.
([23]) قال عمر بن ابي ربيعة:
بينما يذكرنني ابصرنني             دون قيد الميل يعدو بي الاغر
قلن: تعرفن الفتى؟ قلن:            عـرفـنــاه, وهــل يـخـفــى الـقــمـر؟
ينظر: ديوان عمر بن أبي ربيعة المخزومي, تحقيق علي مكي. شركة علاء الدين للطباعة والتجليد بيروت ــ لبنان ــ د ت: 61.
([24]) الحسن من شعر الحسين: 132.
 
امتیاز دهی
 
 

 
Guest (PortalGuest)

دبيرخانه كنفرانس‌هاي بين‌المللي
مجری سایت : شرکت سیگما