پنجشنبه 6 ارديبهشت 1403  
 
 
ي ــ طول القصائد
ذهب عدد من النقاد العرب القدامى إلى اهمية طول القصيدة عند الشاعر المجيد, فقد ذهب ابن رشيق إلى ان «المطيل من الشعراء اهيب في النفوس من الموجز وإن أجاد»([1]).
وقد إمتُدِح الفرزدق لقدرته على التطويل, وحين ليم الكميت على الإطالة قال «انا على الإقتصار اقدر»([2]).
وهناك من ربط من النقاد بين طول القصائد وتعدد موضوعاتها, فقد ذهب حازم القرطاجني إلى ان القصائد القصيرة تلك التي تتضمن غَرضين لم يتسع المجال أمام الشاعر ليتسوفي في قصيدته غيرهما, بينما في القصائد المتوسطة والطويلة فالمجال له فيها متسع لما يريد من الأغراض والموضوعات([3]).
وفي النقد الحديث نقل عن الناقد الانكليزي ريد قوله: «يريد أكثر الشعراء نظم قصائد طويلة, ونستطيع أن نَقول ان التمييز بين الشاعر الكبير والشاعر الصغير غالباً ما يمكن في القدرة على نظم قصيدة طويلة ناجحة»([4]).
وإذا كان طول القصائد يلعب الدور المهم في تمكن الشاعر و شاعريته, فان قوة الإنفعال والمحافظة على قوة القصيدة وثرائها وخلوها من الحشو والاسفاف إلى النهاية مهم أيضاً([5]).
وقد اتسمت أغلب قصائد الشيخ بالطول ولا سيما تلك القصائد التي نظمها في المرحلة الأولى من مراحل شعره.
فنجد في احدى أوائل([6])قصائد الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء, التي اتسمت بالطول وبلغت (177) بيتاً بعثها إلى والده بعد طول سفر وغياب فقد كتب قبل ذكر القصيدة في ديوانه:
 «وكتبت إلى حضرة الوالدS وهو في اسلامبول متشوقاً إليه, ومهيجاً له على الرجوع, ومتألماً في طول سفره, وفيها من الغزل والغرام والحماسة والمدح»([7] وغير ذلك من الموضوعات التي احتوتها هذه القصيدة التي جاء في مقدمتها قولهـ من المتقارب)([8]):
إلى كم ارود رياض الأمل

 
ولا أجتني غير حرِّ الغلل

وكم ذا أخوض بحار المنى

 
وغلة قلبي بها لا تبل

اعلل نفسي بلقياكم

 
وما رائد الموت إلا العلل

ومن دون نيل المنى فيكم

 
زمانٌ لو أني ودهرَُ مطل

............................................................
 
............................................................
فكم وقفة لي باطلالكم

 
بها مهجتي في دموعي تطل

سقتها فكف حياها حياً

 
وقال ثراها لنعم البدل
جج
فراح بها فرحاً حين رحت
ج
 
بقلب صديٍ وجفن خضل
ج
 
حيث عبر الشاعر عن الذي يحسه من ألم الفراق ونفاذ الصبر, وذكر البقية الباقية من الأمل في اللقاء وجمع الشمل, في مقدمة استغرقت خمسة عشر بيتاً, انتقل بعدها إلى لوحة الطلل, ووقف على الديار, وبكى أهلها الراحلين, وقد اغرورقت عيناه بالدموع, واحترق قلبه بنيران الذكريات, ليحاول الهروب من هذه الآلام والأحزان, ويقطع رحلة يتخلص منها من اوجاعه, قاصداً ذلك الأمل والملجأ الحصين المتمثل بوالده الذي ابتعد عنهـ فيقول([9]):
 فكدت ابل صداها بأن

 
اقيم اليهم صدور الإبل

وأركب غَاربها شاحذاً

 
من العزم غرباً ابى ان يَظل

إلى حيث ماء المعالي جرى

 
بحوراً وماء الدنايا وشل

 
فكأن الشاعر في هذه الأبيات يستكشف رأي والده اذا ما أراد اللحاق به بعد أن كشف لأبيه عن فرط معاناته وما يقاسيه من هذه الحياة فيقول([10]):
فحتى متى أنا طوع الخطوب

 
يقلبني الدهر عزاً وذل

يدافعني منيتي ممهلاً

 
ويدفعها للوداع الهمل

فها انا عفت الأماني سوى

 
برؤياك ارمد طرفي اكتحل

وهذا زماني وهو الملي

 
بها لغريم فؤادي مطل

 
ولينتقل بعد الشكوى إلى الفخر فيقول([11]):
وقد كمنت عزمتي في حشاي

 
كما كمنت في الزناد الشعل

وما انا إلا شباً مغمدٌ

 
فلست أروقك حتى أسل

وما أنا والدهر إلا الحسام

 
أُضارب كل حديد فكل

وإنَّ بغمد الليالي معي

 
حسامَُ يفل ولا يُستفل

 
فهو ذلك الشاب الممتلئ عزيمة متوقدة, وهمة عالية تصارع عاديات الدهر والليالي الظلماء, ولكن على الرغم من ذلك وجد الشاعر بان الدهر قد أولاه ظهره, وأبعد عنه والده الذي يعقد العزم على لقياه والسفر إليه, فوالده قد أدرك العلا ونال الفخار والمجد بعلمه, وهو ما تضمنه قول الشاعر عندما انتقل إلى المديح بعد ذلك فقال([12]):
فتى قد سعى للعلا آخراً

 
فأدرك ما أملته الأُول

وحاز الفخار وطيب النجا

~
ـر لا بالقفار ولا بالجمل

ولكن بعز العلوم التي

 
بها أحسن الله منه العمل

 
ويستمر في مدح والده لأكثر من ثلاثين بيتاً, يتوقع السامع أن تكون هي خاتمة القصيدة على عادة الشعراء في المديح, ولكن الشاعر يعود بعد ذلك إلى التعبير عن ألم الفراق وشوقه إلى والده في محاولة من الشاعر تعكس قوة انفعاله, واستمرار قوة ذلك الزخم العاطفي الذي ابتدأ به قصيدته, فيجدد ألمه الذي يمزق فؤاده ويؤجج عواطفه, حتى كان زفيره من شدة الجهد والنحيب أشبه ما يكون بالبروق, ودموعه توازي المطر بالكثرة والغزارة, فالشاعر لا يجد أمامه من شغل أو هوى إلا حب والده الذي أنساه كل هوى غيره, وكل حب سواه. فيقول([13]):
حنيني رعود لها والزفير

 
بروق ودمعي حياها الهطل

غداة أثاروا زفيراً عَلا

 
له من جزيل اشتياقي زجل

وما بي هوى لكليل اللحاظ

 
تكلل بالشعر دون الكلل

وما سار قلبي لركب سرى

 
وما طل دمعي لعافي طلل

ولا أخّر القلب عن مجده

 
عنى وجده بالليالي الأول

ولا شفنيى غنجٌ للغرام

 
على كل قلب بعطفيه دِل

 
وكأن في هوى النساء ما يبعده عن والده, ولا يعني أنه ليست له عاطفة مثل سائر الشعراء, وأنه لا يحب الجمال أو يميزه, ولكن قد شغله عنهن ما هو اهم في نظره وفكره, وإلا فالشاعر يتغزل بجمال المرأة التي انشغل بها في أكثر من (40) بيتاً بعد ذلك فقد قال([14]):
فهب ورد خدك وهو الشقيق

 
بآس العذار ارتدى واشتمل

فمن لجفونك وهي التي

 
تقسم بين الانام الاجل

ولهفي لخصرك وهو النحيل

 
تكفل حمل روابي الكفل

وخدك روض سقته الدموع

 
فهل لك ان نجتليه قبل

 
في لوحة غزلية طويلة حملت بين أرجائها نظرة الشاعر للمرأة, ومشاعره تجاهها, وما يقاسيه من ألم الهوى والصبابة, ليعود بعد ذلك ويُعرض عن حب هذا الجمال؛ لأنه مشغول بحبٍ أسما وأكبر منه فيقول([15]):
وإذ ما قضى دله أن يميل

 
دعاه الوقار ألا لا تمل

وإن لاح يوماً لعيني سناه

 
فبالدمع عن حسنه تشتغل

وما الدمع حباً له بل ذكرت

 
به قمراً بالتنائي أفل

تكاد حصاة الحشى أن تذوب

 
اذا عُللت بعسى أو لعل

وتجري دموعي فيذكو لها

 
وراء ضلوعي جمر الغلل

............................................................
 
............................................................
ابا أحمد قد حلى المدح فيك

 
وقد رق حتى استرق الغزل

وما من أعابك إلا كمثل

 
دوي الذبابة حول العسل

 
ويستمر الشاعر في مدح والده وهجاء أعدائه إلى نهاية القصيدة.
فيكون الشاعر بذلك قد نظم قصيدة طويلة استوعبت مشاعره وأحاسيسه على الرغم من طولها وكثرة أبياتها, فقد خلت في مجملها من الحشو والاسفاف والروابط الكلامية الكثيرة التي ربما تضعف من مستوى القصيدة التي استمرت قوية العاطفة عالية الانفعال, تعكس تمكن الشاعر من فنه ومقدرته الشعرية الفريدة على الرغم من صغر سنه وقت ذاك.


([1]) العمدة: 1/187.
([2]) المصدر نفسه: 1/188.
([3]) ينظر: منهاج البلغاء: 303.
([4]) نقلاً عن: بناء القصيدة في النقد العربي القديم في ضوء النقد الحديث: 259.
([5]) ينظر: المصدر نفسه: 258.
([6]) كان له من العمر ثلاث عشرة سنة ينظر: صفحة (10) من هذا الكتاب.
 ([7]) الحسن من شعر الحسين: 144.
([8]) لمصدر نفسه: 144.
([9]) الحسن من شعر الحسين: 145.
([10]) ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ
([11]) الحسن من شعر الحسين: 146.
([12]) المصدر نفسه: 247.
([13])المصدر نفسه: 150.
([14]) الحسن من شعر الحسين: 151.
([15]) المصدر نفسه: 153.
 
امتیاز دهی
 
 

 
Guest (PortalGuest)

دبيرخانه كنفرانس‌هاي بين‌المللي
مجری سایت : شرکت سیگما