پنجشنبه 6 ارديبهشت 1403  
 
 
المبحث الثاني ــ الشعر القومي الف
تأتي كلمة (القومية) في اللغة من لفظة (القَوَم) وتعني (الإقامة بالمكان) وجمعها اقوم أو أقاوم وأقائم وأقاويم: الجماعة من الناس([1]).
وفي الدلالة السياسية «يرتبط مفهوم القومية بمفهوم الأمة من حيث أنها الإنتماء إلى أمة محددة... والأمة هي الشعب ذو الهوية السياسية الخاصة، الذي تجمع بين أفراده روابط موضوعية ــ شعورية ــ روحية متعددة تختلف من شعب لآخر»([2]).
ومما لا شك فيه أن (القومية) بوصفها فكرة ذات هدف ومفهوم لم تكن قد تبلورت بعد في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فقد كان أكثر الشعراء والأدباء والمفكرين يخلطون بينها وبين مفهوم الأمة الإسلامية الواحدة([3]). فلم يكن الشعب العربي يتبنى مفهوماً واضح المعالم للقومية العربية؛ لان الدولة الحاكمة في ذلك العصر كانت دولة مسلمة، لذلك لم نجد حركة فكرية ترمي إلى إيجاد كتلة عربية من دون الالتجاء إلى الدين الإسلامي([4]).
إلا أنه بعد إعلان الدستور العثماني سنة 1908م. وما أنقضت إلا أيام معدودة حتى انتفض الأتراك على العرب. وظهرت العنصرية التركية بصورة أبشع عما كانت عند العثمانيين، وكتبت بعض الصحف التركية تشتم العرب وتطعن بمقدساتهم، مما أدى إلى ظهور صوت جديد، يدافع عن (العرب) وكيانهم المستقل([5]).
فقد ارتفعت «دعوات صارخة لتحرير الوطن العربي بل ربما الشرق كله من العبوديات. عبودية الاحتلال وعبودية التأخر والانحطاط وكانت دعواتهم تلك تقوم على فكرة البعث القومي وإثارة أدق ظاهرة تمس شعور الأمة العربية ووجدانها القومي»([6]).
وكان من ضمن تلك الدعوات المطالبة بالنهوض العربي والتحرر دعوة الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء الذي وظف الكثير من شعره في تلك المرحلة في بلورة هذه المطالب, التي تركزت أولاً في محورين أساسيين هما:
أ ــ  التغني بالأمجاد العربية الماضية.
ب ــ الدعوة للثورة والنهوض العربي.
 
وهو من الموضوعات التي طرقها الشعراء العرب المحُدثون وهم يناضلون من أجل التحرر والنهوض. وَمثَّلَ مرحلة أولى من مراحل تطور الشعر القومي والسياسي في الأدب العربي الحديث.
فقد كان بعض الشعراء العرب ذاكرين العهد العربي الزاهر, ومجد تاريخهم الماضي, ومقارنين ذلك مع ما حاق بهم في تلك الأيام من فساد وتدهور وانحطاط. على الرغم من أن الحكم العثماني كان يستظل تحت راية الإسلام, إلا أن ذلك لم يقف دون أنبعاث الشعر القومي السياسي الذي شب في القرن العشرين وسمقت شجرته وارفه الظلال([7]).
فالحنين الطاغي إلى الماضي، والتأمل الطويل في أحداثه، واسترجاع نغمات ذلك المجد المندثر، والإصرار على العيش في أجواء الفخر العربي وامجاد الأمة وما قدمته في قضايا الحكم والثقافة والحضارة؛ كان يمثل عند أغلب الشعراء حالة من حالات اثبات الوجود([8])، في مقابل احتقار الأتراك للعنصر العربي، وابعادهم عن مسؤولية الحكم([9]).
«فقد ظلت الروح العربية الأصيلة التي تنبع من الإحساس بوحدة الدم والنسب والمصير هي الرباط المقدس الذي يجمع بين أبناء تلك الأرض ويشدهم بعضهم إلى البعض الآخر»([10]).
وموضوع (الماضي) من أهم الركائز القومية التصاقاً بالنفوس. فهو شبيه بما تحدثه الذكرى من تداعيات وعودة إلى التجربة الأولى، وما تثيره في النفس من تحفز جديد في طريق النضال القومي العربي([11]).
وقد كان في شعر الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء أمثلة كثيرة على ذلك. كما في قولهـ من الرجز([12]) ــ
وقفت في اثار آبائي الألى

 
أسأل والدمع كنهر سائلِ

أسألها عن باسق المجد الذي

 
قطوفه دانية العثاكلِ

أسألها عن قاهر العز الذي

 
أغنى عن الحصون والمعاقلِ

أسألها عن باهر العلم الذي

 
قد نور العالم في مشاعلِ

فكيف اضحى خاملاً من بعدما

 
زها كزهو الروض في الخمائلِ

اضاءت الشرق مصابيحَُ له
 
 
واستشرق الغرب من الفتائل

انقض ظهري مذ وقفت ماثلاً

 
شحوب انقاض لها مواثل

أنعاكِ واثكِليِ ام انعاهُمُ

 
فالنعي من سجيه الثواكل

 
فالشاعر يبكي على حال الأمة, وما أصابها من تدهور وانحطاط, وتتداعى أمام ناظريه صور الماضي المشرق والمجد العظيم، الذي زاد من آلامه وأوجاعه، حتى أخذ ينعى تلك الأمة (الميتة) التي يئس من حياتها وعودتها من جديد.
والشاعر في تداعياته تلك لم يفرق بين أمجاد الأمة الإسلامية من جهة والعربية من جهة أخرى، فقد كانت أمام عينيه تلك الحضارة الإسلامية العربية التي أنارت العالم. وحملت مشعل التقدم والتطور خلال مئات السنين.
إلا إننا نجد في شعر الشيخ صوتاً آخر ينادي بالعرب الذين حملوا لواء الإسلام وفتحوا الأصقاع والبلدان فيقول ــ من الطويل ــ ([13]):
بني يعرب أنَّى ضللتم وطالما

 
رفعتم هدى للعالمين مشاعلا

وعلمتم الناس الفتوح وبعدها

 
غدا الفتح فيكم للعدا متواصلا

 
وكذلك عندما يخاطب أهل مصر ويدعوهم للنهوض والكفاح، يركز على الصوت العربي والشمائل العربية الأصيلة, من جود ومجد وكرم وعزة وغيرة وحماية الجار وغيرها من السمات التي ارتبطت بالعروبة والعرب الاصلاء. فيقول من قصيدة تحت عنوان «ألا هذه مصر» نظمها عند دخوله إلى مصر سنة 1912م. يقول ــ من الطويل ــ ([14]):
فيا عرب أين الجود والمجد والقرى

 
وأين الأيادي البيض والأربُع الخضرُ

وأين الحمى مرهوبة جنباته

 
ومأنوسة للوفد أوجُهُهُ الغرُ

وأين الطباع الفيح عباقه الشذى

 
يفوح على طي الدهور لها نشرُ

وأين نجار العرب ما انفك واشجاً

 
بأسناخ([15]) أشلاخ([16]) النهى ذلك البخرُ

وأين أفاويق المفاخر ثرةً

 
يروق بأفواه الثناء لها دُرُّ

بآية ماكانوا وكان نزيلهم

 
له ذِمَّة ما بينهم مالها خَفرُ

بآية ماكانت يصون حفاظهم

 
عقائلهم اذ لا حجاب ولا سترُ

 
فلا يكتفي بتذكر الماضي البعيد والشمائل العربية الأصيلة, بل يحاول تاكيدها ويأتي بالأدلة والبراهين، ويبحث ما ضاع منها لدى الشعب العربي، ومنتقداً في الوقت نفسه ما يراه من سوء حالهم وتردي أوضاعهم.
 


([1]) ينظر: لسان العرب من مادة (قَوَمَ).
([2]) الموسوعة السياسية. د. عبد الوهاب الكيلاني: 427.
([3]) ينظر: حركة التطور والتجديد في الشعر العراقي الحديث: 143.
([4]) ينظر: الشعر العراقي أهدافه وخصائصه في القرن التاسع عشر: 132.
([5]) ينظر: محاضرات عن الشعر العراقي الحديث: 16.
([6]) حركة التطور والتجديد في الشعر العراقي الحديث: 151.
([7]) ينظر: في الأدب العربي الحديث/بحوث ومقالات: 14.
([8]) ينظر: تطور الشعر العربي الحديث في العراق: 115.
([9]) ينظر: حركة التطور والتجديد في الشعر العراقي الحديث: 23.
([10]) حركة التطور والتجديد في الشعر العراقي الحديث: 143.
([11]) ينظر: التيار القومي في الشعر العراقي الحديث.: 39.
([12]) الحسن من شعر الحسين (العصريات والمصريات): 245.
([13]) شعراء الغري: 175.
([14]) الحسن من شعر الحسين (العصريات والمصريات): 256.
([15]) (سَنَخَ) ــ سنوخاً في العلم: رسخ فيه. ج (اسناخ): لسان العرب مادة (سنخ).
([16]) (الشَلْخ) مصدر: الأصل والعرق. ج (أشلاخ): لسان العرب مادة (شَلَخ).
 
امتیاز دهی
 
 

 
Guest (PortalGuest)

دبيرخانه كنفرانس‌هاي بين‌المللي
مجری سایت : شرکت سیگما