جمعه 7 ارديبهشت 1403  
 
 
الرثاء العلماء

ب ـ رثاء العلماء

يعد اختيار الشاعر لمن يرثيه دليلاً على منهج قد أختطه لنفسه, فاقتصار الشاعر في رثائه على الإمام الحسينu وبعض علماء الدين من دون غيرهم من الناس. محاولة منه في اتباع طريق التصحيح الذي بدأ برسمه مجموعة من أدباء النجف وشعرائها. الذين أحسنوا الصنيع «لا إلى انفسهم فحسب, بل إلى الفضل والأدب, والحشمة والكمال, فصاروا لا يقولون الشعر. مدحاً أو رثاءً وتهنئة وعزاء. إلا فيمن يعلمون انه يقدر الشعر, ويعرف له ولقائله حقه»([1])
ومن ابرز السمات التي نجدها في رثاء الشيخ لعلمائه هي سمة المبالغة والتهويل التي جاءت اغلبها في مقدمات مراثيه وكأنه اراد بذلك شد السامعين إليه, أو لفت انتباههم لوقوع هذا الحدث الجلل, والمصيبة العظى. فنراه يقول في رثاء عمه الشيخ عباس([2]) بن الشيخ علي كاشف الغطاء. الذي توفي عندما بلغ الشاعر السنة الواحدة والعشرين من عمره([3])، وفي محفل من الناس ضم العلماء والأدباء([4]). ــ من الكامل ــ ([5]):
ميلي قواعد جعفر بل زولي

 
فلقد فجعت بمحكم التنـزيلِ

بالنعمة العظمى بنور الأية ال ــ

~
كبرى بمهبط وحي جبرائيلِ

بالمصعب الهدار بل بمصرف
 
~
الأقدار بل بِحُسامها المسلولِ

 
فهو يقرن حال قواعد مذهب الإمام جعفر الصادقu بفقد هذا العالم الجليل تعظيماً له, وتقديراً لعلمه, فقد كان (محكم التنـزيل) و(النعمة العظمى) و (نور الآية الكبرى) و (مهبط وحي جبرائيل)، بل يصل الأمر بالشيخ ليصفه بكونه (مصرف الأقدار) فيتجاوز بذلك صفات البشر. ويدخل في الغلو والمبالغة المرفوضة.
وعلو مقام المرثي ومحبة الشاعر واعتداده به وبنفسه، وهو في ريعان الشباب قد يدفعانه إلى المبالغة في الرثاء. ولكن ليس بالجنوح إلى تصريف الأقدار والتجاوز على صفات البارئ عز وجل.
وقال أيضاً في رثاء الشيخ زين العابدين([6]) ــ من السريع ــ ([7]):
أمادت الأرض صروف القضا

 
وزلزلتها أيَّ زلزالِ

سمعاً بني العلياء إن الردى

 
دكَّ شمام الشرف العاليِِ

 
فالأرض قد تزلزلت ومادت لفقد هذا العالم الجليل الذي تألم (بنو العلياء) لفقده, لشرفه السامي ومكانته العلمية.
والشاعر في مثل هذا الموقف قد نهج أسلوب الشاعر القديم في مراثيه. وكيف كان «يلجأ في استعظام المصيبة إلى المبالغة وإشراك الطبيعة في أحزانه»([8]). فالشاعر المجيد في الرثاء يذكر للمرثي تلك الصفات والخصال الحسنة التي عرف بها المرثي في حياته وكانت دليلاً واضحاً لشخصه من دون إضفاء صفات غير حقيقية عليه. تجنبا لمجانبة الحقيقة([9]). وهذا ما نجده في مراثي الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء, حيث ركز على خصال العلم والمكانة الدينية والشرف والكرم وإعانة الضعفاء والدفاع عن الأهل والعشيرة والمذهب.
فقد ذكر العلم والمكانة الدينية بقولهـ من الكامل ــ ([10]):
أبكيك يا محيي الشريعة والهدى

 
ومميت حيِّ الشرك والتضليل

أبكيك للأحكام والحكم التي

 
اصبحن بعد حلاك للتعطيل

 
ويذكر شرف المرثي بقولهـ من الكامل ــ ([11]):
ومن ارتقى لشوامخ الشرف التي

 
شأتِ السما فاستامها لنـزولِ

وكذلك يذكر سمتي الكرم وإعانة الضعفاء والأرامل في رثا ء أحد العلماء ــ من الطويل ــ ([12]):
واصبح رهنا للرمول واصبحت

 
يتامى له كل الورى واراملا

وخلفهم للذل منهم جوانباً

 
وللجدب رواداً وللياس آملا

وكان لهم غيثاً على الخصب حاملاً

 
براحته إن أصبح العام ماحلا

 
ولم يكن ذكره لهذه السمات مجرداً, بل جعل كل الورى بعده يتامى وأراملا بما يعني كون المرثي يفوق الأخرين بهذه الصفات وقل نظيره فيما بينهم.
وعندما يذكر دفاع المرثي عن الأهل والعشيرة ضد الأعداء. لم يجعله سيفاً مسلولاًً او فارساً في حلبات الوغى بل ذكر ما كان يليق بالفقيد,من كونه لسان قومه المدافع عنهم بعلمه وفكره, فيقول ــ من الكامل([13]):
فبمن تقابل قومك الأعداء ان

 
شمخت وكنت قبيل كل قبيل

وبمن تقول اذا ألدَّ خصيمها

 
عنفاً وكنت لسانها في القيل

 
ويتجه الشيخ في بعض مراثيه الى تعزية ولد الميت واهله، فهو بعد تعرضه لحال الناس بعد فقدان الشيخ عباس، يذكر الشخص الذي خلفه واكمل مسيره. والذي كان أحد أقربائه وهو الشيخ عباس([14]) بن الشيخ حسن آل كاشف الغطاء. وذلك في قوله([15]):
وبمن تصبرها الجميل وعنك قد

 
اضحى جميل الصبر غير جميل

لولا سميك فيهم قالوا أسىً

 
ميلي قواعد جعفر بل زولي
ج
متكفل أمر الشريعة والورى

 
اكرم به من كافل وكفيل

 
وكذلك يذكر ولد الفقيد الشيخ هادي([16]) كاشف الغطاء فيقول([17]):
ولئن يضل سبيله بالوجد فال ــ

~
هادي إلى السلوان خير دليلِ

الواضح الحسبين و النسبين

 
سبط الراحتين محط نجع السولِ

والمستطيل حِجىً على أقرانه

 
بوقا ر طودٍ في الخطوب حمولِ

 
وفي رثائه للشيخ زين العابدين يذكره ولده أيضاً فيقول ــ من السريع ــ ([18]):
ما مات من أعقب من بعده

 
أربع آسادٍ وأشبالِ

 
ومن كل ذلك نلاحظ إن رثاء الشيخ للعلماء ــ على الرغم من مبالغته فيهـ لا يخرج عن إطار الحديث عن فقدان العلم والكرم وما يتصل بذلك من خصال أخرى اعتاد على تكرارها الشعراء السابقون في مراثيهم.


([1]) سحر بابل وسجع البلابل, (المقدمة): 8.
([2]) ينظر ترجمة في هامش الصفحة (5) من هذه الرسالة.
([3]) ولد الشيخ محمد حسين سنة 1294 هـ ــ وتوفي عمه سنة 1315هـ ــ فيكون عمره وقت ذاك 21 سنة.
([4]) ينظر: عقود حياتي: 8.
([5]) الحسن من شعر الحسين: 162.
([6]) ذكر الشيخ محمد شريف نجل الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في مقابلة اجراها معه الباحث في مكتبته في النجف الشرف في تاريخ 18/7 2003 م: ان الشيخ زين العابدين هو احد علماء كربلاء. ويعضد هذا الرأي ما ذكره الشاعر في مرثيته عندما وصل إلى مقطع الرحلة منها حيث قال:
يا راكباً يطوي الفيافي علـى     زيـافــــــة وجـنـــــــاء شمــــلال
ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ                ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ
عرج على الطف وقف ناعيـاً بين أولى مجدٍ وأفضـال
([7]) الحسن من شعر الحسين: 158.
([8]) الشعر الجاهلي/خصائصه وفنونه: 204.
([9]) ينظر: نقد الشعر: 107.
([10]) الحسن من شعر الحسين: 163.
([11]) المصدر نفسه: 164.
([12]) المصدر نفسه: 178.
([13]) الحسن من شعر الحسين: 164.
([14]) ينظر ترجمته في هامش الصفحة (5) من هذه الرسالة.
([15]) الحسن من شعر الحسن: 164.
([16]) هو الشيخ هادي بن الشيخ عباس كاشف الغطاء. ولد سنة 1290. وتوفي سنة 1361 هـ . أحد أعلام النجف وأدبائها له مؤلفات كثيرة ومنظومات مختلفة. وله شعر كثير.ينظر: ماضي النجف وحاضرها: 3/210 ــ 215.
([17]) الحسن من شعر الحسين: 164.
([18]) الحسن من شعر الحسين: 178.
 
امتیاز دهی
 
 

 
Guest (PortalGuest)

دبيرخانه كنفرانس‌هاي بين‌المللي
مجری سایت : شرکت سیگما