پنجشنبه 6 ارديبهشت 1403  
 
 
المبحث الأول ــ الرثاء امام حسين

وهو أحد أقدم أغراض الشعر العربي, يهتم ببكاء الميت وتعداد حسناته وتفصيل ما جرى عليه([1]). يعبر فيه الشاعر عن خلجات قلبه الحزين ولوعته الصادقة الخالية من الصغة والتكلف([2]). وربما «يتسع افقه فيشمل فلسفة الموت والحياة وينتقل الشاعر فيه من رثاء فرد إلى بكاء قبيلة, او أمة أو دولة, أو الدنيا جميعاً, تبعاً لمكانة المتوفي»([3]) وقصد الشاعر.
وسبيل الرثاء «أن يكون ظاهر التفجع, بين الحسرة, مخلوطاً بالتلهف والأسف والإستعظام»([4]) زيادة على كونه «شاجي الاقاويل مبكي المعاني مثيراً للتباريح»([5]), معبراً عن الم صاحبه وأشجان قائله, وما تركه فقد الميت في قلبه من حزن ولوعة.
وهو من الأغراض التي كان لها حضور واسع في شعر الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء ولا سيما تلك القصائد التي نظمها في رثاء الإمام الحسين وأهل بيتهE. وبعض القصائد التي رثى فيها بعض العلماء من معاصريه.
 
لقد غطت ثورة الحسينu بسناها المشرق والمغرب, وهيجت المشاعر والأفكار, وتوهجت نوراً في قلوب البشر، فاندفعت إلى الأفواه مدحاً ورثاءً لتظل خالدة, أنشودة عزٍ في فم الأجيال, بها النفوس وتشحذ بها الهمم([6]).
فليس في الدنيا واقعة أليمة كواقعة كربلاء, التي هزت العالم واثرت في النفوس. وأهاجت لوعة الشعراء منذ اكثر من ألف وثلاثمئة وستين سنة حيث كونت قصائدهم ومراثيهم ذلك الأدب الثر والشعر الفياض الذي ملأ مئات الدواوين والمجلدات([7]).
فقد أخذ الشعراء يتبارون في إحياء ذكرى الإمام الحسينu منذ استشهاده (سنة 61هـ ). ذاكرين مصيبته وتفاصيل واقعته. فهذا الشريف الرضي كان يقيم له مأتماً ينشد فيه في كل سنة قصيدة يرثي فيها جده ويذكر مصيبته([8]).
واستمر العديد من الشعراء على هذا النهج وصولاً إلى القرن التاسع عشر الذي غدا فيه رثاء الإمام الحسين وأهل بيتهE مهمة من مهام أكثر الشعراء الذين لا يحيدون عنها([9]).
«ولا شك أن أصدق الرثاء ما كان صادراً عن القلب, وما كانت الفجيعة فيه أليمة شديدة»([10]) فليس أشد من فجيعة المسلمين بالحسينu وما جرى عليه وعلى عياله في كربلاء، زيادة على امتزاج الذكرى بالعقيدة. وصميم المعتقد([11]). الذي يوضحه قول الإمام جعفر الصادقu: «من قال فينا بيتاً من الشعر بنى الله له بيتاً في الجنة»([12]) وقولهu: «ما من أحد قال في الحُسين شعراً فبكى أو أبكى إلا أوجب الله له الجنة وغفر له»([13]), الأمر الذي من أجله «اندفع العشرات بل المئات من الشعراء يندبون الحسينu ويرثونه, ويتنوعون في الرثاء حتى أصبح الشاعر منهم لا يستطيع أن يجيد إلا بهذا النوع من الشعر»([14]).
وليس هذا فقط. بل هناك من العوامل الأخرى التي دفعت بشعر رثاء الإمام الحسينu ليكون غرضاً مستقلاً من أغراض الشعر العربي في تلك المرحلة. والتي من أهمها المآتم الحسينية وأثرها في دفع الشعراء لتجويد قصائدهم, فقد «كانت مواسم الإحتفال بأيام عاشوراء تطفح بالشعر وتفيض بالشعراء وكان الشعراء يتبارون في رثاء الحسينu, والمباراة تحث المتبارين على الإجادة... وتكسب الشاعر فخراً ومباهاة»([15])، وكذلك كان لسياسة العثمانين واضطهادهم الشيعة وحرمانهم من الوظائف والإمتيازات([16]). الأثر الواضح الذي جعل شاعر الشيعة يجد «متنفسه في مصيبة الحسين بن عليu خاصة وآل البيتE عامة»([17]), فقد جعل تلك المصائب تمثل آلامه التي يحس بها, ومصائبه التي تقض مضجعه. لذلك جاء اداؤه صادق العاطفة, قوي الإنفعال. «يفيض بروحانية عالية تمثل الجزع الحائر والفجيعة النادبة»([18]).
وكان من هؤلاء الشعراء الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء. الذي نظم القصائد المطولة في الإمام الحسين واهل بيتهE وتصدر قائمة شعراء الحسين في القرن الرابع عشر الهجري([19]).
وأشتهر بذلك عند أغلب من ترجم لحياته، فقد ذكر الشيخ محمد السماوي في (الطليعة من شعراء الشيعة): بأن الشيخ محمد حسين كاشف الغطاءله «شعر كثير ومدائح ومراثٍ في الائمة أكثر تجاوز اعداد الحروف»([20]), وجاء عن الشيخ جواد الشبيبي في آخر كتاب (الدين والإسلام) بان الشيخ محمد حسين في ملحق المرحلة الأولى من حياته الشعرية: «رفض تعاطي نظم الشعر بالكلية إلا ما يتعلق بمدائح النبي والأئمةE ومراثيهم»([21]).
وعندما نفتش مجموع شعر الشيخ لا نجد فيه إلا قصيدة واحدة في المدح نظمها الشاعر في الإمام علي بن ابي طالبu([22]), وما كانت بقية مدائحه إلا ممتزجة مع الرثاء: فالرثاء لا يختلف ــ في وجه ــ عن المديح «إلا ان يذكر في اللفظ ما يدل على انه لهالك, مثل «كان» و«تولى» و(قضى نحبه)»([23]). وحتى لو سلمنا بما ذهب اليه صاحب الطليعة فاننا لا نجد للشيخ إلا عشر قصائد في رثاء الإمام الحسين وأهل بيتهE. وهي من ناحية العدد دون عدد حروف الهجاء بالتأكيد, مما يجعلنا نذهب إلى عدة احتمالات لتفسير ذلك. أولها ضياع بعض شعره أوعدم تمكننا من الاطلاع عليه. وثانيها. أن الشيخ نفسه أهمله متعمداً من شعره، ولا سيما في ذلك المجموع في (الحسن من شعر الحسين) الذي يدل على اختيار واستحسان من لدن الشيخ لبعض شعره دون الأخر.
وعلى الرغم من ذكر الشيخ في بعض تلك القصائد لفردٍ معين من أهل بيت الحسينu بمزيدٍ من العناية وشيءٍ من التفصيل. كما نجد ذلك في وقوفه على ذكر علي الأكبر بن الإمام الحسين([24]) أو ابي الفضل العباس([25]) أو الإمام الحسن([26]) أو أمه الزهراء ومصيبتهاE([27]), في بعض الأحيان. الا انه لم ينصرف في كل ذلك عن ذكر واقعة كربلاء ومصيبة الحسينu مما جعل من المرجح أن تندرج تلك القصائد تحت إطار رثاء الإمام الحسينu. الذي برز بوصفه فناً مستقلاً من فنون الرثاء في الشعر العربي.
ولعل السمة المميزة في رثاء الشيخ للإمام الحسينu. هو تناوله لأحداث واقعة كربلاء وما جرى فيها من مصائب وأحداث بحسب الترتيب الزمني لوقوعها, وبصورة تشبه ما اعتاد عليه خطباء المنبر الحسيني في عرضهم لواقعة الطف وذكر مقتله الذي كتبه الشيخ في كتاب (مقتل الحسينu)([28]) لكي يجمع بذلك فضل ذكر واقعة كربلاء شعراً ونثراً.
فقد بدأ بذكر الدوافع والأسباب التي جعلت الإمام الحسينu يفجر ثورته.
ويقدم القرابين من صحبه وأهل بيته ونفسه. كما في قولهـ من الطويل([29]):
ومُذ ايقن السبط انمحى دين جده

 
ولم يبق بين القوم في الأرض مسلمُ

فدى نفسه في نصرة الدين خائضاً

 
 عن المسلمين الغامرات يسلموا

وقال خذيني ياحتوف وهاك يا

~
سيوف فاوصالي لك اليومَ مغنمُ

 
وهيهات أن اغدو على الضيم جاثماً

 
ولو لِى على جمر الأسنة مجثمُ

 
 
فالقضية تتعلق بالمبدأ والاعتقاد والدفاع عن الدين. وأداء لرسالة، وتعكس في الوقت ذاته عِظم نفس الحسينu وإباءه الضيم وشجاعته, وهذه هي المرتكزات الرئيسة لهذه الثورة أو المسيرة التي قادها الإمامu.
ويقول في قصيدة أخرى ــ من الكامل ــ ([30]):
ركب حجازيون عرقت العلا

 
فيهم ومسك ثنائهم شاماتُها

تحدو الحداة بذكرهم وكأنما

 
فتقت لطيمة تاجر لهواتها

ومطوحين ولا غناء لهم سوى

 
هزج التلاوة رُتلت آياتها

وإلى اللقاء تشوقاً اعطافها

 
مهزوزةٌ فكأنها قنواتها

وبعزمها من مثل ما بأكفها

 
قطع الحديد تأججت لهباتُها

 
فهذا هو الحسينu يغادر الحجاز متوجهاً إلى العراق يرافقه نفر من أهل بيته, وعصبة من أصحابه, بايعوه على النصرة والجهاد ومقارعة الظلم والإلحاد, فهم خير من أنجبت الحجاز من شجعانها وأفضل من تمسك بالعقيدة من أبنائها.
وأستمر المسير, وتوالت الأحداث, وجعجعت بهم المنايا صوب كربلاء. حيث يقول الشاعر ــ من الكامل ــ ([31]):
حتى إذا نزلوا العراق فاشرقت

 
اكنافها وزهت بهم عرصاتُها

ضربوا الخيام بكربلا وعليهم

 
قد خيمت ببلائها كُرُباتُها

فعلى الرغم من تلك الكربات المخيمة على هذه الارض. نجد بأن نزول هذا الركب فيها أضفى عليها بهاءً وزهواً. وهذه مفارقة من الشاعر. حيث يوازن بين زهو كربلاء بهم, وبين المنايا المخيمة على افيائهم.
ثم يبدأ القتال. ويتناجز العسكران. كما في قولهـ من الكامل ــ ([32]):
وعلا الغبار فاظلمت لو لا سنا

 
جبهاتها وسيوفها الهيجاءُ

عشت العيون فليس إلا الطعنة

~
النجلا وإلا المقلة الخوصاءُ

زحفوا إلى ورد المنون تشوقاً

 
حتى كأن مماتها الأحياءُ

فهم يتسابقون إلى الشهادة ويسطرون أروع مواقف البطولة والتضحية, في معركة إسودّ نهارها وعلا غبارها, ولم يُرَ فيها إلا ذلك الوميض من قراع السيوف ووجوه آل محمدr.
ومن ثم يتناول شجاعة الإمام الحسينu فيقول ــ من الكامل ــ ([33]):
فسطا عليهم مفرداً فثنت له

 
تلك الجموع النظرة الشزراءُ

ياواحداً للشهب من عزماته

 
تسري لديه كتيبة شهباءُ

ضاقت بها سعة الفضاء على العدى

 
فتيقنوا ما بالنجاة رجاءُ

ما زال يفنيهم إلى أن كاد ان
 
 
ياتي على الإيجاد منه فناءُ

 
فهو الشجاع الذي يقاتل جيشاً بكامله, على الرغم من كونه (مفرداً). فقلما وجدت الخيل (الشهب) فارساً مثله. وكانه بشجاعته تلك كتيبة كاملة العدة والسلاح, تجعل الأعداء يفرون من بين يديه. وتسد أمامهم سبل النجاة. حتى كاد أن يكون هو الموت والفناء من كثرة القتل والبطش بالأعداء.
وإذا كان الشاعر في الأبيات السابقة قد تحدث عن شجاعة فرسان كربلاء وأشبع رغبته في الحديث عن البطولة في عرصات الطف فإنه ينتقل بعد ذلك إلى بسط عاطفته ومشاعره تجاه الإمامu فيأخذ الجانب الموجع من الواقعة. ويجسد بشعره شدة ظمأ الإمامu ويتمنى الشاعر وهو في غمرة وجعه وآلامه أن تكون السماء قد أمطرت ماءً لتروي عطش الإمام. بدلاً من أن تمطر دماً على مقتله. كما في قولهـ من الكامل ــ ([34]):
يروي الثرى بدمائهم وحشاه من

 
ظمأ تطاير شعلة قطعاتها

لو قلبت من فوق غلة قلبه

 
صمّ الصفا ذابت عليه صفاتها

تبكي السماء له دماً أفلا بكت

 
ماءً لغلة قلبه قطراتها

واحر قلبي يا ابن بنت محمدٍ

 
لك والعدى بك أنجحت طلباتها

منعتك من نيل الفرات فلا هنا

 
للناس بعدك (نيلها وفراتها)

 
وتوجيه العتاب إلى السماء الباكية, وتمني عدم ارتواء الناس من الفرات والماء موقف كثيراً ما وقف عنده الشاعر في مراثيه([35]).
ونصل إلى مقطع الشهادة التي لا يجد لها الشاعر من سبب إلا جرى القضاء بهذا الأمر, وتنفيذاً لمشيئة الله (جل جلاله). فيقول ــ من الكامل ــ ([36]):
لكنما طلب الاله لقاءهُ

 
وجرى بما قد شاء فيه قضاءُ

فهوى على غبرائها فتضعضعت

 
لهويّه الغبراءُ والخضراءُ
 
وعلا السنان برأسه فالصعدة

~
السمراءُ فيها الطلعة الغراءُ

ومكفن وثيابه قصد القنا

 
ومُغسل وله المياه دماءُ

 
فيذكر أثر استشهادهu على الغبراء والخضراء, وكيف رُفع رأسه الشريف على السنان بتلك الطلعة الغراء التي لم يغيرها الموت.ومن ثم ينزل إلى الجسد الشريف الذي مزقت السيوف ما عليه وغسلته الدماء بدلاً من المياه.وعند ذلك تنتهي المعركة. ويختفي صليل السيوف. وصهيل الخيول, ولكن تمزق الأرجاء أصوات أخرى, ملؤها صياح ونواح وبكاء وخوف. فلوحة السبي هي المشهد الأخير الذي لا يستطيع الشاعر نسيانه. فيقول ــ من الكامل ــ ([37]):
وثواكل لما دفعن عن البكى

 
والنوح رددت الشجى لهواتُها

زفراتها لو لم تكن مشغولة

 
بالدمع اضرمت السما جذواتُها

وعلى الايانق من بنات محمدٍ

 
في الشمس تصلي حرها أخواتها

ابدى العدو لها وجوهاً لم تبن

 
حتى لانفاس الصبا صفحاتها

 
وربما يقف الشاعر أمام أحد المواقف المؤثرة التي زخرت بها واقعة الطف. وسطر أصحابها أروع الأمثلة في التضحية والبطولة والفداء. فمن ذلك ذكره موقف علي الأكبر بن الإمام الحسينH يوم العاشر من المحرم. كما جاء في قوله ــ من الطويل ــ ([38]):
أجال الوغى حول الرحى وانكفى إلى

 
ابيه بقلبٍ عن سنا الجمر قارحِ

دعاه بصوتٍ يصدع الصم شجوه

 
ويفجع حتى الساجعات الصوادحِ

دعا: ابتي هل من سبيل لشربةٍ

 
تعين على ضرب العدى والتكافحِ

جهدت بأثقال الحديد وكضني

 
ضماي بحر الهاجرات البوارحِ

فلهفي له يشكو ظماه لمثله

 
ويرجع من تأميله غير ناجحِ

فقال له آرجع يابني إلى العدى

 
لتمسي قرير العين ريا الجوانحِ

وتشربها من كأس جدك شربة

 
تقيك الظما والضيم بعد بفادحِ
ج
 
مشهدٌ وموقف. بين الولد وأبيه, والمصير المحتوم, والشباب الغض, والشكوى من العطش, وثقل الحديد, والحر الشديد. وفي مقابل ذلك صبر عظيم, وثبات قل نظيره, و إيمان راسخ بالفوز والنجاح, واللقاء القريب. معانٍ وأفكار تصدع بالفخر والأسى وتلهب مشاعر السامعين.
ومن المواقف الأليمة الأخرى. موقف استشهاد أبي الفضل العباس وأثره في الحسينu كما جاء في قول الشيخ ــ من الطويل ــ ([39]):
وحين هوى اهوى اليه (شقيقه)

 
يشق صفوف الملحدين ويحطمُ

فالفاه مقطوع اليدين معفراً

 
يُفَوِّرُ من مخسوف هامته الدمُ

فقال أخي قد كنت كبش كتيبتي

 
وجنة باس حين أُدهى وأُدهمُ

فمن ناقع حر القلوب من الظما

 
ومن دافع شر العدى يوم تهجمُ

ومن يكشف البلوى ومن يحمل اللوا

 
ومن يدفع اللأوى([40]) ومن يتقحمُ

رحلت وقد خلفتني يا ابن والدي

 
أغاض بايدي الظالمين وأهضمُ

 
فهذا موقف آخر, تظهر فيه التضحية بأجلي صورها. وتمثل صلة الأخوة أسمى أدوارها. وتظهر وقع المصيبة على الحسينu ومكانة أخيه العباس عنده, في حوار وعتاب ونشيج طافح بالألم والعبرات.
وفي جميع تلك الأحداث التي حفلت بها واقعة كربلاء. وذكرها الشيخ في قصائده. نجده قد ركز على الجانب المأساوي من الحدث ووظف أبعاده لاستدرار دموع السامعين, وأكثر من التلهف والتحسر والبكاء, كما يظهر ذلك واضحاً في قولهـ من الوافر ــ ([41]):
تفطر قلبه ظمأ وتروى

 
به عسَّالة الأسلِ الظماءِ

فوالهفي خضيب الشيب يمسي

 
على ظمأ غريقاً بالدماءِ

ويالهفي عليك أبا علي

 
عن الأهلين والأوطان نائيِ

 ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ
 
 ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ
أمهتوك الخبا والهف نفسي

 
عليك وأنت مسبي النساءِ

 
فنحن نجد في هذا المقطع مثالاً واضحاً لتركيز الشاعر على عنصر المأساة وإشاعة جو البكاء, وهي المنطلقات والأبعاد التي اعتاد عليها خطباء المآتم الحسينية وشعراء الحسينu.
ولكن في الوقت الذي نقرأ في شعره اللوعة والبكاء. نجد نفثات تطفح بالاستنهاض والثورة. تخرج من نفس شاعرة متوثبة صارخة بوجه الظلم والطغيان والفساد, ومنذرة في الوقت نفسه بالولاة الجائرين وسياساتهم الرعناء, وهو نفس شاع عند مبدعي شعراء الشيعة ولا سيما المتأخرين منهم الذين استغلوا ذكرى كربلاء ورثاء الحسينu. لاستنهاض الهمم والدعوة للجهاد ورفض الواقع المر([42]).
فقد يذكر الشاعر تلك المصائب والنكبات، فيعتلج في قلبه الغضب وتفور فيه دماء الحمية، ويثور على الظلم الذي لم يزل يملأ عصره فينادي طالبي الأوتار بالنهوض، ونفض غبار الصبر والسكون.
فنراه يقول ــ من الطويل ــ ([43]):
فيا مدركي الأوتار حتى مَ صبركم

 
واوتاركم ضاقت بها سعة الرحبِ

ويا طاعني صدر الكتائب مالكم

 
قعدتم وفي ايديكم قائم العضبِ

جبارٌ([44]) بأيدي الظالمين دماؤكم

 
فيا غيرة الجبار من غضبٍ هُبيِ

 
صرخة تملأ الأفاق, وتزعزع طود الظلم العتيق, واستعانة ودعاء بالواحد الأحد (يا غيرة الجبار من غضبٍ هبي). وربما أعيت نفسه الحسرة, وقيد صبره الجزع. فلا يجد أمامه إلا استصراخ الإمام المهدي#. واستعجال خروجه. وأخذه ثارات الحسين وأهلهE بيده. فيقول. ــ من الكامل ــ ([45]):
يالوعة قعدت وقامت في الحشا

 
خرساء تنطق بالشجى نفثاتُها

قعدت ولا تنفك أو ارزائكم

 
بقيام (قائمكم) تصاب تُراتُها

فانهض فدى لك انفس كمنت بها

 
طير الشجون كأنها وكناتُها

وأحصد رؤوسهم فكم رأسٍ بها

 
حصدته بعد ولم يشب شُباتها

 
وهو موضوع اعتاد على تناوله شعراء الإمام الحسينu في قصائدهم. ورددته الألسن والمحافل([46]).
وبعد كل هذا يمكن أن نحدد أبرز السمات الموضوعية في رثاء الإمام الحسينu في شعر الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء, والتي كانت تتجسد في عرض أحداث الواقعة، وذكر تفاصيلها متسلسلة, والتركيز على الجانب المأساوي منها. مع ذكر لمكانة الحسين وأصحابهE ومواقفم وشجاعتهم وتضحياتهم, وفي بعض الأحيان يجعل الشيخ من رثاء الإمام الحسينu منطلقاً لبث ألمه وشكواه ودعوته للنهوض وأخذ الثأر.
 


([1]) ينظر: معجم النقد العربي القديم، د. أحمد مطلوب, ط1, دار الشؤون الثقافية العامة ــ بغداد ــ 1989م: 2/7.
([2]) ينظر: الشعر الجاهلي/خصائصه وفنونه, د. يحي الجبوري, دار التربية ــ بغداد: 195.
([3]) الأسلوب, دراسة بلاغية تحليلية لأصول الأساليب الأدبية, أحمد الشايب, ط7, مطبعة السعادة ــ مصر 1396هـ ــ 1976م: 85, 86..
([4]) العمدة/في محاسن الشعر وآدابه ونقده, تأليف أبي علي الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (390هـ ــ 456هـ ), تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد, ط4، دار الجيل, بيروت ــ لبنان ــ 1973م: 2/147.
([5]) منهاج البلغاء ــ سراج الأدباء, صنعة ابي الحسن حازم القرطاجني.(ت 684هـ ), تحقيق محمد الحبيب, المطبعة الرسمية للجمهورية التونسية ــ 966م: 351.
([6]) ينظر: أدب الطف أو شعراء الحسينu/ من القرن الأول الهجري حتى القرن الرابع عشر, جواد شبر, ط1, منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت ــ لبنان ــ 1388هـ ــ 1969م: 1/18, 21.
([7]) ينظر: المصدر نفسه: 1/18.
([8]) ينظر: الشعر العراقي/أهدافه وخصائصه في القرن التاسع عشر: 93 ــ 94.
([9]) ينظر: تطور الشعر العربي الحديث في العراق: 34.
([10]) الشعر الجاهلي, خصائصه وفنونه, د. يحي الجبوري, دار التربية ــ بغداد (د ت): 220.
([11]) ينظر: الشعر العراقي/أهدافه وخصائصه في القرن التاسع عشر: 93.
([12]) عيون أخبار الرضاu, الشيخ الصدوق, تحقيق، حسن الأعلمي, ط1, مطبعة مؤسسة الأعلمي للمطبوعات, بيروت ــ لبنان 1404هـ : 2/15.
([13]) جامع الرواة/وإزاحة الإشتباهات عن الطرق والإسناد, محمد بن علي الأردبيلي الغروي الحائري, مكتبة المحمدي ــ قم ــ إيران 1403هـ : 1/154.
([14]) شعراء الغري: 1/19.
([15]) الشعر العراقي/ أهدافه وخصائصه في القرن التاسع عشر: 95.
([16]) ينظر: الشعر العراقي/أهدافه وذمائمه في القرن التاسع عشر: 76.
([17]) تطور الشعر العربي في العراق: 34.
([18]) الشعر العراقي/أهدافه وخصائصه في القرن التاسع عشر: 94.
([19]) ينظر: مثلاً: ديوان شعراء الحسينu: 1/1 ــ 24.
([20]) الطليعة من شعراء الشيعة: 2/204.
([21]) نقلاً عن: شعراء الغري: 8/127.
([22]) ينظر: جنة المأوى: 169.
([23]) نقد الشعر, لأبي الفرج قدامة بن جعفر, تحقيق كمال مصطفى, ط3, مطابع الدجوى ــ القاهرة 1979م: 100.
([24]) الحسن من شعر الحسين: 70.
([25]) ديوان شعراء الحسينu: 21.
([26]) الحسن من شعر الحسي: 271.
([27]) المصدر نفسه: 60.
([28]) ينظر: مقتل الحسينu, محمد حسين كاشف الغطاء, ط1, منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها في النجف 1384هـ ــ 1964م.
([29]) ديوان شعراء الحسينu: 23.
([30]) مقتل الحسينu أو حديث كربلاء, السيد عبد الرزاق المقرم, مطبعة أمير, ايران ــ 1414هـ : 380.
([31]) المصدر نفسه: 381.
([32]) الحسن من شعر الحسين: 18.
([33]) مقتل الحسينu أو حديث كربلاء:381.
([34]) مقتل الحسينu, المقرم: 382.
([35]) كما في قوله:
ياليت لاعذب الفرات لواردٍ

 
وقلوب ابناء النبي ظماءُ

وقوله:
 
 
 
تبكي عليه السماء ثم ألا

 
بكى ظماه السحاب في حزنهِ

وقوله:
 
 
عطاشا على شاطي الفرات فلا هَنَتْ

 
موارده شرباً لغادٍ ورائِحِ

 ينظر: الحسن من شعر الحسين: 20, 72, 72.
([36]) الحسن من شعر الحسين: 18.
([37]) مقتل الحسينu, المقرم: 382
([38]) الحسن من شعر الحسين: 70.
([39]) ديوان شعراء الحسينu: 23.
([40]) (اللأواء): الشدة والضيق العيش، لسان العرب مادة (لأي).
([41]) الحسن من شعر الحسين: 16.
([42]) ينظر : الشعر العراقي/ اهدافه وخصائصه في القرن التاسع عشر: 76, 77.
([43]) مقتل الحسينu, المقرم: 388.
([44]) (الجبار): يوزن الغبار الهدر، يقال ذهب دمه جباراً أي هدراً، لسان العرب، مادة (جبر).
([45]) مقتل الحسينu, المقرم: 383.
([46]) فمن ذلك قول السيد حيدر الحلي:
 
 
 
 
 
 
ينظر: ديوان السيد حيدر الحلي, تصحيح وتعليق علي الخاقاني, المطبعة الحيدرية في النجف 1369 هـ ــ 1950م: 1/89
 
امتیاز دهی
 
 

 
Guest (PortalGuest)

دبيرخانه كنفرانس‌هاي بين‌المللي
مجری سایت : شرکت سیگما