چهارشنبه 5 ارديبهشت 1403  
 
 
هـ ــ الغرض
يعد الغرض جزءاً رئيساً من أجزاء هيكل القصيدة المتكاملة في الادب العربي «فهو الهدف الذي يسعى إليه الشاعر في قصيدته أو الفن الذي يريد أن يعرضه»([1]).
وقد اعتاد الشعراء القدامى عدم الدخول إلى أغراضهم مباشرة بل كانوا يمهدون لذلك بعدة مقدمات([2]),نحت تجربتهم الشعرية دفقات شعورية منتظمة ساعدت الشاعر والمتلقي للدخول إلى الغرض بصورة تدريجية وبانتظام([3]).
ونظراً لهذا التميز في بناء القصيدة العربية القديمة, وتعدد الموضوعات التي تتضمنها أجزاءها المختلفة من مقدمات, ورحلة وغرض واختتام, ذهب بعض النقاد المحدثين إلى أن القصيدة العربية ليست لها موضوع محدد, فلم تكن تعرف الوحدة العضوية فقد كانت أشبه بالمتحف الذي يحوي العديد من الموضوعات التي لا يرتبط بعضها بالبعض الآخر([4]).
في حين وجد غيرهم بأن تلك القصائد كانت ذات وحدة متماسكة, وأن بنائها الفني يعتمد هذه الوحدة, وإن تنوعت الأغراض والموضوعات, فقد وجد طه حسين مثلاً أن معلقة لبيد «بناءٌ متقن محكم لا تغير منه شيئاً إلا أفسدت البناء كله أو نقضته نقضاً»([5]).منطلقاً في ذلك من الفهم الحديث للوحدة العضوية التي تكمن في التنوع والانتظام بجميع موضوعات أو أجزاء القصيدة الواحدة. فــ «تنظيم الانفعالات وإخضاع التعدد للوحدة واستخراج النظام عن الفوضى»([6])هو المحور الذي يدور في فلكه المفهوم الحديث للوحدة العضوية, على الرغم من اختلاف النقاد في تسميتها بكونها وحدة عضوية أو موضوعية أو نفسية أو غيرها من التسميات([7]).
وهذه الوحدة في القصيدة ما هي إلا «انسجام في العاطفة المسيطرة وفي الإتجاه المركزي نحو حقائق الكون, وتجارب الحياة, والشاعر يحقق هذه الوحدة في بناءه لقصيدته بأن يرتب موضوعاته ترتيباً يقوم على النمو المطرد, ينشأ احدها من سابقه نشوءاً عضوياً مقنعاً ويقود إلى لاحقه بالطريقة نفسها»([8]).
 
وهذا هو محور دراستنا للغرض في شعر الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء الذي سار في مرحلته الشعرية الأولى على خطى القدماء في بناء قصائدهم. فقد جاءت اغلب قصائده متعددة الأجزاء والموضوعات, ولولا ما كتبه في ديوانه في أعلى قصائده من تعريف بالغرض الاساس من القصيدة, كان من الممكن عدم التمييز بين الفرض الرئيس من غيره في كثير منها, ولاسيما قصائده الاخوانية,
وعلى الرغم من تأثره بالقدماء وتقليده لخطاهم, إلا أن ذلك لا يعني محو شخصية الشاعر وقدرته على الفعل والإبداع وتمكنه من فهم المرتكزات الفكرية والعاطفية لأجزاء القصيدة عند الشاعر العربي, ومحاولة التمكن من ربط تلك الأجزاء وأختيار ما يناسب موضوعه منها وبصورة توفر الإنسجام بين الأجزاء بحيث تأتي جميعاً متوافقة مع الغرض الرئيس وبصورة تظهر مقدرة الشاعر وتمكنه من فنه.
ففي إحدى مراثي الشيخ في الإمام الحسينu, إعتمد على الهيكل القديم للقصيدة العربية ومهد لها بمقدمات الطلل والظعن والغزل والفخر والشكوى ومن ثم الدخول إلى الغرض, فقد قال في مقدمة القصيدة بعد المطلع ــ من الكامل([9]):
وتذكرت عهد المحصب من منى

 
فتوقدت بضلوعها جَمراتها

سارت وراءهم ترجع رنة

 
حنت مطاياهم لها وحداتها

طلعوا بيوم للوداع وقد غدا
 
 
ليلاً فردت شمسه جبهاتها

وسروا بكل فتاة خدر ان تكن

 
بدراً فاطراف القنا هالاتها

فخذوا احمرار خدودها بدمائنا

 
فجناتها دون الورى وجناتها

واستعطفوا باللين اعطافاً لها

 
فلقد اقمن قيامتي قلماتها

وعلى عذيب الريق بارق لؤلؤٍ

 
بالمنحنى من أضلعي قبساتها

 
فعلى الرغم من اشارته القصيرة للطلل إلا أنه قد ضمنها ذكر المكان والموضع الذي كان في (المحصب من منى), الذي لا تخفى دلالته على تلك الأماكن الحجازية التي غادرها الحسينu في بداية رحلته إلى كربلاء, فقد ولّد هذا المكان تداعيات الماضي الذي يحمل في جعبته الأحداث والذكريات لبداية تلك الفاجعة الأليمة,
منتقلاً الشاعر بعد ذلك إلى لوحة الفراق وسير الركب وتحرك الظعائن مع ما يحمله ذلك المشهد للشاعر من آهات وأحزان, وهو يقف يرمق بعينه ابتعاد من في الركب من بدور وأحبة, و يأخذ بوصف محاسنهن. ويتغزل بجمالهن على قلة من استعمل الغزل مقدمة للرثاء. لإنشغال الشاعر فيه باللوعة والبكاء وبعده عن الهوى والصبابة([10]).
ولكن الشاعر في استعماله هذا يعطي نموذجاً واضحاً على الإفادة من التراث والقدرة على توظيفه, وكيفية انسجامه مع الغرض, فمن بين كل تلك الأوصاف التي تغزل بها الشاعر بمن في الهوادج, نجده يصور مشهد فتاة الظعن التي تشبه البدر بجماله, تحيطها اسنة رماح الفرسان حولها, وكأنها هالة مضيئة. مما يولد في ذهن المتلقي تداعيات رمزية تحرك في خلده صور مخدرات الحسينu في تلك الرحلة إلى كربلاء. وكيف كان أصحاب الحسينE يحيطون بهن في ذلك الموكب المهيب.
حتى إذا أحس الشاعر بالابتعاد بعض الشيء عن الجو العام للقصيدة ومشاعر الألم والرثاء. مهد للإنتقال من الغزل إلى الغرض بالفخر المشوب بالشكوى. فقال ــ من الكامل ــ([11]):
عجبا تقاد لي الاسود مهابةً

 
وتقودني وأنا الأبي مهاتها

أنا من بعين المكرمات ضياؤها

 
لكن بعين الحاسدين قذاتها

تعساً لدهر أصبحت أيامه

 
والغدر نجح عداتها وعداتها
 
 
ليستمر بعد ذلك بالشكوى من غدر الزمان الذي وجده أهلاً لذلك فقد كفاه غدره بالحسين وآلهE, فيقول([12]):
وأرى الليالي منك حبلى لم تلد

 
للحر غير ملمة عدواتها

ووددتُ مذ جارت على أبنائها

 
ورمت بنيها بالصروف بناتها

عدلت بآل محمد فيما قضت

 
وهم أئمة عدلها وقضاتها

............................................................
 
............................................................
أحادهم الف إذا ضمت على

 
الف المعاطف منهم لا ماتها

يسطون في الجم الغفير ضياغماً

 
لكنما شجر القنا اجماتها

كالليث أو كالغيث في يومي وغى

 
وندى غدت هباتها وهباتها

حتى إذا نزلوا العراق فأشرقت
ج
 
اكنافها وزهت بهم عرصاتها

ضربوا الخيام بكربلا وعليهم

 
قد خيمت ببلائها كرباتها
ج
 
ليدخل الشاعر بعد هذا في رثاء الحسين وأصحابهE, ويذكر ما جرى عليهم في كربلاء, وبذلك يكون الشاعر قد حافظ على الهيكل التراثي للقصيدة العربية, وأظهر براعة في اختيار العناصر المنسجمة من بين أجزائها. وبصورة تظهر ذلك التناغم العاطفي والنفسي المرتبط مع الغرض الرئيس من القصيدة وجوها العاطفي العام. فقد كان التنظيم واضحاً كل الوضوح في ذهن الشاعر وهو يجمع أطراف قصيدته حتى تتلاقى الأفكار وتتحد الصور واللوحات لتخدم غرض القصيدة الرئيس المتمثل بالرثاء, في إطراء شعري متجانس تنمو من خلاله القصيدة نمواً فنياً متكاملاً يوحي بالإدراك المسيطر على القصيدة والإحساس الواعي الذي يتابع هذا التكامل والتاليف, وبصورة تظهر محاولة الشاعر استيعاب إنفعالاته بهذا الشكل من النمو والإتساق.
 


([1]) معجم النقد العربي القديم:/140.
([2]) ينظر: الشعر والشعراء: 1/72 ــ 75.
([3]) ينظر: وحدة الموضوع في: القصيدة الجاهلية: 75.
([4]) ينظر: النقد والنقاد المعاصرون. محمد غندور: 113. في النقد الأدبي, شوقي طيف: 124.
([5]) حديث الأربعاء: طه حسين: 1/37.
([6]) الشعر كيف نفهمه ونتذوقه. اليزابيث دور: 27.
([7]) ينظر: وحدة القصيدة: في الشعر العربي حتى نهاية العصر العباسي, حياة جاسم, دار الحرية للطباعة بغداد 1972: 75.
([8]) الشعر الجاهلي/منهج في دراسته وتقويمه. محمد النويهي, الدار القومية للطباعة والنشر, القاهرة, د. ت: 435.
([9]) مقتل الحسينu: المقرم:
([10]) ينظر: العمدة في محاسن الشعر وآدابه: 2/151.
([11]) مقتل الحسينu: المقرم: 378, 379.
([12]) المصدر نفسه: 379.
 
امتیاز دهی
 
 

 
Guest (PortalGuest)

دبيرخانه كنفرانس‌هاي بين‌المللي
مجری سایت : شرکت سیگما