جمعه 31 فروردين 1403  
 
 
المبحث الثاني ــ المديح
يعد المديح من أقدم أَغراض الشعر العربي وأكثرها سعة وانتشارا على السنة الشعراء, الذين يعرضون فيه مآثر الممدوحين وأعمالهم النبيلة ومواقفهم الحميدة, فضلاً عن شجاعتهم وشدة بأسهم وقوة شكيمتهم إذا ما خاضوا حرباً أو صدوا عدواً([1]).
وهو الغرض الأكثر إنتشاراً في القرن التاسع عشر من بين الأغراض الشعرية المختلفة فقد أحتل نصف النتاج الشعري لذلك العصر([2]), على الرغم من ابتعاده عن شعر المديح عند فحول شعراء العربية وشيوع مظاهر الذلة والتملق ولثم أعتاب السلاطين والولاة في أغلب مضامينه وأبعاده([3]).
وكانت نظرة المصلحة أحد الأسباب التي حطت من مكانة الشاعر في المجتمع العراقي, الأمر الذي حدا بــ «بعض العوائل الدينية أو من عرفت بسمعتها العلمية التي أشتغل أفرادها بعلوم الشريعة. إلى أن تنظر إلى (فن) الشعر بوصفه شيئاً مخجلاً، يبعث على العار وربما اكسب صاحبهـ ولا سيما في بعض فنونهـ ذنوباً وأوزاراً»([4])
مما جعل الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء ينفي عن شعره في المديح هذه الصبغة أو السمة الشائعة. فيقول في احدى مدائحه ــ من المخلّع البسيط ــ ([5]):
ما من سمتي المديح لكن

 
قد أوجب لي الوفاء شكره

أدلا بجميله فأولى

 
أن انشر بالجميل ذكره

 
فهو لم يمدح صاحبه تملقاً وطلباً، فليس من شانه ذلك. وإنما كان مدحه شكراً وعرفاناً بالجميل.
زيادة على كون صاحبه هذا أحد اخلائه ومخلصيه([6]). ومن الذين آثر مدحهم من الأصدقاء والأقرباء من دون غيرهم من الملوك والسلاطين والأمراء، لمنهج قد اختطه لنفسه مع مجموعة من شعراء ذلك العصر. الذين لم يقولوا شعراً إلا فيمن يستحق الثناء والتقدير، ويعرف مكانة الشعر ويستذوقه([7]).
ففي ذلك قوله في مدح ابن عمه الشيخ هادي كاشف الغطاء([8])ــ من الطويل ــ([9]):
فتى الحلم مطبوع السجايا على الوفا

 
على قالبٍ من صفوة الصدق مصبوب

أخو الجوهر الوقاد إن عن مُشكلٌّ

 
من الغيب لم يترك به لبس تغييب

ولله محجوب المُحيا من الحيا

 
وما الغيب عن راي يراه بمحجوبِ

غدا رافلا من جده وجد وده

 
بمجدين مكسوبٍ إلى غير مكسوب
ج
وتلقى به من شدة الباس والتقى

 
همام حرابٍ أو امام محاريب
 ج
ونال صبياً كاهل المجد عاقداً
ج
 
بهبة شبان الوغى هيبة الشيب

وراسي حجاً في فادح الخطب لم يزل

 
ثباتاً وقد زالت رواسي الأهاضيب

رحيب القنا طلق المحيا وكيف لا

 
وما زال في تأهيل وفدٍ وترحيب

 
فقد وصفه بالحلم والوفاء والصدق والذكاء والحياء والعفة والسعي في طلب المعالي والتقى, قد أكتسب مجد آبائه زيادة على مجده الذي حاز بجده واجتهاده. شديد البأس في الحروب, أمام الناس في الصلاة والعبادة، نال مجده صغيراً واكتسب هيبته شاباً يافعاً ثابت الجنان طليق المحياومضياف كريم.
فهو يحاول أن يستوعب في مدحه جميع الفضائل التي يستحسن المدح بها, وليكون مصيباً وملتزماً بمنهج الشعراء في المديح, وسعيهم إلى استيعاب جميع الفضائل اللائقة بمدح الرجال, وعدم التقصير في واحدة منها([10]) زيادة على أن توزيع الصفات وتكديسها على الممدوح كانت من اصول مديح شعراء العراق في القرن التاسع عشر([11]).
فهي فضائل عامة يمدح بها الجميع, قد ألفها الشعراء وحبذوا استعمالها ولا سيما إذا كانت من الفضائل النفسية (المعنوية), التي فضلها الشعراء والنقاد على تلك الجسدية (المادية) ([12]).
فمن المعلوم «ان المدح بالفضائل النفسية أشرف وأصح»([13]) وفي مكان أخر نجد الشيخ يستغرق في ذكر الفضائل الحقيقية التي يتصف بها الممدوح. كما في قوله مادحاًَ أحد اخوانه من أهل العلم والأدب ــ من البسيط ــ ([14]):
اما العلوم فها انت ابن بجدتها

 
أو المعالي فهل إلا لك القصبُ

تسطو على شاكلات الريب ان عمهت

 
بثاقبٍ منك فيه تنجلي الريبُ

أعطاك كل كمال منه اكمله

 
واختصك الاكملان العلم والادبُ
 
لك الشوارد في الأفاق امثلة

 
لا ينقص العجب فيها لا ولا العجبُ

في كل محكمة كالصخر قوتها

 
لكن لرقتها الخنساء تنتحبُ

اذا انتشفنا لها عرفا يعرفنا

 
بانها لك في المعروف تنتسبُ

 
فالرجل من المبرزين في العلم والمعالي, له رأي ثاقب وحصين, قد جمع الكمالات كلها واستظُهر بالعلم والأدب، فقد كانت نتاجاته تملأ الأفاق, خالدة مع الزمان تجمع القوة والأحكام مع الرقة وحسن البيان. وأصبحت علماً يعرف بها صاحبها, ودليلاً على فضله وأدبه. زيادة على ما ذكره من فضائل ــ عامة ــ أخرى. عندما قال:
لو لم يكن ويميناه مقبّلة

 
لقلت يوم الندى عشراً بها السُّحُبُ

له مناقب فضل لم يكن ليفي

 
عدٌ بها أو تُعدُّ الأنجم الشهبُ

القاسم العدل إلا في خزائنه

 
يجور جوداً فلا يبغي بها نشبُ([15])

رحيب صدر الغلا منه لوافده

 
المنـزل الخصبِ عَدُّ والفنا الرحبُ

 
فلولا ما يلمسه الشاعر من تقبيل الناس ليديه لقال إنها سحب الغيث التي في السماء. فاياديه وافضاله كثيرة تفوق عدد النجوم. زيادة على عدله وجوده ورحابة صدره التي يستقبل بها الوفود والضيوف الذين اعتادوا كرمه وعطاءه.
فهو بذلك لم يغرق في التركيز على صفة أو فضيلة من دون الأخريات. فيدخل في حيز الخطأ أو التقصير الذي أعابه النقاد([16]). بل قد استوعب الفضائل التي اتصف بها الممدوح حقيقة. واستطرد في ذكر الفضائل الأخرى التي أعتاد على ذكرها المادحون.وقد حاول الشاعر أن لا ينسى صفة الشجاعة التي يمتدح بها الرجال الشجعان. فذكرها في مدح أحد بني عمه([17]). عندما قال ــ من الطويل ــ([18]):
 
حسام به القى العدو واتقي

 
بشفرته كيد الزمان المحاربِ

تراه إذا ما توقد الحرب نارها
 
 
يرد العوالي في صدور الكتائبِ

يروح على رهج الطعان ويغتذي

 
على ضمر شعث النواصي سلاهب([19])

بأبيض مشحوذ الغرار([20]) مهند

 
واسمر هزهاز الأنابيب كاعب

 
فهو السيف الذي يتقي به الزمان والأعداء. قد عرفته نيران الحروب بالشجاعة والبسالة, والمهارة في القتال وركوب الخيل الأصيلة الكريمة التي لا تحمل إلا الفرسان الشجعان, وقد اعتاد الضرب بالسيف والطعن بالرمح مع ذكر معاني الشجاعة الأخرى. التي كانت معاني وخصالاً مدح بها الشاعر القديم فارسه الشجاع في ساحات المعارك والوغى. إلا أنها بعيدة أشد البعد عن زمن الشيخ. وأبعد ما تكون عن صاحبه الذي يمدحه. والذي لم يحمل السيف بيده ولم يضرب بالرمح ولا شارك في معركة من هذا القبيل في حياته، فقد كان الممدوح رجل علم وأدب وشرف ونسب, الأمر الذي أبعد الشاعر عن الواقعية وادخله في باب المبالغة والتقليد.
وكان الشيخ في مدائحه كثيراً ما يعرج على مدح الممدوح وعشيرته كما أعتاد على ذلك القدماء من الشعراء، فالمجتمع العراقي كان في ذلك العصر لا تزال تسود فيه المفاهيم العشائرية. التي تفخر بالمدح وتتغنى بالأمجاد([21]).
فمن ذاك قول الشيخ يمدح أحد اصدقائه([22]) من العلويين  ــ من الوافر([23])ــ :
من معشرٍ بنو العلوم وأوضحوا

 
طرق الهدى وشرائع الأحكامِ

كلٌ حمى و سما فاربى مفخراً

 
وعُلا على حامٍ وعترة سامِ

قامت دعائم آل دين محمدٍ

 
فيهم وشادوا قبة السلامِ

جُبلوا على بذل النوى فوليدهم

 
يحوي الرئاسة قبل حين فطامِ

يعطي تمائمه متى عللته

 
بمدائح الأخوال والأعمام

حازوا الشجاعة والبراعة والندى

 
بالحزم والأنعام والإقدامِ

خلطوا السماحة والفصاحة بالعُلا

 
وسما على هام السماء الهاميِ

للجود والأنعام قد خُلقوا وما

~
خلقوا لغير الجود والأنعامِ
 
 
فالشيخ قد مدح قوم الممدوح بتلك الفضائل التي أعتاد على ذكرها المادحون مع ذكر صريح لشيوع مدح العشيرة الأقربين (بمدائح الأخوال والأعمام). الذي كان سائداً عند الشعراء القدامى, وأستمر إلى عصر الشيخ.
ومن ذلك يظهر بأن الشيخ قد تميز في اختيار ممدوحيه من الذين وجد فيهم توافقاً بين سلوكهم وخصالهم و بين ما يؤمن به الشيخ من قيم أخلاقية ودينية, ولهذا كان مديحه استجابة صادقة خالية من الطمع أو التملق. واعتمد في مدحه على أسلوب الشعراء القدامى في مدائحهم ومشى على خطاهم.


([1]) ينظر: الأدب في العصر الوسيط: 39.
([2]) ينظر: تطور الشعر العربي الحديث في العراق: 30.
([3]) ينظر: المصدر نفسه: 30.
([4]) تطور الشعر العربي الحديث في العراق: 22.
([5]) الحسن من شعر الحسين: 235.
([6]) لم يذكر من هو في ديوانه, فقد جاء في أعلى القصيدة ((وقلت في تهنئة بعض الإخلاء بعرس)): 235
([7]) ينظر: صفحة (30) من هذه الرسالة.
([8]) ينظر: ترجمتة في الصفحة السابقة.
([9]) الحسن من شعر الحسين: 219
([10]) ينظر: نقد الشعر: 66.
([11]) ينظر: تطور الشعر العربي الحديث في العراق: 31.
([12]) ينظر: نقد الشعر: 66.
([13]) العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده: 2/135.
([14]) الحسن من شعر الحسين: 223.
([15]) (النَّشَب): المال والعقار: لسان العرب. مادة (نشب).
([16]) ينظر: نقد الشعر: 66.
([17]) لم يذكر اسمهُ فقد قال في أعلى القصيدة «ولي في قصيدة بعثتها من الكاظمية إلى النجف إلى بعض بني عمي». الحسن من شعر الحسين: 25.
([18]) المصدر نفسه: 25 ــ 26.
([19]) (السَّلهب): الطويل من الناس والخيل. و (اسلهب) الفرس ونحوه: مضى في عدوه: لسان العرب. مادة (سلهب).
([20]) (الغرار): حدا السيف ونحوه: لسان العرب. مادة (غرر).
([21]) لم يذكر الشاعر اسمه لا في القصيدة ولا في مقدمتها.
([22]) ينظر: تطور الشعر العربي الحديث في العراق: 22.
([23]) الحسن من شعر الحسين: 77.
 
امتیاز دهی
 
 

 
Guest (PortalGuest)

دبيرخانه كنفرانس‌هاي بين‌المللي
مجری سایت : شرکت سیگما