كتاب البيوع
تمهيد مفيد
عرفت في صدر الكتاب إن الفقهاء حصروا مسائل الفقه في أربعة أنواع عبادات و معاملات و إيقاعات و احكام، أو بتعبير ثاني، عبادات و معاملات و عادات و سياسات، و الضابطة للعبادة الجامعة لجميع أنواعها هو كون العمل ذا مصلحة توجب محبوبيته للشارع فان توقفت صحته و التقرب به علي نية القربة فهو عبادة بالمعني الأخص و الا فإن كان راجحاً و مقرباً بذاته و إن لم يقصد به التقرب فهو العبادة بالمعني الخاص و الا فإن كان بحيث يمكن التقرب به فهو العبادة بالمعني الأعم، و الأوّل أي العبادة بالمعني الأخص تنقسم إلي ثلاثة أقسام (بدنية محضة) كالصوم و الصلاة و الطهارة و الاعتكاف، و (مالية محضة) كالزكاة و الخمس و الكفارات و (جامعة للأمرين) كالحج و العمرة و الثاني أي العبادة بالمعني الخاص فهو مثل الجهاد و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و القضاء و الشهادات و يمكن إن يكون أكثر الواجبات الكفائية أو كلها من هذا النوع، و الثالث، و هو العبادة بالمعني الأعم- جميع الأعمال الّتي فيها رجحان ديني أو دنيوي فإنه لو نوي التقرب بعمل منها و اتي به للّه تعالي منوجهه الحسن كان عبادة و علي هذا فيمكن إن يكون جميع أعمال الإنسان عبادة و من هنا كان بعض الأعاظم يقول (ما عملت في عمري مباحاً قط فضلا عن المكروه أو الحرام)، و اما المعاملات فالمفهوم الجامع لها هو الإنشاء فان كان يتقوم بطرفين فهو العقود و إن تقوم بطرف واحد فهو الإيقاع، و العقود قسمان، عقود إذنية مجانية. و عقود معاوضات تعهدية التزامية و الأوّل مثل الوكالة و العارية و الوديعة و الهبة و نحوها و تسمية هذه عقود انما هو علي اصطلاح الفقهاء لتقومها بطرفين و إن أشكل صدق العقد عليها لغة و شرعاً فلا يشملها مثل (أَوفُوا بِالعُقُودِ) لان المراد بها قطعاً العقود الالتزامية لا مطلق ما اشتمل علي إيجاب و قبول و لو سلم صدق العقود عليها عرفاً و شرعاً و لكن وجوب الوفاء انما هو لهذا النوع الخاص من العقود لمناسبة الحكم و الموضوع ضرورة إن تلك العقود من طباعها عدم اللزوم و لا معني لوجوب الوفاء بها الا علي معني آخر و ليست العقود الحقيقة سوي القسم الثاني و هي العقود الالتزامية اللازمة نعم يشكل هذا في المضاربة بناء علي عدم لزومها مع انها من العقود الالتزامية، و علي كل فهي أيضاً علي قسمين، تقديرية و هي الّتي يكون حصول أثرها علي تقدير خاص و ذلك كالمزارعة و المساقات و المضاربة و السبق و الرماية و الجعالة العقدية فإن الجميع و إن كان المنشأ منجزا فعلا و لكن علي تقدير حصول الربح في المضاربة أو العائد في المزارعة و هكذا بخلاف القسم الثاني و هي التحقيقية فإن المنشأ منجز فعلا بكل تقديرو ذلك كالبيع في تمليك الأعيان و الإجارة في تمليك المنافع فان كان تمليك العين بعوض فهو البيع و إن كان بغير عوض فهو الهبة و كذا في المنافع فان كان تمليكها بعوض فإجارة و الا فعارية بناء علي كونها تمليكاً مجانياً، اما لو جعلناها اذناً و إباحة أو تمليكا للانتفاع فهي خارجة عن العقود و من هنا يظهر إن الهبة المعوضة لا يراد بها المعاوضة بين الموهوبين و الا لخرجت عن حقيقة الهبة بل المراد التعاوض بين نفس نفس الهبتين فهو تمليك مجاني مشروط بان يقابل بتمليك مجاني فلو قال وهبتك هذا بهذا بطل هبة. و هو حينئذ اما بيع صحيح بناء علي عدم اختصاص حقيقته بألفاظ مخصوصة و جواز استعمال ألفاظ عقد في عقد آخر و الا فبيع فاسد و علي كل لا تكون هبة، لأن الهبة مأخوذ في حقيقتها المجانية و عدم العوض للمال الموهوب اما الصلح فهو أعم من الجميع و هو عبارة عما يفيد التسالم و قطع الخصومة فقد يفيد فائدة البيع تارة و تارة فائدة الإجارة. و هكذا يختلف باختلاف موارد الاستعمال. ثم إن بعض العقود قد يجري فيها القسمان فيكون نوع منها بنحو الاذن و الإباحة و نوع بنحو العهد و الالتزام و الإلزام كالوكالة فإن القدر الجامع فيها و إن كان إباحة التصرف و لكن قسما منها يكون علي نحو العقد و الالتزام و منه الوكالة بجعل و يتوقف هذا النوع علي الإيجاب و القبول و يكون أثره السلطنة علي التصرف بحيث لو عزل و لم يعلم الوكيل بالعزل كان تصرفه نافذاً.
اما الاذني المحض فبمجرد رجوع الموكل عن الاذن يبطل تصرفالوكيل و إن لم يعلم و هذه هي الثمرة بين القسمين كما إن بعض العقود قد يكون جامعاً للجهتين فيكون من جهة عهديا التزاميا، و من جهة أخري اذنياً صرفاً و ذلك كالإجارة فإنها من جهة تملك المستأجر المنفعة من النحو الأوّل و من جهة قبض العين و استيلائه عليها من النحو الثاني و هو من الأمانات المالكية و كل العقود الإذنية كالوديعة و العارية و غيرها من هذا القبيل، و لنرجع إلي تحرير مواد (المجلة) في البيوع،