بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلامعلى سيّدنا محمّد خير الأنام، وعلى آلهالطيّبين الطاهرين، وعلى أصحابه الكرام.
أمّا بعد..
لقد أجمعت الأُمّة على أنّ أفضل مكانللسجود هو الأرض؛ بدليل قول رسول اللهصلّى الله عليه وآله وسلّم: «لقد جُعلت ليالأرض مسجداً وطهوراً» (1).
وهو محلّ اتّفاق؛ لقولَي الإمام جعفرالصادق عليه السلام: «السجود على الأرضأفضل؛ لأنّه أبلغ في التواضع والخضوع للهعزّ وجلّ»..
و: «السجود على الأرض فريضة، وعلى غيرالأرض سنّّة» (2).
وهنا يلاحظ أنّ الجميع ـ بدون استثناء ـمتّفقين على أنّ السجود على الأرض هوالأفضل.
(2) الوسائل 5|367 ح 1 و2 باب 17 إستحباب السجودعلى الأرض.
ولكن عندما نلاحظ مناخ الجزيرة العربيةآنذاك، وما تحمله من الطقس الحارّ وارتفاعدرجات الحرارة والجفاف الذي كان يسودأجواؤها، ممّا يعني صعوبة السجود علىرمضائها، حاول كثير من الصحابة إيجاد منفذللتخلّص من السجود على هذه الأرض الحارّة،فكان أكثر الصحابة يحتفظون بأشياء مرتبطةبطبيعة الأرض، فبدؤوا بأخذ الحصىوالاحتفاظ به لحين موعد صلاتهم؛ وذلك لدفعالضرر الحاصل من السجود على الأرضالساخنة، لذا أصبحت هي البديل في سجودهم،وقد صرّح بذلك كثير من الصحابة، منهم: جابربن عبدالله، وأنس بن مالك، وغيرهم..
فقد قال جابر بن عبدالله: «كنت أُصلّيالظهر مع رسول الله صلّى الله عليه وآلهوسلّم فآخذ قبضة من الحصى ليبرد في كفّيأضعها لجبهتي أسجد عليها لشدّة الحرّ» (1).
وقال أنس بن مالك: «كنّا نصلّي مع رسولالله صلّى الله عليه وآله وسلّم في شدّةالحرّ فيأخذ أحدنا الحصباء في يده، فإذابرد وضعه وسجد عليه» (2).
وعن ابن عمر: «مُطرنا من الليل فخرجنالصلاة الغداة، فجعل الرجل يمرّ علىالبطحاء، فيجعل في ثوبه من الحصباء فيصلّيعليه...» (3).
فثبت لنا هنا أنّه يمكن أن نأخذ شيئاً منالأرض شرط الطهارة بديلة لها، وتكون حاضرةمعنا في حلّنا وترحالنا؛ والكلّ يعلم أنّالحصى
(2) السُنن الكبرى 2|106.
(3) السُنن الكبرى 2|440.
والحجر والرمل هي من مسمّيات الأرضأيضاً، ويصحّ للمسلم السجود عليها.
وقد ذكر ابن سيرين أنّ (مسروق بن الأجدع)كان يأخذ في أسفاره لبنة يسجد عليها (1).
وقد روي عن عمر بن عبد العزيز أنّه كانيؤتى بتراب فيوضع على الخُمرة (2) فيسجدعليها (3).
من هنا تتّضح الصورة؛ إذْ لم يكن عمل(التربة) وليدة العصور المتأخّرة، بل كانتمنذ الصدر الأوّل للإسلام.
إنّ الأصل واحد في كلّ المذاهب، ولكن مندوّن السُنّة والتاريخ، وكتب في مجالالفروع والأُصول حاول أنْ يُجزّئ بعضالمفاهيم العقائدية، ويصوّرها حسب الهوى،بل ربّما حسب الوضع السائد آنذاك لمصلحةفردية يُراد بها الخروج عن مسار النهجالإسلامي.
بقي السؤال عالقاً في أذهان الكثير: لماذانبحث مثل هكذا موضوع، ونحن نعلم أنّ الأرضهي أساس الطهارة؟
فهنا يجب أنْ نجد بديلاً للتراب؛ لأنّالحياة قد اختلفت كثيراً وتطوّرت بسببمتطلّبات العيش، وسهّل هذا التطوّرالكثير من الأُمور، واختلف فيها الكثير ـوالاختلاف واضح كما مرّ آنفاً ـ ولكنليكتمل نصاب قضية ما ـ خصوصاً ونحن في هذاالبحث ـ يجب إيجاد محلّ طاهر لوضع الجباهعليه حين السجود دون الابتعاد عن مسمّىالتراب، وهذا لا يكتمل إلاّ أن نأخذ منالتراب نفسه ونعمل منه شيئاً يحافظ بدورهعلى الصفات التي تتمتّع بها الأرض، فبدأظهور الألواح الطينيّة الطاهرة، والتيتسمّى في عصرنا الحاضر: «التُربة».
وهنا يبدأ الحوار: لماذا تمّ اختيارالتراب، دون سواه، لكي تكون تربته صالحةلعمل هذه التربة؟ وأيّ تراب يمكن أن نعملمنه هذه الأقراص؟
قد يقال: لماذا صُنعت هذه الأقراص، وقدكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّميسجد على الحصير، وتارةً يسجد علىالخُمرة، وتارةً يباشر الأرض بجبهتهالشريفة (1)؟
ولكن الرسول الكريم صلّى الله عليه وآلهوسلّم لم يسجد على الفراش أو السجّاد،والبسط المنسوجة من الصوف والوبر والحريروأمثالها، فليس هنالك دليل يسوّغ السجودعليها، بل الأدلّة بخلاف ذلك؛ لأنّ الغايةمنه هو الخضوع
وإنّ الخوض في مسألة المسجد والسجود،والتعامل معها وفق الشروط والمفاهيمالتعبّدية التي جاءت بها السُنّةالنبويّة؛ صعبة التطبيق في عالمناالحاضر؛ بسبب قلّة الوعي الفقهي.
ولكي تكون هنالك فريضة متكاملة علينا أننفهم أنّ الأُسس والقواعد التي تمّتأسيسها منذ بداية البعثة النبويّة وإلىيومنا هذا هي نفسها، ولم يتمّ تغيير ولوجزء بسيط لمفهوم هذه الفقرة أو تلك، ولكن
(2) الخُمرة: حصير صغير من سعف النخل يُتّخذللصلاة؛ انظر: لسان العرب|213 مادّة «خمر».
(3) إرشاد السّاري لشرح صحيح البخاري 2|48.
والتذلّل لله تعالى، ولا سيّما أنّالصلاة هي عماد الدين.
وقد قيل للإمام جعفر الصادق عليه السلام:أخبرني عمّا يجوز السجود عليه وعمّا لايجوز؟
قال عليه السلام: لا يجوز السجود إلاّ علىالأرض، أو على ما أنبتت الأرض إلاّ ما أُكلأو لبس.
فقال له: جعلت فداك، ما العلّة في ذلك؟
قال عليه السلام: لأنّ السجود خضوع للهعزّ وجلّ، فلا ينبغي أن يكون على ما يُؤكلويُلبس؛ لأنّ أبناء الدنيا عبيد ما يأكلونويلبسون، والساجد في سجوده في عبادة اللهعزّ وجلّ، فلا ينبغي أن يضع جبهته في سجودهعلى معبود أبناء الدنيا الّذين اغترّوابغرورها، والسجود على الأرض أفضل (1).
إذاً لا يمكن السجود على ما مرّ ذكره إلاّعلى الأرض، أو ما أنبتت غير مأكول أوملبوس.
وكثير ممّن يحاول أن يدسّ السمّ ويكفّرالمذهب الشيعي يقول: إنّ الشيعة يعبدونشيئاً يسجدون عليه!
ونقول: إنّ الشيعة في سجودهم يسجدون علىقطعة من تراب طاهرة، ولا يسجدون لها، حسبالمفهوم الخاطئ، وليس كلّ مسجود عليهمعبوداً، وإلاّ لكان الساجد على السجّادعابداً له.
علماً بأنّ الشيعة لم تعدّ السجود علىالتربة من واجبات صلاتهم، والدليل على ذلكسجودهم في الحرم المكّي، أو مسجد الرسول،على أرضيتهما المقدّسة، والأرضية هذهمفروشة بالبلاط، وكما قلنا سابقاً تعدّ
من مسمّيات الأرض؛ فيجوز السجود عليها.
وبعد هذا المطاف نعود ونقول: أهنالك مانعبأن نصنع بديلاً لتراب الأرض تتواجد فيهاصفات الطهارة كافّة، ويكون سبباًلاطمئنان المسلم بصحّة سجوده في صلاته؟!
والجواب: لا مانع من ذلك؛ ولهذا وجدت«التربة الحسينية»؛ إذ أنّها بما تحمله منقدسية الأرض المأخوذة منها من ناحية،واجتماع الشروط التعبّدية فيها من ناحيةأُخرى، صارت البديل الأمثل لتراب الأرض.
ولو تمعّن المسلم لوجد أنّ الرسول الكريمصلّى الله عليه وآله وسلّم ذكر هذه التربةفي أكثر من مورد، وقد أقبل بها جبرئيل،وأخبره بأنّ ابن ابنته يقتل بها، وقد أعطىالرسول هذا التراب إلى أُمّ المؤمنينالسيّدة أُمّ سلمة وصرّته، كلّ هذا ذكرهأصحاب التواريخ والسير (1).
إذاً لماذا لا تكون لهذه الأرض قدسيّةخاصّة؟! وما المانع لو جُعل منها شيء يبقىعلى مدى التاريخ، مذكّراً بما جرى لعترةالرسول من بعده في طفّ كربلاء، ويكونشاهداً وحاضراً للأجيال على مرّ السنين،لكي تبقى هذه الجريمة البشعة عالقة فيالأذهان، والتي ارتكبت في فترة مظلمة منتاريخ الأُمّة الإسلامية.
إنّ العلاّمة كاشف الغطاء قدس سره قد أحاطبالموضوع من جميع جوانبه، وجعل طرحهمبنيٌّ على الأُسس والقواعد العلميةوالفقهية، متعرّضاً لمفهوم
الأرض من الجانب العلمي، وتكوين الكواكبالسيّارة، وارتباط بعضها ببعض، إضافة إلىربط المفهوم العلمي بالمفهوم الفقهي،وبالنتيجة ظهر هذا الأثر القيّم؛ ليكوندليلاً واضحاً لمَن أراد أن يفهم ويدركهذه الحقيقة.
وسيأتي تمام البحث في صفحة 352 وما بعدها.