الثلاثاء, شوال 28, 1445  
 
الباب الأوّل : في ذكر أحوال الشيخ جعفر

العبقات العنبرية في الطبقات الجعفرية

 

  



الباب الأوّل:  في ذكر أحوال الشيخ جعفر وإخوانه وأبيه ومن يمت إليه

ذكر أحوال الشيخ خضر ابن الشيخ يحيى

أمّا أبوه فهو الشيخ خضر ابن الشيخ يحيى كان فقيهاً متبتلا ، وزاهداً لا منحرفا إلى الدنيا ، ولا في شهواتها متنقلا ، هجرها هجر الجافي الملول ، وسلك فيها طريقة آل الرسول من الذل فيها لله والخمول ، لعلمه بارتحالها عنها وتقويضه ، وإبدالها منها وتعويضه ، فنظرها بقلبه لا بعينه ، وانتظر يوم فراقه وبينه ، فلم يكن له بعد ذلك في نزهتها اشتغال ، ولا في شعاب مسالك الترؤس إيغال ، على أنَّ أباه كان في بلدهم بدر فلكها ، وواسطة القلادة في سلكها ، وصدر المجلس من ملكها ، تحِل في حرم بيته نجائب الرجاء حملها ، وتضع في رحب فنائه مطلقات الآمال حملها ، فقذف الله نور المعرفة بقلبه ، حتى تغرّب عن قشيب ربعه وشعبه ، وعاف العز والشرف ، وألقى عصا التسيار في بعض زوايا النجف ، واشتغل في تحصيل العلوم اشتغال من أنهكته علة التقى ، وأهلكته الرغبة في الفنا والزهادة في البقا ، فلم يكن له جهد بسوى الزهد ، ولا عادة إلاّ العبادة ، ولا وظيفة غير الخفية ، فلذلك لم يَتَضلَّعْ في العلوم تضلّعاً معلوم ، والأصح أنّ السبب فيه عدم استقامته في النجف مدة شاسعة ، حتى انتقل أبوه إلى رحمة الله الواسعة ، فأكثر الالتماس منه بعض أعيان أقاربه وذويه أن ينتقل إليهم فيجلس مجلس أبيه ، فلم يكن له بد من الإجابة ، لمسيس الرحم والقرابة ، فكان يقضي أيامه وأعوامه نصفها يتشرف بها في النجف ونصفها يتشرف بها محله ومقامه ، حتى أربى عمره على ستين سنة ، فتجرد لله كليّة وخلّى وطنه ، فأغراه الشوق وحرّكه إلى الغري تقاه ، فسكن إليه وألقى به عصاه ، وعاد إلى ما كان عليه من التقدس حين قالت له النفس بالتفرّس([1]) .

أَكْملْتُ في ذَا العامِ سِتينَ سَنَهْ

 

 

مَرّتْ ومَا كأنَّها إلاّ سَنَهْ

 

لَمْ تدّخرْ فيْها سِوَى تَوحِيْدهُ

 

 

وغَيْرَ حُسْنِ الظَنِّ فيهِ حَسَنهْ

 

ما حَالُ مَنْ لَمْ يَتّعِضْ بزاجِرٍ

 

 

وفي مَراعي اللّهو أَرْخَى رَسَنهْ

 

وإنَّ شرَّ النَّاس مَنْ طالتْ بهِ

 

 

حَياتُهُ وفعلُهُ ما أحْسَنَهْ

 

وإنمّا النّاسُ نِيامُ مَنْ يَمُتْ

 

 

مَنْهُم أزالَ الموتُ عنهُ وَسَنهْ

 

فجعل يتضلّع([2]) بعبادة ربه ، ويشتاق السكون إلى رحمته وقربه ، ويبرئ قلبه من الذنوب ، ويمحو عن صحيفة نفسه درن العيوب ، مشتاقا إلى رحمة مولاه ، طالباً الفوز برضاه ، قائلاً :

طُوبى لمن طيّبَ أوقاتَهُ

 

 

إذا نَأى عنْكُم بمغْناكُمُ([3])

 

وإن نَأتْ عنْ دَاركُم دارُهُ

 

 

داوى الحَشَا منْكُم بذكْراكُمُ

 

وإن دَنا عطّرَ أردانهُ

 

 

بما يَفيضُ المسكَ ريّاكُمُ

 

كُلُّ فؤادٍ بكُمُ مُغرمٌ

 

 

وكُلُّ مَنْ في الكون يَهْواكُمُ

 

إذا أحْبَبتُمُ فَدَعُوني أَمُتْ

 

 

فإنَّما مَحياي مَحْيَاكُمُ

 

طُوبى لمن أنستموهُ بكمْ

 

 

فهو بِغيْبٍ يترآكمُ

 

وَقَدْ سَكنْتُم بسويدائه

 

 

فأينمَا وجّهَ يَلْقَاكمُ

 

رِفْقاً بمن صارَ أسيراً لَكُمْ

 

 

أمَا تَرقُون لأَسْرَاكمُ

 

وكان معظّماً في أنفس العلماء ، كبيراً في أعين العظماء ، وكان في أيام تردّده إلى بلده إذا جاء إلى النجف يهدي لكل([4]) عالم مكنسة وعدة بئر ، فلما هجر وطنه بالكلية أخبر الشيخ حسين نجف([5]) أنّ الشيخ خضراً هاجر إلى هذه البلدة ، فقال : أنا لله قد انقطعت العدة ، ولقد نسب إليه ولده الصادق جعفر في رسالته الإيرانية المنسوب إليه([6]) من الكرامات ما لا تكون إلاّ من الأولياء أو ممن هو أكبر ، كملاقات صاحب الأمر(عليه السلام) والخضر (عليه السلام) ، وانفتاح بابي الحرمين حرم علي (عليه السلام) والحسين (عليه السلام) ، وكثيراً من أمثالها .

وذُكِرَ أنّ الناس كانت تزدحم على الصلاة خلفه ، وأنّ علماء ذلك العصر كالسيد العابد الزاهد العالم المشهور سيد هاشم الحطّاب([7]) كانوا يقولون من أراد أن ينظر إلى وجوه أهل الجنة فلينظر إلى وجه الشيخ خضر ، وعبارة الشيخ في كشف الغطا في بحث التشهد مما يدل على عظمة قدره رحمهما الله([8]) .

فما زال على تلك الطريقة من التهجد ، وعلى ذلك المنوال من التعبد حتى أشتاق ربه جواره ، فقضى نجبه بعد ما قضى من الباقيات الصالحات أوطاره ، وانقلب إلى رحمة ربّه وهو أصفى من سبائك الذهب ، وذلك في سنة الألف والمائة والثمانين تقريبا في رجب ، ودفن بالرواق المنور في الحجرة التي تحاذي الحجرة التي فيها قبر العلامة الأردبيلي([9]) . وهي اليوم خزانة الكتب والقرائين الموقوفة على حرم أمير المؤمنين ، وهذا مما يدل على حسن نية الرجل وصفاء سريرته .

حدثني بهذا عمّي العباس ابن العلامة الحسن بن جعفر ، قال كنت أدخل مع أبي للزيارة وأنا صغير فإذا خرجنا عكف أبي على المكان الذي هو خلف القبر الأردبيلي فوقف هنالك وقرأ الفاتحة وأمرني بذلك ، فسألته يوماً لمن تقرأ ياأبتِ ؟ . فقال لجدّك ، فقلت : أو ليس قبر جدي بإزاء دارنا ؟ فقال : نعم هذا جدّك الخضر وذاك جدّك جعفر . وكان الشيخ خضر محبوب الجانب ، كثير الأصدقاء في الله ، فلما توفّي كثر الصراخ والعويل عليه لكثرة أحبائه وأولاده وأقاربه . فقال السيد صادق الفحام([10]) رحمه الله يرثيه ببيتين أنشأهما في الحال ، وقيل كتبهما على الصخرة التي هي على القبر وهما :

يا قَبْرُ هَلْ أنتَ دَارٍ مَنْ حَويتَ ومَنْ

 

 

عليهِ حولكَ ضَجَّ البَدْوُ الحَضَرُ

 

أَضْحَى بك (الخضر ) مرموساً ومنْ عجَبٍ

 

 

يموتُ قبل قيامِ القائمِ ( الخضرُ )

 

وماقضى إلاّ وهو :

أبو النفر الغُرّ الأولى تَركَتْ لهمْ

 

 

عزائِمَهُمْ في غُرّةِ الدّهرِ مَيسْمَا([11])

 

إذا ظَمئتْ بيْضُ الظُبا([12]) في أكفَّهم

 

 

تحاشوْا لُها ورداً سوى مصْدَر الظَما

 

لقد قَرَنوا بالنَّجدة العِلْمَ والتقى

 

 

فأبْدُوا لهُم طَعْمينِ شهْداً وعَلقَما

 

ففي الجَدْبِ يُسْتَسْقَى بفَضْلِهُم الحَيا

 

 

وفي الروْع يُستسقَى ببيضهم الدِّما

 

وما بَرِحُوا يَحمونَ عَنْ بيضةِ الهُدى

 

 

ويَبْنُونَ من أركانِها ما تَهدّما

 

يَردّونَ جَيْشَ الشّرْكِ عنْها بعزْمهْم

 

 

فيرْجَعُ مَكسورَ اللواءِ مُحطَّما

 

إذا عُرضتْ في جَانب الدينِ زَيغَةٌ

 

 

أروها قَذى الأجْفانِ أوْ تَتقَوَّما

 

إلى أنْ أعادُوا الأرضَ بالأمْنِ كعبْةً

 

 

حَراماً وكُلَّ الدَّهرِ شَهْراً مُحرَّما

 

 أولاد الشيخ خضر

وأمّا إخوانه الذين هم أولاد الشيخ خضر ، فالمعروفون المجتهدون أربعة أكبرهم الشيخ حسين .

الأول : أحوال الشيخ حسين

عالم مجتهد ، وفقيه([13]) متفرّد ، محبوب الحاشية والأطراف ، منقادة له الأعيان والأشراف ، ذو شرف عظيم وفضل جسيم ، وزهد رزين ، وعلم مبين ، وقد ذكره الشيخ عبدالرّحيم البادكوبي([14]) في نقد العلماء بعنوان مستقل أطنب به غاية الإطناب ، وأُعجب بتقاه وعلمه غاية الإعجاب ، وتوفي سنة (1195 هـ)([15]) ، فقال السيد صادق الفحام رحمه الله يرثيه ، ويؤرخ عام وفاته ويعزِّي أخويه الشيخ محسنا والشيخ جعفراً بقصيدة غرّاء وهي : -

ياأيُّها الزائرُ قَبْراً حَوَى

 

 

مَنْ كان للعَلياء إنسانُ عَينْ

 

قِفْ ناشِداً إن كانَ يُطْفِي الجَوى

 

 

نُشْدانَ أحجارِ هُناك انطوَينْ

 

يا قَبْرُ هلْ تَدْري ومنْ لِي بأنْ

 

 

تَدْري([16]) ولكنَّ المعالِي دَريَن

 

منْ في ثَرى رَمْسكَ مِنهُ انَطوَتْ

 

 

محاسنُ نُشِرْنَ في الخافقينْ

 

وَمنْ عَليهِ اليومَ لما قَضَى

 

 

نحباً جليداتِ نُفوسٍ قضين

 

وأيُّ أياتٍ مِنَ الفضْلِ في

 

 

تُربكَ منْ بعدِ الوُضوح انْمحَينْ

 

وأيُّ أفنَانٍ من العِلمْ منْ

 

 

بعْد بُسوقٍ واخضرارٍ ذَوينْ

 

قدْ طَالَما اجنيتنايانِعاً

 

 

لذَّلنَا واليومَ لا يُجتنينْ

 

وهلْ تَبينّتَ وما أَنْ أَرى

 

 

عِنْدك تِبيانَ أُمورٍ جَريَنْ

 

أيُّ جيوبٍ للأسَى مُزِّقَت

 

 

فوقَكَ أمْ أيُّ جُفُونٍ ذَريَنْ

 

وأيُّ رَبّاتِ خُدُورٍ منَ

 

 

الحُجْبِ على أعجالهن انكفَينْ

 

حَواسراً بُحاً مِن النُدبِ يْبكيْنَ

 

 

لنُدبِ فَقْد غَيْرهَينْ

 

نشرْنَ منْهُنّ شعُوراً على

 

 

غيْر شُعُورٍ لمصُابِ الحُسَين

 

وأدمُعاً حُمْراً يُصعّدْنها

 

 

منْ دَمِ أَفلاذِ كبودٍ فريَنْ

 

يا قبرُ مَا بَالكَ لمْ تسْتنرْ

 

 

أرْجَاؤُكَ الجُون([17]) لِذي نَاظريْن

 

أليْسَ قدْ أوْطَنَتَ بَدْرَ الهُدى

 

 

حتّى افْتَقَدْنا أحَد النيّريَنْ

 

يا قَبْرُ ما بَالكَ لمْ تَضْحَ للـ

 

 

ـخَصْب مراداً مُمَرّع([18]) الجَانبِينْ

 

أليسَ فيكَ الغيثُ أرسَى فَلِمَ

 

 

أصبْحتَ لا تَلوي على الرائَدين

 

لا يَنتْهِي اليومُ إلى غايةٍ

 

 

تعَجّبني مِن الليالي قَضَينْ

 

كيفَ على ضيق المجال احتَوى

 

 

جَنباكَ جَنبيْ يَذبُل أو حُنينْ

 

وكيفَ واريتَ الِهلالَ الذّي

 

 

عَمَّ ضِياهُ الغَربَ والمشْرقَينْ

 

وكيف غيضتَ الخِضمَّ الذي

 

 

كان بعيدَ القعْر والسَّاحِلَينْ

 

أصبَحَ فِيكَ العِزُّ مُسْتَسْلمِاً

 

 

للقدرِ الُمنْزَلِ مُعطي اليَدينْ

 

والشّرفُ السّامي وَمحْضُ التُّقَى

 

 

في رَمسِكَ الدّاثِر مُستَوطنَينْ

 

يا صاحبَ القَبرِ دُعا ثاكلٍ

 

 

خدٌّ بَكاه الخَدُّ والوَجْنتينْ

 

يا مُنتمَي فَخْراً إلى مالكٍ

 

 

ما مالكي اِلاّكَ في المعنَيينْ

 

يا ساكنَ الرّمسْ دُعا صادقٍ

 

 

يقول في حقك منْ غيرِ مَينْ([19])

 

قَدْ كنُتَ لي بَرَّاً رؤُوفاً ولا

 

 

غَرْوَ فإنّي أَحَدُ الوالدَينْ

 

إنْ كُنتَ قَدْ غُيّبتَ تَحْتَ الثَّرى

 

 

فَلمْ تَغبْ عَنْ خَاطِري لحَظَ عَينْ

 

أوْحَشْتَني مَرْءاً ولكنَّ لي

 

 

ذِكْراً وفكْراً فيكَ لي مُؤنسَينْ

 

أبكيكَ للجَدوى وبَذْلِ القِرى

 

 

يرجِعُ عَنكَ الوَفدُ بالجَدْويينْ

 

واليومَ إنْ أمّوا حِماك الذي

 

 

قدْ عرفُوا عَادُوا بخُفَّيّ حُنينْ([20])

 

أحْرى بأنْ أقْضي نحَبي أَسىً

 

 

لوْ لا التعزّي عَنْكَ بالجعْفرينْ

 

خَلَّفتَ يا بَدْرُ لنَا سُلَوةً

 

 

بدْرينِ في أُفُقِ العُلى طالِعينْ

 

ذا جَعفرٌ فينا وذا مُحسِنٌ

 

 

فإن تَشأ فادْعُهما المُحْسنينْ

 

وفَرقديْ مجدٍ وما خِلْتُ منْ

 

 

قَبلكَ بدراً يعقبُ الفَرقدَينْ

 

سقاكَ منْ صوْب الرِّضا هاطلٌ

 

 

يُغنيكَ عنْ نوءٍ منَ المرزمينْ

 

نعاكَ نَاعيكَ بفيِه الثّرَى

 

 

فابْتدَرَ الدّمْعُ من المُقْلَتَينْ

 

فَقلْتُ لمَّا أنْ نَعى أرّخوا

 

 

تُنْسَى الرّزايا دُوَنَ رزءِ الحُسَينْ

 

وهذا القصيدة تكفيك في بيان عظمة هذا الرجل وشرفه خصوصاً كونها من مثل السيّد (صادق ) العظيم القدر ، القديم الفخر ، وله أولاد كثيرون والعقب من الشيخ عيسى الذي هو أبو الشيخ محمد الذي هو أبو الشيخ محسن([21]) الشاعر المفلق ، وصاحب الشرف المحلق ، كان معظّما عند الأعيان ، جليساً للأشراف ، للطافة طبعه ورقة حواشيه التي تغني عن السّلاف ، وتوفي قبل خمس سنين أو سبع فجأة وهو يمشي في الطريق في تشييع جنازة بلا سبب سوى أنّه كان يماشي بعض الأجلاء وينقل له لطائف ونوادر ويضحك ضحكاً كثيراً فسقط في الأثناء ، وسمعت ممن كان يماشيه أنّه قال له : خفض عليك فقد أفرطت وهذه أمامنا جنازة ولا نعلم ما يؤول إليه حالنا فلم ينفع وأستّمر على ضحِكهِ حتّى وقع من بين أيدينا وهو على تلك الحالة ، فسبحان الله ما أبهر قدرته ، وأعظم حكمته . وكان الشيخ محسن هذا مُختَصَّاً ببني عمّه آل الشيخ جعفر قاصراً أغلب أشعاره مدائح ومراثي عليهم وعلى من يتعلق بهم وسيأتي عليك من غرره ما يبهر الأسماع ويسحر الطّباع ، فيارحمة الله تغمديه ، ويا رضوان راوح جسده الطيب وغاديه .

والجماعة الملقّبون([22]) كلهم من الشيخ عيسى ومن ولده الشيخ مهدي نويرّ ، ومن ولده أيضاً الشيخ محمد آل الشيخ محمود الموجود في زماننا هذا وله ولدان ظريفان .

 

الثاني : أحوال الشيخ محسن

الثاني من أولاد الشيخ خضر ، الشيخ المحقق المجتهد المتبحر ، الشيخ محسن كان من تلامذة أخيه الشيخ جعفر وتوفي بعده فرثاه السيد صادق الفحام (رحمه الله ) الراثي أخاه المتقدم بقصيدة غراء رائية أولها :

هَيَ لَوْعَةٌ تَحْتَ الضُّلُوعِ زَفِيُرهَا

 

 

هَلْ كَيفَ يُطفىء بالدّمُوعِ سَعِيُرهَا

 

إلى أَنْ يقول

ظعَنتْ بُمحْسِنها المطل على الوَرى

 

 

إحسَانُه فَتطوّقتْهُ نُحورَهَا

 

 

وهي طويلة حسنة التأليف والأسلوب جداً ، وتنبيء عن عظمة مرثيها ، وقد أتينا على جميعها في ترجمة الشيخ موسى لتضمّنها أخيراً ، مدحاً له كثيراً ، ويعزّيه فيها هو واينه الشيخ محمد الذي هو أبو الشيخ النحرير ، والمحقق الذي لم يأت الدهر له بنظير ، المحيط غاية الإحاطة بالفروع والأصول ، والجامع بين المعقول والمنقول ، الشيخ راضي([23]) المشهور ، وهو ابن بنت الشيخ الكبير ، وكان كل تلمذته على خاله الشيخ حسن ابن الشيخ الكبير ، وتوفي هو والشيخ مهدي في سنة واحدة ، وكانا بمنزلة الأخوين ، بل أشد ألفة وإخاءً رحمهما الله جميعا ، وسيأتي إنْ شاء الله في باب الأصهار باقي أخباره .

الثالث : أحوال الشيخ محمد

وعقبه الثالث من أولاد الشيخ خضر الشيخ محمد توفي عن الشيخ عليوي وله ولدان الشيخ محسن والشيخ محمد ومنه الشيخ حسن الذي كان في طهران ، والآن في نواحي الحلة وله عدّة أولاد منهم الشيخ جواد ابن الشيخ حسن آل شيخ عليوي ، وكان قد أقام في النجف فترة ثم رجع الى منطقة ( جناجة ) توفي سنة (1372 هـ ) حفظه الله وإيّاهم .

والحاصل أنّ ذرّية الشيخ خضر لا تحصى ولا تستقصى ، قد ملؤا البقاع والأصقاع ، فطرف منهم في النجف وآخر في الدهلة ومثله في العذار والحلة ، أمدَّ الله بسلسلتهم مدى الأبد بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم .

الرابع : أحوال الشيخ جعفر كاشف الغطاء

الرابع من أولاده الأكسير الأكبر ، والكبريت الأحمر ، والسر المضّمر ، شيخ المشايخ ، وأستاذ الكل الشيخ جعفر الأكبر . كل فكر قاصر عن إدراك كنه وذاته ، وكل طالب خاسر من إحصاء بعض سجاياه وصفاته ، فكم استنهضت فارس القريحة في حلية الطروس واستطردت جواد القلم للإقدام على أداء ما يجب من بيان علّو قدره . فاسترجع كل منهما وأحجم ، وكم أجريت طرف الفكرة لاقتناص بعض الشوارد الغرر مما استجمعته تلك الحضرة ، فاستوقف دون الوصول وكبا ، واستعملت سيف البلاغة والبيان للإفصاح عن بعض تلك السجايا الحسان ، فتكهم دون الوصول ونبا ، فوقفت وقوف العيّ الشحيح ، وأنا والحمد لله نجله الفصيح . نعم ومن لي بادراك كنه حجّةٍ من حجج الله وآية من آياته ، وخزانة من خزائن علمه أودع فيها خفايا أسراره ومكنوناته ، وحمّله ثقل شرائع أنبيائه ، فخّف به ناهضاً بأعبائه ، حتى رفع ما انطمس ، وجدّد منها ما درس ، فأصبحت به وهي مشيدة البناء ، مأهولة الفناء ، عبقة الأرجاء ، ظليلة الأفياء ، محكمة المباني ، غضة المجاني ، يطيش سهم راميها ويهتدي إلى أوضح السبل من أخذ بها وسلك فيها ، بعد ما بذل مهجته في ذلك ، وسلك بها في جميع شعوب الأرض والمسالك ، لينشر الحق والعدل ، في كلّ حزن([24]) وسهل .

بَعيدُ مناطِ العَزْمِ فالغَرْبُ مُشْرِقٌ

 

 

إذا مَا سَعى في اللهِ والشَّرْقُ مغْرِبُ

 

إلى أن انتشر في جميع فجاج الأرض والسماء صيته بالفخار وذكره ، وعَبّق كل الآفاق طاويا فضيلة سائر أولي الفضل نشره ، فماذا عسى أن يبلغ المُطْرِي فيه ، وبماذا يأتي من مكارمه ومساعيه ، فنحن أحرى بنا وأجدر ، أن نقول في ترصيف ذلك الجوهر .

قُدْسيُّ ذاتِكَ ما إليه سَبيلُ

 

 

وصفاتُ مجَدكَ ما لهُنَّ وصٌولُ

 

يا أيّها الرّوحُ الأمينُ وخازُن الـ

 

 

ـوحَي المبينَ هَداه لا جِبْريلُ

 

لَولا الغُلوّ لَقلْتُ أيَّ عُلاكَ ما

 

 

قَدْ أعجزَ البُلغاءَ لا تَنزِْيلُ

 

وبَلغتَ غَاياتِ العُلومِ عُلاً فمِا

 

 

يَدْري بَليغٌ فيكَ كيفَ يقولُ

 

لكنّ مجْدكَ قالَ للمُطري بهِ

 

 

قوْلاً جميلاً فِيْكَ وَهُوَ جَليلُ

 

عَظِّمْ وبَجِّلْ ما اسْتَطعْتَ لِيكتْسي

 

 

شَرفاً بهِ التعظيمُ والتَبجِيلُ

 

وحيث أنّ فضله وشرفه كالشمس في رابَعة النهار ، وما رزقه الله من الذكر الجميل في سائر الأقطار ، كما هو أهله ( كأنّه علم في رأسه نار )([25]) ، وإنّما قول القائل فيه عَيْلَمْ([26])  علامة :

ضَرْبُ الزُجَاج لِنورِ اللهِ في الَمثَلِ

إذ حاشا مساعيه أن تكتب([27])  بتبرج الألفاظ حشمة وفخامة :

والشَمْسُ تَكْبرُ عَنْ حِلي وَعَن حُلَلِ

فلننتقل إلى ما يجب علينا ذكره من كراماته ، وحكاياته في أسفاره وأحضاره ، وما قال وما قيل فيه من تهانيه ومراثيه والكلام في استيفاء هذا المقام يقع في فصول .

 

الفصل الأوّل : في كرامات الشيخ جعفر

ما خفي منها وصحّ ، وما اشتهر ، وحكاياته الظريفة سِفراً وحضراً ، مقتصراً فيه على ما ذُكِر ما هو كالمتواتِر صحة وشهرة ، أو كالمقطوع به لصدوره من ذوي الاطلاع وأهل الخبرة ، كمشايخنا سلفاً وخلفا ، أو بعض المختصّين ممن بهم يعرف ، لحصول الوثوق والإطمئنان بل اليقين بعدم الافتراء ، وكيف لا يحصل ذلك؟ وصاحب الدار أدرى بالذي فيها ، ولكن حيث إنّ كراماته كثرت فاشتهرت ، وسعدت فبعدت ، وتداولتها الألسن الصغار والكبار في جميع الأقطار ، فربّما يوجد فيها ما ليس له أصل ، أو يخلط معها ما لم تكن له اشتباهاً أو تعمداً ، ولكني بحمد الله قد انتقدتها ولا انتقاد الصيّرف ، وأتيتك بخالصها وقذفت المزيف ، وأخذت اللب والصفّو ، ورميت الحشو واللغّو . التزمت أن لا أذكر في هذه الرسالة شيئاً إلاَّ عن مستند قوي ، وهو إمّا كتاب معروف مطبوع أو مألوف ، وإمّا رجل موثوق به لدى كل من رآه أو عرفه ، وأنا أذكر لك كلا منهما أولا ثم أرمز لكل واحد برمز أكتفي به عند الحاجة .

المصادر المعتبرة في أحوال الشيخ جعفر

أوّلاً : الكتب المعتمدة

أمّا الكتب فمنها تأليف العالم المجتهد المحقق المتفرد صاحب التصانيف الكثيرة والإجازات الخطيرة الشيخ ميرزا محمدالتنكابني([28]) وهو رجل من الطاعنين في السن توفي قريبا من عصرنا ، وله من العمر ما ينيف على التسعين ، وقد حضر در س الشيخ حسن([29]) والشيخ محمد حسن([30]) صاحب الجواهر والسيد إبراهيم القزويني([31]) صاحب الضوابط وغيرهم من العلماء ، وهو مجاز من أغلبهم كما في ترجمته ، وذكر أنّ له ثلثمائة تصنيف ، وقد رأيت بعضها فكانت تدل على سعة اطلاعه وطول باعه في المعقول والمنقول بقدر ما أميز وإنْ كانت سالبة بانتفاء الموضوع

1- فمن تصانيفه كتابه المسمى بـ (قصص العلماء)([32]) ، وهو جيد في بسط أحوالهم جداً وإنْ كان فيه خلط عند بعض المقامات فلذا يسميه بعض فضلاء العصر ( فضائح العلماء ) ، ولكنّه قد بسط في أحوال الشيخ الكبير وكراماته بمقدار كراسين وأطنب في فضله وعظمته غاية ونهاية ، وسنذكر نص ذلك في محله إنْ شاء الله ، وهو مطبوع بطبعين هنّدي وإيراني ونرمز عنه (قص) .

2-  ومنها كتاب (معدن الشرف في أحوال المشاهير من علماء النجف ) وهو السيد النحرير ، والمطلع الخبير ، والمؤرخ البصير ، السيد حسون البراقي([33]) سلّمه الله وأبقاه ، وهو من المعاصرين وله شوق ورغبة شديدة في هذا الفن خصوصاً في أحوال العلماء وكراماتهم ، ولا أظن أنّ له نظيراً في العرب بهذا العلم ، وفّقَهُ الله لذلك ، وأدامه جامعاً شتات هاتيك المفاخر السوامك ، وأرمز عن كتابه (مع) . وربما أذكر نص عبارته لأنّي ظفرت بمسودة كتابه ولم تكن مهذّبة بل آخذ المعنى وأكسوه ألفاظا رشيقة ، ومباني هي به حقيقة .

3- ومنها كتاب (روضات الجنات ) للسيد محمد باقر الأصفهاني([34]) تأليف عظيم ، غني عن التعريض والتفخيم ، وإن كانت سقطاته لا تحصى كما لا تخفى على من نظر فيه ، ولولا خوف الإسهاب لأشرنا على جملة منها ، ولكن جلَّ من لا عيب فيه وعلا ، ونرمز عن كتابه (رو) .

4- ومنها كتاب ( نقد العلماء ) للشيخ عبدالرحيم البادكوبي([35]) ، ونرمز عنه (نق) .

وهناك كتب أُخر لم نجعل لها رمزاً لعدم تكرار النقل عنها .

ثانيا : الرّواة الثقات

وأمّا الرّجال الذين أروي عنهم بلا واسطة فهم عدّة ، ولكن أكثر ما أروي عن عمّي وسيدي العالمين العاملين الجليلين العظيمين ، الغنيين عن التعريف ، والرفيعين عن الترصيف والتوصيف ، علمي المجد وعلامتي الزمن ، العباسين نجلي علي([36]) والحسن([37]) قدس الله أرواح آبائهم ، وأدام حياة آبائهم ببقائهم آمين ، عن محمد([38]) وأخيه المهدي([39]) ، عن عمّهما الحسن([40]) عن أبيهما علي([41]) ، عن أخيهما موسى([42]) بن جعفر ، وأبيهما الشيخ الأكبر .

وأعبّر عن هذا بالسند العالي لعلوّ درجته بارتفاع قدر سلسلته ، وربّما يحدّثاني بوقائع هم شاهدوها ، وقد أنافا اليوم على الستين . ثم عن التقي الزاهد العابد الشيخ منّاع النجفي ، وكان من عباد الله الصالحين الملازمين لخدمة العلماء والسعي في مصالحهم ، وكان طاعنا في السن ، وتوفي قبل هذا بسنة وهو مناهز المائة ، وقد تشرف بصحبة أغلب مشايخنا . ومن منن الله عليه لحسن نيته وصحبته لأوليائه أنّه مدة عمره لم يسقط له ضرس ، ولم تُعْمَ له عين ، ولم يُحْنَ له ظهر ، ولم تصبه عاهة ولا آفة بجميع أنواعهما حتى قبضه الله إليه . وكثيراً ما أروي عنه مرسلا أو مسنداً لشدة الاطمئنان به خصوصاً في آخر أمره وعند انقضاء عمره ، وكثيراً ما أسمع الواقعة عن كثيرين فأسندها إلى الشهرة ، وإذا نسبت شيئاً إلى القيل أو يقال فهو علامة عدم التثبت والاطمئنان بالصحة .

والحاصل أنّا لم نأل جهداً في نقل الصحيح المتيقن بوثوقه ، ونحن نسأل الله التوفيق والعفو عن الزّلل والخطأ ، ومن الناظر الغض عن الخطل([43]) والكبوة .


 

أولا : سيرة الشيخ جعفر

ولنذكر أولا هنا سيرة الشيخ في ليله ونهاره ليقتدي بها من أراد الوصول إلى تلك المراتب مع إخلاص النية وإصلاح السريرة ، وعند الله غيب السموات والأرض . كان قدّس الله نفسه وطيّب رمسه يأتي بعد صلاة المغربين إلى داره العامرة فيقرّب له العشاء مع أولاده وعائلته ، فيتناولون منه قدر الكفاية ، حتى إذا فرغوا جلسوا ريثما يحل العاقد حبوته([44]) . ثم يقوم كل منهم فيدخل حجرته ، فيشتغلون بالمطالعة حتى يمضي من الليل ثلثه ، ثم يقوم كل فيأخذ مضجعه ، والتقوى معه ، حتى إذا ولّى الليل بثلثيه وهدأت الأصوات ، وهجعت العيون ، انتبه الشيخ وكأنمّا نشط من عقال .

وإذا حَلّتِ الهِدَايَةُ قَلْباً

 

 

نَشَطَتْ للْعِبَادَةِ الأَعْضَاءُ

 

ثم أسبغ الوضوء ، واشتغل بصلاة الليل ثم ناجى فأطال ، وبكى واستقال ، حتى بدت طلائع الفجر راياته وذهب بالليل إلاّ كحلبة شاة ساعاته ، قام الشيخ فأيقظ كل واحد من بنيه لأداء صلاة الليل والتهجد فيه ، حتى إذا أكملوها أحاطوا بعميدهم وأبيهم ، فجعل يوعظهم ويذكّرهم حسن صنيع الله فيه وفيهم ، فمن بعض ما كان يقول الكلمات المشهورة : كنتُ جُعيفراً ثم جعفراً ثم شيخ جعفر ثم الشيخ ثم رئيس الإسلام حتى إذا استطرد الصبح جيش الدّجى ، وأذهب وألقى الفجر في الأفق ترسه المذهّب ، خرج الشيخ إلى حجرة درسه الكبيرة الواقعة في الدار الخارجة ، والجماعة قد استكملت صفوفهم فوقف هنالك ورفع صوته الجوهري فكبّر الله سبحانه وتعالى حتى خشعت القلوب وذرفت العيون .

يقول الراوي وايم الله الجليل لقد كانت قلوبنا تنشق حتى تمتلئ بالهداية ، ولو أقسمت أنّ الجمادات كانت تخشع لصوته بكلّ آية لما جزت الحق موضع قدم ، ثم إذا أكمل صلاته سنّة وفرضاً جلس للتعقيب ريثما تطلع الشمس وتنتشر في الجو ، وحينئذ تأتي الطلبة أفواجاً أفواجا ، وجماعة جماعة ، من مبتدئ محصّل وعالم إلى غايتها متوصل ، وآخر بينهما مراهق ، حتى إذا استكمل جمعهم ، واجتمع جمعهم ، رقى منبر التدريس ونثر عليهم لئالىء ألفاظٍ تحتها من خزائن علم الله كل معنى نفيس .

وَمَا خُلِقَتْ إِلاّ لِجُودٍٍ أكُفُّهمُ

 

 

وأَرْجُلُهم إلاّ لأعْوَادِ مِنْبَرِ

 

حتى إذا أكمل واستوفى خرج وصحبه حافّون به

كأنّهُم نُجومٌ حَوْل بَدرٍ

 

 

تكمَّلَ في الإنارَةِ واسْتَدَارا

 

قاصداً زيارة مولاه ، حتى إذا تشرف بأعتابه أطال العكوف على مثواه ، وقبل الظهر بقليل بادر إلى المسجد الهندي ، وهو جامع البلد فصلّى جماعةً ، ثم أتى داره للغداء حتى إذا فرغ راجع بعض ما ينبغي مراجعته من الكتب والأقوال ، وانتهز من النوم قليلاً كلوث خمار أو كحلّ عقال ، حتى إذا صار العصر تقدم بأولاده خارجاً إلى فضاء كان أمام المسجد الهندي يسمى الآن بالطمّة ، ولم يكن فيه تعمير كاليوم ، ثم إذا جلس حفّت به قومه وأولاده ، كبدر هُدى حفّتْ به الأنْجُمُ الزّهْرُ ، أتت الوفود والزائرون من كل فج وهم بين مقبّل يديه ، وآخر واقع على قدميه .

لَوْ لا نَدى كفّهِ قُلْتُ لِكَثْرَةِ ما

 

 

يُقَبِّلُ الناسُ منْها إنّها الحَجَرُ

 

وكانت تسمى تلك البقعة بدكة القضاء ، لأنّ الشيخ كان إذا جلس فيها عصراً أتى كل متداعيين فيقضى فيهما وهو جالس هناك ، حتى إذا جاءت الفحمة من المغرب دخل المسجد المذكور للصلاة . هذا ديدنه عامة أيامه .

وكان الشيخ حسين نجف يصلي في داره ، وقيل في الحرم الشريف ، والسيد الطباطبائي([45]) في مسجد الطوسي([46]) ولم تكن الصلاة في الصحن الشريف معروفة قبل ، وما أدري ما الذي صيّرها بحيث يمتنع الاستطراق فيه مغرباً لكثرة الجماعات .

ثم توجّه الشيخ إلى الحج فجعل الشيخ حسين يصلي بمكانه ، فلمّا رجع إلى محلّه أجمع العلماء كالسيد الطباطبائي والشيخ حسين نجف والشيخ جعفر وأمثال هؤلاء على أن يوزّعوا أمر التدريس والفتوى والجماعة على المبرّزين من علماء ذلك العصر ، فجعلوا المنبر لنائب إمام العصر حجة الله المهدي([47]) ، عليه رحمة المعيد المبدي لكونه الأهم ، فأعطي للأعظم ، فلم يكن يرقى منبراً في زمانه سواه ، وجعلوا أمر التقليد في سائر الأمصار إلى وكيل الإمام الأكبر الصادق جعفر ، لعلمهم بأنّه

عليمٌ بغيبِ الَوحي حتّى كأنهُ

 

 

بمُختلساتِ الظنّ يسمعُ أو يَرى

 

إذا أخذَ القِرطاسَ خْلتَ يمينَهُ

 

 

تصحّ نَوْراً([48]) أو تنظّم جوهراً

 

فلم يكن عالم مقلّداً في الفرقة المحقّة غيره (قدس سره) وجعل الإئتمام بالناس لزين العابدين في زمانه ، وقدوة الساجدين من أقرانه ، الشيخ حسين نجف ،

فلم يكن سواه إماما في جميع ذلك([49]) البلد ، وكانت العلماء جميعاً حتى السيد والشيخ([50]) يصلّيان خلفه أغلب الأوقات . ثم لما توفي السيد صار المنبر منحصراً للشيخ كذا في كتاب (معدن الشرف ) ، وزاد أنّ السيد كان يأمر أهله وعياله بتقليد الشيخ الأكبر .

كرامات الشيخ جعفر الكبير

وأما كراماته فهي أكثر من أن تحصر ، وأقصى من أن تحصى .

1- منها ما أرويه بالسند العالي عن المرأة الصالحة والدة محمد والمهدي أنّها كانت تقول : إنّ عبادة الشيخ على قسمين تارة فعلاً وأخرى قولاً ، فطوراً يناجي ويدعو ويصلي ، ومرة يجول بنفسه على الأرض ويبكي ويتضرّع ، وكنت في بعض ليالي الصيف نائمة في السطح وإلى جنبي محمد وكان رضيعاً ، وكان الشيخ في الطرف الآخر من السّطح وبيني وبينه خمسة عشر ذراع أو أزيد ، وكان يحيي أغلب ليالي الصيف لقصورها في مطالعته وتمام أوراده فلمّا كان الثلث الأخير من الليل أخذ في البكاء والمناجاة سراً وجهراً وتضرعاً وخيفة ، وهو يعفّر جسده الشريف في تراب السّطح ويكرر قوله يا جعيفر يا قليل الحياء يا كثير الشقاء ، وأمثال ذلك حتى انتبهت عليه من بكائه وصوته وهو على تلك الحال ، فبقيت في فراشي مستلقية ، فبينا أنا كذلك إذ سمعته يقول ، وهو يتقلّب على الأرض بنفسه ويجول بصوت ضعيف ، من يأتيني بماء ؟ من يسقيني شربة ماء ؟ كرّرها مراراً ، وكان على شرفات السطح أكواز ماء ، فقمت لأناوله بعضها ، فرأيت الجرّة سبقتني ونزلت من الشرفة حتى وصلت إليه فشرب منها ورجعت إلى مكانها ، فوقفت بمكاني حائرة قد طاش ليب ، وذهل عقلي ، وقلت : لعل النوم قد خالط جفوني ، وغالطتني بهذا عيوني ، والأمر لا أصل له ، فحدثتني نفسي أنّ هذا ينكشف بسؤال الشيخ مرّة ثانية ، فإنْ فعل علمت أنّه باطل وتخليط ، وإلاّ فهو حق وصواب ، فوقفت هنيئة ، فلم يُعدَ الشيخ كلامه ، بل انكفأ على وجهه يسبح الله ويقدسه ، فقلت في نفسي ، لعلما وهمني سمعي وأكذبني حسّي ، فلأقطعن الشك باليقين ، أو لأعودنّ ببرهان مبين ، فتقدمت قريبا منه ، ومنعتني هيبته عن الإقدام عليه .

ومنْ ذا يَرُد السيفَ وهوَ مهنّدُ

 

 

ومنْ ذا يُثيرُ اللّيثَ والليثُ ملبدُ

 

فوقفت بيني وبينه خطوات ، فقلت يا أبا موسى آتيك بالماء ؟ فرفع رأسه فزعاً مرعوباً وقال : ما الذي أيقظك في هذا الليل؟ وعلا مَ أتيت؟ ارجعي فاهجعي ولا تعودي لمثلها تقول : فمضيت وعلمت أنّه سر رباني ، ومعنى عرفاني ، بين محب وحبيب ، كره أن يظهر عليه واشٍ ورقيب .

إذا أنتَ أخْلصتَ المحبّة والهوَىَ

 

 

تملّكتَ سِرَّ الكائناتِ بأسْرهَا

 

2- ومنها مافي (قصص العلماء ) ونص ترجمته : أنّه نقل لي بعض أصدقائي الذين أعتمد عليهم غاية الاعتماد في الوثاقة أنّه قال : كان لي عمّ كثير المال والثروة فابتلى بمرض العين عدّة سنين ، وكلما ازداد في مباشرة الأطباء والجراحين لم تزدد إلاّ نزولاً حتى بذل عليها مالاً جزيلاً ، وكان يجلس في مجالس الطلبة من مشتغلي بلده فسمع ذكر الشيخ الكبير بينهم ، وإنّه صاحب كرامات وهو نائب الإمام فسألهم أين هو الآن؟ فقالوا : في لاهجان([51]) ، فشدّ الرّحل والأقتاب حتى تشرّف بأعتاب ذلك الجناب ، فمثل بين يديه وهو على متن راحلته عازماً على الرحيل من ذلك البلد ، فقبل يديه وعرض له أمر عينيه ، وأنّي عجزت والتجأت إليك لأنّك نائب إمام العصر ، فادْعُ الله أن يردّ علي النور ، فإنّ بيدك مقاليد الأمور ، فمسح الشيخ بكفّه المباركة من ماء فمه على عيني ذلك الضرير ، ورفع يديه بالدعاء ، وما ردَّهما حتى أرتدّ الرجل بصيرا .

3- ومن كراماته المعجزات التي كادت أن تكون لنبوّة علومه آيات ، القصة المشهورة التي جازت حدَّ التواتر والشهرة وهي مستفيضة على ألسن الناس ، ورواها في (معدن الشرف ) عن عدّة من رجاله الثقات ، ورويتها أيضاً بالسند العالي ، وهي : أن الشيخ عزم في بعض السنوات على زيارة الكاظمين عليهم السلام ، وكانت سنة قحط كثيرة الضرّ قليلة الخير ، وقد حبست الأرض ماءها ومنعت السماء أنواءها ، فبينا الشيخ في أثناء الطريق تهافت عليه أعراب البوادي من كل ناحية وجهة ، وتعلّقت بركابه ، وعلقت آمالها لدى أعتابه ، قائلين : أيّها الشيخ برئنا([52]) سنون وتغير وانتقاص فما تركت لنا هبعاً([53]) ولا رُبُعاً ، وما أبقت فينا ثاغية([54]) ولا راغية([55]) ، أماتت الزرع ، وقتلت الضرع ، فنحن أنضاء([56]) بؤس وصرعى جدب تغيرت النِّعَمُ ، وأهلكت السوارح والنَّعم ، فأكلنا ما بقي من جلود فوق عظام ، وبقينا نعلل أنفسنا بالغيث فلم نجد إلاّ الخلب([57]) والجهام([58]) ، حتى عاد أشرافنا ظلاَّما وهتك الحجاب ، وبرزت الكعاب ، وحملتنا نكبات الدهر على المركب الوعر ، وكنّا ذوي ثروة من المال ، وغبطة من الحال ، واليوم لا ثاغية يجتدى ضرعها ، ولا راغية يرتجى نفعها ، حتى ضاق بنا البرّ الواسع ، بعد الأهل والمراضع ، فسألنا أحياء العرب ، عمن له بين السماء والأرض أقوى سلّم وسبب ، فما أُرشدنا إلى سواك أدام الله علاك ، فجئناك من بلد شاسع ، تهيضنا هائضة وترفعنا رافعة ، ومشينا حتى انتعلنا الدماء ، وجعنا حتى أكلنا الثرى ، على بوادر بَرَيْنَ اللّحم ، وهضن العظم من سنة جردت ، وحال اجتهدت ، وأيد جُمدت ، فارفع ما بنا من الضر بما بينك وبين الله من السرّ .

فقال الشيخ لهم : لا بأس عليكم ولا ضر ، فإنّي سأفعل ذلك عند أول تشرفي بأعتاب الإمامين عليهما السلام والتمسك بذلك القبر ، لأنّ الدعاء هنالك أوقع وأسمع ، فأبوا وقالوا : لا ندعك تفلت من أيدينا ، حتى تدعو لنا ، فإنّا نرجو بدعائك نزُول الفرج علينا ، فاستمهلهم إلى وصول الخان ، وأعطاهم على ذلك العهود والأيمان ، وقال : مكانكم فانتظروا الغيث ، فإنّه سيأتيكم إنْ شاء الله عند أول وصولي بلا ريث ، وسألوه عن سبب التأخير للدعاء فقال : أخشى على الزّوار أن يغمرهم الماء ، فتعجّب أصحاب الشيخ واتباعه من وعده الأعراب ، وقالوا ما بينهم : إنّ هذا الشيء عجاب ، أ فأمر السماء بيديه ؟ ، فَيَعِدْ([59]) على أمر محال ويحلف عليه ، وجعلوا يعيبون على الشيخ ، ويتهكّمون حتى وصلوا إلى المنزل ، فقال الشيخ حطوا رحلنا في المنازل المسقفة من الخان ، فحطوا رحاله ورحال أصحابه هنالك ، وأبى باقي الجماعة عن ذاك ، ونزلوا وسط الدكة التي في وسط المنزل ، وقالوا : يريد أن يحبسنا في ذلك المكان المظلم ، زعماً منه أنّ الغيث سينزل ، ثم أنّ الشيخ مضى لقضاء حاجته وخرج وجلس حذاء القوم الذين يضحكون عليه ، ثم أسبغ الوضوء وأمر بعض خدمه أن يصعد السطح فينظر هل بقي في تلك الفيافي والقفار أحد من الزّوار ، فنظر فلم يجد أحداً ، فأُخْبِرَ الشيخ بذلك ، فقام عن أولئك الأقوام ، وقال لهم : يا قوم أن أمتعتكم سيغمرها الماء ، ويذهب بها السّيل جفاء ، فادخلوا مساكنكم لا يحطمّنكم سليمان الودق([60]) وجنوده ، وتخطف أبصاركم بوارق السحاب ورعوده ، فتضاحك القوم سراً وقالوا متهكمين : سنضرب بيننا وبينه ستراً ، فلما استقفاهم([61]) جعلوا يقولون هذا أعجب ، وإصراره عليه أغرب ، وأمّا الشيخ فأُخْلِيَ له إيوان في المنزل ، وشرع في الصلاة فلما رفع كفّيه للقنوت ارتفعت في الجو ألوية الرّياح ، وتسابقت مذاكي الشمال لما صرخ بها الرعد ، فحوّل اللقاح ، وقدمت بالنصر طلائع جيش الودق ، وهجمت بالبُشْر لوامع أسنة البرق ، وأقبلت كلّ سحاء([62]) ووطفاء([63]) ، وكان هواديها الولاء ، فلا ترى غير مرجخة([64]) النواحي موصولة بالأحكام ، متدلية العَزالي([65]) تكاد تمس من الرّجال الهام ، كثير زجلها([66]) ، قاصف رعدها ، خاطف برقها ، حثيث ودقها([67]) ، بطيء سيرها ، متدفق قَطْرُهَا ، مظلم نَوْؤها([68]) ، هَدَّارةٌ فوّارةٌ ، خوّاضة موّارة([69]) ، مظلمة مشعلة ، شاهقة مسدله :

وَلَها رَبَابٌ هَيدبٌ([70]) لزفيرِهِ

 

 

قَبْلَ الهديرِ سَحَابةٌ وَطْفَاءُ

 

 

مُسْتَضْحِكٌ مُسْتَعْبرٌ بِدوامِعٍ

 

 

لم يجُرِْهَا بِعيونِهِ الأقَذَاءُ

 

فَلَهُ بِلا حُزْنٍ ولا بِمسرّةٍ

 

 

ضَحكٌ يؤلّفُ بَيْنَهُ وَبُكاءُ

 

نَعِمَتْ كِلاه فَأثْقَلَتْ أصْلابَهُ

 

 

وتَشَقَّقَتْ عنْ مائهِ الأحْشَاءُ

 

غُرُّ مُحَجَّلةٌ دَوَالح([71]) ضمّنت

 

 

حَمْلُ اللّقاح وكلّها عَذْراءُ

 

سَحْمٌ فهنَّ إذا عَبسْنَ فواحِمٌ

 

 

سودٌ وهُنَّ إذا ضَحِكْنَ وضاءُ

 

لو كان من لجُجِ السواحل ماؤه

 

 

لم يبقَ في لجُج ِالسّواحلِ مَاءُ

 

فأَرْخَتْ هوادَيها ، وحلّتْ عزالِيهَا ، وَقيلَ يا أرضُ فوري ، وَيا بحار موري ، وجبال غوري ، ويآسمَاء انفتقي ، ويا بروق أصدقي ، وجاءهم السيل من كل مكان ، فكان ما كان ، وانقلب الجو من عنان السماء إلى تخوم الأرض بحراً وأظلمت الدنيا ، فصارت ليلاً والبروق فجراً ، كل ذلك والشيخ في صلاته ، مشغول بمناجاته ، ما التفت وما انقطع كأنّ كل ذا لم يقع ، فجاءت الأعراب صارخة أنْ قد سال بنا السيل ، ووقع علينا الحرب والويل ، فانتبه الشيخ بتلك الصيحة كأنما قام من نومته ، فأكمل صلاته مستعجلاً ، والتفت إليهم وقال { بسم الله الرحمن الرحيم ، فَاَمَا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَاَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ في الأَرْضِ }([72]) اذهبوا لا ويل عليكم فراحوا فرحين مسرورين ، وللشيخ داعين شاكرين ، ثم انجلى السحاب وتقشّع ، وظهرت زجاجة السماء مرصعة بلئالىء النجوم تتشعشع ، وجاء القوم الهازِئون ، فوقعوا على أقدام الشيخ ويديه وهم يقولون : استغفر لنا فإنّا قد اغتبناك ، واستهزأنا بوعدك ذاك ، وليس عجبنا من وعدك بالاستسقاء ، فإنّها سنة الأنبياء وسيرة الصلحاء ، ولكن من حلفك على نزول الغيث وقولك أخشى أن يغمر الزوار الماء ، كأنما عندك علم الغيب أو وقائع السماء ، فقال لهم : يا ضعفاء اليقين لنا خمسون سنة نشتغل بعبادة الله وطاعته ، وتنقيح أحكامه وشريعته ، وعرفنا قدر جوده وكرمه ، ومِنَنِهِ ونعَمِهِ ، فنحن نرجوا أن يرجّينا في مواهب جزيله ، فكيف لا نرجوا هذه القليلة ، ونطمع أن يدخل بشفاعتنا الجنة التي عرضها الأرض والسموات ، جماعة من الأمم ، فكيف نخيب عنده من هذه القطرات ، إذن خسرت هذه وقبض على كريمته الشريفة .

4- ومنها ما في (معدن الشرف ) عن عدّة من ثقات رجاله ، وسمعتها من جماعة كذلك ، أنّ الشيخ لما كان في طهران بعث إليه حاكم لنجه ، وهي من الأمصار العظام ، وكانت من توابع العجم ، ملتمساً من الشيخ القدوم عليه وتشريفه ذلك المكان ، على أن يدفع له من الذهب الأحمر عشرة آلاف تومان ، على أن يصوم هنالك شهر رمضان فتوجه الشيخ نحوه ، وخرج جميع أهل لنجه من حكام وأمراء ورعيّة للاستقبال ، فجاؤوا به وأنزله الحاكم أحسن عماراته ، فلما بقي يوما أو يومين قال لأصحابه استأجروا لنا دوابا ومراحل([73]) ، فإنّي عزمت على الرّحيل ، فعلم بذلك حاكم البلد فوقع على أقدام الشيخ ، وقال : ما السبب لعلنا قصّرنا في خدمتك ، فقال الشيخ : حاشا لله ما صدر إلاّ الجميل ، ولكن أمر لابد منه ، فأصرَّ الحاكم على عدول الشيخ ، وقال : للألف ألف أخرى ، فأبى وخرج الحاكم غضبانا ، وهو يتكلم بالكلمات المنافية في حق الشيخ ، ويقول : كنّا نسمع به فنستعظمه ونقول ليس فوقه فوق ، وهذه الأفعال لاتصدر إلاّ عمن لاعقل له ولا دراية .

وأما الشيخ فإنّه لما صار على مراحل من البلد نزلوا فباتوا تلك الليلة فما أصبحوا إلاّ والعسكر محيطٌ بهم إلاّ أن هيئتهم غير هيئة عسكر العجم ، فبعث الشيخ إلى رئيسهم أنْ ما تريدون منّا ، فقال الترجمان : يقول الأمير من أين أنتم وإلى اين ؟ فقالوا : نحن من العراق وإليه ، فقال : امضوا على شأنكم فلا حاجة لنا بكم ، فرحلوا وارتحل الشيخ . فسألوا عنهم في المراكب فقيل : هؤلاء عسكر الأرس([74]) أتوا من أماكنهم بالمراكب البحرية ، وتوجّهوا لأخذ لنجه وفتحها ، لأنّ سلطان العجم أخذ منهم بعض البلدان التي كانت تحت تصرّفهم وجاؤوا الآن لمقابلته بمثل ذلك ،  ثم جاء الخبر أنّ بني الأصفر([75]) نصبوا المدافع والأطواب والمجانيق ، وقلعوا لنجه وقتلوا حاكمها وأسروا جميع من فيها ، ونجا الشيخ من القوم الظالمين ، ولو لم يخرج ذلك اليوم لكان من الهالكين ، ولكن وقعت الحيرة من أصحابه في سبب علم الشيخ بذلك ، وأنّه هل هو لرؤيا رآها أو لوحي أُوحى عليه من باب أنّ المؤمن ينظر بنور الله .

وَمَا عَلِمُوا أنّ المطيعَ لرَبِّهِ

 

 

كما يُرتَضَى يُلْقَى لَه كُلَّ إِقْليدِ([76])

 

5- وفيه([77]) أيضاً أن الشيخ كان جالساً بعض الأيام بين أصحابه في داره ، فدخل عليه سيد رثّ الثياب والأطمار عليه أثار الفاقة والإعسار ، فسأل من الشيخ أن يعطيه شيئاً من المال ، فاعتذر الشيخ وخرج السيد ودخل على أثره سيد آخر عليه سمات الوقار ، وآثار الجلالة والاعتبار ، حسن الثياب جميل الهيئة وخلفه خادم له حامل لمولاه شطبا ، وعليه أمامة([78]) مثمنة من كهرب ، فأكرمه الشيخ واستقبله وجعل يلاطفه ويسأله ، فجلس السيد ريثما شرب الشطب وخرج ، فأمر الشيخ أن يحمل إليه مقدار غزير من المال ، فتعجب الحاضرون ، وقالوا للشيخ أتعرف كل منهما وكيفية حالهما؟ فقال : لا أعرفهما بوجه من الوجوه ، وهذه أول رؤياي لهما ، فقالوا : فَلِمَ أعطيت هذا ولم يسألك وحرمت ذاك وقد سألك ؟ فقال : قوموا بنا نسأل عن داريهما وأريكم السبب ، فسألوا حتى وقعوا على دار السيد الأول الفقير ، فأستأذنوا ودخلوا فوجدوها مملوءة بالفرش والبسط والأقمشة ، وفيها من جميع الحبوب ما يكفيه وعياله سنين ، ثم خرجوا وأتوا دار السيد الثاني فوجدوا عياله عليهم أرثّ الثياب ، وأطفاله عُراة يتصارخون من الجوع ، وليس في داره شيء من الفرش والقماش سوى حصير خَلِق ، فقال : انظروا هؤلاء الذين قال الله تعالى عنهم (( يَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ ))([79]) . هذا الرجل توسّمْت فيه أنّه عزيز نفسٍ من قوم أعزاء وضعهم الدهر ، ولم يبقَ عنده سوى هذه الملابس التي عليه يتجمل بها لئلا يشمت عَدوّه به ، وهو كما قال عَزّ من قائل((لاَيَسئَلُونَ النَّاسَ اِلحَافاً))([80]) .

وأظنك أيها الناظر في هذه وأمثالها تقول ليس هذا إلاّ لعلام الغيوب ، فقولوا :إنّ شيخكم هذا والعياذ بالله إله ، ولكنك إذا التفت إلى قوله تعالى في الحديث القدسي ((عَبْدِي أَطَعْنِي تَكنْ مِثْلِي تَقُولُ للشَيء كُنْ فَيكُون )) . وكانت الصغرى عندك مسلّمة كما سيتبين لك أن طاعة الشيخ أظهر مصاديق الطاعة ، فإذن لا يدور في خُلْدِكَ ذلك الباطل خصوصاً في مثل أولياء الله الأماثل .

6- ومثل هذا كثير ، فلنختم هذه الفصل بحكاية أظنّها عندك أعجب من جميع ذلك ، قد حدثني بها عمي العباس بن علي بن جعفر عمن كان مع الشيخ وشهد الوقعة ، وذكرها في كتاب (معدن الشرف ) أيضا ، وحاصلها : أنّ الشيخ توجّه في بعض السنين إلى نواحي البصرة ، فأتوا على خيولهم إلى غياض([81]) ملتفّة بالقصب والبردي ، وكان ذلك المكان يعرف بكثرة السباع والأغوال ، فلا يمكن المبيت به وقد هجم الليل ، ولا بيت ولا خباء حتى ينزلون فيه وبينهم ويبن البيوت الشط العظيم المعروف بشط العرب ، وهو في الحقيقة بحر لا شط ، لأنّ فيه يجتمع الفرات ودجلة وشط العجم ، ولم تكن على ساحله سفن فوقفنا متحيرين ، فجاء الشيخ ووقف على الساحل وقال : سبحان الله إِنّ موسى بن عمران عبد من عبيد الله وأنا عبد من عبيده ، وقد ضرب بعصاه البحر ، فانفلق وعبر هو وقومه ، ثم جعل يخاطب الماء ويقول : إنّا وإيّاك عبدان من عبيد الله مسخّران بأمره ، فأقسمت عليك بكذا وكذا ، وجعل يقرأ أسماء لا نعرفها ، ثم قال اتبعوني ودخل بفرسه في الشط وهو عليها ، وتبعناه نحن ، فما كان إلاّ كلمحة البصر وإذا نحن على الساحل المقابل ، فالتفتنا إلى خيولنا فلم يكن أثر للماء إلاّ على أرجلها إلى ركبها ، ولم نعلم كيف كان الأمر أكانت تسبح بنا أم تمشي على وجه الماء أم غير ذلك ؟

ولماّ وصلنا البصرة وأقمنا فيها مدّة رجعنا على طريق بغداد ، فلمّا صرنا على ليلتين منه بتنا ليلة هناك وكانت الأرض ذات شوك وقتاد([82]) ، فكان الشيخ يكرر قوله : سبحان الله المُعَمّر المُدَمّر ، فسألناه عن السبب لهذه الكلمات بالخصوص ، فقال ستكون هذه الأرض بلدة عظيمة ذات قصور وجنان وبساتين وغير ذلك ، يقول الراوي : فما مرّت الأيام والسنون حتى أدرك أغلب من كان معنا تلك البلدة ، وهي كوت العمارة المعروف الآن بالكوت :

عَطّرِ اللَّهُمَّ مَرْقَدَهُ الكَريَم

 

 

بِعُرفٍ شَذِىِّ مِنْ رَحْمَةْ وتسْلِيمْ

 

 


([1]) التفرّس : التثبت والنظر .

([2]) وردت في المخطوطة ( يتظلع ) .

([3]) وردت في المخطوطة ( بمعناكم ) .

([4]) وردت في المخطوطة (يهدي على عالم) .

([5]) الشيخ حسين ابن الحاج نجف بن محمد التبريزي النجفي من علماء عصره الأفذاذ ومشاهيره بالتقوى والنسك ولد سنة (1159 هـ) وتوفي سنة (1251 هـ) / أنظر : طبقات أعلام الشيعة / آغا بزرك الطهراني / الكرام البررة : 2 / 432 .

([6]) وردت في المخطوطة  (المنسوب له) .

([7]) إن ما ورد من وصف (السيد العابد الزاهد المشهور السيد هاشم الفحام) من تحريف ناسخ المخطوطة السيد حسين ابن سيد جاسم الفحام . لأنّ الأوصاف المذكورة تنطبق على العلامة الزاهد المقدس السيد هاشم الحطّاب الموسوي العوادي لأنّه كان معاصراً للشيخ خضر والد الشيخ جعفر ، وليس هنالك من يعرف هاشم بالفحام ممن يتصف بتلك الأوصاف وكان من كبار علماء عصره الزّهاد كان يحتطب من صحراء النجف الأشرف ويبيع حطبه في البلد ليستعين به على معيشته حتى أصبحت هذه المهنة لقباً له توفي (1160هـ ) . معارف الرجال : 3/ 254 .

([8]) أنظر : كشف الغطاء / الشيخ جعفر كاشف الغطاء / 245 .

([9]) هو الشيخ أحمد الأردبيلي المعروف بالمقُدّس الأردبيلي المتوفى سنة (992هـ )كان من أكابر فقهاء النجف في القرن العاشر الهجري .

([10]) سبق ترجمته .

([11]) الَميْسُ : التبختر .

([12]) الظبا : حدَّ السيف .

([13]) وردت في (المخطوطة ) (نقية) .

([14]) كان من أهل الفضل والأدب والعلم له كتاب (نقد العلماء) في تراجمهم ، وهو علم من أعلام الربع الأخير من القرن الثالث عشر ، والنصف الأوّل من القرن الرابع عشر الهجري ، وصنّفه الشيخ أغا بزرك رحمه الله في (نقباء البشر) القسم الثالث من الجزء الأول / ص 1098 .

([15]) لم يذكر المؤلف سنة وفاة الشيخ حسين المذكور إلاّ أنّي استخرجتها من بيت السيد صادق الفحام الذي يؤرّخ فيه عام وفاته حيث قال فيه :

فقلت لمَّا أنْ نعى أَرِّخُوا

 

 

تُنْسى الرّزايا دون رزء الحسين

 

وحساب التاريخ هذا يفيد أنّ وفاته في سنة (1195 هـ) .

([16]) وردت في المخطوطة (قد يرى) .

([17]) الجون : الأسود .

([18]) ممرع : الخصيب .

([19]) مين : الكذب .

([20]) قوله ( عاد وابخفي حنين ) أخذه من المثل العربي المعروف ( رجع بخفي حنين ) وهو مثل يضرب عند اليأس من الحاجة والرجوع بالخيبة . أنظر : المثل وقصته في مجمع الأمثال / الميداني : 1/ 308 ، المستقصى في أمثال العرب / الزمخشري : 1/ 105 ، 106 .

([21]) الشيخ محسن الخضري ابن الشيخ مُحمَّد ابن الشيخ موسى ابن الشيخ عيسى ابن الشيخ حسين من كبار شعراء عصره ، ولد سنه (1253 هـ ) ، وتوفي سنه (1302 هـ ) ونشر ديوانه الشيخ عبد الغني الخضري سنة 1945م .

([22]) المقصود بالجماعة الملقبون هم آل الخضري .

([23]) الشيخ راضي ابن الشيخ محمد ابن الشيخ محسن ( هو جدّ الأسرة المعروفة بآل الشيخ راضي ) من الفقهاء المتميزين بالعلم ، توفي سنه( 1290هـ ) وأعقب سبعة أولاد .

([24]) الحزن : الأرض الوعرة .

([25]) قوله هذا بيت الخنساء في رثاء أخيها صخر : مأخوذ من قولها :

أَغَرُّ أبْلَجُ تَأْتمّ الهُدَاةُ بِهِ

 

 

كأنّه عَلَمٌ في رَأسِهِ نَارُ

 

أنظر : ديوان الخنساء / شرح ثعلب : 386 .

([26]) وردت في المخطوطة ( عليم ) .

([27]) وردت في المخطوطة ( تكتسب ) .

([28]) وهو الميرزا محمد بن سليمان التنكابني توفي سنة (1304 هـ) .

([29]) الشيخ حسن ابن الشيخ جعفر الكبير وسوف تأتي ترجمته في (العبقات) إنْ شاء الله .

([30]) الشيخ محمد حسن ابن الشيخ باقر ابن الشيخ عبدالرحيم ابن الأغا محمد الصغير ابن  الأغا عبدالرحيم المعروف بالشريف الكبير ، وهو من أركان الطائفة الجعفرية وأكابر فقهاء الإمامية ، وأعاظم علماء القرن الثالث عشر الهجري وكان من أساتذته الشيخ جعفر الكبير وولده الشيخ موسى والسيد محمد جواد الحسيني العاملي صاحب كتاب (مفتاح الكرامة) . كانت ولادته في سنة (1202 هـ) ووفاته سنة (1266 هـ) ومن أشهر مؤلفاته كتاب (جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام) . وبه لقب عقب الشيخ المذكور فعرفوا بآل الجواهري .

أنظر : طبقات أعلام الشيعة / الكرام البررة / اغا بزرك : 2/ 310 .

([31]) السيد إبراهيم ابن السيد محمد باقر الموسوي القزويني الحائري ، هو المدرس الوحيد في عصره ومن أعاظم العلماء المحققين ، وما أشهر مؤلفاته كتاب (الضوابط) في علم أصول الفقه . كانت ولادته في سنة (1214 هـ) ووفاته في سنة (1262 هـ) .

أنظر : طبقات أعلام الشيعة /الكرام البررة : 2 / 10 .

([32]) سقطت من المخطوطة لفظ (العلماء) . وقد أورد فيه تراجم مائه وثلاث وخمسين من العلماء بغير ترتيب وابتدأ بأستاذه صاحب الضوابط السيد إبراهيم القزويني واختتم بالسيد المحدّث الجزائري ، وفرغ منه يوم المبعث سنة (1290هـ ) أنظر : الذريعه / اغا بزرك الطهراني : 17/ 107 .

([33]) مؤرخ العراق المعروف ، باحث كبير ، له مؤلفات كثيرة في التأريخ والأنساب والحوادث ، ورد اسمه في المخطوطة السيد حسون البراقي ، وأصل اسمه السيد حسين البراقي ، ولد سنة (1261 هـ) ووفاته في سنة (1332 هـ) . أنظر : طبقات أعلام الشيعة / نقباء البشر / اغا بزرك : 1 / 522 .

([34]) السيد الميرزا محمد باقر زين العابدين ابن أبي القاسم جعفر بن الحسين ابن أبي القاسم جعفر الكبير الموسوي الخوانساري الأصفهاني ، ولد سنة (1226 هـ) ووفاته سنة (1313 هـ) .

أنظر : طبقات أعلام الشيعة / نقباء البشر / أغا بزرك : 1/ 211 .

([35]) وهو الشيخ عبدالرحيم المتوفى في العشر الثالث بعد الثلاثمائة وألف وله : نقد العلماء ، والروضة الخضرية مطبوعة / أنظر : الذريعة / الشيخ أغا برزك الطهراني : 24 / 276 ، معجم الفكر والأدب / الأميني : 50 .

([36]) الشيخ عباس ابن الشيخ علي كاشف الغطاء ولد سنة (1242هـ ) وتوفي سنة (1315 هـ ).

([37]) الشيخ عباس ابن الشيخ حسن كاشف الغطاء ولد سنة (1253هـ ) وتوفي سنة (1323 هـ ) .

([38]) الشيخ محمد ابن الشيخ علي كاشف الغطاء توفي سنة (1268 هـ ) .

([39]) الشيخ مهدي ابن الشيخ علي كاشف الغطاء توفي سنة (1289 هـ ) .

([40]) الشيخ حسن ابن الشيخ جعفر الكبير توفي سنة (1262هـ ) .

([41]) الشيخ علي ابن الشيخ الكبير توفي سنة (1253 هـ ).

([42]) الشيخ موسى ابن الشيخ الكبير توفي سنة ( 1241هـ ) .

([43]) الخطل : الكلام الفاسد الكثير .

([44]) الحبوة : احتبى بالثوب : اشتمل أو جمع بين ظهره وساقيه بعمامته ونحوه .

([45]) الإمام العلامة الفقيه السيد محمد المهدي ابن السيد مرتضى ابن السيد محمد الطباطبائي الحسني الملقب ببحر العلوم ، كان سيد علماء الأعلام ، ومولى فضلاء الإسلام ، علامة دهره وزمانه ، ووحيد عصره وأوانه ، ولد سنة (1115 هـ) وتوفي سنة (1212 هـ) وهو جد الأسرة الجليلة آل بحر العلوم في النجف الأشرف .

أنظر : الكنى والألقاب / عباس القمي : 2/ 59 .

([46]) المنسوب إلى شيخ الطائفة وعماد الشيعة ورافع أعلام الشريعة أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي وقد ملأت تصانيفه الأسماع ، ولد سنة (385 هـ) وتوفي سنة (460 هـ) .

أنظر : الكنى والألقاب / عباس القمي : 2/ 357 .

([47]) هو السيد الطباطبائي المعروف ببحر العلوم قدس سره .

([48]) النور : الزهر الأصفر .

([49]) وردت في المخطوطة (تلك) .

([50]) المراد بالسيد السيد الطباطبائي ، وبالشيخ الشيخ جعفر .

([51]) ناحية في بلاد جيلان يجلب منها الإبريسم اللاهجي ، منطقة إيرانية أطراف رشت . أنظر : معجم البلدان / ياقوت الحموي : 5/ 9 .

([52]) برئنا : هزلنا .

([53]) الهُبُعُ : الفصيل الذي ينتج في الصيف ، وسمي هبعاً لأنّه يهبع إذا مشى أي يَمُدَّ عُنُقَه ويتكاره لِيُدْرِكَ أُمَّهُ ، والأنثى هُبُعة . والجمع هُبعاتُ قال ابن السكيت : العرب تقول ( ماله هُبْعٌ ولاربعٌ ) فالرّبعُ ماتُنتجُ في أول الربيع ، والُهبَعُ ماتُنتجُ في الصيف . أنظر: لسان العرب / ابن منظور : 3/ 764 .

([54]) الثاغية : الغنم . 

([55]) الراغية : البعير .  

([56]) أنضاءُ وأنضاهُ : هَزَلَه ، والنضو : المهزول من الإبل .

([57]) الخلب : السحاب الذي لا مطر فيه .

([58]) الجهام : السحاب الذي لا ماء فيه .

([59]) وردت في المخطوطة ( فيوعد ) وهي تقال عند التهديد والإنذار بالشر .

([60]) الوَدْق : المطر .

([61]) استقفاهم : ضربهم على قفاهم .

([62]) سَحَّاءُ : دائمة الصب والهطل بالعطاء .

([63]) وطفاء : السحاب أو المطر إذا انهمر .

([64]) وردت في المخطوطة (مرجخة) والصحيح هي المرجحنة المائلة لثقلها .

([65]) العَزالي : جمع عزلاء وهو مصب الماء من الراوية والقِربةِ في أسفلها حيث يستفرغ ما فيها من الماء ، وفي الحديث : وأرْسَلَت السماء عَزاليها ، كثر مطرُها على المثل . أنظر : لسان العرب / ابن منظور : 2/ 768.

([66]) الزجل : الرمي بالشيء .

([67]) الودق : السحابة ذات مطرتين شديدتين .

([68]) نوأ : أثقل فسقط .

([69]) المور : الموج منه قوله تعالى (( يوم تمورُ السماء موراً)) أي تموج موجاً .

([70]) هيدب : جنس من مشي الخيل فيه جد .

([71]) دلح : مشى بحمله منقبض الخطو لثقله .

([72]) سورة الرعد : 17 .

([73]) المراحل : جمع مِرْحَل : الجمال القوية .

([74]) المقصود الجيوش الروسية .

([75]) بنو الأصفر : المقصود بهم : الروم .

([76]) الإِقلِيد : المفتاح .

([77]) كتاب معدن الشرف للسيد حسين البراقي .

([78]) أمامة ، والشطب : نوع من الآلات التي كانت تستخدم لشرب الدخان .

([79]) سورة البقرة / 273 .

([80]) سورة البقرة / 273 .

([81]) غياض : الأجَمَةُ ، ومجتمع الشجر في مغيض الماء .

([82]) القَتادُ : شجرٌ صُلْبٌ له شوكةٌ كالإبَرِِ .


 

 

 
امتیاز دهی
 
 

 
Guest (PortalGuest)

دبيرخانه كنفرانس‌هاي بين‌المللي
Powered By : Sigma ITID