الأحد, شوال 26, 1445  
 
العلم والعمل

 الخطب الأربعة

  



العلم والعمل

لا تنهض الأمة وتطير في أجواء المعالي إلاَّ بجناحي العلم والعمل، والعمل موكول إلى العلماء، وهم القادة والسادة، والتعليم فرض محتم عليهم، وما أخذ الله على الجهال أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا.

دعائم السعادة في الأمم ثلاث: تعليم العلماء، وعمل الأمة، وعدل الحكومة...فإذا قام كل واحد من هؤلاء بواجبه عمرت البلاد وسعدت العباد.

العلماء إذا قاموا بوظائفهم، وعلموا غيرهم، ورشدوا ونصحوا وأخلصوا لله في أعمالهم "طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مآبٍ"، فقد كتبوا في ديوان الله من الأمناء والسعداء الآمنين. وإن لم يعملوا أو لم يعلموا فتعساً لهم! وقد كتبوا في ديوان الله من الأشقياء الخائنين، فإن العلم وديعة الله عند العلماء للتعليم والعمل، لا للاستطالة والكبرياء، والجدل والمراء، والعجب والرياء.

والأمة إذا تعلمت وعملت وقبلت نصائح العلماء وإرشادهم، فقد أحرزت حظّها من السعادة، وانقادت لها أزمة الخير.

والحكومة إذا قامت بواجبها نحو الأمة، وأخلصت للمصلحة ونصحت للرعية، وعلمت حق العلم إن الحكومة أجراء للشعب، تأكل من كد يمينه وعرق جبينه، فالواجب عليها أن تخدم الشعب بأخلاص، ولا تتطاول عليه ولا تجحف به، ولا تزاحمه حتى في بلغة معاشه ولقمة قوته، وأن تقيم فيه موازين العدل والقسط، والواجب أن تخلص الدولة في خدمة الرعية، وتنقاد الرعية للدولة، وتخضع لقوانينها العادلة، وتنعقد ما بينهم عرى الصفاء والمجد، حتى يكونوا يداً واحدة وقلباً واحداً…هنالك ترقى البلاد، وتسعد العباد، ويعيش كل فرد من المجتمع عيشاً اجتماعياً هنياً..لا كالحال الذي نحن فيه منذ اليوم، حيث أصبح كل فرد منّا يعيش عيشاً فردياً. والإنسان مدني بالطبع، ويستحيل أن يعيش إنسان بأنفراده، فإذا أنفرد عن المجتمع وانقطع، فليس هو بإنسان، بل وحش من الوحوش!.

نعم! نحن في صورة الظاهر مجتمعون، ولكن ما أشد التباين ما بين الإنسان وأخيه، وبين المرء وقريبه، وبين الشخص وجاره..وهكذا لا تجد شخصين متفقين على جامعة صحيحة ورأي واحد. فنحن حقيقة كما قال ــ جلَّ شأنه ــ : "تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى". ولا تسعد أمة مادامت بهذا الحال أبداً.

التشتت، وأختلاف الآراء والأهواء، وفقدان الزعيم والقائد المخلص الذي يجمع الأمة وتجتمع إليه.. هو السبب الوحيد في هلاك الأمة.

إذا ما أراد الله هلاك أمة

 

رماها بتشتيت الهوى والتخاذل

 

ما وجدنا أمة صعدت إلى أوج المجد فسعدت وهي متفرقة متخاذلة. ما كان ذلك أبداً ولا يكون. كما أنه لا يستقيم أمر أمة بغير زعيم قائد يقودها إلى مناهج الهدى وسبل الخير. والأمم إما أن يكوّنها الزعيم، أو تكوّن الزعيم لها. والضرورة لها على كل حال. ومن حكم العرب ومحاسنها القديمة العالية قول الأفوه:

لا تصلح الناس فوضى لا سراة لهم

 

ولا سراة إذا جهالهم سادوا

 

عليكم أيها الناس بالركون إلى العلماء العاملين والأخذ منهم، فإنهم بمعونة الحق لا يقودونكم إلاَّ إلى الهدى، ولا يحملونكم إلاَّ على جناح النجاح. ولعل ما حلَّ بكم من النكبات والرزايا من بعض أسباب التجافي عنهم والتباعد منهم، وإلاَّ لعرفوكم إن هذا التخاذل يؤدي إلى سوء العواقب، وإن لا ثمرة بهذه الخطة ولا سلامة في هذا الطريق...

إن كنتم تريدون سعادة وتاريخاً مجيداً كما كان لأسلافكم فلا سبيل إلى ذلك إلاَّ بالأقتداء بهم، والسعي وراء العمل الجدي والتخلق بالأخلاق الكريمة.

أيها الناس!

لا ينال الشرف والمجد وعز الاستقلال الصحيح بالأماني والأباطيل. أتحسبون إن الأجانب بلغوا ما بلغوا بمثل هذه الأحوال التي نحن عليها؟ قد أبى الله ــ سبحانه ــ أن يجري الأمور إلاَّ بأسبابها، وأن تؤتى البيوت إلاَّ من أبوابها. وجعل الجد والعمل هو ملاك الفوز والنجاح "وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى".

عودوا ــ أيها المسلمون ــ إلى ما كانت عليه أسلافكم..من الأخلاق الكريمة، والعفة والنزاهة، والصدق في القول والفعل، والسعي وراء العمل النافع، ومعرفة الوقت الثمين.

نحن نقتل الوقت الذي هو عبارة عن عمرنا العزيز ضياعاً في الأباطيل، نصرفه في كل رذيلة ويمكننا أن نكسب به كل شرف وفضيلة.

سوادنا الأعظم يصرف عامة وقته في المقاهي والملاهي والسينمات والمواخير.

مسارح اللهو بالناس معمورة مغمورة والمساجد ونوادي العلم مهجورة..تجد تلك مكتظة بالخلائق والمساجد في مواقيت الصلاة خالية خاوية. أليس هذا مما يقرح قلب المؤمن الغيور؟ أو يوقد في فؤاد المسلم شعلة الأسى والأسف؟.

العلم العلم أيها الناس! فإن العلم أول مبادئ السعادة. ففي الحديث: (من أراد الدنيا فعليه بالعلم، ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم، ومن أراد الدنيا والآخر فعليه بالعلم).

ثم العمل العمل! فإن العلم بلا عمل كالسراج في يد الأعمى، والعالم بغير عمل كالجاهل الحائر، بل في الحديث: (إن الحجة عليه أعظم، والحسرة له ألزم، وهو عند الله ألوم).

ثم الاخلاص الاخلاص! فإن الأعمال كلها بغير إخلاص هباء بل حسرة وندامة. أخلصوا لله ــ أيها الناس ــ في أعمالكم تنالوا سعادة الدنيا والآخرة. صبّروا أنفسكم عن هذه الشهوات الفانية من غير طرقها المشروعة، فإنما هي أيام قلائل وظل زائل (ألا كل شيء ما خلا الله باطل).

أين الذين طالت أعمارهم فعاشوا الآلاف من السنين، عمّروا بها الدور، وشيدوا القصور، وسخّروا العباد، وفتحوا الأمصار، وأحتلبوا درة أفاويق الدنيا وأخلاف نعيمها، ثم أصبحوا هباء منثوراً كأن لم يكونوا شيئاً مذكوراً.

ثم أضحوا كأنهم ورق جفَّ

 

فألوت به الصبا والدبور

 

فما لنا نحرص على الدنيا هذا الحرص المجهد ولا نحرص على هذا العمر القصير فلا نصرفه بالأباطيل والأعمال التافهة؟.

إن الله ــ سبحانه وتعالى ــ رأفة بعباده وإتمام للحجة عليهم يبتعث في البرهة بعد البرهة رجالاً مخلصين، وأطباء ماهرين عارفين بأمراض المجتمع وعلله وأدوائه، ينبهون ويرشدون، ويبثون الحكم والنصائح التي فيها شفاء للناس، فإن أخذوا بها فازوا، وإن تركوها هلكوا. ولعل الله ــ جلَّ شأنه ــ دفعني في مواقفي المشهودة إلى ألقاء هذه الكلمات وأمثالها لأتمام الحجة، وأرجوا أن تسعدوا بها، وأن تكون نعمة لا نقمة عليكم.

الله الله في بلادكم! الله الله في أعراضكم! الله الله في أولادكم!..لا تنهمكوا بهذه المدنية الزائفة، ولا تنغمروا بهذا التيار الجارف من هذه السفاسف والزخارف التي ما جاءوا بها إليكم إلاَّ ليهلكوكم ويفسدوا أخلاقكم ويمتصوا دم حياتكم.

 

الشباب

أيها الشباب الأنجاب..! أيها الأولاد الأمجاد!

أنتم رجال الغد وإن كنتم أبناء اليوم..عليكم اليوم العمل، وغداً لكم المستقبل.

أيها الشبيبة والأولاد!..بل أيها العيون والأكباد!..

أنتم للبلاد وهي لكم.. أنهضوا نهضة شريفة تعيدون بها مجد أسلافكم. تعاشروا بعضكم مع بعض بروح الحنان والرحمة والإخاء والمودة، وصكّوا جباه المستعمرين الذين يريدون استعبادكم بصخرة الإنكار والشدة والقوة. كونوا كأوائلكم "أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ".

الشباب المثقف هو السلاح الجاهز للأمة وقوتها النارية وعدتها في الشدائد، ولكن يجب أن تسيرها حنكة الشيوخ في تجاربهم، وتنتظم في عقول الكهول وأحلامهم، كي ترتسم فيها فضيلة الشجاعة والاعتدال، وتصونها عن الوقوع في طرفي الإفراط والتفريط من رذيلتي الجبن والتهور.

أهم ما يجب ويلزم على الشباب أن يعتصم بالعروة الوثقى من النزاهة والعفة، ولا يفسح لنفسه مجالاً للركض وراء الشهوات فتستدرجه إلى مداحض الفسوق وبؤرة المفاسد، فيخسر شرفه وعزه، بل يخسر نفسه وتخسره الأمة.

 

مكائد المستعمرين

وكان من أحد مكائد المستعمرين إذاعة الملاهي وإباحة الخمور ومعدات الفسق والفجور في بلادنا لتلك الغاية، وقد ظفروا بما دبروا، وبلغوا ما أرادوا من استعباد المسلمين.

أطمح بطرفك ــ أيها المسلم ــ حيث شئت، من شرق الأرض وغربها، فهل تجد مملكة اسلامية أو أمة من المسلمين لم تقبض على نياط أحشائها براثن الاستعمار، ولم تنشب في أعماق فؤادها مخالب الاستعباد، ولم يستول على كل مقدراتها الأجانب؟..فيكونون هم الآمرون والحاكمون، بل الملوك والمالكون.. والمسلمون لهم خولاً وعبيداً. أفلا يحق لنا البكاء على هذه الحال، لولا إن البكاء ((تكرم عنه عيون الرجال))؟!… ولكن أين الرجال؟ وأين الأبطال؟ وأين الشمم والشرف؟..ذهب كل ذلك من المسلمين (ذهاب أمس الدابر). فعلى الإسلام والمسلمين السلام!.

نحن الذين كنّا نملك الدنيا أصبحنا مملوكين ولا نملك شيئاً من الدنيا. أفليس هذا من أسوأ العار؟.

هل تجدون أمة عربية في أقطار الأرض مستقلة بحقيقة الاستقلال وليس للأجانب عليها سلطان، حتى البدو والقبائل الرحالة في البوادي وإعراب القفار والصحاري.. لماذا كل هذا؟ أتحسبون إن ذلك لقصور في عقولنا، أو نقص في جوارحنا، أو خلل في شيء من حواسنا؟..كلاّ وعزة الله! لا نقص فينا حسب المواهب الفطرية، ولا زيادة لهم علينا، ولكنهم زادوا علينا في الجد والنشاط، والاستهانة بهذه الحياة في سبيل الشرف، وطرح الفوارق الشخصية..فأصبحت كل أمة منهم كشخص واحد. بهذا

تفوقوا علينا، وإلاَّ فنحن أدق فهماً وأرق طبعاً، وأسمى خَلقاً وخُلقاً، ومنا أخذوا، وعلينا تظاهروا وأستظهروا.

أفليس بعد هذا حرام عليكم أن يتعادى أو يعتدي مسلم على مسلم، أو يتنابذ أخ مع أخيه؟! أو ليس من الحتم علينا إن ننتظم تحت راية واحدة، لا فرق بين عربي ولا عجمي ولا هندي ولا تركي، ونكون أخواناً كما أراد الله منا أن نكون؟.

 

واجبنا

إن هذه صفة من الصدف، ونادرة من نوادر الدهر، إن رمت بي الأقدار والأسفار إلى بلادكم، وتبوأت مقامي هذا منكم، أرشدكم إلى المناهج السوية، وألقي عليكم هذه النصائح بلهجة قوية، وأسلوب بسيط، خال من التكلف والصناعة..حقاً إنها لفرصة ثمينة، عسى أن تغتنموها ولا تضيعوها، ولعل لها الأثر النافع، والثمر اليانع. فكم خطب الخطباء، وكم كتب الكتاب وأجتهد المصلحون، نعم المعري يقول:

كم وعظ الواعظون منا

 

وقام في الناس أنبياء

 

فأنصرفوا والعناء باقٍ

 

ولم يزل داؤك العياء

 

ولكن الله ــ سبحانه ــ يقول: " وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ". ونأمل من لطفه ــ تعالى ــ أن لا يضيع مساعينا فيكم، فإنا لا نتكلم إلاَّ عن شفقة وإخلاص، وليس لنا أدنى منفعة تعود إلى شخصنا. نعم! فائدتنا العظمى، وأقصى أمانينا، ومنتهى رغباتنا: أن نراكم أمة حية، متحدين جميعاً، وعاملين على إعادة مجدكم السابق. فإن أتفقتم وفقتم، وإن أتحدتم سعدتم. وإلاَّ فعسى الله أن يلطف بكم ويأخذ بأيديكم إلى مهابط الرحمة ومساقط العناية..وإن كنّا على رصين علم من أنه ــ تعالى ــ لا يلطف بعبده حتى يجد من العبد توجهاً وإقداماً، وعزماً وهمة. لا يعطف الرب على عبادة حتى يتعاطف بعضهم على بعض ويرحم بعضهم بعضاً.

كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: (والذي نفس محمد بيده! إنكم لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تتحابوا، ولن تتحابوا حتى تجتمعوا ويعطف بعضكم على بعض).

وبمثل هذه التعاليم، وبمثل هذه الفضائل، بلغ أصحابه ما بلغوا، وتغلبوا على أقوى مملكتين في ذلك العصر ــ مملكة الفرس والروم ــ في أقل من عقدين، مع قلة العدة والعدد، وأكثرهم إعراب أميون، لا حضارة عندهم ولا صناعة، ولا علوم ولا فنون، ولا أسلحة منظمة ولا قوة..ولكن كانت قوة الإيمان واليقين بالله والثقة به أعظم سلاح وأكرم جناح يتسابقون إلى رضوان الله في الآخرة وشرف العز والكرامة في الدنيا.

فمن تدبّر في أحوال تلك الفئة، وكيف كانوا وكيف تقدموا، عرف جلياً ما للأخلاص والصدق، وما للجد وأحتقار هذه الحياة الدنيا، من عظيم التأثير والنجاح الخطير، وإن المدار في الغلبة ليس على كثرة العدد وتوفير العدة وقوة السلاح، وإنما المدار على صحة الإيمان وقوة العزائم وصدق النية "رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ" فبلغهم الله ما تسامت نفوسهم إليه.

هذه عبر باهرة..ولكن أين المعتبرون؟.

نقرأ الكتب، وتمر بنا الحوادث، ونحن في غمرة ساهون.. "بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ". تمر بنا الحوادث، وتسنح الفرص، ولا نأخذ الفائدة منها. وتضييع الفرصة غصة. يمر الكلام على آذاننا ولا يمس ولا طرفاً من قلوبنا، يمر علينا وهو منطلق كالهواء، فلا يؤثر في أحوالنا وأعمالنا شيئاً. استولى الخور والفشل والضعف على كل مشاعرنا وجوارحنا، فجفّت العزائم وماتت الهمم.

الغيرة والهمة العالية أساس كل خير ومفتاح كل نجاح، فإذا أستنهضتم همتكم وحفزتم غيرتكم بلغتم ما تريدون، ولكن لا تجتمع الغيرة والإنهماك في الشهوة أبداً. أحذروا هذه المدنية اللماعة الخدّاعة الزائفة الجائفة، التي ما جاءوا بها إليكم إلاَّ لسلب شرفكم وغيرتكم فضلاً عن سلب أموالكم. أتحسبون إن السينمات في بلادهم هي على هذا النحو الذي في بلادكم؟..كلا! فإنها في بلادهم منظمة على أصول علمية وغايات أخلاقية ومشاهدات فنية…على العكس من التي عندكم المفسدة لأخلاق فتيانكم وفتياتكم. أين العقول الصافية والقرائح الوقّادة التي تدرك من كل شيء مغزاه ولا ينخدع بالظواهر والمظاهر؟.

أيها الناس!

انصروا الله ينصركم، وأحفظوه يحفظكم. أغضبوا لحرمات الله، وغاروا لشرائع الله.

الله أنزل هذه الشرائع والأحكام وشرع الحلال والحرام، لا ليتعاظم في ملكه ويتوقر في سلطانه، ولا ليجلب إليه نفعاً أو يدفع عنه ضراء وإنما الغرض من تلك الأحكام والنواميس صلاح أبدانكم وتربية أجسادكم وتثقيف أرواحكم وحفظ جامعتكم وتنظيم أمور معاشكم ومعادكم، كي تكونوا أمة قوية حية، تستحق البقاء والبركة والنعماء، وتسلكوا سبيل الأمم الراقية التي كانت قبلكم.. "يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ".

شرع الله الشرائع، وأنزل الكتب وبعث الأنبياء.. كل ذلك رحمة وعناية بالخليقة، ولأنقاذهم من الظلمات إلى النور وسوقهم إلى السعادة الأبدية. وهو ــ جلَّ شأنه ــ لا تنفعه طاعة من أطاعه، ولا تضره معصية من عصاه..ولكن ــ مع ذلك ــ فإن تلك الأحكام والحدود والأوامر والنواهي هي محارم الله وحرماته. فمن شرب خمراً، أو أكل الربا، أو لعب قماراً، فقد هتك حرمة الله، وبارز الله بالمحاربة والمخالفة، وكان الله خصمه. إذا شتم أحد الناس أباك وعشيرتك تغضب وتغار لأنه هتك حرمتك ومسَّ شرفك، ولكن إذا هتكت حرمات الله بشرب الخمور وإرتكاب الفجور لا تغضب ولا تتأثر. وما ذاك إلاَّ من أجل أنه لا علاقة لك مع الله ــ جلَّ شأنه ــ فلا تغضب لغضبه ولا تغار على حرماته ونواميسه.

ما أنزل الله كتاباً أكرم وأعظم من القرآن، ولا شرع شريعة أجمع وأنفع من شريعة الإسلام، ولا بعث نبياً أفضل وأكمل من محمد (صلى الله عليه وآله)...محمد سيد الأنبياء، وقرآنه سيد الكتب، وشريعته أفضل الشرائع..ومع ذلك فقد خصّكم الله بها دون سائر الأمم. أفليس من الأسف الممضِ أن تضيعوها وتهملوها؟.

كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: (أنا حظكم من الأنبياء وأنتم حظي من الأمم). أما حظنا من الأنبياء فنعم الحظ ونعم النصيب، ولكن أنظر كيف حظه منّا؟ أنبعث له الخجل يوم القيامة ونطأطأ رأسه بين الأنبياء أم نرفع رأسه؟.

فأي حظ له نحن!..لو كنّا نرتسم سيرة نبينا وصحابته ونأخذ من الألف واحداً لسعدنا. ولكنا عكسنا الحقيقة ولبسنا الإسلام لبس الفرو مقلوباً. ولو نظرنا في أحوالنا لم نجد عندنا من حقيقة الإسلام أثراً. نعم! عندنا من الإسلام قشور خالية من اللب لا تصلح إلاَّ لأحراقها في النار. إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى أسراركم. ولو عاد إلينا آباؤنا المسلمون الأولون وعاشرونا لأنكرونا وما عرفوا من إسلامنا شيئاً.

هذا آخر كلامي فيكم وخطابي لكم، وأستودعكم الله السميع العليم، وأسأله أن يأخذ بأيديكم إلى حيث المجد والرفعة وسعادة الدنيا والآخرة، وأرجوا أن لا تكون نصائحي هذه كصرخة في وادٍ ونفخة في رماد، لأنها ــ كما يشهد الله ــ خرجت من قلب فلا تذهب هباء، والله يتولاكم بعنايته والسلام عليكم ورحمة الله.

 

الخطبة الثالثة

من خطاب سماحته يوم 16 ذي القعدة الحرام 1352هـ في (جامع الحلة الكبير) وكانت أحتشدت فيه سيول الجماهير حتى غصَّ الجامع بالمستمعين، وتسوروا على السطوح وتعلقوا بشرفات الجامع، وكان يوماً مشهوداً. أرتجل سماحته، كعادته(رحمه الله) في جميع خطبه، مستهلاً الكلام:

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى: "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ".

أشتملت هذه الآية الكريمة على أسرار عظيمة، ومقاصد جليلة، ونكات دقيقة، وحكمة عالية..فأشارت إلى كيفية سعادة الإنسان ورقي المجموعة البشرية، وترتيب الأحوال والمدارج لتنظيم أمور سعادتهم ونظم معاشهم، وتعديل سلوكهم والمحافظة على كيانهم، ودرء الشر عنهم وصيانتهم من الوقوع في المفاسد والمهالك، فقال ــ عزَّ من قائل ــ : "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ …".

نعم! أرسلهم بالمعجزات الباهرة والدلائل النيرة والبراهين الساطعة على ثبوت رسالتهم، مؤيدين بالبينات الشاهدة على نبوتهم الناطقة بحجتهم..هذا كله حتى يتم دور النبوة، ويبلغ الأمر إلى بليغ الحجة، فإذا قامت على ذلك المعجزة وتمت الحجة، وأعتقدت الناس بصحة رسالة الرسول ونبوة النبي، جاء حينئذٍ الدور الثاني، وهو وقت اداء النبي وظيفته وقيامه بواجبه، وتنفيذه لمهمته، المهمة المبعوث لها والناهض بثقل ابلاغها وتنفيذها، إلاَّ وهي علاج البشر، وإنقاذه من مخالب المعاطب، وإصلاح فاسده، وتقويم معوجه، وبيان أنه بماذا يكون، وبأي شيء تتحقق تلك التأدية ويتنفذ ذلك الغرض.

نعم! لا يتنفذ ذلك الغرض، ولا تحصل الغاية المتوخاة، إلاَّ بوضع قوانين إلهية، ونواميس ربوبية، يضمها كتاب جامع يتكفل بالنور الساطع والدواء الناجع..وذلك الكتاب هو (القرآن) المبين، والحبل المتين والماء المعين، فقال ــ عز من قائل ــ "وَأَنزَلَنا مَعَهُمْ الْكِتَابَ".

الكتاب هو ذلك القانون المشتمل على الداء والدواء، والمرض والشفاء، وعلى الوسائل والغايات، والأسباب والنتائج...الكتاب هو القانون الالهي المتكفل لسعادة البشر، المشتمل على التعاليم الموجبة لصلاحهم، ونظم معاشهم، وحفظ حدودهم، وتوازن حقوقهم...الكتاب هو القانون الباقي للإنسان ما بقى الإنسان.

طيب!..أنزلنا معهم الكتاب؛ أي القانون المتضمن للميزان الذي توزن به الحقوق والمعاملات بين الناس بعضهم مع بعض، بل المعاملات بين الخالق والمخلوق وبين الخلائق أنفسهم، وبه تتشخص وتتعين الحقوق الشخصية، كحق الوالد على ولده وحق الولد على أبيه، والزوج على زوجته والزوجة عليه، والأخ على أخيه…وهكذا مما يستلزمه نظام البشر وحفظ هيئتهم الاجتماعية. وتختلف تلك الحقوق بأختلاف الصفات والعلاقات، فوضع ذلك القانون الإلهي ميزاناً يعين حقوق هذا على هذا وحقوق الكل على الكل. هذا هو عين الميزان الذي توزن به الحقائق، وتقاس به الطرائق، وتعرف به الحدود والفوارق، ويقوم به القسط والعدل بين المخلوق والخالق وبين الخلائق.

وبعد أن تمَّ وضع هذا القانون وانتهى دور التشريع جاء (الدور الثالث) وهو دور التعلم والتعليم، دور العمل والتطبيق، فقال ــ عزَّ شأنه ــ : "لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ" يعني: ليقوموا بالعدل والتكافؤ، ويحفظوا بينهم التوازن، ولا يستأثر بعضهم على بعض فيحدث من الاستئثار العثار، ولا يستبدوا فينجر الاستبداد إلى الفساد. فإذا توازنت الحقوق، وتوزعت الفوائد، وتعممت المنافع، أنتظم الأمر، وجرت مياه الصفاء، وأزهرت منابت الراحة والهناء، ولم يكن ثمة شغب ولا لغب. نعم، "لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ" والعدل بعد تعيين الحقوق وفرضها.

"وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ"..هذا هو (الدور الرابع) من الادوار التي أشتملت عليها هذه الآية الكريمة الربانية والجوهرة الإلهية من الأدوار المتدرجة والأطوار المترتب بعضها على بعض. نعم! هذا هو الدور الرابع، دور التنفيذ، بعد دوري التشريع والتطبيق. العلم وحده بلا عمل ولا تطبيق لا ينفع. التشريع بلا إجراء ولا تنفيذ لغو لا فائدة منه. فكأنه ــ تعالى شأنه ــ يقول: أيها الأنبياء؛ أيها المرسلون؛ أيها المصلحون؛ علموا البشر، ثقفوا المهج، قوموا المعوج، هذّبوا النفوس، أنشروا بين سائر الطبقات القوانين والتعاليم، عرفوهم حقوقهم، أوقفوهم عند حدودهم، فأن نجع ونفع وسمعوا وأطاعوا فيها وأنعم، وقد فازوا وسعدوا، وإن لم ينفع الوعظ والإرشاد باللسان ولم يقتنعوا بالحجة والبرهان، فلابد عند ذاك من (الجماغ)، ولابد من الحديد ذي البأس الشديد، لابد من السيف. (الجماغ) هو القوة التنفيذية الوحيدة لعلاج البشر وتمشية العدل بينهم، وكم في الحديد ذي البأس منافع للناس كما تحسون وترون. ويزع الله بالسلطان مالا يزع بالقرآن (حديث شريف). القرآن لذوي الألباب والعقول، والسيف والسلطان للعنيد الجهول.

ثم عقب ــ جلَّ شأنه ــ تلك الفقرات النيرات بالبينات العالية، حيث قال ــ وما أعلاها من كلمات ــ قال: "وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ".

وبيان ذلك: أنه ــ تعالى ــ يقول: أيها الناس! إنا أرسلنا إليكم الرسل بالمعجزات البينات أولاً، وشرعت لكم القوانين النافعة وأنزلت بها الكتاب ثانياً، وفرضت عليكم العمل والتطبيق ثالثاً، وجعلت القوة التنفيذية بعد التشريع رابعاً…والغرض من كل ذلك صلاحكم، ولكي أنظر من ينصر الله حتى أنصره، ومن يعز ديني وشرائعي حتى أعزه.

أيها الناس! هذه تعاليمي وشرائعي وحكمي وأحكامي، فمن ينصرني فيها فأنا له ناصر، ومن لا ينصر الله فيها فإن الله قوي عزيز...قوي على الانتقام، عزيز لا يضام.

هذا نظم الآية الشريفة على الإجمال، ولكن السر في ذلك كله ــ أي سر الحاجة إلى ارسال الرسل وإنزال الكتب ووضع الميزان بالقسط ووضع الحديد ذو البأس الشديد هو إنَّ الله ــ جلَّ شأنه ــ بسابق حكمته لما أوجد الإنسان في بدء فطرته جاهلاً لا يعلم شيئاً ــ وأي بلاء أبلى من الجهل! ــ "والله اخرجكم من بطون امهاتكم لا تعلمون شيئا"..نعم! وكما أوجد مفطوراً على الجهل كذلك أوجده محتاجاً فقيراً فاقداً لكل ما يحتاج إليه، حتى إن البهائم والحشرات، بل وكل مخلوق في بدء تكوينه وأول ظهوره، قد يكون خيراً من الإنسان..يولد عارياً من كل شيء، من ساتر جسده، وماسك رمقه…

ثلاث غرائز وجدت مع الإنسان هي أصل كل بلاء عليه وخسران: الجهل، والعجز، والفقر. ولكن قد تداركته العناية وشملته الرحمة، فجعلت لكل واحد من تلك المهلكات الثلاث أسباباً لزوالها. وجعل الإنسان على مقربة أستعداد وأوفى عدة لعلاجها.

جعله مستعداً لعلاج الجهل بالعلم، ورفع العجز بالاقتدار، وإزاحة الفقر بالغنى..ولكن من طرق خاصة وأساليب معينة، وارسال الرسل، وإنزال الكتب، ونشر التعليم، إنما هي لتعيين تلك الأساليب وتشخيص تلك الوسائل الموصلة إلى الغاية التي هي النجاة من تلك المهالك والفوز بالسعادة الأبدية.

أترون أن الله ــ تعالى شأنه ــ أوجد البشر رحمة أم نقمة؟..كلا! ثم كلا!…إنما أوجده للرحمة والهناء لا للتعاسة والشقاء. فلما أوجدهم للعناية والرحمة فلابد أن يهيء لهم الأسباب إليها، وحيث كانت تلك الخلال الثلاث هنَّ أصول الرذائل وأمهات المفاسد والشرور، وأول فساد نشأ منها في دور الإنسان الأول هو قتل أحد الأخوين أخاه بدافع الغلبة والاستئثار، ثم أتصلت بعد ذلك المصائب وتوالت النوائب، حتى أتسع نطاقها وأمتد رواقها، ولم تزل تتنوع وتتشكل بأشكال مختلفة..فمن غارات مشبوبة، وأموال منهوبة، ودماء مسفوكة وأعراض مهتوكة، وأصنام مقصودة، وأحجار معبودة..وهلم جرا…فرايج شرور وولايج أفك وزور.

نعم! والعناية الأزلية والألطاف الربوبية لم تزل معنية بالبشر، تنشر وتثقف، وتعلم وتهدي...إرسال رسل، بعث أنبياء، إنزال كتب، وضع موازين، جعل قوانين، قصاص وديات، حدود وعقوبات...ولكن هل نفع كل ذلك أو نجع بعضه؟..كلا!.

أقام نوح بين ظهراني قومه ألف سنة إلاَّ خمسين عاماً يدعوهم إلى الهدى ويرشدهم إلى الطاعة، فماذا كانت النتيجة؟ وإلى أين بلغ الحال بعد دعوة شيخ المرسلين العريضة الطويلة؟..نعم! كانت طوفاناً مريعاً وهلاكاً فجيعاً، وإبادة لكل ذلك الجيل عدا قليل.

ثم تسلسلت الأنبياء على ذلك والناس لا تزداد إلاَّ تعاسة وشرا، والعناية لم تزل تساوقهم وترافقهم، ولا تريد بهم إلاَّ خيراً.

فلم يتهيأ للبشرية من يعطيها دواءها الحاسم ويعرف علاجها الشافي، ويسبر الغور ويبلغ المدى ويصيب الهدف ويطبق المفصل حتى جاء المثل الأعلى والمظهر الأتم الأجلى، سيد الرسل ومنقذ البشرية، النبي الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله)، فعرف إن داء البشرية الوحيد ومنشأ كل الويلات والمفاسد هو حب الغلبة والاستئثار، حب الأثرة يدفع بالنفس إلى أن تطمح للحصول على كل أسباب التفوق، فيطغى بها شرر الشر والنهمة، فتركن إلى القوميات وتتعالى بالعنصريات.

الفارسي يقول: أنا من سلالة الملوك الأكاسرة. والرومي يقول: أنا من اولئك البطارقة والقياصرة. والعربي يشمخ بقومه أهل الكرم والشجاعة والفراسة والبراعة...وهكذا كلٌ يريد أن يتفوق على أخيه ويستلب الحق من ذويه.

نعم! هذه هي بلية البشر الصماء وداهية المصائب الدهماء..حب الغلبة يدعو أحدهم أن يسلب الآخر ماله ليكون أغنى منه، ويبتزه أرضه ليكون أوسع ملكاً منه، وينتزع نعيمه ورياشه ليكون أهنأ عيشاً منه..وهكذا يسلبه كل شيء حتى يجعله بلا شيء ويكون له كل شيء.

نعم! جاء محمد (صلى الله عليه وآله) فمحا كل هذه العنعنات، وطمس عيون العنصريات، وسحق جماجم القوميات، فقال ــ وقوله الحق ــ : (كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فخر لعربي على عجمي). فضيلة الأسلاف لا تنفع الأخلاف حتى يكونوا أمثالهم. الكرم هو التقوى، والفخر بشرف الخلال لا بشرف العم والخال.

علاج أدواء البشرية وأمراضها أن ينضوي الجميع تحت راية واحدة وجامعة فذة، إلاَّ وهي جامعة الانتساب إلى الله وراية أن لا إله إلاَّ الله، التي تجمع الهندي والتركي والعربي والرومي والفارسي، وتجعلهم أخواناً وعلى الخير أعواناً.

بثَّ ــ سلام الله عليه ــ روح الوحدة، وحمل مشعل التوحيد، ونشر راية الأخوة بين البشر..وأجرها أولاً عملياً بين أصحابه، حتى بلغ الأمر بهم أن ملكوا بعده شرق الأرض وغربها بتلك الروح المباركة، التي جعلتهم في الأرض ملائكة يضحون كل شيء للإسلام ولا يفتخرون إلاَّ بالإسلام. أهاب ذلك المصلح الأعظم صارخاً: (قولوا لا إله إلاَّ الله وأسلموا تسلموا وتحصلوا على كل شيء).

ما أدرك أحد من الانبياء ما أدركه من هذا السر العميق والمعنى الدقيق والعلاج الشافي.

جعل أصول التعاليم وقواعد التكاليف الأولية ثلاثة..ويالله ما أعظمها وما أهمها!.

أولها (العلم): وهو أول تكليف كلّف به البشر، وأول ما أوجبه الله عليهم ليرفع عنهم رذيلة الجهل المتوغلة فيهم "يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ". ولم يزل النبي (صلى الله عليه وآله) يحث على طلب العلم حثاً شديداً حتى قال: (إن أردتم الدنيا فعليكم بالعلم، وإن أردتم الآخرة فعليكم بالعلم، وإن اردتم الدنيا والآخرة فعليكم بالعلم). هذه التعاليم المقدّسة وهذه الروح العالية لا تجدهما في غير شريعة الإسلام وكتابه المقدّس. أسبر (التوراة) بأجمعها و(الأناجيل) بتمامها، هل تجد فيها شيئاً من هذه النفحات القدسية والرشحات الربوبية؟.

نعم! أول تكليف على الإنسان أن يكون عالماً ولا يبقى جاهلاً. ثانيها أن يعمل بعلمه. وإلاَّ فما الفائدة بعلمه؟…العلم بلا عمل ليس كما يقال كـ(الشجر بلا ثمر) بل كالشجر الذي يثمر ثمراً مراً، بلاء ووبال!.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (العامل بغير علمه مثل الجاهل المتحيّر المستغرق في جهله، بل الحجة عليه ألزم، والبلية عليه أعظم، وهو عند الله ألوم).

وقال (عليه السلام) أيضاً ــ وهي من حكمه الرائعة ــ : (يا جابر! قوام الدنيا بأربعة: عالم يستعمل علمه، وجاهل لا يستنكف أن يتعلم، وغني لا يبخل بماله، وفقير لا يبيع آخرته بدنياه..فإذا لم يستعمل العالم علمه أستنكف الجاهل أن يتعلم، وإذا استنكف الجاهل أن يتعلم بخل الغني بماله، وإذا بخل الغني بماله باع الفقير آخرته بدنياه، ففسد العالم). يعني إن فساد العالم وعدم استعماله لعلمه هو السبب الأخير لفساد العالم، بل السبب الوحيد.

ثالثها (أن يعلم غيره)؛ وإلاَّ لبطلت فائدة التكاليف ولم يحصل التهذيب والتثقيف..(كلكم راعٍ وكلكم مسؤول). ولو لم يجب تعليم الغير لبقيت الناس خاملة جاهلة. فكل انسان يجب عليه أن يعلم ويعمل ويعلّم.

نعم! هذه هي أصول التكاليف ومهماتها وأمهاتها. ومما لا شك فيه إن حظ كل واحدة منها التقصير والإهمال منّا، كما هو حالنا في سائر المهمات وضروريات السعادة والحياة.

لا طلب علم صحيح، ولا عمل بما نعلم، ولا تعليم للغير كما يجب!!.

نحن نعلم ولكن نعبد الهوى ونعمل بما تبعثنا إليه الشهوات. كلنا عالمون وكلنا ضالون ومضلون.." أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ"، فنحن ممن أضلنا الله على علم منّا.

نحن عالمون وفي عين الوقت ضالون كأننا جاهلون. أتريد شاهداً على ذلك؟.

هل بقى خفاءاً وستاراً إن الخمر من أشد الكبائر أثراً وأعظمها ضرراً وأكثرها بلاء وشرا..نقص في الدين، نقص في العقل، نقص في الصحة، نقص في المال، نقص في النسل، نقص في كل شيء…ولم تزل طائفة من الناس غير قليلة تشربه في الجاهلية والإسلام حتى في عصر النبوة. ولكن الفرق أنه من ذلك العصر المتألق إلى عدة عصور كان يشرب سراً وفي الخفاء، رعاية للإسلام وصيانة للإحكام، أما في هذا العصر ــ ويا للأسف! ــ فقد صار يباع في الأسواق جهاراً وعلناً..يباع في عواصم الإسلام كبغداد والشام ومصر وأمثالها، ويمر عليه المسلمون بلا إزراء ولا انكار، ويشربون جهاراً محاربة لله ورسوله ومعاكسة صراحاً لكتابه وقرآنه.

زجاجة الخمر الموضوعة في حوانيت بلاد المسلمين نقول للمسلمين: (أنا جئتكم من أوربا على رغم آنافكم، لأفقأ عيونكم، وأنشر عيوبكم، وأنقص أموالكم، وأسلبكم عقولكم، وأحارب قرآنكم!..القرآن يقول: (الخمر أثم فأجتنبوه) وأنا أقول: (الخمر غنم فأرتكبوه). النبي يقول: (أيها الناس! شارب الخمر عابد وثن، إذا مرض لا تعودوه، وإن مات لا تشيعوه، وإن تشفع إليكم لا تشفعوه، وإن خطب إليكم لا تزوجوه). وأنا أقول: (شارب الخمر عظّموه وأكرموه)...وعلى هذا الحال والمنوال سائر الكبائر من الربا والقمار والفواحش وغيرها.

أيها الناس!

إن من حق المسلم على المسلم اداء النصيحة له، وأنتم أعزة لدينا كرام علينا..الله الله في أنفسكم! الله الله في أولادكم! الله الله في أموالكم وأعراضكم! الله الله في بلادكم وأوطانكم!...إن هذا السير الذي تسيرون عليه سير على غير الطريق، وهو لا محالة سوف يؤدي بكم إلى الهلاك الأبدي والعذاب السرمدي.

نحن حتى لو قطعنا النظر عن الآخرة والحساب والجزاء، وصرنا ــ معاذ الله ــ قوماً طبيعين، فإن حياتنا المادية لا تساعدنا على ارتكاب هذه الأعمال..أصبح حالنا على الحقيقة حال الجاهلية الأولى، سوى إننا نقول بألسنتنا: (لا إله إلاَّ الله)، وكلكم تعلمون إنها لا تقبل إلاَّ بشروطها، وما شروطها سوى تنفيذ حدود الله والإلتزام بأحكام الله، وذلك هو الإسلام حقيقة.

كان الناس في الجاهلية يشربون الخمر، ويرتكبون الفواحش، ويأخذون الربا، ويستحلون قتل النفس المحترمة، وتشيع بينهم الغيبة، وينتشر عندهم الحسد...فبالله عليكم! طبقوا هل بيننا وبينهم فرق؟..نحن بالقول مسلمون وبالعمل جاهليون (لساني يقول ولا أعمل).

إن أهم ما يجب على المسلم اليوم هو أن يطهر قلبه من كل غش وغل لأخيه المسلم، حتى يعود المسلمون كما كانوا؛ كلهم كتلة واحدة. وهذه هي القاعدة الأساسية وأهم التعاليم التي نجح بها الإسلام وتقدم.

ألف النبي (صلى الله عليه وآله)وآخى بين أصحابه حتى صاروا روحاً واحدة وأمة حية تحيا بروح واحدة وتشعر بشعور واحد، ولا يصلح آخر هذا الأمر إلاَّ بما صلح به أوله.

 

مكافحة البضائع الأجنبية

أيها الناس!

انتقض البناء الذي بناه لنا الأولون فأصبحنا مملوكين للأجانب محتاجين إليهم في كل شيء، وليس معنى ذلك إن الله جعلنا محتاجين إليهم، ولكن نحن أحوجنا أنفسنا إليهم، لأنا لم نقنع بما يكفينا في قوام الحياة. نسمي الفضول (كماليات) وهي عين النقائص، ولو قنعنا بما يكفينا وترفعنا بأنفسنا عن تلك الفضول لما أصبحنا بهذه الحاجة والفاقة الماسة والفقر المدقع، ولما ابتلينا بهذا النقص في الأموال والثمرات. ما الحاجة إلى شراء هذه السفاسف اللماعة والزخارف الخدّاعة؟..خدعونا فجعلوا يبتزون أموالنا ويسلبونا عزّنا ومجدنا، بل يمتصون دم حياتنا.

نحن أحوجنا أنفسنا إليهم فصرنا أسراء لهم..(أحتج إلى من شئت تكن أسيره)، ولو قنعنا بما عندنا لكفانا.

أيها الناس!

أنا قلت من قبل ولا أزال أقول: (الاتحاد والاقتصاد)...أحفظوا هذين الأصلين وخلاكم ذم. دبروا معاشكم، فإن التدبير نصف المعيشة، وما أفتقر من دبر. ذهب الذهب وذهب كل شيء معه...هل ترون ليرات؟ أين الليرات التي كانت أيديكم وأكياسكم مملوءة بها؟..قد أصبحت أيديكم من الذهب صفراً، كما أصبحت أراضيكم من الخير قفراً!!.

العمل ... العمل

إن كنتم تريدون أن تكونوا رجالاً أحراراً كأسلافكم..رجال صدق وعما حق..فأنبذوا الأهواء والرذائل والجلوس في المقاهي ومجالس البطالة. وما أدري ــ وليتني كنت أدري ــ ماذا تجنون من ثمرة بجلوسكم في تلك المجتمعات التي لا شيء فيها من الخير؟.

الناس جدوا فنالوا، واجتهدوا فحصلوا، وصدقوا في الطلب فوفقوا.. وهل هم إلاَّ رجال أمثالكم؟…طاروا في السماء، وشقوا البحار، وسخروا القوى الكامنة، واستغلوا كل شيء، حتى ضوء النجوم وقوة تيار النور وكامن أسرار الطبيعة.

الله الله أيها الناس! أحذروا زبارج هذه المدنية الخلابة اللماعة البراقة، فإنها تذهب بكل نخوة وشرف، وما أخترعها القوم إلاَّ لهلاك هذه الأمة، القوم أخذوا تعاليم الإسلام ففازوا وتقدموا، وتركناها فتأخرنا.

أليس من تعاليم الإسلام (اغزوهم في عقر دارهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غزي قوم في عقر دارهم إلاَّ ذلوا). وهكذا كان سير المسلمين...طووا عرض البسيط، وتقحموا لجج المحيط من أسبانيا في الغرب إلى جدران الصين في الشرق.

أما اليوم ــ ويا للأسف! ــ فقد أنعكس الأمر وانقلب علينا الدهر، فلم تبق بقعة من بلاد المسلمين إلاَّ وهي مستعمرة بل مستعبدة لهم، يغزوننا في عقر دارنا ويملكوننا في بلادنا. أشغلوكم بالترهات والخزعبلات، واندفعوا إلى الجديات التي أنتم لاهون عنها بالمقاهي وقابعون في غمرة الملاهي.

الحلة الفيحاء

أنتم معشر الحليين الكرام! لم تزل بلدتكم الكريمة هذه سامية الآثار عالية المنار من بدء تأسيسها في آخر القرن الخامس حتى الآن، ولا جرم ولا غرو، فقد أنشأها أرباب السيف والقلم وأعلام العلم والعمل وفرسان المحابر والمنابر، العرب الأقحاح (بنو دبيس) من (بني أسد)، أنشأها سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس بن مزيد. وكانت ــ كما يقول الحموي ــ (أجمة تأوي إليها السباع)، فنزلها بأهله وعساكره، وقصدها التجار، فصارت من أفخر مدن العراق وأحسنها. ولكنها ما لبثت، بعد أن كانت أجمة قصب، أن عادت أجمة فضل وأدب، وبعد أن كانت تأوي إليها السباع تتهافت إليها المصاقع من الأصقاع تهافت الجياع على القصاع.

لله هي من تربة! فكم انتجت وانجبت من الرجال، ومازالت تؤتى أكلها حيناً بعد حين بما تخرج من فطاحل العلماء وأماثل الأدباء، وقد أستمر سيرها الأدبي والعلمي عدة قرون. ولو أردنا تعداد أو احصاء من تخرج من هذه الفيحاء من الأعاظم لأحتجنا إلى عدة دفاتر وطوامير ومحابر، ولا ننفك نجد منهم الرجال الذين يلمعون في أفق التأريخ لمعان الكواكب في آفاق السماء، وكأن تربتها قد عجنت بعبير الذكاء والعبقرية، وأمتازت بالفطانة واللوذعية. ولم يزل يتعاهدها بالتربية والتثقيف أساتذة أساطين، نشأوا منها ونزحوا عنها ثم عادوا إليها، منهم جدي الأعلى (كاشف الغطاء)، وخلفه جدي القريب الإمام (موسى بن جعفر) فإنه كان يصطاف بها كل عام، وكانت لبعض وجهائها حديقة غناء يدعوه إليها كل سنة، فقال الشيخ صالح التميمي ــ أحد نوابغ شعراء الحلة في ذلك العصر ــ :

عذرت ولم أعذر على البغي جنة

 

طغت فبدا بين الجنان غرورها

 

تهز غصونا كالعذارى إذا انثنت

 

فماس بأوراق الحلى نضيرها

 

تزور ملوك الأرض (موسى) وهذه

 

كفاها فخاراً إن (موسى) يزورها

 

ولو لم تكن طور الحدائق لم تكن

 

له عادة في كل عام يطورها

 

وكان حاكم الحلة يومئذٍ (سليمان باشا) أحد قرابات الوالي الأقطاعي في بغداد (داود باشا)، وكان الحاكم المزبور ظالماً غشوماً..فإذا حلَّ الشيخ في الحلة كفَّ الحاكم عن ظلمه وعدل واعتدل، فإذا قفل راجعاً إلى النجف عاد إلى شنشنته، فقال الشيخ صالح ــ المتقدم ــ في أحدى مغادرات الشيخ للحلة متوجعاً لسفره عنها:

بمن تفخر الفيحاء والفخر دأبها

 

قديماً وعنها سار موسى بأهله

 

وغادرها من بعد عز ومنعة

 

تحاذر كيد السامري وعجله

 

فبلغ ذلك سليمان باشا، فأستحضره للعقوبة، وقرأ عليه البيتين، فقال الشيخ صالح: (هذان البيتان قد حرفا، والذي قلته غير هذا). ثم أنشأ ارتجالاً قوله:

زهت بأبي داود حلة بابل

 

وألبسها بالأمس بردة عدله

 

وكانت قديماً قبل موسى وقبله

 

تحاذر كيد السامري وعجله

 

فعفى عنه وخلع عليه.

ثم تلى (الشيخ موسى) أخوه (الشيخ حسن). فإنه أقام في الحلة برهة، وكان مرجعها الوحيد، وفيها ألّف كتابه الجليل الموسوم بـ(أنوار الفقاهة). ولم تزل المشايخ من أسرتنا يتعاهدونها من حين إلى آخر..إلى أن أشرقت فيها الكواكب الساطعة من (آل عبد المطلب) والسادة الأشراف من (آل مناف) بدور الهدى وبحور العلم وينابيع الأدب الغض، وهم منّا ونحن منهم، ومازال هذا البيت (آل معز الدين) ممدود الرواق السامي الآفاق، إذا غاب منهم كوكب لاح كوكب..(من تلقَ منهم تقل لافيت سيدهم).

فيا أهل هذه البلدة الطيبة التي خصها الله بتلك المزايا الفاضلة والشعور المتوقد! ألا يجدر بكم أن تنهضوا إلى المعالي، وتغتنموا الفرص، وتستردوا مجد الجدود والآباء، وتكونوا قدوة لغيركم من سائر البلدان؟.

 

الشبيبة

يا شبيبة الحلة!

أنتم زهرة البلاد، وانتم الأرواح والأكباد، وأنتم الأموال والأولاد..البلاد لكم وانتم للبلاد، فإن حفظتموها حفظتم المجد والشرف، وإلاَّ ضعتم وأضعتم.

أياكم والسرف في المقاهي والملاهي!..الشباب باكورة العمر وربيع الحياة، فأغتنموا العمل والجد والاجتهاد فيه. أغتنم صحتك قبل سقمك، وشبابك قبل هرمك، ووجودك قبل عدمك...لا تحصيل إلاَّ وقت الشباب، فأغتنموا شبابكم، وإلا فما أشد الندم بعده، حيث لا ينفع الندم. ولعل الله ــ سبحانه ــ ساقني إليكم لأنبهم وأرشدكم وليتم الحجة عليكم، والمصلحة تعود لكم، وقلوبنا تحترق عليكم. ونستودعكم الله بالسلامة. والسلام.


 

 
امتیاز دهی
 
 

 
Guest (PortalGuest)

دبيرخانه كنفرانس‌هاي بين‌المللي
Powered By : Sigma ITID