يكشنبه 16 ارديبهشت 1403  
 
 
الخطبة الثانية

 الخطب الأربعة

  



الخطب الأربع

الخطب الارتجالية الأربع التي تفضل بألقائها سماحة المصلح العظيم، حجة الإسلام والمسلمين، الإمام الراحل، الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء على جماهير (العشار) و(البصرة) و(الحلة) و(النجف الأشرف) بعد عودته من إيران.

وقد طبعت هذه الكتب في كراس مستقل تحت عنوان (الخطب الأربع) بمطبعة الراعي في النجف الأشرف سنة 1353 هجرية.

تقديم

بلية الأمم في أدوائها الأجتماعية التي تنخر في جسمها كنخر السوس في جذع الشجر، وتزداد هذه الأمراض بتقادم الزمن ومرور الأعوام عليها، فتصبح إذ ذاك أمراً يصعب استئصال شأفته وقطع جذوره، لأنها تكون متينة الأساس قوية الأركان، فتصير كصفة طبيعية وغريزة نفسية لا يسع المجال للقضاء عليها.

أما إذا تهيأ لها الإنسان بادئ ذي بدء، وأعدَ العدة قبل أن يتسع الخرق على الراقع، فذلك أمر محمود، لأنه يسهل الطريق، ويوفر الزمان، ويربح الأمة قبل أن يتمكن منها المرض ويزمن الداء ويصعب الدواء.

ذكرنا هذه الكلمة لنعود بها إلى أمتنا التعيسة النكدة التي أبتليت بالعلل والاسقام منذ زمن غير قليل، فكانت عللها الاجتماعية هذه تهبط بها إلى دركات الذل وحمأة الشقاء وهي لا تشعر بما أصابها من جراء ذلك، لأنها تخدرت واستسلمت للقضاء والقدر استسلام الرجل المشفي على الموت، فلا يرتجى الشفاء إلاَّ بالصدقة، ولا الصحة والعافية إلاَّ عن طريق الهلاك.

سارت أمتنا في هذا الطريق ولكنا سارت من دون أن تبصر، وتحركت من دون أن تشعر، ولا قائد هناك يقودها، ولا مرشد يرشدها. وشأنها في هذا شأن كل أمة هوت إلى حضيض الشقاء، حيث تبقى تلك الأمة سائرة على ما هي عليه حتى يقيض لها الله من ينتشلها من هذه الهوة السحيقة، ويأخذ بها في طريق السعادة ويسقيها من رحيق الحياة المختوم، فعند ذلك تفتح عينيها من أغماءتها، وتصحو من سكرتها، وتعد العدة لنفسها، وتسير متتبعة الطريق الذي رسمها لها منقذها، منفذة الخطة التي سنّها لها مرشدها.. حينئذٍ تبدأ الحياة من جديد، وتعيد مجدها الماضي.

لو ألقينا نظرة بسيطة مختصرة إلى أمم الغرب، كأيطاليا وما أصابها بعد سقوط عاصمتها روما سنة 476م، لرأيناها تتخبط تخبط العشواء في جنح الليل البهيم إلى أن هيء لها من سعى لصلاحها وأجتهد في ارشادها، وكذلك كان لها مازيني وكافور ومن بعدهما غاريبالدي وعمانؤيل.

أما ألمانيا فإنها قبيل حرب السبعين كانت منقسمة إلى ألمانيا الشمالية وألمانيا الجنوبية، ولكن بطلها (بسمارك) لم يرضَ بذلك فأخذ بيدها إلى أوج الوحدة.

وكذلك فرنسا فإنها لم تتخلص من قيود أباطرتها ونبلائها إلاَّ بعد أن قبض لها من انتشلها، أمثال فولتير، وميرابو، وربسبير، ودانتون وغيرهم.

أما العرب فحدث عن جاهليتها قبل الإسلام ولا حرج، ثم منَّ الله عليها بهذا الدين الحنيف الذي صعد بها إلى أوج المجد، ثم سرعان ما عادت إلى شبه جاهليتها الأولى، وفي تلك الفترات التي تاهت بها أمتنا كان الله يرسل لها في الفينة بعد الفينة من يشعرها ذلها، ويذكرها حالتها، وكان شيخنا الحجة في هذا العصر، وحيد زمانه ونبي أوانه، لم يزل ولن يزال يسعى في إصلاح هذه الأمة وفي رقيها، مجازفاً براحته مضحياً كل غالٍ لديه في تشخيص أدواء هذه الأمة وتحضير الدواء لها، فكان من الأطباء النطاسين الذين فازوا بالنجاح بعد التجربة، فهو على بعد الشقة وضعف الشعور بالوحدة، لم تضعف عزيمته أو نقل همته، بل لم يزل يدأب على معالجة أدواء الأمة المزمنة منها والمؤقتة، يشخص الداء بمنظار العقل والإخلاص والمثابرة، مركباً الداء التركيب الكيمياوي الذي به خير الأمة وعلاجها.

لم يزل شيخنا منفرداً عن أقرانه، يقوم بالرحلات ويخطب الخطب ويقول المقالات، يحض الأمة، وينصح أفرادها بأتباع طريق السداد، والسير في منهج الرشاد، يفضل المصلحة العامة على كل مصلحة تخصه، يفرغ من جهة ويتحول إلى أخرى، لا يكل ولا يمل، كأن الله قد زوده بروح منه، فسار والهدف أمامه، متخذاً إرادته القوية واخلاصه القويم وتجاربه الحكيمة خير ساعد ومعين. فلا زالت مواقفه الشريفة في العراق، والشام، وفلسطين، ولبنان، والحجاز، وايران، ومصر كلها تبرهن على ما بذله في سبيل ترقية أمته، والقيام بواجبه الملقى على عاتقه، متتبعاً، ومنقباً عن النواقص، متطلباً الشفاء لها، فكانت لنهضته هذه صدى رددته الصحف العربية، ورجع رجعته الأندية العامة والخاصة، وهو يثابر محالفاً الله على أن يخلص لأمته مهما كلفه الأمر، ومهما حاول بعض المرائين من الحط في عزيمته، وكانت رحلته الأخيرة التي جاب بها بلاد ايران وكرَّ راجعاً إلى وطنه مملوءة بالعظات الغالية والنصائح الثمينة والآثار الخالدة، فكان كلما يحل ببلدة من البلدان يزود أهله بالكلمات الشريفة والخطب الارتجالية البليغة، حاضاً أياهم على التمسك بالفضائل، وخلع الخزعبلات والقشور، موصياً إياهم بألتزام نصائح الشرع الإسلامي القويم، والتضامن على الوحدة الصحيحة، فكانت البصرة، والناصرية، والديوانية، والحلة ممن تزودت بوصاياه الغالية وكان الكتاب في أكثر المواقف يتسارعون في ألتقاط ما يتفوه به وتدوينه، فأجتمع لديهم مجموعة نفيسة من النصائح، وكان آخرها ما رقى به المنبر في أواخر شهر صفر وحضَّ أمته على ترك جميع ما هو مخل بالدين، ومضر بالأخلاق، ومنافٍ لما نزل به الوحي على سيد المرسلين، والقضاء على العادات المنكرة التي يقوم بها بعض الأوباش في العشر الأولى من ربيع الأول في النجف، وقد تهافتت الطلبات على سماحة الحجة، راجين نشرها في رسالة يسترشدون بنورها، فتصديت أنا لجمعها ونشرها، ومالي إلاَّ خدمة الشعب مقصد.

فما أحوجنا إلى أمثال هؤلاء الرجال في مثل هذا الوقت الذي تتمخض فيه أمتنا عن ظروف عصيبة، إذ بوجودهم تنتعش وتحيا وبفقدانهم تنتكس وتموت.

وفقه الله في أعماله وسدده في خطاه أنه سميع الدعاء.

1 ربيع الثاني 1353هـ

نوري كاشف الغطاء

الخطبة الأولى

هذا ما أمكن ضبطه للكاتبين ساعة الألقاء من خطاب سماحته في (جامع المقام) في العشار يوم 7 ذي القعدة 1352هـ الموافق 21 شباط 1934م. وقد ذهب أكثر من ثلثها لعدم أمكان ضبطه لشدة انحدار الخطيب في الكلام بين حماسه وتهيجه.

بسم الله الرحمن الرحيم

قال ــ سبحانه وتعالى ــ في كتابه المجيد: "إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ".

أول حادث حدث في البشرية، منذ فجر يومها الأول ومبدأ تاريخها القديم، أن قتل نصف العالم نصفه، حيث قتل أبن آدم أخاه. ومن ذلك اليوم أخذت البشرية تقاسي آلاماً وتعامي عللاً وأسقاماً، ويعادي ويعتدي بعضها على بعض، وفي كل يوم ينتشر الشر، ويتفاقم البلاء، وتعظم الرزية.

على ذلك تعاقبت الأيام، وسلفت الدهور، ومضت القرون، ونسلت الأحقاب.. وإذا بالفضيلة تهبط إلى الحضيض وتتربع الرذيلة على كرسيها، فتعالى الضرر، وتفاقم الشر، وأستحكمت العصبية، وبقى العالم يسود فيه التباغض والتحاسد والتناكر والتفاسد، ولا شيء فيه من التراحم والتوادد.. غنيهم يستعبد فقيرهم، وقويهم يفترس ضعيفهم، يغتصب كل منهم حقَّ صاحبه، ويشرب كل واحد دمَّ أخيه، ولكن الغاية الأزلية ــ جلت بركاتها ــ لم تزل تشفق على هذا المخلوق التعيس، فترسل إليه رسلاً معالجين، ورجالاً صالحين ومصلحين، وأطباء ماهرين، نبياً بعد نبي، وولياً أثر ولي، وصالحاً تلو صالح، يهدون ويرشدون، ويعاجلون ويعالجون… فلم ينفع ذلك في البشر إلاَّ ما شذَّ وندر، والشر على ما كان عليه.

أبتعثت العناية نوحاً، وهو شيخ الأنبياء وأب الرسل، فخاطبهم بلغتهم، وأبلغ في الدعوة، وأقام عمراً طويلاً ــ ألف سنة إلاَّ خمسين عاماً ــ ليهتف فيهم ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً، داعياً إلى الصلاح والإصلاح، فلم يؤثر فيهم شيئاً. وكان عاقبة كل ذلك الطوفان، وما أستجاب له ونجا معه إلاَّ نفر قليل.

جاء إبراهيم، وتلاه اسحاق ويعقوب، ثم جاء موسى ــ وهو بطل الأنبياء والقوي الأمين ــ وأعتضد بالمعجزات الباهرات، من العصا وفلق أليم وأمثالها، فكانت نتيجة بني إسرائيل "فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ". وأعظم من ذلك عبادة العجل والتخبط أربعين سنة في التيه.

ثم آل الأمر إلى عيسى الذي يدعونه بالمخلص، فأراد أن يخلص البشرية من رذائلها فلم يفلح ولم يصنع شيئاً، وأصبحت أمته اليوم شر أمم العالم وأشدها في الظلم والقسوة.. ثم كان عاقبة أمره الصلب.

كل ذلك والبشرية يتفاقم شرها، ويتعاظم بلاؤها.. إلى أن نفخت العناية بجوهرتها المكنونة، ولطيفتها المخزونة..أرسل إليهم الحكيم الأعلى والطبيب الألهي الذي ما فوقه طبيب، أرسل إليهم سيد الرسل محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله)، فشخّص داءها ودواءها، وعرف العلاج الشافي لها، والدواء الناجع القالع لجرثومة أمراضها.

عرف إن الداء العضال والمرض القتّال إنما هو التفرقة الناشئة من توغل الأنانيات والعصبيات الباعثة على التفاخر ثم التنافر فالتقاطع والتدابر..فدك العنصريات، وسحق القوميات، واستهلك العصبيات، فصرخ الوحي على لسانه "يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ"، "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا". ثم زاد وأوضح البيان فقال:

(الناس كلهم لآدم وآدم من تراب. لا فضل لعربي على عجمي إلاَّ بالتقوى)، (ليس منّا من دعا إلى عصبية)، يعني لا فخر بعجمية ولا عربية ولا هندية ولا تركية، وإنما الفخر بالعمل الصالح والمزايا الطيبة، الفخر بالفضيلة واجتناب الرذيلة.

نعم! العصبية والأنانية هي كل الداء، والاعتماد على الفضيلة هو منتهى الدواء..عين الدواء بعد ان شخّص الداء، ولم يبقَ إلاَّ الاستعمال، ولذا كانت شريعته خاتمة الشرائع ودينه أكمل الأديان.

كان ينادي في كل ملأ ومجتمع (أما والذي نفس محمد بيده إنكم لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تجتمعوا، ولن تجتمعوا حتى تتحابوا).

ثم مضى على ذلك صحبه الكرام، فساروا على خططه ومنهاجه واحداً بعد واحد، فكانوا أخواناً على صفاء..حتى خاضوا البحار وملكوا الأقطار، وهم أعراب بادية، لا درس ولا مدرسة، ولا كتاب ولا مكتبة..فتقدموا ذلك التقدم الباهر، ونجحوا ذلك النجاح الزاهر.. كل ذلك بقوة الإيمان، وعدة الوحدة والاتفاق، ونبذ التفاخر والاختلاف، حتى أخذوا بقرني الشمس مشرقها ومغربها.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في النهج في أحدى خطبه: (ألزموا السواد الأعظم، فأن يد الله مع الجماعة. وأياكم والفرقة! فإن الشاذ من الناس للشيطان، كما إن الشاذ من الغنم للذئب، إلاَّ ومن دعا إلى هذا الشعار فأقتلوه ولو كان تحت عمامتي هذه) ويعني بـ(هذا الشعار) شعار التفرقة.

كلّت الألسن، وعجزت الأقلام، وتعبت الصحف من الدعوة إلى الوحدة والتوحيد وبيان إن الداء الدوي الذي أنهك الإسلام وأهلك المسلمين هو التفرق والتباغض، حتى صارت الذئاب تفترسهم والأذناب تتريسهم.

فكم قام من حكيم عرف الداء ودعا إلى استعمال الدواء، ولكن لم ينفع، وبقى الحال على ما هي عليه من سيء إلى أسوء، ومن تعيس إلى أتعس.

كلّت ألسنتنا، وملّت وتصدّعت أقلامنا، وصرنا نخشى أن نتكلم في سبيل الوحدة أو ندافع عن التفرقة، وأصبح حديث الوحدة والإتفاق مهزلة من المهازل!.

الصهيونية

قلنا قبل هذا: إن الإسلام قد بني على دعامتين: (توحيد الكلمة) و(كلمة التوحيد)..توحيد الخالق، وتوحيد بين الخلائق.

كم قلنا وكم نبهنا وكم صرّح الحكماء والمصلحون قبلنا، ولكن هل أثر ذلك شيئاً؟ كلا! لا والله حتى صرنا اليوم نخجل أن نتكلم في اتحاد أو جمع كلمة، وحتى عرف رجال الغرب إن المسلمين أتفقوا على أن لا يتفقوا، وأبوا إلاَّ أن يتفرقوا! وأصبحت الأذناب تعلو على الرؤوس، حتى آل الأمر إلى أسوأ الأحوال، وصارت الصهيونية التي هي طريدة العالم ونفاة الأمم يتكلمون في بلادنا، ويبثون الدعاية الواسعة بين أظهرنا، ونحن مشغول بعضنا ببعض، والبلاء محيط بنا من جميع جوانبنا.

إن الصهيونية من أخطر البوائق وأعظم البلاء..جمعية أقوام متفرقة أعداء الإسلام في بلاد المسلمين، يجمعون أموال المسلمين ويملكون أراضيهم والمسلمون مشغولون عنهم.

ليست الصهيونية بلاء على فلسطين وحدها، بل هي بلاء على العالم أجمع..يجمعون الأموال بكل حيلة ووسيلة، ويرسلونها إلى أخوانهم في فلسطين لينشئوا فيه وطناً قومياً.

الصهيونيون يرون إن الأموال التي في أيدي الناس مغتصبة منهم، وإن المال كله في الأرض لإسرائيل وبني اسرائيل، بل الأرض كلها لهم، فيجب أن ينتزعوها من أيدي الناس بكل مكر وخديعة.

أين حميتكم أيها المسلمون وأين غيرتكم؟ أين جمعياتكم وأين جهودكم؟…خمسة عشر مليون كل ما في العالم تلاعبوا بالدول وألهبوا نار الحرب والفتن بين عامة الأمم مسلمة ونصرانية.

المسلمون أربعمائة مليون تغلبت عليهم تلك الفئة الضئيلة، حتى أخذوا أزمة الأمور، وقبضوا روح السياسة، وأستولوا على دفة الحكم...فما من دائرة من الدوائر في العراق، بل وفي غيره من الممالك الإسلامية، إلاَّ وتجد لليهود فيها يداً عاملة تنفذ السموم القاتلة، إذ جميع اليهود على الأغلب صهيونيون، ولا أحسب يهودياً غير صهيوني.

لقد تخدّرت أعصابنا، وماتت هممنا، وخمدت عزائمنا، فأصبحنا أُسراء في ديارنا وأذلاّء في أوطاننا، ولا نعلم ماذا يراد بنا وكيف يكون مصيرنا.

الله أكبر! ما أعضل هذا الداء !... كيف لا ينفطر قلب المسلم الغيور إذا بلغه إن نساء المسلمين، من الضعفاء والمساكين في بلادكم هذه، وهي من عواصم بلاد الإسلام، يستخدمن عند اليهود والأجانب وأنتم ساكتون، تنظرون ولا تفكرون، وتبصرون ولا تبتصرون..أليست نساء أخوانكم وأعراضهم أعراضكم؟! أفلا تهيج غيرتكم وتثور حميتكم؟!.

أيها الناس !

أنا نذير الله إليكم! الله الله في بلادكم! الله الله في دينكم!.. دين الله وديعة عندكم وقد أصبح مهدداً، فإن لم تتفقوا وتتحدوا فسينزعه الله منكم فتنزع عنكم كل خير وبركة! وإذا بقيتم على هذا الحال من الفرقة والتقاطع فستذهب ريحكم ويتمزق شملكم وتكونون أذل من قوم سبأ!.

هنالك لو تدعو كليباً وجدتها

 

أذل من القردان تحت المناسم

 

أيها الناس !

قلنا ولا نزال نقول: إن الإتفاق والإتحاد ليس من مقولة الأقوال ولا من عالم الوهم والخيال، ويستحيل أن توجد حقيقة الإتفاق والوحدة في أمة ما لم يقع التناصف والعدل بينها بإعطاء كل ذي حق حقه، والمساواة في الأعمال والمنافع، وعدم أستئثار فريق على آخر.

ولكن أين ذلك وأنى؟

كاد أن يغلب على القنوط واليأس منكم…ذهبت إلى ايران وكنت يائساً على حسب الشائع والمسموع. ولكني ــ بحمد الله ــ وجدت كل ما يرتاح إليه طالب الصلاح والإصلاح، ونجحت نجاحاً باهراً..ولكن في بلادي أخفقت على رغم كل جهودي، ويا للأسف!.

الله الله في أوطانكم!.. الصهيونية بين أضلاعكم، وهي سوس السياسة، والبلاء المبرم، والداء العضال..وانتم هامدون خامدون، لا تحسون بهذا البلاء العظيم الذي ينذركم بالتلف.

أيها الناس !

إن البلاء لعظيم، لا يبقي منكم باقية، ولا يذر في الدار دياراً. كل عام، بل كل شهر، تشد قناطير الأموال من العراق وتذهب إلى جمعية صهيون، فهل أولياء الحكم في العراق يعلمون؟..

نعم! يعلمون ولكن هل يعملون لدفع هذا الخطر؟ أم نحن ازاء اليهود صمٌ بكمٌ فهو لا يفقهون؟!.

(إن اللبيب من الإشارة يفهمُ).

الصهيونيون طرداء العالم ونفاة الأمم..يوماً تطردهم (ألمانيا) ويوماً (فرنسا) وآخر (أسبانيا) و(النمسا)..وهكذا كل برهة وكل مملكة. لا تستطيع حكومة من حكومات أوربا ذات الحول والطول أن تحملهم.

دولة ألمانيا القهارة ذات الصناعات الباهرة وملكة الجو لم تقدر ــ يا أمة الإسلام ــ على تحملهم حتى أخرجتهم من بلادها، ولكن زجهم القضاء الأسود إلى فلسطين فأوشكوا أن يبتلعوها، ثم يسري البلاء إلى سوريا ثم إلى العراق.

هم لا يزالون يدأبون في السعي، مخططين الخطط ومشكلين المناهج..ونحن غرقى في المنام، نتضارب في الأحلام، ويقاتل بعضنا بعضاً على الأوهام.

أين العزائم؟ أين الهمم؟ أين الرجال؟…

يا أيها المسلمون‍ كونوا رجالاً.. والله ــ ويا للأسف! ــ لسنا برجال، بل ولا أناثى ولا مخنثين!.. أهذا شأن الرجال؟.. أين أصلاحكم؟ أين جمعياتكم؟ أين معارفكم؟.. القوم في جد وأجتهاد وأنتم مشغولون بالزخارف والسفاسف التي لا تنفع ولا تجدي، والتي لا يبلغ الإنسان بها إلى مجد ولا رفعة. أنتم مشغولون بالمقاهي والملاهي والسينمات والأشياء التوافه الساقطة..أتقوا الله أيها الناس (إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحراراً في أوطانكم) كلمة عظيمة قالها ذلك الرجل العظيم أول الإسلام.

أيها الناس!

أول مجدد شرف في الإنسان الغيرة، ومن لا غيرة له لا حس له ومن لا حسَّ له ليس بإنسان.

أيها الناس!

أتركوا هذه الأعمال المضرة بأخلاقكم ونفوسكم وأموالكم. الخطر قد أحاط بكم من كل جانب. أتركوا هذه السفاسف المضرة في دينكم ودنياكم.

أن هؤلاء الذين جاؤوكم بالسينما والخمر والميسر اللذين حرمهما الله في نصَّ كتابه، لا يريدون نفعكم، وإنما جاءوا بها ليفسدوا أخلاقكم ويستلبوا أموالكم ويوقعوا بينكم العداوة والبغضاء " إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ"، "إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ". لكن نحن قد عكسنا الآية! الله سبحانه يقول: "فَاجْتَنِبُوهُ" ونحن نقول: (فأرتكبوه)!.

أيها الناس!

أشربوا.. ألعبوا.. أكثروا التردد إلى السينما والملاهي...الله أكبر! أين العقول؟ أين الحجى؟ أين الأحلام؟..ما طبّكم؟ ما دواؤكم؟..القوم رجال أمثالكم..أنتم رجال وهم رجال، فما بالكم تأخرتم وتقدموا، وجهلتم وتعلموا؟…كيف تريدون الاعتزاز كالأمم؟ أنظروا إلى جامعتهم وعصبيتهم وتآلفهم. اعتبروا بأذل الأمم (اليهود)..يهودي في الصين وآخر في العراق.. الروح واحدة والقلوب متفقة والآراء سواء. إذا أصيب أحدهم بمكروه في العراق تألم الآخر له في الصين، وإذا ضرب يهودي في ألمانيا صاحَ كل يهودي في العالم (آخ!) وصرخوا صرخة واحدة، وهذه الصفة هي من أساسيات قواعد الإسلام حيث يقول: (المؤمن من المؤمن كالعضو من الجسد، إذا تألم عضو تألم له سائر الجسد)، (المسلمون كالبنيان المرصوص يشد يعضه بعضاً). ولكنا ــ ويا للحسرة والأسف! ــ بناء مفكك يهدم بعضه بعضاً!.

فكأن تلك الوصايا التي أوصانا بها الله ورسوله قد أوصى بها اليهود وأوصانا بخلافها!!.

 

مغزى الوحدة

بعد تلك المقالات والخطب الرنانة التي ألقيتها في بغداد في (الحسينية) في أحدى ليالي شهر رمضان زهاء أربع ساعات في جمع لا يقل عن خمسة آلاف..فماذا كانت النتيجة؟.

كانت النتيجة (كتاب الحصان)…فأنظروا ما أحسنها من نتيجة، وأنظروا كيف تؤثر الخطب والنصائح في بلادنا وأمتنا… والله يسترد بلطفه من مغبة اجتماعنا هذا وأمثاله…

أيها الأخوان!

لا نجاح ولا فلاح ما دامت أمورنا تمشي على المجاملات دون المصارحة والحقيقة.

أيها الناس!

قد تعودنا على النفاق والمداهنة والمكر والخديعة..يخدع بعضنا بعضاً ونسميها (مجاملة)..كلنا كذابون، كلنا منافقون كل أمورنا مبنية على النفاق. لا نصارح بالحقيقة ولا نعطي الحقيقة حقاً...أنا أحدكم وعلى غراركم.

لساني يقول ولا أفعل، وقلبي يريد ولا أعمل، وأعرف رشدي ولا أهتدي، وأعلم لكني أجهل...نحن مملوؤن نفاقاً وخداعاً، وتحت كل شعرة منا شيطان!.. نحن جميعاً نتبع الهوى ونعبده "أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ".

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (أيها المسلمون! إنما أنتم أخوان على دين الله، ما فرق بينكم إلاَّ سوء السرائر وخبث الضمائر، فلا توازرون ولا تناصحون ولا تباذلون ولا توادون). وكان سيد الرسل (صلى الله عليه وآله)لا يزال ينادي في أصحابه: (أيها المسلمون! لا تتباغضوا، فإنها والله الحالقة..لا أقول حالقة الشعر ولكنها حالقة الدين والدنيا).

أيها المسلمون!

على ممَ هذا التضارب والتباغض؟…كل واحد منّا يقول للآخر (أنا أخوك) و(نحن أخوان ومتحدان) ولكنه يريد أن يخدعه بذلك، ولو كان أخوه حقاً لأنصفه على الأقل إذا لم يواسه ويؤثره على نفسه.

أيها الناس!

لا تتقدم الأمة مادام أحد أفرادها يسلب حق الآخر، وإنما تتقدم الأمم بالعدل والتناصف وإعطاء كل ذي حق حقه.

الأخوان المشتركون في دار واحدة إذا أختص أحدهم بالغرف والعلالي وترك الآخرين تحت السماء يلفحهم حر الهجير وبرد الزمهرير، ويقول لكل منهم أصبر واحتسب فأنا أخوك...يستحيل أن يقنع بذلك القول وان يدوم السفاء بينهما ويتحدا حقيقة.

أعطه حقه وناصفه تكن أخاه، وإلاَّ فليس إلى الراحة بينهما من سبيل، ولسنا بالغين المرتبة التي أدبنا الله بها وحثنا عليها، فقال ــ جلَّ شأنه ــ "وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ".

حارت العقول، وضلّت الألباب، وتاهت الأفكار في طب المسألة وعلاجها..فكم من حكيم ذهبت عصارة أفكاره أدراج الرياح، وراحت نفسه عليهم حسرات.

غلب الشر منذ كان على الخلق

 

وماتت بغيظه الحكماء

 

وإذا ما العقول لم تقبل النصح

 

فماذا تفيده النصحاء؟

 

 

وجوب ترك الخمر والميسر

غاصت الأمم في البحار، وطارت في السماء، وقبضت على مفاتيح خزائن الأرض، وبلغت أقصى مراتب الرقي والعمران، وأخذت زينة الحياة الدنيا بحذافيرها...وبقينا مذبذبين حيارى لا دنيا ولا آخرة!..ذهب العز والمال، وذهب الشرف والإستقلال وذهب كل شيء.

أيها المسلمون!

أعلموا ــ وأنتم تعلمون ــ إن الأمر أصبح محسوساً وملموساً..

أضرب بطرفك ــ أيها المسلم ــ حيث شئت من الأرض، شرقها وغربها، هل تجد مملكة إسلامية أو قطراً من أقطار المسلمين لا يعاني بلاء الإستعمار ولا يرزح تحت نير الاستعباد ولم يعد أسيراً في بلاده أو ذليلاً في عقر داره وغريباً في وطنه…أنظر في الغرب: تونس، ومراكش، والجزائر…وفي الشرق: مصر، وسوريا، والعراق، والجزيرة، كلها في البلاء سواء، وإن أختلفت أنواع البلاء وأشكال المحن.

أليس كل ذلك من تقاطعنا وتفرقنا؟ أليس كل ذلك من تركنا لأحكام ديننا ونواميس شريعتنا؟.

ألستم تعرفون الخمر ومضارها وفظاعة تحريمها في شريعة الإسلام، ومع ذلك تذهبون وتشربون جهاراً ومحاربة لله ورسوله؟! أليست أصبحت تباع في أسواق المسلمين جهاراً وعلانية محاربة ومخالفة للقرآن؟.

أليس الربا والقمار أصبح شائعاً عند المسلمين بغير نكير؟ وإذا أردنا أن نتخرج نخرجه مخرج البيع ونلبس الباطل صورة الحق، "يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ"، "وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ".

أيها المسلمون..إن اتفقنا وأصلحنا أنفسنا وأخذنا بأحكام ديننا، عادت السعادة إلينا، وزال كابوس الاستعباد عنّا.. وإلاَّ..فأعلموا أنا وأنتم سنهلك ما بقينا في شقاق، وسنتدهور في هوة الدمار والبوار وخراب الديار.

تربية النشء

أيها الناس!

أولادكم ودائع الله عندكم...الأولاد والشبان اليوم رجال الغد، هم للبلاد والبلاد لهم، فهل تحفظونهم؟ أم تفسدون أخلاقهم كما فسدتم أنتم؟!..الصغير ينشأ على أخلاق الكبير فإن رآه يشرب الخمر فهو لا محالة يشربها. أتريدون منه الصدق وأنتم تكذبون؟ أو تلتمسون منه العفة وأنتم تفسقون؟!.

أيها الناس!

لا تستطيعون تربية أولادكم إلاَّ بتربية أنفسكم، وما أحسن ما قال بعض العارفين: الوعظ الذي لا يعادله نفع ولا يمجه سمع، ما نطق به لسان الفعل وخرس عنه لسان القول.

عظوهم بأفعالكم قبل أقوالكم. تأدبوا ــ أيها الناس ــ بآداب الله وكتاب وبسنة نبيه، فوالله ما ترك من خير إلاَّ وأرشدكم إليه ودلكم عليه! ولكنكم ضيعتموه فضعتم، وخذلتموه فخذلكم.

أيها الناس!

أتحدوا اتحاداً صحيحاً صريحاً. قتلتنا المجاملات، وأهلكنا عدم المصارحة..كن صريحاً تكن مريحاً.

أيها الناس!

ربما أكون قد أطلت، والإطالة توجب الملالة، والملالة تجر إلى الألم..وبعض الذي قلناه كافٍ لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. أما من لم يكن له قلب ولا حس، فلا يجدي فيه القول والتقريع مهما طال وكثر.

وفي الختام: نسأله ــ تعالى ــ أن يصلح شأنكم. فإن صلحتم صلحتم لأنفسكم، وإن فسدتم فالفساد عليكم..ولكنا نتألم لكم، ونريد لكم كل خير وصلاح، وتقدم ونجاح. والله ولي ذلك كله، والسلام عليكم.

 

الخطبة الثانية

الخطبة التي ألقاها سماحته في (جامع المنارتين) بالبصرة في 10 ذي القعدة 1352 هجرية.

بسم الله الرحمن الرحيم

قال ــ سبحانه ــ في كتابه المجيد وفرقانه الحميد: "وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ".

هذا نص القرآن المجيد وآية منه، وما أعظمها. يقول تعالى: "لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ".

أيها الأخوان الكرام!

تعلمون ــ وحقاً تعلمون ــ إن البلاد، منذ بدء الخليقة، مازالت تسعد وتشقى، وتسفل وترقى، وتجمع باطلاً وحقا..وليست سعادة البلاد بطيب هوائها، وعذوبة مائها، وبهجة خضرائها ونضرائها، بل سعادة البلاد الحقيقية هي كرم أخلاق أبنائها، ومعارف سكانها، بعوارفهم ومعارفهم، بعلومهم وآدابهم.

سعادة البلاد بأبناء البلاد، وسعادة الأبناء بالعلم والسداد، وينابيع الثروة والاقتصاد، وكل ما يجلب العز والسعادة، ويوجب المنعة والاستقلال، وللبلاد في أبان تأسيسها، ومبادئ وضعها وتكوينها، مناسبات ومقتضيات، تعين على سعادة أبنائهم وارتقائهم إلى أوج المجد.

 

الكوفة والبصرة

لما بزغت شمس الإسلام، وانجلى النور المحمدي فمزق ظلمات الجاهلية، ما انفرط العقد الثاني في التاريخ حتى تكون مصران عظيمان من أمهات المدن الاسلامية، ولم يكن لهما نظير في تلك العصور: أما الأول فهو (الكوفة) تأسست سنة 16 من الهجرة، مصرها وأختطها سعد بن أبي وقاص الصحابي الكبير والفاتح الشهير، والمصر الثاني (البصرة) أسسها قرب ذلك التاريخ عتبة أبن غزوان. وكلا المصرين تأسسا بأمر الخليفة الثاني (L) وما مضى عليهما خمس أو ست سنوات حتى أتسعت منهما الدائرة وأزدهرتا بنوادي العلم والأدب وأزدحمت عليهما الوفود لأرتشاف العلم والمعارف من منهلهما العذب، وبالأخص البصرة، فإنها بعد بضع سنوات أصبحت مطمح أنظار رجال العالم، وإليها الهجرة وشد الرحال من كل حدب وصوب. وكان يقال لها (قبة الإسلام) و(خزانة العرب)، و(كنانة الأدب). وغبَّ وقوع الحادثة التاريخية الشهيرة (وقعة الجمل) دارت أدوارها، وطابت معايشها، وتوفرت أسباب الراحة والعمران فيها، وأصبحت معهداً علمياً اسلامياً. وفيها نشأ (المربد) وهو أول معهد اسلامي ومدرسة كبرى، وقد تخرج منه فطاحلي علماء العربية ومؤسسو العلوم الإسلامية.

هذه هي البصرة ــ أيها الأخوان ــ وهذا مربدها المشهور.

من تحت هذه السماء، ومن جذور هذه التربة، ومن سائل هذا الأثير الجوي نشأ أبو الأسود الدءلي مؤسس (علم النحو)، والخليل بن أحمد مؤسس (علم العروض) وصاحب (كتاب العين)، ومسلم بن معاذ مؤسس (علم الصرف) و(البيان) و(المنطق) ــ أعني المنطق العربي لا اليوناني ــ …هؤلاء الفطاحل الثلاثة هم مؤسسو علوم الإسلام ــ العلوم التي يتوقف عليها فهم الكتاب والسنة، ويستقى من ينابيعها نطف الأدب ــ وإليهم كانت تشد الرحال، ومن حوزة دروسهم تتخرج الرجال.

من هذه التربة والماء، وتحت قبة هذه السماء، نبعت تلك العلوم، وتبرزت اولئك الاساطين، وتخرج عليهم الأعلام المشاهير، كسيبويه، والكسائي، والاصمعي، والفراء، وخلف الأحمر، وكثير من أمثالهم..كما إن منها نشأت طرائق الزهد والتصوف والسلوك، وكان أول من أظهرها أو تظاهر فيها في القرن الأول من قرون الإسلام (الحسن البصري) و(فرقد السنجي) وأضرابهم، بل ومن ههنا نبغت أول طائفة بحثت في العقائد، وخاضت في المادة، ونظرت في الطبيعة وما بعد الطبيعة وخواص الواجب والممكن، وهي طائفة المعتزلة، وفي طليعتهم (واصل بن عطاء) و(أبو هاشم الجبائي) وأخوانهم، وهم من أهل هذه البقعة أيضاً.

فأنت ترى إن من هذه الأجواء والأرجاء قد انبعثت أشعة جلّ العلوم الإسلامية إلى سائر الآفاق.

ثم تعاقبت عليها الخطوب، وتداولتها المحن كسائر بلاد الله، ولكنها ــ بحمد الله ــ ما خلت في وقت من الأوقات من العلماء والصالحين، الذين يرشدون إلى سواء السبيل، ويكونون للحق خير دليل. ولا غرو أن تمتاز هذه البلاد بتلك المزايا والمآثر، لما خصها الله به من المزايا الطبيعية والموقع الجغرافي الذي لم يتسن لغيرها من البلاد.

 

وصايا وعظات

يا أهل البصرة!

هذان الرافدان يأتيان إليكم من أقاصي جبال أرمينيا..يحييانكم ويعطيانكم درساً يرمزان فيه إلى أمر مهم تعود فائدته إليكم..فهل علمتموه، أم هل أطلعتم على كنهه وسره؟.

يشيران إليكم بفائدة الاجتماع، وضرورة الاتفاق، وبركة الانضمام والوحدة..يقولان لكم: ما آتيناكم إلاَّ بعد أن امتزجنا وأتحدنا بحيث لا يمتاز كل واحد منّا عن أخيه!.

خرجنا من منابعنا مختلفين متباعدين، وقبل أن نتصل ببلادكم ونأتي إليكم أتحدنا وأقترنا...ألا هكذا فأتفقوا وأتحدوا.

وهذه أحدى الميزات التي خصَّ الله بها بلادكم دون سائر البلاد...هذا البحر إلى جنبكم، وهذا البر الفسيح مفتوح أمامكم..البحر يعلمكم اللين والمرونة، يعطيكم الصفاء والملاحة، والبر يحملكم على الرزانة والقوة، وسعة الصدر والثبات.

يقول (الخليل) من أبيات في وصف البصرة:

بر وبحر أحاطا من جوانبها

 

فالضب والنون والملاح والحادي

 

(الحادي) لسفن الصحراء، و(الملاح) لسفن الماء.

تسورت بلدتكم هذه بأسوار طبيعية ــ النهر العظيم وشط العرب والبحر الزاخر والنخيل المشتبك ــ فهل تجدون بلداً في العراق أو غيره تفوقها أو تساويها؟ أفلا يحق ويجب عليكم أن تصونوها وتحصنوها بالأخلاق الفاضلة والعلوم العالية، والاتفاق الصحيح والوحدة الحقة، لا وحدة الخداع والمكر؟.

أتعرفون ما هي الوحدة الحقة؟… يقول العباس بن الأحنف أو غيره!.

أقول لورقاوين في فرع نخلة

 

وقد طفل الامساء أو جنح العصر

 

وقد بسطت هاتي لتلك جناحها

 

ومد إلى هاتيك من هذه النحر

 

ليهنكما إن لم تراعا بفرقة

 

ولم يسع في تشتيت شملكما الدهر

 

أتعلمون أيها الكرام ما يقول هذا الشاعر وما الذي يوعز إليه؟

أتعرفون ما المراد بالحمامتين والورقاوين التي تبسط أحداهما جناحها للأخرى رحمة ورأفة، ووئاماً وأتحاداً على فرع نخلة؟.

هما طائفتان من المسلمين، تجمعهم لغة واحدة، وكتاب واحد، وقبلة واحدة، وأهل وطن واحد، وهم في الحسب والنسب والآباء سواء…أفلا يجب أن يكونوا كذينك الحمامتين المتآخيتين؟!.

منح الله البصرة مزايا جليلة وخواص كريمة، أمتازت بها على سائر المدن..فهل تحفظون هذه الكرامة وتشكرون هذه النعمة وتتحدون وتتفقون حقاً كما أوصى الله في كتابه الكريم؟؟.

نحن قلنا حتى مللنا، وأسمعنا حتى سأمنا…أسمعنا الدعوة إلى الوحدة والاتفاق، وقلنا للمسلمين: إن الذي يقتلكم، ويفرق جمعكم، ويخمد جذوة عزائكم، ويجعلكم ــ بل جعلكم ــ أذلاء صاغرين للأجانب، هو هذا الخلاف والشقاق الذي تغلغل وتوغل فيكم…أهبنا بالمسلمين، ودعوناهم إلى ما دعاهم إلى الله ورسوله.. ولكن هل وجدنا أثراً، أو أصبنا للأمة نفعاً أو دفعنا ضرراً؟..كلا!.

"أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ"، "لقد أسمعت لو ناديت.."، "وَلَوْ علِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا..".

منح الله ــ سبحانه ــ البشر عقولاً بها أمتازت عن البهائم ليميزوا بها الحسن من القبيح، والخير من الشر، والنافع من الضار..فيا ترى هل بقى شك أو شبهة لأحد في ضرورة الاتحاد والاتفاق؟..وإن العدو ما كادهم في بلادهم إلاَّ بما يدسه فيما بينهم من سموم النفاق، حتى استفحلت بليته، وأمكنت فريسته، على أوهام فارغة، وأمور فاشلة، لا حقيقة لها ولا وجود ولا أثر ولا عين.

خلق الله ــ سبحانه ــ الكائنات من عناصر وأوليات، ولكن كل عنصر من عناصر تلك الاوليات لا تترتب عليه بإنفراده فائدة ولا تظهر له في نفسه منفعة..حتى ينظم إلى أمثاله، ويتحد مع أحزابه، ويكون ــ بعد الانضمام والتركيب ــ شيئاً واحداً له آثاره الخاصة وفوائده المعينة، أما مع الانحلال والتفكيك، فلا فائدة فيها ولا كيان لها.

هذه الكائنات بأجمعها، من أرض وسماء، وإنسان وحيوان، ونبات وجماد..كانت أجزاء متفرقة وعناصر متباينة، ثم جمع الله جزءاً إلى جزء، وضمَّ بعضها إلى بعض، على نسب مخصوص ومقادير معينة، حتى حصلت لكل كائن وحدة بها ظهرت فوائده وبرزت في الوجود آثاره، وحال الكل حال الابعاض، وحال الأمم حال الأفراد، فكما إن الفرد عدة أجزاء متباينة، من دم ولحم وعظم وأعصاب، قد أنضم بعضها إلى بعض حتى حصلت لها وحدة تجمعها من الروح الانساني أو الحيواني، فصار شخصاً ماثلاً، وكائناً كاملاً، يضر وينفع، ويعطي ويمنع، وله آثاره وخواصه..فكذلك الأمة إذا أنضم بعض أفرادها إلى بعض، وحصلت فيها روح واحدة تجمعها، وتجعلها تحس بحس واحد، وتتحرك وتسكن بشعور واحد...هناك تكون أمة حية تحفظ كيانها، وتشيد بين الأمم أركانها، وتصون عزّها من الذل والاستعباد، وتصلح ما يطرأ عليها من الخلل والفساد.

واعلموا ــ أيها المسلمون ــ أننا لو ملأنا آفاق السماء وفجاج الأرض عجيجاً وضجيجاً ودعوة إلى الوحدة، بإقامة البراهين الدامغة والحجج البالغة..لم يجد ذلك شيئاً ما لم تتحقق فيكم تلك الروح الواحدة، وذلك الحس والشعور الذي يدفعكم إلى تناصف بعضكم لبعض، وعدم استئثار بعض على بعض. وتلك الوحدة المنشودة التي تتكون بها الأمم وتستدر بها السعادة والنعم ليست هي لفظاً وقولاً وخداعاً ومكراً، ولا تثمر تلك الثمرات ولا تترتب تلك الغايات إلاَّ على الأعمال الجدية، وخلوص النية، والولاء الصريح، والإخاء الصحيح، و(أن يحب الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه). وقد كانت هذه الكلمة البارعة والوصية الجامعة، من أهم وصايا رسول الله لأمته التي لا يزال يقرع بها أسماعهم ويكررها عليهم، ولكننا قد أضعناها وحفظها الأجانب. أخذوها منّا وتغلبوا بها علينا، ونحن أحق بها وأولى…

فرض لازم وحتم واجب على كل مسلم أن لا يسأل إنساناً إلاَّ عن الشهادتين وجامعة (لا إله إلاَّ الله محمد رسول الله)، فإن وجدها لا يسأل عن شيء بعدها.

وكان المسلمون، أيام الفتوح والتوغل في البحار والأمصار، إذا سئل أحدهم عن نسبه وقبيلته، قيل له: من أبوك؟ يقول:

أبي الإسلام لا أب لي سواه

 

إذا افتخروا بقيس أو تميم

 

أعوزنا وأضربنا عدم الثقة بالله، وإنا لا نعتقد اعتقاد اليقين بجزاء ولا حساب ولا كتاب، وأن مصيرنا إلى الله، وإن الأمور كلها بيده وفي مشيئته، وقد جعلها منوطة بأسبابها.

أمم الغرب ــ على الغالب أيضاً ــ ليس لها ذلك الأعتقاد الراسخ، ولكن كبرت نفوسهم، وتعاظمت همتهم، فأنبعثوا إلى الأعمال الجدية لنيل العز والشرف..وبذلك تغلبوا علينا. ونحن ــ مضافاً إلى لزوم طلب تلك المعالي والعز الذي كان لآبائنا ــ نعتقد بالجزاء ودينونة الحق في دار القرار..وكلها دواع وبواعث يجب أن تدفعنا إلى لمِّ شعثنا، وتهذيب أخلاقنا، وأسترداد تراث سلفنا.

أمر هائل، وخطب فظيع، تحار منه العقول، وتطيش له الألباب..الحال الذي صرنا إليها لو حللناها تحليلاً كيمياوياً، ونظرنا كيف كنّا وكيف أصبحنا، وإلى أي حد من الشقاء بلغنا، وكيف أتفقنا على أن نعين عدونا، ونخرب بيوتنا بأيدينا..إذاً لأنشقت المرائر، وتفطرّت القلوب. والخطب الأفظع: إن الخطب والمقالات، والنوادي والاجتماعات، تذهب هواء في شبك، ولا تؤثر شيئاً من الأثر المطلوب.

 

يا أهل البصرة!

كنت أخبرتكم: إن العلوم الإسلامية انبثقت من بصرتكم هذه، وفيها تشكل (المربد) الذي كان كأول معهد علمي إسلامي، ومنها تخرج الأعلام، وعظماء الإسلام...أفلا تنهض بكم الغيرة والحمية ثانياً فتستعيدوا ذلك المجد الباذخ؟! أفلا تثور فيكم النخوة فتتقدموا أمام المسلمين بنهضة شريفة، فتجمعوا كلمتكم، ولا تدعوا مجالاً لتأثير الفوارق المذهبية في صدع وحدتكم؟!.

أفلا تنهضوا نهضة آبائكم الكرام، وتنبذوا الحرص على حطام هذه الدنيا الدنية، ولا تحتذوا ما تخيله لكم الأوهام الشيطانية؟!.

"الشَّيْطَانُ يعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ".

 


 

 
امتیاز دهی
 
 

 
خانه | بازگشت | حريم خصوصي كاربران |
Guest (PortalGuest)

دبيرخانه كنفرانس‌هاي بين‌المللي
مجری سایت : شرکت سیگما