الأحد, شوال 26, 1445  
 
فلسطين والمؤتمر الإسلامي

 الخطب الأربعة

  



 

بسم الله الرحمن الرحيم

"رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي  وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي".

أيها المؤمنون!..

لو أردت أن أتكلم بكل ما أعلم، وبما أوتيت من براعة البيان وقوة اللسان، وبما يلائم الطبقة الراقية منكم من ذوي الفضل والمعارف، كنت أوجبت حرمان الآخرين من الحاضرين. فرعاية لحق الجميع، لا مندوحة لي من أن أتكلم باللسان الذي ينتفع به الجميع ولا تختص به طبقة دون طبقة، وقد قيل ((إن الرجل إذا أراد أن يتناول شيئاً من الأرض لابد له من أن يتطأطأ وينحني)). إذاً فلا مؤاخذة لو تكلمت باللسان العادي، بعد أن كان جلَّ الغرض هو الإفهام، لا أظهار الصناعة والبراعة وتزويق الكلام.

قال سبحانه وتعالى: "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ".

هذه الكرة الأرضية التي نعيش على ظهرها أحياء، ونرمس في بطنها أمواتاً، وكلما فيها وما عليها وما يحيط بها وما يخرج منها من الكائنات من الأمهات الأربع: الماء والتراب والنار والهواء، والمواليد الثلاث: الجماد والحيوان والنبات… كل هذه الحقائق، بجميع أصنافها وأنواعها، ومختلف أشخاصها، كلها قد تكونت من أجزاء متغايرة وعناصر مختلفة.. أنضم بعضها إلى بعض، وأمتزج بعضها ببعض، على نسبة مخصوصة ووضع خاص، حتى صارت حقيقة نوعية، لها آثارها الخاصة وخواصها المتعينة..هذا شجر، وهذا حجر، وهذا انسان…

ولكل واحد من تلك الموجودات العينية فساد وصلاح، ونقص وكمال. وصلاح كل موجود هو عبارة عن ترتيب الأثر المقصود منه، وحصول الغاية التي خلق من أجلها، والثمرة المتوخاة فيه.. وفساده عبارة عن تخلف ذلك الأثر، وعدم حصول تلك الغاية منه. فصلاح الزرع ــ مثلاً ــ أن يثمر الثمر الجيد والحب الذي يطلب من مثله، وصلاح المسك بأن تفوح منه الرائحة الطيبة وإذا لم تكن له تلك الرائحة فهو فاسد.

وإذا تعمقنا في البحث، ودققنا النظر في الأسباب والعلل، لا نجد علة الفساد وسبب الصلاح في تلك الكائنات سوى ما يرجع إلى أمر واحد.. فصلاح الشيء وترتب أثره المطلوب منه إنما ينشأ من استجماع أجزائه وانضمام بعضها إلى بعض وارتباطها على نسبة خاصة ووضع معيّن، وارتباطاً يجعل تلك الأجزاء المتغايرة شيئاً واحداً ذات أثر واحد، فإذا زادت تلك الأجزاء أو نقصت، أو أختل وضعها الخاص وتركيبها المعيّن، فأنحل ذلك التركيب وتفككت تلك الأجزاء، فهناك يأتي الفساد وتتلاشى الحقيقة، ويفوت الأثر المقصود منها.

فمرجع الصلاح ــ في الحقيقة ــ في كل الكائنات إلى الوحدة والإنضمام، ومرجع الفساد إلى التفرق والانقسام.

ولو نظرنا بالنظرة الأولى إلى الأشياء التي يعرضها الفساد، مثل الفاكهة واللحم ونظائرها لا نجد فسادها إلا من جهة انحلالها، ورخاوتها، وتفكك أجزائها.. وما كان صلاحها إلاَّ من جهة تماسك أجزائها وشدة ارتباطها وصلابتها.

وهكذا يتمشى القول في هذا الهيكل الانساني بالنظر إلى كل فرد منه، فإن صحته وصلاحه ليس إلاَّ عبارة عن استجماع أجزائه المقوّمة له على تركيب خاص، فلو زادت أو نقصت أو أختل ذلك التركيب والوضع وتفككت الحجيرات التي تكون منها لحمه ودمه، جاء الفساد، وعرض المرض، وتسربت إلى جسده العلة... واستجماعه لأجزائه بالمرتبة المعينة له تستوجب وحدة حقيقية، بوحدة الحس والإدراك والتعقل، وهذه الوحدة تستوجب تبادل المنفعة بين الأعضاء.

ومثل ما قلناه في الفرد يأتي القول في المجموع، وأعني به الأمة التي تتألف من الأفراد.. وكل فرد فإنما هو جزء من أجزائها، فإن صلاحها بالضرورة إنما هو بإنضمام أفرادها، وشدة إرتباط بعضها ببعض ارتباطاً يستوجب وحدتها الحقيقية، بحيث يعود حال المجموع حال الفرد في حد نفسه، له روح واحدة وحس واحد، حتى لو ضربت العين أو الأنف أو اليد أحست كل الأعضاء بالألم، وإذا ابتهجت العين بمنظر حسن أبتهج البدن كله، وهكذا إذا انتعش الأنف برائحة طيبة انتعش كل البدن..وكذلك المنافع متبادلة بين الأعضاء، فاليد تخدم العين وتحامي عنها، وكذلك العين تخدم اليد كما تخدم سائر الأعضاء، فإذا تبادلت المنافع وصار كل واحد من الأعضاء خادماً لسائرها، فالكل قائم بخدمة الكل، فهناك البدن الصحيح السوي، الصالح القوي، الذي لا يتسرب إلى شيء من الفساد.

أما إذا فسد بعض الأعضاء أنقطعت علاقته من الباقي وزال الأثر المقصود منه من منفعة البدن وخدمته، وربما سرى فساده إلى غيره، وكان الواجب قطعه.

هذا حال الإنسان فرداً، وعلى هذا القياس حاله مجتمعاً.

فإذا ارتبطت أفراد الأمة بعضها ببعض ارتباطاً يوجب لها الوحدة الحقيقية، تعيش بروح واحدة، وترمي إلى هدف واحد، وتكون بمثابة الجسد الواحد الصالح الصحيح الذي يسعى كل فرد من المجموع لخدمة المجموع، وإذا تألم فرد منه تألمت جميع أفراده كما قال صلوات الله عليه: (المؤمن من المؤمن كالعضو من الجسد، إذا تألم عضو أصيب سائر الجسد بالسهر والحمى)…

هناك تصير الأمة بأفرادها كأنها بنيان مرصوص، فتتضاعف القوة، وتتوحد القوى، ولا يتسرب إليها شيء من الفساد، وتدرأ الأخطار والكوارث عنها بفضل قوتها المجتمعة، وصارت أمة صحيحة حية، صالحة قوية، لها مجدها وكيانها، وعزها وشأنها.

أما إذا كان كل فرد قد انقطعت علاقته من المجموع، وزال ذلك الربط وتمزقت تلك الوحدة، وصار كل فرد ــ فضلاً عن انه يشتغل لنفسه ويعمل بفرده ــ يسعى لهدم أخيه والإضرار به وخرابه، فقد خرب بيت الجميع، وانهدم صرح الأمة من أساسه وهو على رأسه.. ففسدت الأمة بأجمعها، وزال عنها كل عز وملكة، ووقعت في أسوأ الهلكة، وأصبحت فريسة للذئاب وطعمة للكلاب… كما أصبحتم تشاهدون كل هذا بأعينكم.

ثم أن الفساد الذي هو الانحلال والتفكيك إنما ينشأ مما كسبت أيدي الناس من عدوان بعضهم على بعض، وحب الغلبة والاستيثار الناشئ كله من الجهل بصالح الفرد وصالح المجموع، وإن صالح المجموع هو صالح الفرد.

الفساد هو أن يصبح كل أنسان لا يهمه إلاَّ أمر نفسه، ولا يبالي بما أصاب أخاه أو صديقه أو جاره أو رحمه، ولا يواسيه في سرّاء ولا ضرّاء.. وبهذا ومثله يظهر مغزى قوله تعالى: "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ" ومن تقاطع الأمة الواحدة وتفككها وبغض بعضها لبعض..فعندها "لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا" فترتفع البركات، وتنقطع الخيرات، وينزل البلاء، ويحجب الدعاء، ويحبس غيث السماء. وفي الحديث: (إذا رضي الله عن قوم أنزل عليهم المطر في وقته، وجعل المال في سمحائهم، وأستعمل عليهم خيارهم، وإذا سخط عليهم حبس المطر عنهم، أو أنزله في غير وقته، وجعل المال في بخلائهم، وأستعمل عليهم شرارهم) الحديث.

إذاً فصلاح الأمة حاله حال سائر الموجودات، والكائنات الحيوية، وكل ما على الكرة الأرضية، إذا اجتمعت تكون صالحة في المجتمع، ولا يكون صلاحها إلاَّ بتضامنها وانضمامها، بحيث تعيش بروح واحدة، تتبادل منافعها كتبادل أعضاء الجسد الواحد والكل يخدم الكل.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (ألا لا يعدلن أحدكم عن القرابة أو العشيرة يرى بها الخصاصة أن يسدها بالذي لا يزيده إن أمسكه ولا ينقصه إن أهلكه، ومن يقبض يده عن عشيرته فإنما يقبض منه عنهم يداً واحدة، وتقبض منهم عنه أيدٍ كثيرة).

إذا مددت يدك إلى قومك فقد مدت إليك منهم ألف يد، وإذا قبضتها قبضت عنك منهم ألف يد. فكل واحد يشتغل بيد واحدة خير لنفسه أو يشتغل بألف يد؟..ولعل إلى هذا أيضاً الإشارة في الحديث المشهور (يد الله مع الجماعة).

إذا اتفقت الأمة وأحب بعضها بعضاً، كان كل واحد منها تشتغل له الأيدي الكثيرة. وإذا تقاطعت فكل واحد منها تشتغل في تقطيعه الأيدي الكثيرة…وهناك الدمار، والبوار، وخراب الديار.

العرب كانت من أقدم الأمم نجاراً، وأعظمها آثاراً، وأشدها بأساً، وأبعدها في التأريخ ذكراً، وأسماها فخراً. وكانت لهم في الجاهلية مزايا عالية، وأخلاق سامية، قلّما يحصل مثلها في أمة من الأمم...الوفاء، والإباء، وحماية الذمار، وحفظ الجار، وإكرام الضيف، وصدق الحديث، والقناعة، والبساطة.. إلى كثير من أمثال ذلك. وأفضل ما أمتازوا به من الصفات الحسنة صفتان هما من أمهات مكارم الأخلاق: (الجود والشجاعة).. وإن شئت فقل: الاستهانة بالعزيزين: (النفس والمال).

ولكن.. هل نفعها شيء من تلك المزايا الفاضلة والسجايا الكاملة؟..كلا! ثم كلا!.

بل كان بأسها بينها، وقوتها وبالاً عليها. فكان أكبر شاغل لها الحروب المستمرة بينها، فكانت وقائعها الشهيرة، وحروبها الكبيرة لا تحصى. وقد بلغ توالي الحروب فيها، وتفاخرها بالسبي والسلب والغارة، وإراقة الدماء بغير حق وعلى غير قاعدة وقانون، إلى فوق ما يتصوره العقل، وما يقشعر له الوجدان من الجهل والهمجية في وأد البنات وقتل الأولاد "وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ" وعبادة الأوثان، وتأليه الأحجار التي يصنعونها بأيديهم ويعبدونها…فهل كانت الشجاعة والكرم نفعتهم شيئاً، أو جمعت لهم شملاً، أو وحدث لهم كلمة؟.. كلا!.. بل كانوا بحيث يقتل الأخ أخاه، والولد أباه، والعشيرة الواحدة بينها حروب كثيرة.

وما يزالوا يتخبطون في سنادس الظلم والظلمات، وقتل الأولاد والعشيرة.. فكانت أمة فاسدة، وشعباً مبعثراً، وقوة متفرقة.. انقلبت الحسنات منهم سيئات، والملكات هلكات، والفضائل رذائل..إلى أن لطفت بهم العناية الآلهية، ونظرتهم عين الرحمة..فأبتعثت إليهم ذلك المصلح الآلهي، والطبيب الرباني، والناصح الشفيق، فصدع فيهم بدعوة الحق، فوحد كلمتهم، وجمع قوتهم، وطهرهم من عبادة الأصنام ورجس الأوثان، وغسل عنهم درن الأحقاد والأضغان، حتى صحَّ فيهم قوله تعالى: "وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا".

نعم! صدع فيهم بدعوة الحق، وجاهد وتحمل الأذى في سبيل أصلاح الأمة العربية، حتى وحدت وتوحدت، وحمدت ربها وتوحدت فيما بينها..ونفخ فيها من الحياة روحاً جديدة، فأصبحوا جسداً واحداً بروح واحدة، يرمون إلى هدف واحد.. إذا أصيب فرد واحد بأذى تألم له جميع ذلك الجسد، وهو مجموع الأمة.

فما كان بأيسر من أن ملكوا العالم بأجمعه بتلك الروح الطيبة التي تحققت بينهم، فجاءوا بمدهشات العقول...حروبهم التي كانوا يتحاربون فيها بينهم جعلوها على الأعداء، فكان الواحد يقابل الألف!.

(غزوة بدر) كان المسلمون 313 رجلاً في مقابل ما يزيد على الألف من جبابرة قريش، مع ما كانوا عليه من القوة والسلاح وهؤلاء عندهم سبعون بعيراً وفرسان ومع ذلك في يوم واحد، في موقف واحد، كسروهم تلك الكسرة الشنيعة..قتلوا سبعين، وأسروا سبعين.. والإسلام يومئذٍ أبن سنتين.. ثم أخذوا بهذه الوتيرة وبهذه القوة حتى بلغوا ما بلغوا.

حرب (اليرموك) كان المسلمون 30000 واعداؤهم من رومانيا ومن الشام ألف ألف من المشركين، ومعهم ملوك الأفرنج.. فكان كل واحد من المسلمين يقابل ثلاثة آلاف من المشركين! حتى غلبوهم في سنة 16 هجرية.

وفي عين تلك السنة يحاربون من طرف الشام القياصرة، ومن طرف العراق في القادسية يحاربون الأكاسرة...

هكذا كانت قوة الإسلام، لأنهم أصبحوا في روح واحدة، ترمي لغرض واحد، ولكن لم تبق هذه الروح على تلك الحالة، حتى أصبحت تضعف وتتضاءل، وتأتي عليها العوامل المفرقة، والسموم القتالة.. إلى أن أصبح المسلمون على هذا الحال الذي تراهم عليه.

الإسلام هو الذي هذّب تلك الأخلاق، وجعل تلك الروح صخرة إيمان ويقين.

قالت طواغيت قريش لرسول ا لله (صلى الله عليه وآله) في أول الدعوة: كيف نتبعك واتباعك كلهم عبيدنا ــ مثل بلال وصهيب وعمار ــ ونحن ملوك العرب وجمرات قريش؟ فقال لهم: (أتفاخرونني بآبائكم أحجار جهنم؟‍ والله ليكثرن بعد القلة، وليعزن بعد الذلة، وسيفتحون ممالك كسرى وقيصر، ويصير كل واحد منهم صاحب رأى، فيقال: هذا رأي فلان وهذا رأي فلان) الحديث.

نعم !‍ وما مضت على ذلك بضع سنوات حتى ملكوا ممالك كسرى وقيصر، وقذفت لهم خزائن الدنيا بكل ما في أحشائها.

الصلاح هو الذي يرفع الأمة إلى أوج المجد، والفساد هو الذي يهبط بها إلى حضيض الهوان.

الأمة الفاسدة المبعثرة قواها لا محالة تكون طعمة للكلاب وفريسة للذئاب. الأمة التي لا تحفظ كيانها، ولا تشيد بنيانها، ولا تعيش عيش الصلاح، لابد وان تصير طعمة للغير. والقوي بالضرورة يأكل الضعيف. ولكن أنى لنا بالصلاح، وأين المصلحون؟؟.

فسدت الأخلاق فساداً يعجز عنه نطس الأطباء، وعادت الأمة العربية إلى جاهليتها الأولى يوم كان يقتل بعضها بعضاً..القلوب مشحونة بالاحقاد والاضغان والدسائس… انقلبت المسألة رأساً على عقب، وأصبح كل منا يريد هدم الآخر ويسعى في هلاكه.

فسدت الأخلاق وساءت النيات، فحقت علينا (كلمة العذاب)، وأذاقنا الله وبال بعض ما عملنا لا وبال كل اعمالنا، فأن ذلك موكول إلى يوم آخر ودار أخرى..أذاقنا وبال بعض اعمالنا لعلنا نرجع إليه ونستدرك أمرنا "لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ".

ولما كانت الأمة العربية صالحة صحيحة، مجموعة كلمتها، متحدة قوتها، حقَّ لها وعد ربها حيث قال: "وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ"..

نعم! ورثوا الأرض وقبضوا على قرني الشمس من مشرقها إلى مغربها..من الصين إلى المحيط الأطلانطيك..جيوشهم في وقت واحد مع (العلاء الحضرمي) في الشرق، ومع (طارق بن زياد) في الغرب، حتى فتحوا الاندلس، واصبحوا إما ملوكاً على الملوك والممالك، أو يأخذون الجزية والأتاوة منهم...ولما دبَّ الفساد فيهم، غلبت عليهم الأمم، وأصبحوا نهزة كل طامع ونهسة كل ماضغ. ويستحيل أن نعيش ونحيا كأمة من الأمم ونحن على هذا الحال التي نحن فيها، والأخلاق الفاسدة التي تخلقنا بها. أصبحنا على كثرة عددنا مملوكين ومحكومين، أذلاء مقهورين.

وأدهى من ذلك كله؛ أننا لا نحس بما نحن فيه.. تخدرت أعصابنا وكأنما ضرب كل واحد منّا بعشر أبر من (المورفين)، فصرنا لا نحس بالألم فضلاً من أن نأخذ التدبير لعلاجه.

نعم! صرنا جميعاً على حد ما وصفه (عليه السلام): (أضرب بطرفك حيث شئت من الأرض، هل ترى إلاَّ فقيراً يكابد فقراً! أو غنياً بدَّلَ نعمة الله كفراً! أو بخيلاً أتخذ البخل بحق الله وفرا! أو متمرداً كأن بأذنه عن سمع المواعظ وقراً!)..نعم سنة الله في الكون التي لا تتغير ولا تتبدل "إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ".

كل طبقة من الطبقات فاسدة. وما من طبقة إلاَّ وهي محتاجة إلى الاصلاح. كل طبقة في نفسها أصبحت منحلة..أخلاقها سيئة، مداركها منحطة، ولا تعرف رشدها، ولا تهتدي إلى سبيلها، ولا تدري كيف تعيش وكيف تحيا.

هذا العالم الاسلامي العظيم الذي يكاد يملأ نصف الكرة.. (400مليون) أو (600مليون) لو يرتبط ويتفق، بحيث يشعر بشعور واحد، ويعيش بروح واحدة..هل كان يعقل أن هناك قوة تقابله أو تتغلب عليه؟..كلا! وهيهات!.

ولكن أنى لنا بذلك ونحن لا نقدر أن نتفق مع أخينا، ولا نستطيع أن نتفاهم مع صديقنا أو جارنا؟!.. أهل بيت واحد لا يتفقون ولا تكون فيهم روح واحدة يتبادلون في المنفعة ويشتركون في الفائدة ويدافع بعضهم عن بعض، فكيف بذلك العالم الشاسع الأطراف، الواسع الاكناف، المشحون بالبغضاء والعداوات، والخصومات والمنازعات، على أوهام فارغة وتخيلات واهية…

لا صدق ولا أمانة، ولا تعقل ولا روية..نختصم في كل شيء، وليس لنا من الأمر شيء، ولم يبق بيدنا شيء يستحق المنازعة.

أجدادنا العرب جاءوا إلى الخليفة (عمر بن الخطاب) بتيجان كسرى وحلله وعرشه، وفيها من الجواهر واليواقيت ما يختطف الأبصار ويدهش الأفكار، فتعجب الخليفة من ذلك وقال: (إن أمة تؤدي مثل هذا ولا تخون شيئاً منه لأمة أمينة يوشك أن تغلب على سائر الأمم).

كانوا يؤتمنون على تلك النفائس العظيمة.. ونحن لا نؤتمن على أعراض أخواننا، ولا اموالهم، ولا على شيء منهم...ونخونهم في كل شيء، ويرمي كل واحد منّا أخاه بالعظائم، ويقذفه بالفظائع، من غير ذنب ولا جناية!..ذهب المتاع، وبقيت الخصومة والنزاع..

تنازع اثنان على خرج في فلاة من الأرض، فجعلا يتضاربان ويتلاكمان والخرج مطروح خلفهما..فجاء سارق فسرق الخرج وولى!.. وبينما هما مشغولان بالتضارب والتسابب، إذ ألتفتا فلم يجدا الخرج، فكان حظهما الملاكمة والمخاصمة، والسارق أخذ الخرج غنيمة باردة...وهكذا نحن أيها المسلمون، قد تخاصمنا وتشاتمنا، وكانت الغنيمة لغيرنا.

أيها الناس!

اللص أخذ (الخرج)..فعلام هذه النزاعات والخصومات، والبغضاء والعداوات؟.. علام هذا التضارب والتنافس؟.. كل واحد منا يملأ قلبه حقداً وحسداً على أخيه!.

أيها الناس!

الوعاظ والذاكرون والخطباء يخوفونكم من نار جهنم في الآخرة، ومن أغلالها وسعيرها وسلاسلها وحياتها وعقاربها.. وأنا أحذركم من نار جهنم في الدنيا.. هي نار العداوة والبغضاء تلك "نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ".. نار العداوة في الدنيا هي التي تتكون منها نار جهنم في الآخرة..النمائم هي التي تصير في القبر عقارب وأفاعي...الضغائن والأحقاد هي السكاكين التي قطعتكم ومزقتكم وجعلتكم طعمة للأغيار. هذه الأخلاق الذميمة في الدنيا، هي عين نار جهنم في الآخرة. الأعمال تتجسم، والأخلاق تتصور، كل واحدة بما بناسبها.

"إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا"..نعم! مال اليتامى اليوم هو عين النار غداً.

أيها الناس!

يوم الدنيا يوم الطي ويوم الآخرة يوم النشر.

النواة في عالم الطي نواة وفي عالم النشر شجرة، وقد أنطوى في النواة كل ما في النخلة من سعف وجريد وتمر وغير ذلك...

وهذه الأخلاق الرذيلة، التي تبعثنا على الأفعال الذميمة المنطوية فينا، تظهر في يوم النشر حيات وعقارب، وأغلال وسلاسل، وتكون أطواقاً في أعناقنا...هي النار والسعير والسلاسل والأغلال حقيقة لا مجازاً. يقول جلَّ شأنه: "ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ"...ومنشأ كل تلك الرذائل هي الحرص والجشع والتهالك على الدنيا، وكله ينشأ من عدم الثقة بالله عزَّ شأنه.

تريدون النصائح وهي موقوفة على أبداء الحقائق وذكر السيئات والمعايب، وأخشى أن ينهتك الستار، ويرتفع الحجاب، ويظهر العار. كل واحد منّا حبله على غاربه، لا رادع ولا مانع، ولا هادي ولا مرشد..وإذا عمَّ الشرَّ على البشر هلك الجميع.

هذه صفاتنا وأحوالنا النفسية. أما أعمالنا من حيث السرف والبذخ والتبذير، فهو الداء العضال الذي قتلنا. فلو كان هناك نفوس شريفة، وعلو همة، ورجال عزم وإباء، وفتيان شمم وشهامة، لنسجوا والله ثياباً من (خوص النخل) واستغنوا بها عن الملابس الأجنبية!.. وهل الذل والعبودية إلاَّ الحاجة؟.

(أحتج إلى من شئت تكن أسيره)..كيف اشتري وأدفع روحي وحياتي إلى الأجنبي؟!.

(درهمك دمك، فلا تجره في غير عروقك).

ذهب عزنا يوم صرنا محتاجين إلى الاجانب في كل شيء حتى (الخيط والأبرة)، ويوشك ان نحتاج إليهم حتى في الخبز والماء. سقط العراق ــ كما تعملون ــ في أعمق حفائر الفقر والفاقة، ذهب الذهب وذهب كل شيء)..فالتجارة خسارة، والزراعة إضاعة.. وأي حياة لبلاد لا تجارة فيها ولا أرباح ولا زراعة ولا صناعة؟!.

الشبان

أيها الشبان!

أيها الأولاد!.. أيها الأكباد!.. يا زهرة البلاد!…المستقبل لكم، والبلاد بلادكم. نحن على وشك الرحيل وانتم الخلف. ما هذا البذخ والترف في الأموال التي تسمونها (الكماليات) وهي عين النقصيات؟! كل أوضاعكم سرف وتبذير. ما هذه الربطة التي تضعونها في العنق؟.. هي والله رباط الذلة، هي رباط العبودية… ما هذه السفاسف والزخارف؟…

لو إنكم تجمعون تلك الأموال التي تبذلونها لهذه الأمور التافهة، وتشترون بهاتيك الفضول، لأجتمع عند المسلمين أعظم ثروة، تستطيعون بها تأسيس مدارس عالية، وكليات إسلامية، تغنيكم عن الهجرة إلى بلاد الأجانب التي تمتص أموالكم، وتفسد أخلاقكم، وتمحق أديانكم. أما كان أحق بكم وأحرى عوض تلك الزخارف أن تجمعوا أثمانها لمستشفيات تحفظ صحتكم، وصحف تنوّر شبابكم وتثقف عقولكم؟.

 

الاسراف والتبذير

ناهيك بالسرف في المأكولات والمشروبات، مما تجلبونها من الأجانب...كلنا نسعى إلى هلاك أنفسنا من حيث ندري ولا ندري، وبهذا صار كل قطر من أقطار المسلمين يئن من مخالب الاستعباد، ويرزخ تحت نير الاستعمار..والمسلمون ضعفاء في أوطانهم، اسراء في نفس بلادهم، أذلاَء في عقر دارهم.

العز في الثروة، فإذا ذهبت الثروة ذهب العز. وما ملك الغرب الشرق إلاَّ بالصنائع، وأمتصاص ينابيع الثروة منه.

وديننا الشريف جاءنا بكل المصالح التي تعود علينا بالثمرات وأبان لنا ضرورة الاقتصاد..." إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ"، "وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ".

أليس الإمام زين العابدين (عليه السلام) يقول: (اللهم متعني بالاقتصاد، وأجعلني من أدلة السداد، ومن صالحي العباد، وامنعني من السرف، وحصّن رزقي من التلف، وأقبضني عن التبذير، وعلمني بلطفك حسن التدبير، وأجر من اسباب الخير أرزاقي، ووجه في أبواب البر انفاقي.. اللهم صن وجهي باليسار، ولا تبتذل جاهي يالاقتار، فأسترزق أهل رزقك واستعطي شرار خلقك، فأفتتن بحمد من أعطاني، وابتلي بذم من منعني، وأنت من دونهم ولي الأعطاء والمنع...).

أيها الشبان!

البذخ جنون، والتبذير تدمير، والسرف تلف، والتدبير عز وبركة. إذا بقينا بهذا الفقر وبهذه الذلة متى يمكننا النهوض؟!.

أيها الشبان!

مهما كان الأمر فعليكم المعول، والمستقبل إليكم، ونحن راحلون. أتدرون ماذا تعملون؟ وفي أي أودية تهيمون؟..

متى يرجى بالولد أن يكون من رجال الغد..رجل حق وصدق، رجل نشاط وعمل..وهو يقف ساعة أمام المرآة كل صباح ومساء، بين الاصباغ والأدهان، والزينة، ونتف كل شعرة من وجهه، حتى يبرز بهذا التخنث والتأنث، وكأنه بنت مبهرجة! أفبهذا تريدون أن تصيروا رجالاً بواسل كأسلافكم الأقدمين الذين فتحوا الفتوح، وملكوا الملوك؟!.

يجب على الرجل أن يكون صلباً خشناً، يسمو إلى معالي الأمور ويتعود على المصاعب.. لا على الترف والنعيم. إذا لم يتعود على مكافحة المصاعب لا يكون رجل صدق وزعيم حق، وإذا تعلّم على الزينة والبذخ متى يكون رجلاً عاملاً يدافع البهم ويكافح الأمم. تحترق عليكم أكبادنا يا أولادنا..مستقبلكم مظلم، وخطتكم وخطيآتكم مهلكة.

 

فلسطين والمؤتمر الإسلامي

عمَّ البلاء، واستحكمت حلقات المحن، وأشتد كابوس الضغط على كل قطر من أقطار المسلمين، وأصبح الإسلام في آخر رمق من الحياة، وفي حضيرة من الاحتضار.. ولكن الله سبحانه له عناية في دينه مهما تجرأنا وتمردنا عليه، وإن دينه عزيز عليه..

على طف جزيرة العرب، وفي الجانب الغربي منها، أمة من الناس..لسانهم لساننا، ودينهم ديننا، وكتابهم كتابنا، وقبلتهم قبلتنا، والدم الذي يجري في عروقهم من دمنا ودم آبائنا..قد نشبت بهم منذ سنين أظفار (الصهيونيين) ومخالب الاستعمار، ووقعوا بين ذا وذاك، بين كابوسين، بل بين طابقين من نار.. حتى أصبح ثلاثة آلاف عائلة من المسلمين ــ أو أكثر ــ بلا مأوى ولا مقر…أخذت الصهيونية أراضيهم، واستنزف الإستعمار الغاشم أموالهم، وأجلوا إلى شعف الجبال القاحلة، حيث لا زرع ولا ضرع.

الصهيونيون يبذلون لهم الأموال فيشترون أراضيهم، ويعدونهم بأبقائهم فيها ــ لفلحها وحرثها ــ ..ثم بعد قليل يطردونهم..والضرائب الباهضة من وراء ذلك يستنزف تلك الأموال..فيصبح أولئك المساكين لا أرض ولا مال، ولا مقر ولا مفر!.

فلو كان المسلمون أمة لها قوة ومنعة، وكالجسد الحي الصحيح الذي يتألم بعضه لبعض، لكنا نغار عليهم، وندافع عنهم بكل ما في جهدنا. ولكن من أين وأنى ونحن كناقش الشوكة بالشوكة وضلعها معها؟! أريد أن أداوي بكم وانتم دائي!.

نعم! هناك رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه.. فنهضوا نهضة الأسد الخادر، ووقفوا سداً منيعاً عن أن يجرف ذلك التيار صروح الباقين، وأستغاثوا بأخوانهم المسلمين من أطراف الأرض فحضر ثلة من فطاحلهم في (المؤتمر الإسلامي) الذي بعث الله فيه من روحه ونشر عليه منه جناح بركة ورحمة..ذاك حين علم ــ جلَّ شأنه ــ بما أنطوت عليه جوانح الداعين والملبين من روح الاخلاص والحفيظة، فنصرهم لما نصروه، ووازرهم لما وازروه "وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ"، "وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ"… فتقدم المؤتمر بنجاح لم يكن بالحسبان، وفشلت كل المساعي والدعايات الذي وضعت في سبيل أحباطه وفشله (مستأجري الصهيونية) وأذناب الاستعمار وأبواقهم.. وكذا إذا أراد الله أمراً هيأ أسبابه.

وما كانت أعمال المؤتمر، وجهود أعضائه، ومحكمات مقرراته، تخص بالفائدة أهل فلسطين فقط، بل هو لصالح المسلمين أجمع، في جميع أقطار الأرض.

نعم! غرس طيب غرسناه لكافة المسلمين في تربة طيبة، فأن أحس المسلمون وأحسنوا القيام بواجبهم فسقوا ذلك الغرس وتعهدوه نما وأثمر وآتى أكله شهياً طيباً، ونال الجميع حظهم منه، وان تركوه وأهملوه كما كان الغالب في سائر أعمالهم ــ لا سمح الله ــ قضى عليه في مهده، وأصبح كأن لم يكن شيئاً مذكورا..وهناك الخزي والعار على المسلمين عند سائر الأمم، ولا تقوم لهم قائمة بعد هذا أبداً..فلينظروا لأنفسهم، فهذا هو الحد الفاصل بين الموت والحياة.

 

ما يلزم المسلمين من الجمعيات وجمع المال

أنظروا للمستقبل أيها المسلمون!

تداركوا أمركم، وأنظروا مستقبلكم، وأجمعوا شملكم.

هاتيك الدول كلها منذ فرغت من الحرب الكونية إلى اليوم ما انفكت تجمع قوتها، وتوفر أموالها، وتشحذ أسلحتها، وتزيد عددها وعدتها ليوم مشؤوم على الشرق، بل على العالم أجمع. ولا أدري أقريب هو أم بعيد، ولكن الساسة ونوابغ الرجال يتنبأون بحرب عالمية كبرى، ولا محالة ستكون أعظم من الأولى...أفلا يتحتم عليكم أن تنظموا صفوفكم، وتصلحوا شؤونكم، وتوحدوا كلمتكم..حتى إذا دهمكن البلاء أتاكم وانتم على بصيرة من أمركم، وعدة واستعداد من معرفة مصيركم؟…قد تسرب الفساد إلى جميع الطبقات، وكل طبقة تحتاج إلى الاصلاح، سنة الله في الكون التي لا تتغير ولا تتبدل.

"إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ".

والاصلاح لا يتسنى إلاَّ بتشكيل نقابات..وهي تحتاج إلى هيئة عاملة مشرفة، تتصدى للتنظيم، وتجعل لكل صنف هيئة تنتخبها لتدبير شؤون ذلك الصنف، وتسعى لأصلاحه وجلب مصالحه، ودفع الأخطار عنه، وأصلاح ذات بينهم، وحسم ما يقع من الخصومات بين أفرادهم، والسير بهم إلى المساعي النافعة والأعمال المثمرة، وجمع مقدار من المال للكوارث والبلايا التي تنزل بهم من غير حسبان.

فلو ان هذه البلدة الطيبة، التي دعانا أهلها لزيارتهم، وساعدتنا العناية بهم على اجابتهم..يجمع في كل يوم من كل فرد ربع (آنه) أي في الشهر نصف (ربية) لوجدوا كم يجتمع في السنة عندهم من المال، الذي يتمكنون به من انشاء المشاريع الخيرية النافعة لهم، ولا يتصور باذل هذا المبلغ الزهيد أنه يدفع المال لغيره، بل فليكن على يقين أنه يجمعه لنفسه، وهو كصندوق أحتياطي له، يعود بالنفع عليه وعلى أخيه وجاره وولده وأرحامه وقومه.

نعم! يحتاج هذا إلى نهوض جماعة من أهل الهمة والنشاط، ومن ذوي الشخصيات اللامعة، ليجمعوا المال بحنكة وحكمة وأمانة وحسن تدبير..فلو عملوا على هذه المناهج لأجتمع عندهم من القليل كثير، وأمكنهم بهذا أن يساعدوا (المؤتمر) وغير المؤتمر، وكل شيء..

ومهما بلغت الأزمة والضعف بأهل العراق، فأنها لا تبلغ العجز عن بذل تلك المبالغ الزهيدة وذلك المقدار البسيط، الذي لا يكاد يحس...على ان دفع المقادير الكثيرة على أهل الهمم العالية ليس بكثير.

كان في (الاستانة) جامع منهدم في بعض محلاتها البعيدة المهجورة، لذلك أبت الحكومة عن بذل المصارف لتعميره، فنهضت الحمية برجل من المسلمين ضعيف الحال، أخذ العهد على نفسه أن يجمع ثمن كل ما يمكن الاستغناء عنه من لباس ومأكل ومشرب، ويجعله في صندوق لا سبيل إلى فتحه..فكان إذا أشتهى فاكهة ــ مثلاً ــ أو ثوباً جديداً أو نحو ذلك منع نفسه عنه وطرح ثمنه في الصندوق. وبعد مرور سنتين أو ثلاث أجتمع في الصندوق مال كثير، فأخرجه وبنى به ذلك الجامع بناءاً فخماً، ووضع على بابه صخرة كبيرة مكتوباً عليها باللغة التركية: هذا جامع (كأني أكلت، كأني شربت، كأني لبست)!.

 

العمل والنشاط

العمل العمل..أيها الناس!

فوالله ما ترقى الغرب الذي ملك العالم إلا بالعلم والعمل! وما سقط الشرق وتأخر إلا بالجهل والكسل، والخلاف والجدل.

الخلاف هو الذي يهدم الرأي، ويهلك الأمة..النزاعات هي آفتنا القتالة المهلكة، ولا شغل لنا سواها. وكلها على أوهام خيالية فارغة عكس ما أمر الله ــ سبحانه ــ به، وما جاءتنا به الشريعة السمحاء المهذبة للأخلاق، الكفيلة بأقتلاع كل الجراثيم التي تقضي بهلاك الإنسان وهلاك أمته.

إن شريعة الإسلام جمعت السعادتين: سعادة الدنيا، وسعادة الآخرة. وأخذت بالعدل، وزادت عليه بالعفو والفضل... "الْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ"، "وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ".

وزين العابدين (عليه السلام) يقول في دعاء مكارم الأخلاق من زبور آل محمد: ((اللهم صلِّ على محمد وآله، ووفقني لأن أعارض من غشني بالنصح، وأجزي من هجرني بالبر، وأكافي من قطعني بالصلة، وأخالف من اغتابني إلى حسن الذكر)).

أما نحن.. فقد عكسنا هذه القواعد الذهبية، وصرنا نجازي من نصحنا بالغش، ومن برنا بالهجر، ومن وصلنا بالقطع.. وكلما أصابنا فيما كسبت أيدينا، وقد أرشدنا المصلحون.. ولكن نحن الضايعون والمضيعون.

 

الحفاوة والحفلات

وجدنا من المسلمين في سفرنا هذا من العراقيين وغيرهم من أهالي (فلسطين) و(سوريا) من كل من مررنا عليهم.. أكمل الحفلات، وأكرم الحفاوات، وجدنا منهم الشعور الرقيق، والتأثر العميق، والسخاء العربي، والحفيظة الإسلامية، وكلما يرق

ويروق للناظر والسامع من هذه الطلائع. ولا شك إن مساعيهم مشكورة، وأجورهم عنده ــ تعالى ــ مذخورة.. ولكن هل في شيء من ذلك ما يشفي العلة ويبرد الغلة؟.

إن الذي يراد من المسلمين، والذي يجب أن يسعى إليه الجميع، هو العمل المنتج، العمل المثمر، العمل الذي ينفعهم في الدارين.

لا نريد حفاوة ولا تكريماً، ولا تجلة ولا تعظيماً..نريد أن تكونوا رجالاً أشداء على الأعداء، أقوياء في عزائمكم، رحماء فيما بينكم.. أمة صحيحة صالحة، وأسود مجد وسؤدد يحامي بعضهم عن بعض... هذا الذي يسرنا منكم، هذا هو الذي ينعش قلب الرجل الناصح، ويطرب سمع المجاهد المخلص.. أما هذه الحفاوات، فماذا أنتفع بها أنا، وماذا تنتفعون أنتم بها؟.

أريد أن تكون الأبناء كالآباء في النخوة والإباء، والأولاد كالأجداد في الحزم والسداد، والخلف كالسلف في العز والشرف. ضحك لهم الدهر وعبس علينا، وما أدري أحسن إليهم وأساء إلينا، أم كل ذلك مما جنيناه على أنفسنا؟!.

عبسن لنا وجوه الدهر حتى

 

تناهشنا بأثياب حداد

 

فلا ندري السقوط بأي غور

 

ولا ندري الهبوط بأي وادٍ

 

وكنا نجتني ثمر المعالي

 

فصرنا نجتني شوك القتاد!!

 

أيليق بأمثالكم أن تغمرهم الفترة، وتمر عليهم السنوات وهم في سنة الغفلة؟..ألا تبعثكم الشهامة؟..ألا تحفزكم الكرامة وأنتم سلائل أولئك البواسل الفاتحين الذين فتحوا هذه الممالك وأوجدوا لكم هذا العز العظيم؟.

يا أهل شريعة الكوفة!

قد أجبنا دعوتكم، ووفينا بوعدكم، وأنتم تطلبون منّا مواعظ ونصائح، ولا أجد جزاء لكم وعاطفة عليكم ألزم وأهم من أن أنصحكم في شيء واحد؛ أوصيكم ــ وكل المسلمين ــ بتصافي القلوب، ورفع الحزازات والبغضاء، وتعاطف بعضكم على بعض، بحيث تكون لكم وحدة وتضامن، وتتوثق ما بينكم عرى الأخوة وروابط المحبة..أجتمعوا وأجمعوا المال لليوم الأسود الذي سيغشى العالم لا محالة..ساعدوا الضعيف، أرحموا اليتيم، أقبلوا عثرات ذوي المروءات، وخذوا بيد من رماه الدهر بنكبة من النكبات.

أيها المسلمون!

دين الإسلام دين الفطرة، دين الرحمة والبركة، دين العلم والعمل، لا دين البطالة والكسل.

الإسلام دين التوحيد، يعني يوحد الله في العبادة، ويوحد المسلمين في الآخرة.

الإسلام بوتقة تذوب عندها العناصر...الكل سواء بالنظر إلى الحق والعدل.

دين الإسلام كيمياوي يوحد العناصر المختلفة..العربي، والفارسي، والهندي، والتركي...وكل البشر سواء. أي دين جاء للبشر بهذه السعادة؟.. "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ"، "يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ".

إذا أردت أن تتزعم وتترأس أخدم أمتك، أخدم وطنك، فإن الزعيم المحبوب خير من الحاكم المرهوب.

الزعيم المحبوب هو من يخدم أمته ويخلص لوطنه وقومه، من يدافع عن كلمة الحق، من يثبت على مبدئه، ويسهر لمصلحة بلاده. ليس الزعامة بالدعاوي والفخافخ..أخدم تجد خداماً.

أيها الناس!

أنا داعي الله.. أنا داعي الحق.. أنا داعي الوحدة.. أنا داعي الصلاح والإصلاح.. أخشى بدعوتي هذه وفي مقامي هذا أن تتم عليكم الحجة.. إذا لم تنشطوا للعمل ينزع الله عنكم البركات، ويرفع الخيرات، ولا يكون لنا في السماء عاذر، ولا في الأرض ناصر.

 

السياسة والإصلاح

أنا لا أؤيد السياسة ولا أعارضها.. لا أؤيد ولا أفند.. ولا أمدح ولا أذم...ولازلت أقول: إن السياسة جمرة نار أحسها ولا ألمسها.. أراها بعيني ولا أمد لها يدي. لا أقول هذا خوفاً ومجاملة، ولا طمعاً ولا رجاء، فإن الله ــ سبحانه ــ قد عافاني من رذيلتي خوف الناس ورجائهم.. من كان قوي الثقة بالله لا يخاف ولا يرجوا إلاَّ الله…ولكن أقول ذلك علماً واجتهاداً. ويقيناً واعتقاداً.

كان السيد الأفغاني (رحمه الله) يقول:

(الأحزاب السياسية للأمة نعم الدواء، ولكنها في الشرق تنقلب غالباً إلى شر داء).

ومعنى ذلك: أن الاشتغال بالسياسة لا ينفع الأمة إلاَّ إذا كان منبعثاً ومتشبعاً بروح الإخلاص، والإخلاص عزيز.

السياسة مع المطامع داء ومع الإخلاص نعم الدواء...هذا مع أني أعتقد ان الأمة لا تسود إلاَّ إذا كانت آراء المعارضين محترمة لديها مقدّسة عندها، والحقيقة ضالة الجميع، ولعلها في جانب خصمك أكثر مما في جانبك.

فأجتمعوا وتحابوا وتفاهموا، عساكم تصيبوا الحقيقة.

يلزمنا أن نصلح أنفسنا قبل كل شيء. كيف نأمل أن نصلح الممالك والحكومات ونحن غير صالحين؟! نحن بعد لم نصلح شؤون بيوتنا، وأخلاق عائلاتنا وأولادنا، وأهل بلادنا… فكيف نستطيع إصلاح غيرنا؟.. لنصلح أنفسنا، ونعلم أبناءنا وأهالينا.

أننا إذا أردنا أن نعيش أمة حية قوية، مثرية غنية، يلزمنا أن نلبس من غزل أيدينا ونأكل من نتائج أراضينا، ونستغني عن مصنوعات غيرنا جهد امكاننا.

هل الأسر والعبودية إلاَّ الحاجة؟.. ونحن في كل شيء محتاجون إلى غيرنا (الصغيرة والكبيرة).. وكل ذلك من ضعف الإرادة، وقصور الهمة، وتشتت الكلمة. الأخ مع أخيه، والوالد مع ولده، وكل قريب مع قريبه غير متفاهم ولا متصافي.. القلوب مشحونة بالبغضاء والشحناء على أوهام لا وجود لها وتخيلات لا حقيقة فيها!.

كان لرجل بستان خرج منها إلى داره القريبة منها، وبينما هو راجع من بيته لبستانه، فإذا برجل خرج من البستان راكضاً خائفاً وجلاً، فقال له صاحب البستان: ما دهاك أيها الرجل؟ ومما هذا الخوف والاضطراب؟ فقال: دخلت هذا البستان لأستريح قليلاً وإذا به مملوء بالضباع!.. فأستغرب البستاني ذلك، إذ قد فارقه قريباً ولا شيء فيه..فقال له: كم عدد ما رأيت فيها من الضباع؟ قال: مائة على الأقل! فقال له: أظنك مشتبهاً، فتأمل جيداً. فتنازل إلى الخمسين.. ولم يزل البستاني يشككه ويأمره بالتدبر والتروي إلى أن قال: أما الواحد فلا شك فيه، وقد رأيته الآن بعيني! فقال البستاني: نعم هذا جائز فهلم معي إلى البستان كي تدلني عليه ولا تخف. فدخلا البستان، وإذا على شجرة منها عباءة سوداء منشورة، ظنها ضعيف القلب ضبعاً..ثم غلا في وهمه وجعل الواحد مائة!!.

وهكذا نحن بعضنا على بعض، نسيء الظن بأخواننا ثم نجعل الواحد مائة.. وفي الحقيقة لا أحد ولا مائة. ويشيع الواحد منّا على أخيه العيوب والمخازي ولعله بريء منها جميعاً.. مع أن الله ــ سبحانه ــ أمر بالستر ونهى عن إشاعة الفاحشة.

أيها الناس!

قد بذلت لكم النصائح، ودللتكم على العلل والأمراض، وشخصت لكم الداء والدواء، ولا أريد بذلك جاهاً، ولا مالاً، ولا زعامة، ولا كرامة.. أنا بفضل الله غني عن ذلك.. ولكن الذي يسرني منكم واعده السعادة لي ولكم أن تندفعوا إلى العمل والشروع في المشاريع النافعة، ولا تتواكلوا، ولا تتخاذلوا، فحسبكم ما مرَّ وجرى عليكم. وأعلموا أن القول وإن كثر، والوقت وإن طال، ولكن ما تكلمت إلاَّ من ناحية من نواحي الحقيقة وحواشيها دون الصميم والصريح منها. والحقائق كلها مطوية لا سبيل إلى بيانها.

الثقة مفقودة، والألسن معقودة، والعقول معقولة، والأيدي مغلولة..فماذا يقول اللسان وهو معقود بألف عود.

أقول وقد شدوا لساني بنسعة

 

أمعشر تيم أطلقوا لي لسانيا

 

ولكن ربما تسألون: ماذا كانت النتيجة والغاية من كل تلك الكلمات وصرف ساعتين من الأوقات... فالجواب المختصر الكافي: إن كل أمة لها حس وشعور فهي لا محالة تطلب سعادتها.. ولا تحصل السعادة إلاَّ بوسيلتين، ولا تقوم إلاَّ على دعامتين: (الاتحاد والاقتصاد). إذا أتحدتم سعدتم، وإذا أقتصدتم سعدتم. إذا أتفقتم وفقتم، وإذا أختلفتم تلفتم.

نحن محتاجون إلى الاقتصاد في كل شؤون الحياة، وفي جميع أعمالنا وأحوالنا. وليس المراد بالاقتصاد حبس الأموال في جميع الأحوال، بل الاقتصاد الحرص على جمع المال من سبله المشروعة، وحبسه عن الانفاق إلاَّ في مواضع الشرف أو الضرورة... الاقتصاد أنفاقه في مواضع الشرف لا مواضع السرف والترف والشهوات البهيمية. أحرص عليه في موارد السرف، لتنفقه في موارد الشرف.

أين السامعون العاملون بأحسن ما يسمعون؟!.. جعلكم الله من الذين يقول فيهم جلَّ شأنه: "فَبَشِّرْ عِبَادِي الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ"، ولا يجعلكم ممن قال فيهم: "صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ". والكثير من الناس وإن صاروا على هذا الحال وبهذه الصفة، ولكن لا يأس من روح الله. وأرجو أن يكون لكلماتي أثر في نفوس العموم، لأني أتكلم ــ كما يعلم الله ــ بروح شفقة وإخلاص وحنان ورحمة.. أتكلم معكم عن قلب.. والكلام ــ كما قيل ــ إذا خرج من القلب دخل في القلب.

أيها الناس!

أنا النذير العريان.. أنا النذير المجرد عن كل غرض وغاية سوى غاية خيركم وصلاحكم...لذا أملي قوي إن كلامي هذا سوف لا يذهب ــ بتوفيقه تعالى ــ إدراج الرياح، ولا يعود ــ كما يقال ــ صيحة في وادِ، ونفخة في رماد.

وأملي أن يكون تأثيره في (النجف) التي هي بمنزلة الدماغ المفكر من العراق، وفي (شريعة الكوفة) التي هي بمنزلة الكف والساعد من النجف.

أيها الناس!

أنا كما تعلمون (رجل روحاني).. لست بخطيب، ولا واعظ، ولا ذاكر.. ولا أستطيع كل يوم، بل ولا كل شهر، أن أقرع سمعكم وأسمع جمعكم بأمثال تلك الكلمات الرائعة والنبرات اللاذعة، وأنا عند نزولي عن هذه الأعواد سوف أعود إلى أعمالي الدينية ووظائفي الروحانية، من التدريس والصلاة والفتوى، وأرجو أن تشتغلوا أنتم بالاجتماع والمفاوضة، وتعيين الخطط والمناهج.

والله ــ سبحانه ــ يسعدكم ويساعدكم، ويأخذ بأيديكم إلى سبيل النجاة والنجاح إن شاء الله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 


 

 
امتیاز دهی
 
 

 
Guest (PortalGuest)

دبيرخانه كنفرانس‌هاي بين‌المللي
Powered By : Sigma ITID