الأحد, شوال 26, 1445  
 
الخطبة الرابعة

 الخطب الأربعة

  



الخطبة الرابعة

الخطاب الذي تفضل به سماحته في النجف الأشرف ــ في 28 صفر سنة 1353 هجرية ــ في الصحن الشريف على جماهير من المستمعين مرتجلاً. قال (رحمه الله):

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين.

قال الله تعالى: "وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ".

إن الله ــ سبحانه وتعالى ــ لما ذرأ الخليقة، وبرأ النسمة وأوجد البشرية..أوجد فيها ثلاث غرائز ملازمة لها: أوجد الإنسان جاهلاً لا يعلم شيئاً، وفقيراً لا يملك شيئاً، وعاجزاً لا يقدر على شيء. فهذه الخصال الثلاثة هي الضريبة الأولى على ابن آدم التي جبل عليها وتمكنت منه…جهل، وعجز، وحاجة.

ولكنه ــ جلَّ شأنه ــ قابل هذه الرذائل المتأصلة فيه، والتي هي أمهات بلائه، وأصول شقائه، وينابيع ضرائه، وشجرة جميع رذائله وذمائمه..بثلاث من النعم: نعمة الوجود، ونعمة الحياة، ونعمة الإدراك. فجعله موجوداً حياً مدركاً. وهذه هي أصول النعم والفضائل التي يستطيع بها أن يتدارك ما يدخل عليه من النقص بتلك الرذائل السابقة. ولكن الإنسان بما أنه جاهل لا يعلم كل شيء "وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا"، فلا يهتدي ولا يستطيع أن يستثمر تلك المواهب العظمى،

فكان بالضرورة وبالطبع يجب على الله من باب اللطف، لأنه أوجد البشرية للنعمة والهناء لا للبلية والشقاء..نعم! كان من الواجب عليه أن يبعث في كل برهة معلمين مهذبين يعلمون الناس كيف يستغلون نعمة الحياة ويستثمرون أدراكهم وعلمهم، فكان المصلحون والمرشدون لا يزالون على طول الأبد تأتي منهم ثلة بعد ثلة.

فأعلى طبقاتهم الأنبياء والمرسلون، فإنهم ما بعثوا إلاَّ لتثقيف البشر وتهذيبهم ودفع تلك الرذائل عنهم، ثم يليهم الأئمة والأوصياء والسفرة والبررة، ثم بعد هاتين الطبقتين العلماء، ولا أعني بالعلماء من أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قال: (وآخر يسمى عالماً وليس به، قد جمع أضاليل من ضلال وجهالات من جهال)، ولكن أريد العلماء الذين يعنون بتهذيب البشر وإصلاح أخلاقهم وتزكية نفوسهم، فما من أمة قام فيها مرشدون إلاَّ وكانت سعيدة وحصينة من السوء، وما من أمة خلت منهم إلاَّ وكانت عاقبتها الدمار. فالله يقول: "وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ"، ثم عقب هذه الفقرة الشريفة بكلمة أنبأت عن مغزاه من ارسالهم، حيث قال: "فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ". فالغاية منهم أن يكونوا مبشرين بفوائد الإصلاح ومنذرين بمضار تركه. وإلى هذا أشار في آية أخرى، حيث قال: "وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ"، يعني: إن وجود المصلحين يستحيل معه هلاك الأمة. فإذا جاء الأنبياء وورثتهم العلماء وقاموا بوظيفتهم، فحينئذِ من آمن وأصلح وأتبع سيرتهم فلا خوف عليهم، وأما إذا لم يتبعوا السيرة النبوية ولم يكونوا مصلحين فهناك الخوف والحزن.

 

أهمية المصلحين

منزلة المصلحين من الأمم منزلة الأطباء والمعالجين..فكما إن الأطباء يعالجون الأمراض الجسمانية فكذلك العلماء يعالجون الأمراض النفسانية المهلكة لها، وبهلاك النفس هلاك الجسد، ومرتبة هؤلاء كمرتبة الروح من الاجسام.

أمراض النفوس وعللها وأسقامها أكثر من أمراض الأجسام..فهي تشمل الحسد، والجهل، والغرور، والكبر، والبخل...أصولها كثيرة فضلاً عن فروعها وجزئياتها. وهذه الأخلاق الرذيلة هي سوس الأمم وموجب هلاكها. وكما يستحيل أن تبقى أمة بلا معالجين للأجسام، فكذلك يستحيل أن تحيا أمة بدون مطهرين للأخلاق.

وكما إن لكل قرد من الأفراد كياناً مخصوصاً ووجوداً محسوساً، وهو معرّض لآفات كثيرة..كذلك الأمم، فهي متكونة من مجتمع تلك الأفراد المرتبطة بروابط روحية، مثل الدين واللغة والتربية، فإذا أتحدوا في هذه المشخصات الثلاث صاروا أمة من الأمم. وهي كالفرد الذي هو عبارة عن أشياء متباينة وحقائق مختلفة مربوط بعضها ببعض، وهي العظم واللحم والعصب والعروق، قد جمعتها روح واحدة، وصيرتها عالماً محسوساً وشخصاً واحداً، وهي أيضاً عرضة للأمراض الاجتماعية، فإذا قتلت روحها هلكت الأمة، كالفرد تماماً.

وهذه العلل والاسقام التي تعرض للأمم تنشأ من عدم المصلحين فيها وأهمالهم الاصلاح الذي هو فريضة على كل انسان كل بحسبه..(كلكم راعٍ وكلكم مسؤول).

تنشأ المفاسد من جهلاء ناقصين عقلاً، فيهملون العلماء أصلاحهم، ثم يتسع الخرق شيئاً فشيئاً حتى يعم البلاء.

الله أعطى الإنسان مواهب كما ابتلاه بمثالب، وجعل تلك المواهب درء للمثالب، فإذا أقتصر على الثانية أنعكس الأمر وهلكت الأمة بتكاسل زعمائها ومصلحيها.

 

القضاء على الأعمال المنكرة

في مثل هذه البلدة التي هي مركز العلم والتقى والصلاح، والتي هي مطمح أنظار العالمين، تقوم فيها مثل هذه البدع التي لا يقر عليها شرع ولا عرف..يقوم فيها بعض الجهلاء فلا يردعون، تعم الرزية والعقلاء ساكتون عن مثل هذه المنكرات الفظيعة!..مثل هذا الحرم المقدّس (ربِّ أجعل بيتي حرماً آمناً) يصير حرماً مخيفاً يخافه كل متستر من بلاء يفع عليه!.

هذه الأعمال الفظيعة والمنكرات المخزية، التي يطغى شرها وينتشر شررها في هذه الأيام، هي التي فككت روح الأخوة الإسلامية وفرقتها.

ولو كانت هناك روح واحدة لأحس كل مؤمن بألم الآخر وبالمنكر الذي يقع على أخيه ولتألم منه، وإذا تألم يتصدى لرفعه,,لكنا نعيش عيشاً فردياً لا اجتماعياً، فإذا نزل بأحدنا مكروه لا نحس به ولا نتصور أنه سيقع علينا، وهذه الأحوال والمصائب هي التي أوصلتنا كافة إلى هذه الحال من الضعف، فهضمت الحقوق وسلبت العزة، ولم تبق لنا حرمة.

ولكن كل هذا البلاء وهذا العناء وهذه المصائب التي ترد علينا ليس الملوم فيها غير أنفسنا "إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ".

هل علمتم بما جنيتم..فمظلومون أنتم وأنتم الظالمونا؟!.

أنا أترصد وأترقب سير الأمور. وقد رأيت عياناً محسوساً إن الكتاب الصادر في العام الماضي، والذي يقول (هؤلاء سبأية ساسانية، أزيحوهم وأكسحوهم من العراق، لا تعطوهم شيئاً من الحقوق)..اليوم أرى عياناً أنهم أخذوا يطبقون تلك النظريات ويسيرون عليها..ولكن من ذا يحس ويعمل للمستقبل؟!.

نحن نشتغل، ولكن شغلنا بمثل هذه الأمور التافهة من (الطرقات) والكبائر والإفتراء على الله والنبي (صلى الله عليه وآله) والزهراء (I)، فتؤذي طلاب العلوم المهاجرين عوض أحترامهم وأكرامهم، وفي الحديث القدسي (من آذى لي مؤمناً فقد بارزني بالمحاربة)، مستعدون لنشتغل بمثل هذه الأمور..أما من جهة ما يجري على إخواننا وأولادنا من البلاء، وقد امتلأت منهم السجون، فذاك أمر لا ندري به ولا نتساءل عنه.

حدثني أحد وجهاء الحلة يقول: الحلة أصبحت هي المحبس والمسجن العام في الفرات، ولهذه السجون صورة مهولة من كثرة المسجونين، ولكن قف على سطح السجن ونادِ: يا نصراني (لا جواب)، يا يهودي (لا جواب)، يا صبي (لا جواب)، يا جعفري (مئات وألوف من الأجوبة)!!..فأهل الجنايات والحبوس كلهم منّا. وباليقين ليس كلهم أهل جرائم، بل قسم منهم أبرياء وآخر جناة، ووزر كلا القسمين على مجموع الأمة.

أما الجناة فحيث إن الأمة قد عدمت المصلحين الذين يرشدونها فتركوهم وأهملوهم أمرهم، فأرتكبوا الجنايات ووقعوا في مهاوي العقوبات. وأما الأبرياء الذين ظلموا وحبسوا لأغراض وهوى في النفوس فوزرهم علينا، لأنا لسنا بأمة تدفع الضيم بعضها عن بعض، فيأتي الذئب يفترس هذه النعجة والأخرى والثالثة...وهكذا، ولا دافع ولا مانع. أليس الذنب علينا؟ أليست البلية سوف تصل إلى كل منّا؟.

ذهب الإيمان من صدورنا فذهبت العزة والنخوة من رؤوسنا والله سبحانه يقول: "وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ". ولكنا خنعنا فصرنا أذلاء.

يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة: (إن أمرأ يمكن عدوه من نفسه، يهشم عظمه ويعرق لحمه ويمتص دمه، لبادي الوهن ضعيف ما ضمت عليه جوانح صدره. أنت فكن ذاك، وأما أنا فدون أن أعطي ذلك من نفسي ضرب يطير منه فراش الهام وتطيح منه السواعد والأقدام).

ولكن أيرجى فينا الصلاح؟..هيهات!.

والله لا يرجى الصلاح وأمرنا

 

فوضى وشمل المصلحين ممزق

 

ماذا يرد الظلم عنك: أزفرة؟

 

أم حسرة؟ أم عبرة تترقرق؟

 

لا تلجأن إذا ظلمت لمنطق

 

فهناك أضيع ما يكون المنطق

 

أنت ظلمت بالقوة، وبالقوة يمكنك إزالة الظلم. وليست القوة إلاَّ اتحادكم وطرح الأحقاد التي هي على غير طائل فيما بينكم، وقد صرتم غنيمة للأجانب. حالنا حال الأغنام تماماً..كل يوم الجزار يسحب قسماً منها والباقي ساكنون لاهون بالعشب والمرعى، لا يدرون ما سيجري بهم غداً.

أيها الناس!

نعود إلى ما كنّا فيه:

الله يقول: "وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى"..أسرعوا في الاصلاح وإلاَّ هلكتم، ولا أقول ستهلكون، ولكنكم هلكتم..وأنا الناصح لكم، ولا ينبئك مثل خبير.


 

أليس من العار والخزي أن تشتغلوا بمثل هذه التوافه وأنتم في قعر ظلمات الظلم؟!..في صحن الأمير تهتكون حرمات الله!.

أيها الناس!

أعلموا ــ وأنا المسؤول عنكم أمام الله ــ إن اعمالكم في تاسع ربيع كلها حرام، وضرب (الطرقة) أعظم من شرب الخمر..ضارب الطرقة كبائع الخمر! فحاربوا هذه الأعمال وأشباهها مثل أذية المؤمنين. من آذى مؤمناً فقد انقطعت العصمة بينهما، وإذا أنقطعت العصمة بينه وبين المؤمنين أنقطعت صلته بالله، وعند ذلك الويل والثبور. لا يكفيكم فعل هذه المنكرات المخزيات حتى صرتم تنسبونها إلى الله ــ جلَّ شأنه ــ وإلى الشرع الشريف "وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ".

تكذبون على الله وتقولون هذه (فرحة الزهراء)!!.

أيها الناس!

قمت بينكم في العام الماضي وارشدتكم، وأشكركم، ويشكركم الحق، حيث أطعتم وأمتثلتم. وأرجو أن كونوا في هذا العام أشد منكم في العام الفائت في ترك هذه المحرمات.

هذا مشهد أمير المؤمنين (عليه السلام) أسد الله وأسد رسوله، وباب مدينة العلم والتقى. إلا يجب أن يكون من أطهر البقاع وأنقى المشاهد؟.

الشيبة يذكرون أن أحد الولاة كان محباً لأهل البيت، وجاء للنجف مرة، وأمر أن تنزع الأحذية في باب الصحن، ومنع البصاق والتدخين داخله، ومضى زمن على ذلك. هؤلاء رجال من العامة، أنظروا كيف يقومون بالحرمات، ونحن الشيعة نضرب الطرقات قرب الرأس، ونحرق الأموات. مائتا جاهل يعبثون وأكثر من 30 ألف نسمة لا يتصدون لردهم.

أنا لا أمنعكم من الأنس والسرور، فإن هذه الأيام أيام أنس وفرح، أيام المولود النبوي المبارك الذي أرسله الله رحمة للعالمين...ولكن ليس السرور بضرب الكبائر والطرقات وإيذاء المؤمنين، بل بعقد الولائم والمجالس، وعمل النكات الهزلية الأدبية، وقراءة مدائح النبي وأهل بيته (F).

ما يستحون من الله ويريدون رحمته!..ليلة الوفاة، وفاة سيد الأنبياء، يضربون الطرقات. الوزر عليكم جميعاً أيها الناس!..هذا يوم ولله يوم آخر! الغيرة مسلوبة من الخلق، ولو كانت هناك غيرة لما استعبدوا وذلوا. يقولون أننا أكثرية..ولكن ماذا تفيد الأكثرية..أكثرية الغنم مقابل مدية الجزار؟!.

إصلاح معدوم وصلاح مفقود.

أين المصلحون؟ أين أحراركم؟ أين صلحاؤكم؟…لو كان هناك إصلاح لما انحطت الهيئات الاجتماعية والفردية كلها إلى هذه الدرجة من التعاسة. الآية الشريفة تقول "وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ".

 

نصائح وعبر

أيها الناس!

الله قيضني لأتمام الحجة عليكم أن أرقي المنبر مرة في كل عام على الأقل، كي أنذركم وأحذركم من الطوارئ والرزايا، وانتم لا تعرفونها، وأنا أراها بدقيق النظر وثاقب الفكر والبصر.

أجمعوا صفوفكم..وحدوا كلمتكم..اعلموا اعمالاً منظمة بقيادة كبراء الأمة، لندفع ما أحاط بنا من الذل وسقوط الشرف الذي صيرنا فقراء خانعين متفرقين، وأصبح غيرنا متنعماً بأموالنا في القصور الشاهقة والجنائن المؤنقة. أصبحنا فقراء اسراء في بلادنا وكل ذلك من انفسنا. فوضى..فوضى في كل شيء..متفرقين في كل ناحية!.

لا تصلح الناس فوضى لا سراة لهم

 

ولا سراة إذا جهالهم سادوا

 

لا زعامة ولا حشمة بسيادة الجهّال، فيجب أن تبحثوا عن اناس شفوقين عليكم، تنقادون لأرشاداتهم وتعاليمهم لينقذوكم من هذا البلاء.

السجون مملوءة منّا، والضرائب والضربات متوالية علينا، ونريد أن نكون محترمين، وأن تدفع إلينا حقوقنا..وذلك لا يكون بالالتماس.

الحق يؤخذ ولا يعطي...إذا لن تأخذوا الحق بالقوة لا تأخذوه بالألتماس والمروة. الأمة التي تمَّ بينها الوئام يستحيل أن تذل وتضام. أما الظلم والضيم فهما لكل أمة متشتتة متفرقة.

سيد الشهداء علم كل الدنيا، لا خصوص الشيعة، طريقة الإباء والعز والشرف والشهامة. فعل فعلاً فريداً من نوعه ليعلم شيعته الإباء والتمسك بالمبادئ المقدسة، ولكنا تركنا اللباب وأخذنا القشور، واقتصرنا على النوح واللطم والبكاء. أنا لا أقول لا تلطموا، بل أقول: لا تقتصروا على القشور والظواهر وتتركوا اللباب والجواهر.

الحسين (عليه السلام) لم يكن فقيراً ولا بائساً ضعيفاً، بل كانت جميع أسباب النعيم والثروة متوفرة عنده حاضرة لديه، ولكنه فادى بكل ذلك في سبيل الشهامة وعدم الرضوخ والذل.

محمد بن بشر الحضرمي تألم لما أسر ولده في الري، فإذن له الحسين بالذهاب لفداء ولده، ولكنه أبى، فقدم له الحسين خمسة ثياب كل ثوب بقيمة مائتي دينار ذهب، وسقى الحر، وألف فارس وألف فرس ماء، مع أنه كان في بادية هيماء، لا ماء فيها ولا كلاء.

أين ذهبت تلك المغازي؟..أفهل كان قصده من شهادته اللطم والبكاء؟.

العرب البائدة قبيلتان: (طسم) و(جديس). تغلبت طسم على جديس وفعلت بها الأفعال الشنيعة وأذلوها، إلى أن اغتصب ملك طسم أمرأة من فتيات جديس، فخرجت على قومها وفي نواديهم تصيح!:

أيجمل ما يؤتى إلى فتياتكم

 

وانتم رجال كثرة عدد النمل

 

فلو أننا كنا رجالاً وكنتم

 

نساء لما كنا نقر على الذل

 

فإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه

 

فكونوا نساء للمغازل والكحل

 

أمة تعودت على الانخداع بالألفاظ والأقوال، لا توجد فيها نهضة شريفة قويمة، ولا فكرة ناضجة مستقيمة.

هذه أعمال تاسع ربيع كلها محرمة ما أنزل الله بها من سلطان، ولو انكم تشربون الخمر لكان خيراً لكم من هذه الأعمال!! ولكنكم ــ إن شاء الله ــ لا خمر تشربون ولا أفعال محرمة تفعلون. أنتم بنظر أسد الله وفي جواره، أنتم بضربكم (الطرقات) تضيعون الأموال وتؤذون الأحياء والأموات، فما هذه اللذة؟.

أي أمة من الأمم الوحشية تعمل مثل أعمالكم هذه؟..أنظروا البدو، فهل عندهم مثل هذا؟.

نحن في بلد هو مهجر العلم ومحط رجال رواد المعارف، أفيليق أن تكون أفعالنا فيه مثل هذه؟ لا حياء، لا غيرة…والتقصير مني ومن أمثالي، وما هناك من مصلح، بل كلنا مشغولون بمصالحنا.

وظيفة العالم لا تنحصر في الفتوى فقط، بل أعم وظائفه الارشاد والإصلاح "لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ" والعلماء ورثة الأنبياء والأوصياء، فيجب أن يقتدوا بهم في التزكية والتهذيب.

أيها المؤمنون!

طال المقام، فأختم كلمتي بشيء ربما يؤثر عليكم:

في مثل هذا اليوم أنفتحت أبواب المصائب على المسلمين، لأن الرحمة العامة التي أرسلها الله لحمل مشعل الإصلاح ارتفعت..ارتفعت تلك الرحمة عن البشر في مثل هذا اليوم، فما اجدرنا بالحزن والبكاء فيه! لأنه يوم كان فيه مصدر مصائبنا وارتفاع الخير والبركات عنّا.

اذكروا نبيكم على الفراش والأعمال تدبر. أريد أن أشير لكم إلى معنى كي تعرفوا عمّا للتدابير والمؤامرات من التأثير في تحوير الحقائق..أربعة أو خمسة تآمروا ودبروا، وعلى الحق تعاونوا وتناصروا، وعقدوها عقدة لا تحل. أفلا يوجد فيكم أربعة أو خمسة يدبرون للحق ويتعاونون للعدل ويتناصرون على دفع الضيم؟..ولكنكم عند قدوم تاسع ربيع أرقصوا في هذه الزاوية من الصحن وتضاربوا!!وأعمالكم هذه والله معدومة حتى عند الوحوش والبهائم!!.

غفر الله لنا ولكم. والسلام عليكم.

 

في ذكرى ميلاد أمير المؤمنين علي (عليه السلام)

خطبة الفقيد الراحل (كاشف الغطاء) في مولد الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في 13 رجب 1368هـ في (حسينية باب السيف) في (الكرخ) ببغداد.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

"رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي".

يعز عليَّ ــ أيها الأعزة ــ أن أحل مجلسي لأنتهاز هذه الفرصة الثمينة وإلقاء ما يناسب هذه الليلة المباركة وهذا الحفل الكريم مع أني في دور النقاهة..منهوك القوى، خافت الصوت، ضيق الصدر، رهين العلة والمعالجة. ومن يقول عن مقال له تواضعاً؛ هذا جهد المقل، أو هذه نفثة مصدور..فأنا أقولها حقاً لا تنازلاً، والعيان أصدق شاهد على ذلك.

نعم! نبتدئ كلمتنا متفائلين بقوله ــ تعالى ــ "فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَقُلْ رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ". وقال: "وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ".

هذه السفينة في الزمن الأول والعهود المتوغلة في القدم أول مركب نجا به جميع من على وجه الأرض من المؤمنين المستضعفين، تخلصوا من سطوة الغاشمين وسيطرة الظالمين، بعد الجهود الطائلة واتمام الحجة من شيخ الأنبياء زهاء ألف سنة. ويعد أن عامت السفينة في أمواج الطوفان الذي غمر هذه الكرة بأجمعها سنة كاملة "قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ".

نعم! هذه السفينة هي السفينة التي شبه رسول الله (صلى الله عليه وآله) أهل بيته بها في الحديث المشهور بين الفريقين: (أهل بيتي كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك وهوى).

ومن يتدبر حال العصور التي قبل الإسلام وما كان العالم فيه، لا جزيرة العرب فقط، بل حتى الدول العظمى في تلك القرون، من الفرس والروم..من يتدبر ما كانت فيه تلك الأمم من الجهل والجور والاستبداد، يعرف طوفان البلاء الذي غمر الدنيا يوم ذاك، ويعرف شدة الحاجة إلى من ينقذ ذلك الخلق البائس من تلك الغمرات.

فبعثت العناية الأزلية المنقذ العظيم حبيبه محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله)..ولكن قبل أن يتم رسالته وينقذ عموم البشر من ذلك الشر الذي توغل في النفوس وأستفحل من عهد قديم..قضت الحكمة الغامضة أن يعود إلى الملكوت الأعلى الذي جاء منه.

واكمالاً للرسالة، وإبلاغاً للغاية، أشار إلى من يتم بع الفرض، ومن تقوم به الحجة، فقال قبل رحلته بقليل: (إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي). وبهذا أتجه أن يصدع الوحي بقوله ــ تعالى ــ : "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي".

وجد نبي الرحمة، عند قرب رحيله، إن العالم لا يزال بعده مغموراً بطوفان الجهالة، والضلالة لا تزال مستحكمة، وان لابد لهذا الطوفان من سفينة تنجي من أراد النجاة، فقال: أهل بيتي هم السفينة. وفي دعاء شعبان: ((اللهم صلي على محمد وآله، الفلك الجارية في اللجج الغامرة، يأمن من ركبها ويغرق من تركها..)).

ولايته السفينة فأركبوها

 

نجا والله من ركب السفينا

 

بيد أن سفينة نوح ما نجت من الطوفان ورست على الجودي إلاَّ بمحمد(صلى الله عليه وآله) وآله (F)..كما أشار إلى ذلك العباس بن عبد المطلب في مقطوعة تنسب له يمدح بها أبن أخيه محمد (صلى الله عليه وآله) فيقول:

من قبلها طبت في الظلال وفي

 

مستخصف حيث يخصف الورق

 

ثم هبطت البلاد لا بشر

 

أنت ولا نطفة ولا علق

 

بل ملك تنقذ السفين وقد

 

الجم نوحا وقومه الغرق

 

صانع السفينة الأولى شيخ المرسلين، وواضع السفينة الثانية سيد المرسلين.

السفينة الأولى خشب يجري على الماء، والسفينة الثانية نور هبط على الأرض من السماء..واضعها محمد (صلى الله عليه وآله)، وربانها ومسيرها أخوه وصنوه الإمام الذي أحتفلت هذه الجمعية (جمعية المقاصد الخيرية العراقية) بذكرى ولادته في هذه الليلة المباركة "إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ".

ولا نستطيع في مقامنا هذا، أن نأتي على اليسير من فضائل هذا الإمام العظيم فضلاً عن الكثير. ومن ذا يقدر على احصاء نجوم السماء من مناقبه..شجاعته، وبلاغته، وزهده، وسوابقه في الإسلام، التي هي كلمات الله.." وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ". "قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي".

إنما المناسب في المقام هو التعرض لولادته في هذه الليلة المباركة. ونتعرض لشأن واحد من شؤون ولادته (عليه السلام) وهو ولادته في الكعبة على أشهر الروايات، ولعل غيرها من مدسوسات النواصب، الذين يريدون أن يستروا ضوء الشمس بأكفهم.

وولادته في الكعبة طفحت بها الكتب ونظمتها الشعراء حديثاً وقديماً، وآخرهم (عبد الباقي) الشهير في مستهل قصيدة له:

أنت العلي الذي فوق العلى رفعا

 

ببطن مكة وسط البيت قد وضعا

 

وهي منقبة لم يشاركه فيها أحد في الإسلام.

وقد ذكروا إن مريم لما جاءها المخاض بعيسى (عليه السلام) آوت إلى بيت المقدس لتضعه فيه، فنوديت: أخرجي يا مريم! فهذا بيت العبادة لا بيت الولادة!..وفاطمة بنت أسد لما أحست بالطلق وهي في الكعبة، أنسدت ولم تقدر على الخروج حتى وضعت علياً (عليه السلام).

ولعل في هذه الحادثة الغريبة أسرار ورموز أجلها وأجلاها إن الله سبحانه كان يقول: أيتها الكعبة! أني سأطهرك من رجس الأوثان وعبادة الأوثان والانصاب والأزلام بهذا المولود فيك.

وهكذا كان...فإن النبي دخلها عام الفتح والأصنام منضودة ومعلقة على جدرانها، ولكل قبيلة من قبائل العرب صنم...فأصعد علياً على منكبيه، وصار يحطمها ويرمي بها إلى الأرض، والنبي (صلى الله عليه وآله) يقول: (جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا).

وقد نظم (الشافعي) هذه الفضيلة في مشهورة تنسب له يقول في آخرها:

وعلي واضع أقدامه

 

في محل وضع الله يده

 

فإن النبي كان يحدث عن المعراج قائلاً: (إن الله ــ عزَّ شأنه ــ وضع يده على كتفي حتى أحسست بردها على كبدي).

وفي ولادته رمز آخر لعله أدق وأعمق.. وهو أن حقيقة التوجه إلى الكعبة هو التوجه إلى ذلك النور المتولد فيها. ولو أن القصد مقصور على محض التوجه إلى تلك البنية وتلك الأحجار لكان أيضاً نوع من عبادة الأصنام ــ معاذ الله ــ ..ولكن التناسب يقضي بأن البدن، وهو تراب، يتوجه إلى الكعبة التي هي تراب، والروح التي هي جوهر مجرد تتوجه إلى النور المجرد. وكل جنس لاحق بجنسه..النور للنور، والتراب للتراب. وإلى بعض هذا أشار بعض شعراء الفاطميين إذ يقول عن الإمام:

بشر في العين إلا انه
 

من طريق العقل نور وهدى
 

جلَّ أن تدركه أبصارنا
 

وتعالى أن نراه جسدا
 

فهو في التسبيح زلفى راكع
 

سمع الله به من حمدا
 

تدرك الأفكار منه جوهراً
 

كاد من إجلاله أن يعبدا
 

فهو الكعبة والوجه الذي
 

وحّد الله به من وحدا
 

وهذا الطراز من الشعر وإن كان فيه شيء من الغلو، ففيه كثير من الحقيقة، وفيه لمعات من التوحيد.

نعم! نتوجه بأبداننا في خلواتنا إلى الكعبة، وبأرواحنا إلى النور الذي أشرق وأضاء فيها..نتوجه إليه فنجعله الوسيلة إلى الله، كما قال ــ عزَّ شأنه ــ : "اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ" نتوجه إليه كي يوجهنا إلى الخير والسداد. فالتوجه منّا إليه والتوجه منه لنا.

نعم! كتاب الله والعترة سفن النجاة والعروة الوثقى التي لا انفصام لها، ولا يضل ولا يزل من تمسك بهما..ولكن ليس التمسك قول باللسان وثرثرة بالألفاظ...

التمسك عقيدة راسخة وأعمال صحيحة، بنية خالصة، وقلب طاهر سليم، وأخلاق فاضلة...التي هي روح الدين وجوهر الإسلام، والتي طفح بها الكتاب والسنة.

ولكن أين نحن من مراحل هذه الفضائل والأخذ بهذه الوسائل؟!…أبهذا التفسخ الأخلاقي والتفكك الاجتماعي ونبذنا الكتاب والسنة رواء ظهورنا نريد أن نعد أنفسنا من المسلمين وبالعروة الوثقى متمسكين؟!…كلا! وكلا!…ولو كان لنا من الإسلام ذرء أو ذرة لما سقطنا هذا السقوط الشائن ولما فشلنا هذا الفشل المخزي.

أمتحنت (فلسطين) بمحنة الصهيونية منذ أربعين سنة، وما زالت الصهيونية تتقدم والعرب والإسلام تتأخر. وقد أقتحمت معاركها الأولى، ولم أزل منذ عشرين سنة، أقرع المنابر وأقرع الأسماع بالخطب النارية، وأنشر المقالات الملتهبة في الصحف وغيرها، وأهيب بالمسلمين وأدعوهم إلى الوحدة وجمع الكلمة، وإن الإسلام بني على دعامتين (كلمة التوحيد، وتوحيد الكلمة)، وأصرخ الصرخات الداوية أن يصلحوا الوضع بينهم لإنقاذ فلسطين الدامية...وكنت من زمن بعيد أبث شجواي في أبيات منها:

نهضت فقيل أي فتى فلما

 

خبرت القوم طاب لي القعود

 

وأني بعد مجهدة وقومي

 

كضاربة وقد برد الحديد

 

وحيد بينهم ولعل يوماً

 

عصيباً فيه يفتقد الوحيد

 

لنا في الشرق أوطان ولكن

 

تضيق بنا كما ضاقت لحود

 

نقيم بها على فقر وذل

 

ونظماً، لا يساغ لنا ورود

 

مواعيد السياسة بينات

 

تكيد بها السياسة من تكيد

 

وعود كلها كذب وزور

 

فكم والى ممَ تخدعنا الوعود؟

 

إذا ما الملك شيّد على خداع

 

فلا يبقى الخداع ولا المشيد

 

إذا لم تبتن ملكاً صحيحاً

 

فلا تغني الجيوش ولا البنود

 

ومن هذه الشعلة ثلاثة أبيات ذكرتها في مقدمة الجزء الأول من مؤلفنا (الدين والإسلام) الذي طبع في مطبعة العرفان قبل 38 سنة، وهي:

فلا طلعت عليَّ الشمس يوماً

 

إذا عن مجد قومي لا أذود

 

أموت وقد بلوت النفس جهداً

 

كما تحمى عرينتها الأسود

 

كذلك فلتكن للعرب نفسٌ

 

وإلاَّ ما الحياة وما الوجود؟!

 

نعم! كنّا نعتز بذكر العرب ونرتاح بالأنتساب إليهم..ثم دارت رحى الزمان، فصرنا نخجل من ذكر العرب والعروبة وما يشتق منها، ونود لو كنا من (الخزر) و(البربر) ولم نكن من هذه الأمة، وأنطبق علينا تماماً قول القائل:

ورثنا المجد عن آباء صدق

 

أسأنا في ديارهم الصنيعا

 

إذا الحسب الرفيع تواكلته

 

بناة السوء أوشك أن يضيعا

 

(فلسطين) قلب البلاد العربية تحقيقاً، تحف بها ــ كالهالة ــ مصر وسوريا ولبنان والأردن والحجاز..فإذا هلك القلب فما حال بقية الأعضاء؟!..ولا شك أن الوضع إذا بقي على هذا الحال فلنا فلسطينات أخرى في زمن قريب ــ لا سمح الله ــ !.

ألا يخطر على بالكم قول شاعر الفردوس الضائع ــ الفردوس العربي ــ حيث قال:

حثوا أرواحكم يا أهل أندلس

 

ليس البقاء بها إلاَّ من الغلط

 

من جاور الشر لا يأمن عواقبه

 

كيف الحياة مع الحيات في سفط

 

العقد يبتر من اطرافه وأرى

 

عقد الجزيرة مبتوراً من الوسط!

 

مصيبة المسلمين عظيمة...وأعظم منها: إن المصائب من شأنها أن تنبه الشعور، وتعطي لأهلها دروساً وعبر، وتجمع الشمل، وتوحد الكلمة...أما مصيبتنا بفلسطين فما صنعت شيئاً من ذلك، وتلقاها زعماء العرب وقادتها الذين ذبحت فلسطين على مذبح مطامعهم الدنية وجشعهم الخبيث...نعم! تلقوها برحابة صدر وبرودة دم..وما كفاهم ذلك حتى مكنوا اليهود ــ طائعين ــ من البقية الباقية من أراضي فلسطين التي يسكنها الألوف من عرب المسلمين، وجعلوهم عبيد اليهود، يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون.

وكانت أهالي فلسطين تأمل من ملوك العرب نصرهم...ويا ليتهم كفوها شرهم، ولم يكونوا سماسرة للمستعمرين ومنفذين لأرادتهم..وسوف يعلمون كيف تدور الدائرة عليهم! "ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمْ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ".

نعم! كل ما أصابنا إنما هو من محاربتنا للدين، ونبذ القرآن، وترك العمل بتعاليم الإسلام.

وما أفسد هذا الشباب الخليع المستهتر إلاَّ هذه المدارس التي جعلت الدين قشراً لا لب فيه، وجسداً لا روح له...

ولكن قد أحيي ميت الأمل ما بشرني به معالي الوزير (النجيب الراوي)(1) ــ حفظه الله ــ من أنه جعل في المدارس ــ أو سيجعل قريباً ــ للدين والقرآن درجة وأمتحاناً، وينتخب المعلمين من ذوي الثقافة الدينية والعفة والأمانة، وفقه الله لهذه الخدمة الجليلة، وإنه الجدير بمثلها، ولا ترتجى إلاَّ من مثله.

أيها المسلمون!

عودوا إلى ما كان عليه أسلافكم تعد لكم عزتكم. أكرموا القرآن بالعمل به كي يعيد لكم كرامتكم. أترجون صلاحاً أو إصلاحاً من هذا الشباب الواهن المنجرف في تيار شهواته؟!.

أصل بليتنا ــ معاشر المسلمين ــ هو الاستعمار..وكل رزية وبلية فالاستعمار أصلها وفرعها، ومنبعها ومطلعها، وما جرَ علينا بلاء الاستعمار، ومكنهم من نفوسنا وأموالنا وأولادنا وأخلاقنا وتقاليدنا، إلاَّ زعماؤنا وقادتنا.

وملوكنا قد أسلمونا للعدى

 

لله درَّ ملوكنا ما تصنع!

 

وما أفسد الإسلام إلاَّ عصابة

 

تأمر نوكاها ودام نعيمها

 

واضحت قناة الدين في كف فاجر

 

أقيم لأصلاح الورى وهو فاسد

 

وهل يستقيم الظل والعود أعوج؟!..يقولون (بالزبيبة عود) أما قضيتنا؛ ففي الزبيبة عمود كل أحد يراه ويشكو إلى الله.

لمثل هذا يذوب القلب من أسف

 

لو كان في القلب إسلام وإيمان

 

أيها المسلمون!

أحفظوا أولادكم من هذا الشر المستطير والداء الذي يفسد دينهم ودنياهم..أنشئوا لهم مدارس أهلية مثقفة ثقافية دينية تتلاءم مع روح العصر، واستحضروا لهم معلمين من أهل الصلاح والفضيلة، فأن أهم واجب على مدارس أهلية أو حكومية جعل الدروس الدينية في الدرجة الأولى من الأهمية، وتجعل لها أمتحاناً وشهادة.

ولا يتسنى للأهليين انشاء المدارس الكافية للتعليم إلاَّ بتشكيل الجمعيات الخيرية، كي تتعاون على هذه الأعمال الجليلة والمشاريع الحيوية.

وهذه (جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية) بادرة خير من أهالي الكرخ، وهي بذور صالحة يرجى بتوفيقه ــ تعالى ــ وهمة المؤسسين لها ومعاونة أخوانهم لهم أن تنمو نماءً حسناً وتثمر ثمراً جنياً، يجدون فيها الهدى والهنا والخير والبركة في أنفسهم وأولادهم وأموالهم.

ومن المعلوم ان الجمعيات مثل كل كائن يحتاج إلى نموه وبقائه إلى غذاء، وغذاؤها المال..فلا تتهاونوا في التعاون والمساعدة، كل حسب أمكانه ومقدوره..والقليل من الكثير كثير. فتعاونوا وأجتمعوا، فإن يد الله مع الجماعة، والإجتماع خير وبركة.

وآخر وصيتي ونصيحتي أقولها بدء وعوداً، ولا أخص بها المسلمين، بل أقول:

أيها البشر! عليكم بالقرآن، ففيه سلامتكم، بل سعادتكم..ولو عمل الناس وأخذت الدول بتعاليمه لأستراحت البشرية من هذا التكالب والتحارب، وعرف كلٌ حده وحقه.

القرآن أجعلوه الجامعة العربية والوحدة الإسلامية، وتجنبوا الخلافات المذهبية والخصومات الطائفية، وليعمل كلٌ على مذهبه في فروعه بغير جدال ولا خصومة.

وأقصى الأماني والآمال أن تتوحد الحكومة والأمة، فتكون الحكومة كأب بار بالرعية، والرعية كأبناء في معاونة الحكومة، كي يسعد الجميع، ويكون العراق كما يقال عن (جمهورية أفلاطون) و(المدينة الفاضلة) للفارابي.

وأهم ما يجب على المراجع المسؤولة: أنتخاب الموظفين المهذبين، الذين لا يقطعون الصلة بين الحكومة والرعية بسوء تصرفاتهم، ولا يجعلوا الحكومة كذئاب مفترسة لهذا القطيع الوديع بأستعمال الضغط الفظيع، من الغطرسة والكبرياء والشدة إلى الرشوات وارتكاب المنكرات.

حاسبوا انفسكم ــ أيها الناس ــ قبل أن تُحاسَبوا.. واجعلوا نصب أعينكم المسؤولية العظمى.." يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ".

وسلام على المرسلين والحمد لله ربِّ العالمين

 

خطبة الإمام كاشف الغطاء في المؤتمر الإسلامي بباكستان

نص خطاب سماحة الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء في مؤتمر علماء الإسلام بباكستان يوم السبت 19 جمادي الأولى سنة 1371هـ الموافق 16 فبراير سنة 1952م:

بسم الله الرحمن الرحيم

"رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا".

قال ــ سبحانه وتعالى ــ : "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ".

أشارت هذه الآية الكريمة إلى حال الأميين قبل الإسلام وبعده. والمراد بالأميين؛ الجاهلين من العرب وغيرهم من الأمم. وقد كان العالم، يوم ذاك، بأجمعه في الحقيقة أمياً، يتخبط في ظلمات الظلم والجهالة والغي والعمى. فأشارت الآية إلى هذه الحالة، وعبرت عن سوء هذا الحال بأوجز عبارة وأجمعها لمعاني الشقاء، وهي قوله ــ تعالى ــ: "وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ".

كان البشر عموماً كسفينة في بحر عجاج تتقاذفه الأمواج، وكان العرب بالأخص في أقصى مراتب الشقاء، يعبدون الأوثان، ويعتدون بالأثم والعدوان..يغزو بعضهم بعضا، ويثب بعضهم على بعض..يقتلون أولادهم خشية أملاق، ويدفنون بناتهم حال الحياة حذر الانفاق..عصابات متضاربة، وقبائل متحاربة..لا علم ولا ثقافة، ولا تفكير ولا تدبير، ولا صناعة ولا زراعة..

لا نظام ولا وئام..عصابات وعصبيات..تسودها القبلية، وتقودها الأقليمية، ويحكمون حكم الجاهلية.." أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا..".

وبينما هم ــ أي العرب وجميع البشر ــ يتخطبون في حنادس هذه الأهوال والأحوال، من التعاسة والشقاء، والطيش وسوء العيش..إذ أشرقت شمس الاسلام على الإنام من أفق العناية الأزلية وسماء الألطاف الأحدية..جاء الإسلام إلى الأنام، ففتح الأسماع وكانت صماء، ونور الأبصار وكانت عمياء، وصقل القلوب بالنور وكانت ظلماء، وبدل كل وضع سيء بالأحسن "بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ".

وكان أول بذرة غرسها وقاعدة رصينة أسسها قاعدة (التوحيد للخالق، وتوحيد الحقوق للمخلوق): (الخلق امام الحق سواء)، (لا فضل لعربي على عجمي)..سحق العنصريات ومحق العصبيات، وأباد نعرات الطائفيات، وصار يسقي هذه البذرة ــ بذرة التوحيد ــ ويتعاهدها وينميها قولاً وفعلاً، سراً وجهراً، فكراً وذكراً.." يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ". (أيها الناس! كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي إلاَّ بالتقوى).

ولما وجد ــ سلام الله عليه وعلى آله ــ إن داء التفاخر بالأنساب صار داء مستحكماً في ذهنية العرب، بل وعموم الأنام تلك الأيام، صار يعيد ويبدي، يكرر التحذير من هذا الداء، فيقول: (يا بني هاشم! لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم تقولون نحن ذرية محمد).

ثم حقق ذلك في العيان عملياً، وأوجده خلقاً سوياً..فوحّد وآخى بين (صهيب الرومي وبلال الحبشي) و(سلمان الفارسي وأبي ذر العربي).

وقد شاعت وانتشرت كلمتنا حيث قلنا قبل عشرين سنة: (بني الإسلام على دعامتين: كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة). فكان هذا الدين دين التوحيد، دين الوحدة، دين المساواة، دين محق العصبيات وسحق العنصريات، ونبذ القوميات وعنعنات الطبقات، والتفاخر بالأنساب والتعالي والتفوق بالآباء والأمهات.

ضرب صاحب الرسالة، منقذ البشرية، رسولنا الأعظم، أعلى مثل لذلك..فزوج بنت عمّته زينب، وأمها بنت عبد المطلب سيد البطحاء، من غلامه ومملوكه وعتيقه زيد بن حارثة، فقضى بهذا على سيئتين من سيئات الجاهلية وعاداتها: سيئة التبني، أي البنوة المصطنعة "مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ" وسيئة التعالي بالأنساب. ولم يجعل الناس طبقات عالية وسافلة بغير العلم والتقوى.

ومشى أصحابه وخلفاؤه الراشدون على ضوء هذه التعاليم، وألتزموا المشي على هذه السنة والمنهاج. وكلمة الخليفة عمر (L) مشهورة، حيث قال لبعض أمرائه حين ضربه بسوطه وقال له: متى استعبدتم الناس وقد خلقهم الله أحراراً؟..

وأجل وأجلى من ذلك قضية جبلة بن الأيهم الغساني أحد ملوك الغسانيين في الشام، حين جاء إلى المدينة بأفخم أبهة وأعظم زينة. ورد (يثرب) بموكبه الملكي ليعتنق دين الإسلام. وكان يوم وروده يوماً مشهوداً، وللمسلمين عيداً سعيداً. وبعد أن أسلم وغمر الفقراء بالمنح والعطايا، خرج الخليفة عمر إلى الحج وخرج الغساني بموكبه وبخيله ورجاله، وبينما هو يطوف وضع رجل من غمار الناس رجله على طرف مئزر الملك فأنحل، فغضب الملك الغساني ولطم الرجل لطمة شديدة. فشكاه إلى عمر، فأحضر الخصمين لديه، وسأل المدعى عليه فأعترف. فقال عمر للمدعي: لكَ أن تقتص منه ويلزمه الانقياد لك. فقال الغساني للرجل: أشتري منك اللطمة بألف، فأبى.. ولم يزل يترقى حتى بلغ عشرة آلاف، فأبى الرجل إلاَّ أن يقتص. ولما أحرج موقف الغساني قال: كنت أحسب إن كرامتي بالإسلام تتضاعف وتصان لا أن تسقط وتهان! ثم أستمهل إلى الصباح، وغلس مع موكبه هارباً من الحرم ليلاً، وذهب من فوره إلى قيصر الروم في القسطنطينية (فروق)، فأكرمه وأعطاه أضعاف ما كان يملكه بالشام. ولكنه ندم وصار يأسف ويتلهف على ما فاته من شرف الإسلام، وأنشأ أبياته المشهورة التي منها:

تنصرت الأشراف من أجل لطمة

 

وما كان فيها لو صبرت لها ضرر

 

فيا ليت لي بالشام أدنى معيشة

 

أروح وأغدو فاقد السمع والبصر

 

ويا ليتني لما أصبت بنكبة

 

رجعت إلى القول الذي قاله عمر

 

ونحن لا نريد أن نعلّق على هذه الحادثة الغريبة، ولكن محل الشاهد منها بيان صلابة الخلفاء في إلتزامهم تعاليم أستاذهم المنقذ الأعظم مهما كلفهم الأمر وفاتهم من الفوائد الجزيلة.

وأدهش من ذلك مخاصمة اليهودي مع الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) عند عمر، حيث قال له الخليفة: قم يا أبا الحسن وقف مع خصمك! فظهر التغير في وجه الإمام..وبعد انتهاء الخصومة قال الخليفة: يا أبا الحسن! لعله ساءك أمري لك أن تقف مع خصمك اليهودي؟! فقال: كلا! وإنما سائني أنك كنيتني ولم تساوِ بيني وبين خصمي، والمسلم واليهودي أمام الحق سواء.

فهل سمعت أذناك أم رأت عيناك أمة كهذه الأمة وبهذه الأخلاق الفاضلة..ملكوا الشرق والغرب، ودكوا عروش كسرى وقيصر بأقل من نصف قرن..ثم أخذت هذه الروح، روح الوحدة، روح المساواة، روح التوحيد، تضعف وتتضاءل حتى تلاشت، وعاد المسلمون إلى أسوء مما كانوا فيه في الجاهلية..تفرقة في كل أمر، وشتات في كل شيء، وأختلاف وخصام في كل نظام.

ما انسلخ القرن الأول إلاَّ ونشأت المذاهب المختلفة والأفكار المتضاربة. وأول فتنة أصابت الدين في قلبه فتنة الخوارج، ثم اعقبتها فتنة المذاهب: معتزلة، وأشعرية، ومرجئة، وقدرية، وزيدية، وأموية...ومثلها في الفروع: ظاهرية، وحنفية، وشافعية، ومالكية، وحنبلية..أختلاف في الأصول، أختلاف في الفروع، اختلاف في كل شيء.

وصارت سياسة الخلفاء تغذي هذه الخلافات وتقويها كي تستغلها وتعتمد عليها على قاعدة (فرّق تسد)، وصارت الممالك الإسلامية، من عهد بعيد وإلى اليوم، يضرب بعضها بعضاً ويذيق بعضها بأس بعض، حتى أوشك ــ لا سمح الله ــ أن ينطبق عليها قوله تعالى: "قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ".

وانتهز المستعمرون هذه الفرصة فأمتلكوهم واستهلكوهم جميعاً، وصارت الممالك الإسلامية كالفريسة الملقاة في الفلاة تنهشها الكلاب، يأخذ كل واحد منها حصته حسب قدرته وامكانياته.

ثم إن كل دولة من الدول الإسلامية إنما نشأت وتكونت بعنوان أقليمي أو عنصري، كالعراق ومصر وايران والافغان وغيرها.. ولكن هذه الدولة الفتية، الدولة الباكستانية، إنما نشأت بأسم الإسلام، والإسلام أولدها وكوّنها. فالإسلام أبوها وهي وليدة الإسلام ونسله وسلالته. فيا هل ترى إنها ستكون بارة بأبيها، حافظة لعهوده، معيدة لمجده، فتسحق العنصريات، وترعى الأقليات، وتنظر كل رعاياها بنظرة واحدة، وتعامل الجميع بالعدل والحق على السواء، وتأخذ بما رسمه القرآن الكريم والسنة النبوية، وتجعل شعارها (لا إله إلاَّ الله والله أكبر) وتنصر الله فينصرها، وتحفظ القرآن فيحفظها؟!..

وبما إنها نشأت بأسم الإسلام وتقمصت بهذه الروح، وإلاَّ فهي من الهند وقطعة منها…ولكنها أخذت ناحية الروح ورفضت ناحية الجسد المادي، فهي بجسدها العنصري هندية وبروحها السامية اسلامية، وهي ناحية من نواحي التصوف ــ نعم! ولعل من الهند نشأ التصوف ــ ..وبهذه السمة، سمة التقمص بالإسلام، قد أمتازت هذه الدولة عن سائر الدول الإسلامية التي جعلت شعارها وشارتها الناحية العنصرية أو الاقليمية. وهذا هو مستند فتوانا بأنه يجب على كل مسلم مساعدتها ومناصرتها..ولكن إن حافظت على قوانين القرآن ونواميس الإسلام.

فيا أيها المسلمون!

تعلمون حق العلم إنه لا يعود لكم مجدكم وعزكم ومناعتكم واستقلالكم إلاَّ برجوعكم إلى الله والإنقطاع إليه، وأن يصير كل واحد منّا مسلماً عملاً لا قولاً، وحقيقة لا صورة ومجازاً. وكما أن العطشان لا يرويه لفظ الماء ولو كرره ألف مرة، فكذلك لا ينفعنا قولنا (أننا مسلمون) ولو كتبناه على جباهنا ما لم نكتبه في قلوبنا، ونطبق على أحكامه جميع أعمالنا.

وها نحن وجميع أخواننا المدعوين الأماثل قد تحملّنا أعباء السفر ومشقة الغربة، ملبين دعوة أخواننا الباكستانيين، مندفعين بهذا الأمل، راجين أن يكون في هذا المؤتمر بهذه الدولة المباركة، حياة للإسلام جديدة، ونهضة مباركة سعيدة...تنتعش بها الروح الإسلامية التي تؤلف روحاً وحقيقة بين العراقي واليماني والحجازي والإيراني والباكستاني، وتقربهم مهما تباعدوا، وتوحدهم مهما تعددوا..وتخرجنا من هذه الفوضى الضاربة أطنابها علينا، التي جرتنا إلى الاهمال والتسامح بكل شيء حتى في أمور ديننا..نتسامح في الأمور الصغيرة، فتفوتنا المهمات الكبيرة.

نحن نقول (إننا مسلمون) ولكن تاريخنا مسيحي..مسلمون ولكن عطلتنا يوم الأحد..مسلمون، ولكن أكثرنا يتكلم ويتفاهم بالانكليزية..مسلمون، ولكن لا نحسن شيئاً من العربية لغة القرآن العظيم والسنة النبوية ونحسن اللسان الأجنبي.

بلغ بنا الإهمال ــ إننا معشر العلماء كما يقال عنّا ــ ربما نجتمع في المؤتمر للمذاكرة بشؤون الإسلام، وقد نسمع الآذان، ويقول المؤذن (حي على الصلاة) أو (قد قامت الصلاة) فلا نقوم إلى الصلاة..نتجاذب أطراف القيل والقال والتخاصم والجدال.

مسلمون، ولا يهمنا شيء من أمور الإسلام كما تهمنا أمورنا الذاتية..مسلمون، ولا يرحم غنينا فقراءنا ولا يعطف أقوياؤنا على ضعفائنا، والله سبحانه يقول: "وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ".

فأين الإسلام؟ وأين شعائره يا كرام؟!.

ولكن..أصبح من امراضنا الإجتماعية أننا نقول ولا نفعل، ونعلم ولكننا مثل من يجهل.." يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ"، ونأمر بالبر وننسى أنفسنا "أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ".

أيها المسلمون!

خذوا عدتكم، وأجمعوا قوتكم، ونظموا صفوفكم..فإن السياسة العالمية السوداء تنذر البشرية عموماً، والعرب والإسلام خصوصاً، بخطر هائل، يأتي على الأخضر واليابس، ويستهلك القوي والضعيف. وهذا الاستعمار الغاشم الذي يتسمى كل يوم بأسم، ويتشكل كل برهة بشكل، ويلبس كل حين لباسا…فيوماً أنتداب، ويوماً حماية، ويوماً وصايا، واليوم أسموه بالدفاع عن الشرق.. العبارات شتى والحقيقة واحدة. وقد رأيتم فضائع أعماله هذه الأيام بمصر وتونس ومراكش والجزائر وغيرها..وقد تخلصت دولة إيران ــ نصرها الله ــ من مخالبه وأنيابه ونوائبه، وما تخلصت إلاَّ بعد عناء وكفاح، وما تخلصت إلاَّ باتفاق كلمتها وتوحيد جهودها وتناصر ملكها وشعبها وحكومتها. فنحن نبارك لها، نسأله ــ تعالى ــ أن يوفق سائر الممالك الإسلامية لهذا الفتح المبين والعز المكين(1).

وأنا أبتهل إلى الحق ــ جلَّ شأنه ــ أن يمنح النصر والإستقلال الصحيح لكل دولة إسلامية، وأن يجعل اجتماعنا هذا مثمراً بالثمرات اليانعة والفوائد النافعة للإسلام والمسلمين أجمعين.

خذوها أيها المسلمون مقالة جامعة، ودعوة لامعة..صدرة حرة من كبد حزين لأب روحاني شفيق عليكم، صهرته المصائب، وحنكته التجارب، وانحلته النوائب، وأبلته الصروف، وتقلبت به الظروف..فقال داعياً: " رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا".

والسلام عليكم ورحمة الله

 

نداء عام

من الإمام الراحل الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء

تكلّم السيف فأسكت أيها القلم

 

الحرب شبّت فماذا تنفع الكلم؟!

 

تكاثرت الكتب والرسائل إلى الفقيد الراحل الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء من العالم الإسلامي والعربي، طالبين منه (رحمه الله) نشر كلمة توجيهية كنداء للمسلمين عن فلسطين في حالتها الحاضرة ومحنتها المتأزمة، وذلك بعد أعلان التقسيم المشؤوم في عام 1947م.

والإمام الراحل كان إمام (مؤتمر فلسطين)، بل إمام المسلمين في عامة أقطار الأرض..وهو خطيب فلسطين، وخطبته التاريخية في القدس، التي طبعت عدة مرات وبعدة لغات، مشهورة معلومة.

وبعد أن تكاثر الطلب عليه (رحمه الله) وجّه بهذا النداء القيّم، ننشره هنا لصلته الوثيقة بالوضع الحاضر.

وقد كانت قد عرضت عليه في حينه فتاوي علماء المذاهب الإسلامية...فتفضّل(رحمه الله) بهذا النداء القيّم:

 

نداء لعموم المسلمين بشأن محنة فلسطين

بسم الله الرحمن الرحيم

ماذا تجدي الفتوى ونحن لا نزال نقول: إن محنة فلسطين من المسلمين أعظم من محنتها بالصهيونيين!.

وسر هذه العقدة: إن المسلمين ــ حتى الآن ــ تمر عليهم قضية فلسطين كقصة من القصص التاريخية…يمرون عليها لاهين ساردين…تطرق أسماعهم ولا تمض عواطفهم، ولا تخرق شغاف قلوبهم، ولا يعرفون إن البلية لو كانت تخص فلسطين لربما هان الأمر وخفَّ الرزء، ولكن الخطر والغرض هو استملاك جميع البلاد العربية والقضاء على الإسلام والمسلمين!.

ولو إن كل فرد من المسلمين يحس بجمرة المصاب، ويعتقد إن شعلة هذه الكارثة واصلة إليه قريباً لا محالة، لكان لكل شعب ولكل بلاد شأن غير هذا الشأن ونهضة غير هذه النهضة، ولما استقبلوا هذه البلية بهذه البرودة.

الفتوى المثيرة النافعة هو أن يفتى لكل إنسان ضميره، ويوحى إليه وجدانه، ويحفزه إلى العمل الجدي إخلاصه.

وحركة كل مسلم على مقدار علاقته من الإسلام، ورابطته بالدين، وحظه من الغيرة الإسلامية.

أما هؤلاء الساكتون، أو المثبطون الذين يثبطون العزائم ويبذرون بذور الشك والوساوس، فالكشف عن حالهم موكول إلى غيرنا...ولكنا نقول:

أيها العرب!...أيها المسلمون!...

لا يختلجكم الشك والريب، فإن البلية على كل واحد منكم والاستعباد ــ لا سمح الله ــ لكل شعب من شعوبكم، وإن معابدكم وجميع مقدساتكم في خطر هائل وبلاء نازل..فأنهضوا نهضة تحفظ كرامتكم وتصون مقدساتكم، فإن دول الغرب قد استكلبت عليكم، وإن اليهود الصهاينة سوف يغزونكم مرة أخرى ويستلبوا أراضيكم، فأغزوهم واسترجعوا أراضيكم قبل أن يغزوكم.

ولا ينبئك مثل خبير. والله المستعان.

النجف الأشرف     

محمد الحسين كاشف الغطاء

 


 

 
امتیاز دهی
 
 

 
Guest (PortalGuest)

دبيرخانه كنفرانس‌هاي بين‌المللي
Powered By : Sigma ITID