يكشنبه 16 ارديبهشت 1403  
 
 
كلمة مجلة (الغري) الصادرة في النجف الأشرف

 جنة المأوى

آية الله العظمى الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء "قدس سره"

  



 

 

مقدمة كتبها شيخنا الامام (رحمه الله) على كتابه جنة المأوى

بسم الله الرحمن الرحيم

رب هب لي حكماً والحقني بالصالحين واجعل لي لسان صدق في الآخرين واجعلني من ورثة جنة النعيم، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

ذكرنا في مقدمة (الفردوس) رغبتنا بعد اصداره بأن نشفعه بجزء ثانِ يكون عنوانه (جنة المأوى) خاصة بالأئمة المعصومين وجدّهم سيد المرسلين او يكون اكثره فيهم مما سبق صدوره منا حسب المناسبات والظروف الخاصة والطلبات الملحة من ارباب الصحف وغيرهم من رؤوس الجمعيات والنوادي والحفلات التي تعقد بمناسبة ولادة او شهادة، واعياد دينية او مذهبية كعيد المولود النبوي او عيد الغدير او عيد ولادة الأمير (عليه السلام) وما الى ذلك من الأفراح والأتراح وفاقاً لقولهم سلام الله عليهم: (شيعتنا يفرحون لفرحنا، ويحزنون لحزننا)، وحيث ان تلك الآثار التي رشح بها يراعنا قد ذهبت منّا شعاعاً ولم نحتفظ لا بالأصل ولا بالصحف التي نشرت فيها ولم يبق عندنا الا اوراق مبعثرة في اماكن متفرّقة، وكنّا نحسب مواده جاهزة لا يعوزها سوى النظم والترتيب واستبان بعد المراجعة انّ جمعها يحتاج الى عمل شاق وجهود متعبة وفراغ متّسع، فكيف نتجه الى ذلك وقد ضاق وقتنا عن اعمالنا الضرورية واشغالنا اليومية من المراجعات واجوبة الكتب والاستفتاءات والشفاعات وقضاء الحاجات، وفصل الخصومات كلّ هذا والاكثر منه يستغرق ليلي ونهاري، ويستوعب حركة اقلامي وافكاري ولا يدع لي نصيباً من الراحة لا في قليل ولا في كثير، فحياتي كلها عناء وافلاس الاّ ما هو وقف على مصالح الناس، ولكن أتراني مع هذا كله يتبقى لي شيء من الأمل للقيام بذلك العمل اضف الى ذلك العمر العتي وتراكم العلل ومن ثم اوشك ان يستولي اليأس على عزائمنا المتحجرة كالهباء المنتشر، وقلت كيف لي وانى لا يدرك المرء كلَّ ما يتمنى (وكم حسرات في نفوس كرام).

ولكن السادة الأشراف من اسرة القاضي الطباطبائيين الذين لم تزل لهم الزعامة الروحانية في عاصمة آذربايجان (تبريز) منذ اكثر من اربعة قرون وما ندر ما يستمر العلم والشرف في اسرة تجد كلّ مخائل النجابة في كل واحد من ابنائها محتفظة طول تلك المدة بشرف اجدادها وآبائها (من تلق منهم تقل لاقيت سيّدهم).

تبرّز في تبريز من هذه الأسرة الجليلة[1] منذ زهاء خمسة قرون العلماء والقضاة وشيوخ الاسلام، وكان لهم المقام الرفيع عند سلاطين الصفوية والسفارة الى ملوك الدول الاسلامية كالحجاز وتركيا وغيرهما، ولبعض الاعلام منهم صلات وشيجة وعلائق ود متينة ومراسلات ثمينة مع جدنا الأعلى كاشف الغطاء وولده جدنا الأقرب موسى بن جعفر كما المع اليه في تعليقات (الفردوس) نبعة دوحتهم ونجعة سحابتهم الأخ العزيز العلاّمة الحجة السيد محمد علي القاضي دامت بركاته، وهو ايده الله مع ابني عمه الاماجد الكرام السيد المحترم سيد علي القاضي والسيد الأديب السيد محمد حسين الطباطبائي اطال الله اعمارهم كما اطاب اعمالهم تقديراً للعلم والمعارف الاسلامية ونظراً الى تلك المودة الوراثية (وما في الآباء يسري في الأبناء) بعد أن انجزوا الطبعة الثانية (للفردوس)[2] بتلك الحلّة القشيبة وبتلك الصورة الفائقة من كلّ النواحي اقتضى كرم طباعهم وتعشّقهم لنشر المعروف والمعارف وان يشفعوا المكرمة الاولى بثانية، فألحَّوا عليّ بارسال جزؤات الجزء الثاني (جنة المأوى) للشروع في نشره وطبعه على غرر طبع الجزء الاول، ولما تظافر الطلب منهم وأنست منهم صدق الرغبة واخلاص النية والقصد لا لشيء سوى وجهه تعالى والنفع العام وخدمة الاسلام لم أجد بداً من الاجابة مهما كلفني الامر من المشقة والعناء والتعب والاعياء.

ولكن خطيرات المهالك ضمنت
 

لصاحبها ان الجزاء خطير
 

فاتجهت الى عيابي وحقائب مهارقي واوراقي فاستخرجت منها ما لعله يدخل في الموضوع الذي نحاوله، واعانني على جمع متفرّقاتها بعض السادة الافاضل المتّصلين بنا...دام توفيقه، ثم جعلت لهذه الجنة (ذريعتين) في كل ذريعة وسائل، ففي الاولى اربعة عشر لكل واحد من المعصومين وسيلة[3]ونشير في كل واحدة منها الى (المعجب) (المعجز) من صاحب تلك الوسيلة ثم نذكر ما عثرنا عليه من كلماتنا القديمة بشأن ذلك من ولادته او شهادته او غير ذلك.

محمد الحسين آل كاشف الغطاء

كلمة مجلة (الغري) الصادرة في النجف الأشرف

الامام المصلح الكبير الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء دام بقاه اعرف من اعرفه الى العالم البشري عامة والعالم الاسلامي في آفاق الدنيا خاصة هو مجموعة كمال احاطت بشتّى العلوم، وقد حاز الاعلمية التي تستوجب ان تلقى اليه مقاليد العالم الاسلامي في التقليد، وهو مضافاً الى كلّ ذلك لقد عرف بجهاده المستميت حول فلسطين المنكوبة، وانقاذها من جرائم اليهود التي اخرجتها (المانيا) من مملكتها، فاصبحت ايدي سبا في بقاع الارض، [كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً] في قيد الاسر والاضطهاد يتطلبون الصاع فلم يجدوه، فجمعوا شتاتهم واستعدوا بعدّتهم فكادوا كيدهم وكوّنوا كيانهم والمسلمون نيّام لا يفيقون ولا يفقهون، فأخرجوهم من اوطانهم وديارهم بعد تشتت كلمتهم وعدم اعتصامهم في مقابلتهم فخلا الجوّ للصهاينة في الأرض المقدّسة.

ما القدس يحفظ اهله
 

وبها سرى السم الافاعي
 

فشتتّوا المسلمين في الأرض ايّما شتات، ونال الصهاينة بخذلان المسلمين اشنع التجاوزات والتعدّيات، حيث لم يجدوا في المسلمين فكرة ولا نهضة ولا دفاع.


 

لا نهضة دينية ترجى
 

ولا للحق راعي
 

ما الأمر الا غلبة
 

والسيف احسم للنزاعِ
 

قرّي على ضيم الهوان
 

وشاطري ذات القناعِ
 

ولم يزل سماحة الامام يدافع عن فلسطين وابناء الضاد بقلمه وخطبه وكتبه في كلّ حركة او دعوة يبثّ بها روح الاصلاح والاعتصام بالوحدة والدلالة على اهدى السبل الاصلاحية النافعة للمسلمين ولعامة الحكومات العربية بندائه وخطبه وآثاره العلمية والأدبية التي ملأت الاسماع والقلوب والصحف والمجلات الأجنبية والعربية وانه لفي الطليعة من المجتهدين والعلماء الاعلام، سرعان ما تتأثر نفوسهم والعالم بأقل رشحة من رشحات قلمه وكلماته الروحية الخالصة لله سبحانه وتعالى لا يرجو منها الا الأجر والثواب، والخدمة لدين محمد (ص) وتأييداً لشريعته السمحاء، فاقرأ ايها القارئ الكريم كلمته التي تفضّل بها على مجلة (الغري)، بمناسبة المولد النبوي (ص) تجدها حجة ناطقة بصحّة ما ذهبت اليه، ولا بدّ للقارئ ان يلمس بعد نشرها الأثر العظيم والحركة الايجابية من المسلمين عامة ومن ابناء الضاد خاصة (الغري)[4]

العدد ــ 3 ــ السنة 1373هـ النجف الاشرف

المولد النبوي صلى الله عليه وآله

بسم الله الرحمن الرحيم

صدق الله العظيم حيث يقول: [ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمْ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ][5].

في هذا الشهر المبارك شهر ربيع الاول الذي قد يطلق عليه شهر النور وشهر المولود المبارك لإتفاق المسلمين على ان احد ايامه نزلت الرحمة من السماء الى الأرض. وانبثق النور الألهي من الملأ الاعلى، اشرقت الدنيا كلّها بنور ربها، وجاء من رب العالمين سيد الانبياء والمرسلين بشيراً ونذيراً، وداعياً الى الله باذنه وسراجاً منيراً، وعلى سطح هذه الكرة حفنة تزعم انها من البشر وليست هي من البشر، وتسمى انفسها بالمسلمين وما هي من المسلمين، تقيم الاحتفالات وتضع المهرجانات تكريماً وتعظيماً لهذا المولود المبارك الذي تقول: انه نبي الرحمة، وان الله اخرجنا به من الظلمات الى النور، فيجب علينا اظهار الفرح والسرور واعادة تلك الذكريات العليّة الطيبة.

نعم يحتفل المسلمون بعيد مولد نبيّهم الأعظم في هذا الشهر، ولم يكن شيء من هذه الاحتفالات في القرون الاولى يوم كان الاسلام في اوج عزّه وبرج رفعته وعظمته، يوم كان المسلمون يعرفون حقّ المعرفة معنى الاحتفال الصحيح لمولد نبيهم (ص)[6].

الاحتفال الصحيح الذي يبتهج به النبي (ص) ويسرّه هو الأخذ بتعاليمه واتباع سنته والعمل بقرآنه، الاحتفال الصحيح ان يكون المسلم مسلماً حقيقة ومعنى لا صورة ولفظاً، وقد جعل سلام الله عليه للمسلم علامات كثيرة اقلّها واولها ان يهتم المسلم بامور المسلمين حيث قال: من لم يهتم بامور المسلمين فليس من الاسلام بشيء وعلى ضوء هذه القاعدة يجب ان نمتحن انفسنا ونضع في الميزان اسلامنا، هاهم اليهود في كل شهر او كل يوم تشنّ الغارة على قرية من قرى المسلمين في فلسطين تقذفهم بالقنابل الجهنميّة، وتنسفها نسفاً وتذرها قاعاً صفصفاً، وتهالك تحت انقاضها ومبانيها جميع من فيها، يضعون المسلمين ما لم يضعه حتى فرعون مع آبائهم بني اسرائيل، فأنه كان يذبّح أبناءهم ويستحي نسائهم، اما بنو اسرائيل اليوم فيذبّحون بالنار والحديد الرجال والنساء والاطفال، وتتكرر هذه العملية منهم في كل سنة عدة مرات وهم بين سمع المسلمين وبصرهم وبين سبع دول كل واحدة تزعم انها مسلمة، وهي مشغولة بنفسها لا يهمها من امر اولئك المساكين مقدار بعوضة، وهكذا الحال مع المسلمين في المغرب العربي وما تعاني تونس، ومراكش، والجزائر من فرنسا من الشنق والحرق والأعدام لأولئك الاحرار الكرام، واعطف بنظرك ثانياً او ثالثاً الى المحميات التسع وعدن واسمع ان كنت ذا سمع وبصر ما يصنعه الاستعمار الجبار في مسلمي تلك الديار من الاستيصال والدمار، يقولون: ان عدد المسلمين اجمع على اقل تقدير اربعمائة مليون، فلو ان الربع من هؤلاء كانوا مسلمين حقاً، وكان فيهم اقلّ علامات المسلم وهي الاهتمام بأمر اخوانهم المسلمين لأنقذوهم من تلك المهالك، ولو انّ ما ينفقه المسلمون في هذه الاحتفالات من الاموال، وما يبذلونه من المواليد من مصر وغيرها ليس في مولد النبي (ص) فحسب بل في مواليد مشايخ الطرق كالبدري، والاحمدي، والدسوقي وامثالهم وما يتفاخرون به من البذخ في السرادق والأضوية الكهربائية والمشروبات الكحولية وغيرها لو تجمع هذه الاموال وترسل الى المشردين من عرب فلسطين فتحفظ ما بقي من رمق حياتهم التي اصبحت رهن وطأة الزمهرير والمطر الغزير، وتمدّهم بالسلاح والعتاد وتحفزّهم الى الجهاد، اما كان خيراً للمسلمين من تلك الاعمال التي ما كان المسلمون يعرفون شيئاً منها في العصور الأولى، وما تأخر المسلمون واندحروا وذلّوا الاّ من العصر الذي شاعت وانتشرت فيه هذه المحدثات التي اماتت العزائم وسلبت من المسلمين كلّ الحميّة والغيرة، ولو انّ ما يبذله العرب بل عموم المسلمين كلّ ليلة على الملاهي وفي المقاهي والخمور والفجور والمقامرات يجمعونه لأنقاذ فلسطين عوض ان تتسرب تلك الاموال الى جيوب الاجانب والمستعمرين فتعود وبالاً علينا وسلاحاً للفتك بنا ولو انّ الحكومات العربية بل الدول الاسلامية منعت رعاياها من صرف الأموال في تلك الموبقات، وانفقتها في تلك المهمات لحازت الوزن الثقيل بين الامم وسعدت هي ورعاياها، واشهد بالله شهادة حقّ لو كان عند المسلمين ذرة من الغيرة والاسلام بمعناه الصحيح لما صبروا وتطامنوا لهذا الذلّ والصغار وتحمّل الخزي والعار، ولما ابقوا على وجه الارض صهيونياً يذكر، نعم وما اصدق قوله سلام الله عليه: (ما كره قوم طعم الموت الاّ ذلوا)، وزبدة المختصر والحقّ المحض انّ البلية ما اشعل نارها على فلسطين الاّ الحكومات العربية، فهي اصل الداء، ويجب ان يكون منها الدواء، ولكنّي اخشى ان تأتي هنا كلمة امير المؤمنين (عليه السلام) لأهل العراق عموماً او لأهل الكوفة خصوصاً حيث يقول لهم: (اريد ان اتداوى بكم وانتم دائي كناقش الشوكة بالشوكة وضلعها معها)، واذا لم تبادر الحكومات العربية التي يعبّر عنها الصهاينة بالدعائم السبعة المنهارة تارة وبالفئران السبع اخرى، وامامها (هر) يريد ان يبتلعها، فاذا لم يحفزها كلّ هذا التحدي الى الوثبة وتعجيل الضربة، وتمادت على المماطلة والتسويف كرامة لسود عيون اسيادهم ذوي العيون الزرقاء، نعم اذا تمادوا في حبال هذا الوبال كان لزاماً على الشعوب العربية ان تنهض وتشق الطريق بنفسها لتأخذ ثارها وتغسل عارها، فأما موتة حرّ شريفة او حياة نظيفة:

فاما حياة تبعث الشرق ناهضاً
 

واما ممات وهو ما يرقب الغرب[7]
 

وبعد ذلك يحسن منها ان تقيم الاحتفال بالمواليد النبوية والاعياد الاسلامية، اما في هذه الحال فحقّ عليهم اقامة المآتم، ولبس الحداد والتمائم، ولا شك ان رسول الله (ص) يطال عليكم ايها الناس من سماء عليائه ساخطاً عليكم في هذه الاحتفالات الزائفة التي ما هي الاّ لهو ولعب، وتيقنوا انكم اذا لم تتداركوا هذا السيل الجارف من البلاء فلا شكّ انّ مصيركم جميعاً الى الفناء، ولا يبقى للعرب ذكر الاّ في التاريخ الاسود ولا غير، وتصحّ فيكم الآية التي افتتحنا بها كلمتنا هذه [ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمْ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ]، هذا هو الاحتفال الصحيح لعيد المولود النبوي (ص).

مولد النبي الكريم وبعثته[8]

وانت لمّا ولدت اشرقت الأر
 

ض وضاءت بنورك الأفق[9]
 

في اخريات القرن السادس من ميلاد المسيح (عليه السلام) كانت الارض بؤرة فساد وضلالة، وحمأة طيش وجهالة، من بغي عدوان وعبادة اوثان وحروب طاحنة، وأحقاد ملتهبة وغارات متواصلة، ليس في ظلمتها المتراكم بعضها على بعض بصيص من نور هدى ولا بارقة أمل في سداد.

لا جرم انّ الانسانية بروحها الطاهرة ونفسها المجرّدة عن سلطان الهوى والشهوات كانت تعجّ وتضج الى بارئها ان يبرّ بها ويبرئها ويعطف عليها فيبعث لها من يبلسم[10] جراحها، ويصف لها صلاحها ويدّلها على سعادتها الدائمة وحياتها الخالدة، ويحكم فيها سلطان العدل والعقل فيصلح الفاسد من كلّ نواحيها، ولا ريب ان الربّ ــ جلّ شانه ــ ما خلق الانسانية ليرمى بها في تيار من الشقاء تتقاذف بها امواجه، وتترامى بها اعاصيره طول الأبد، بل خلقها للنعيم والسعادة، وللهنا والرحمة ونعمة الخلود في الابدية هنالك حيث الحرَّة[11] السوداء والجبال الجرداء والحجارة الخشناء والعرصات القاحلة والرمال الملتهبة، هناك حيث لا زرع ولا ضلوع ولا شجراء ونضراء، هناك بين اطواد تهامة وجبال فاران وربوات حوريث وساعير، هناك من جوامع الجبروت وصوامع الملكوت وغيب الغيوب وسرّ الهويّة الأحديّة واعماق الابدية وامواج العناية الازلية، هناك في غسق الليالي المدلهمة وحنادس الجهل والجاهلية هناك في الوسط الذي اماته الجهل واعياه الهوى وسخّره سلطان الشهوات واستحكمت فيه غرائز الرذيلة.

هناك انبثق بركان[12] من النور الالهي والقبس الربوبي فبزغت انوار شمس المحمدية (ص) وهبّت في الاكوان نسمات البشرية بحامل مشعل السعادة الابدية.

ها ان محمداً (ص) (ولذكره المجد والشرف) قد وجد وولد ونما ونشأ يمثل روح الأخلاق الفاضلة في ابان صباه، وريعان شبيبته وفي جميع اطواره وادواره منيعاً وديعاً، اميناً رزيناً، عفيفاً شريفاً، فكوراً وقوراً، قويّ الارادة عظيم الهمّة، فحل العزيمة، دقيق الاحساس رقيق العواطف، رحيم القلب حليم النفس، جميل الصورة حسن السيرة، مغناطيس النفوس محبوب القلوب ما كذّب قط ولا خان ولا مان، ولا مكر ولا غدر، ولا سجد لصنم ولا انثنى لوثن كلّ ذلك وما اليها من السجايا الغالية والمزايا الباهرة والمعارف السامية كانت طباعاً لا تطبعاّ ومواهب لا مكاسب، من غير معلم ولا مرشد، ولا مربّ ولا مدرب، ولا مدّرس، ولا مطالعة كتب ولا مراجعة صحف وكانه قبل أن يتجاوز شعوب مكة قد عرف كلّ الشعوب وخير أحوال الامم وسبر طبقات البشر. ودرس نفسيات الخلائق وقلبها بحثاً وعلماً فعلم ما هي ادواء البشرية وما عللها وامراضها، وما هو دواؤها وعلاجها وما هو السبيل الى رحمة تلك الانسانية المعذّبة وتخليصها من قديم شقائها ومزمن دائها.

ثمّ انّ محمداً (خلّد الله شريعته واعلى كلمته) عندما بلغ اشدّه واستوى جدّه وشاع في احياء العرب اريج ذكره، واستبحر في الأرض خليج فخره، وبدا للحاضر والبادي عظيم شأنه ورفيع شاوه، ووقف قومه على منيع مقامه وباذخ اعلامه حتى اذا قرب من الاربعين طفق يطلب الخلوة لنفسه ويعتزل عن ابناء جنسه وصار يترهب تلك الرهبانية الصحيحة التي لا تجحف بواجب شيء من النفس او البدن، بل تعطي كلا من التكميل قسطه وتوفى بحسب شرطه، وتستوفى حظوظها منه على مدرجة الصواب واحسن الانتخاب والاستقامة على حد المركز والوسط والاعتدال بين الاطراف من غير ميل ولا انحراف، وهذه اول ترشيحة الوحي وترشحه للنبوة، وتاهل للبعثة وتسديد من الغيب فجعل ينقطع ويتجرّد ويروح الى معلّمه الروح المجرد[13] ويقيم خارج البلد في شعب (حراء) يتحرى مهنّ نفحات العناية بين وارداته القلبية، ويترقب خلع التشريف والكرامة من متحف الربوبية ويطالع اسرار الملك والملكوت مما رقمه قلم الأزل على صحيفة نفسه القدسية، ويتأهب للهبة بما تفرسه حدسه وحدسته نفسه، وتقدّمت له دلائله، وهتفت فيه بشائره من تشريفه بتلك المنزلة الشريفة، وتعيّنه لهاتيك الوظيفة، وبعثه بتلك المصلحة العامة والمسألة الهامة البالغة اقصى مبالغ الصعوبة والحاجة والكلفة والمشقّة ودفعه الى تقحّم ذلك المأزق المتلاحم والتهجّم على غيوم ذلك البلاء المتراكم، ولكن ــ على قدر اهل العزم تاتي العزائم ــ وعند العظم تصغر العظائم، فأوّل ما كان له من طلائع النبوة وقدامى الوحي والبعثة وقوع الرؤيا الصادقة من التي تجيء كفلق الصبح له، ثم تعقّب ذلك سماع الصوت دون معاينة الشخص قائلاً له غير مرة: يا محمد انك رسول الله، فكانت تأخذه عند ذلك من الوحشة والدهشة، واللذة المشوبة بالعجب والأنس المشتبك بالغرابة حال يقصر أبلغ يراع بليغ عن تصويرها، وبكلّ لسان كلّ مثيل عن تمثيلها، وكان لتلك الحال روعة تدفع لجسمه الشريف مثل الهزة والفزة[14]، ويصيبه الأفكل والرعدة كدأب المبتهج المستبشر.

نعم ثم تدّرج الوحي اليه على مقتضيات الحكمة،


 

 
امتیاز دهی
 
 

 
خانه | بازگشت | حريم خصوصي كاربران |
Guest (PortalGuest)

دبيرخانه كنفرانس‌هاي بين‌المللي
مجری سایت : شرکت سیگما