خاتمة المطاف ومطاف الخاتمة
خطرت لي سوانح دفعني حافز من الغيب الى ان اختم بها هذه الكراسة، فتكون خاتمة المطاف. وتلك السوانح وان كانت قضايا مبعثرة لا يرتبط بعضها ببعض، ولكنها جميعاً لا تخرج عن الغرض، ولا تحيد عن الهدف الأسمى.
السانحة الأولـى طاعة الرغبة أبقى من طاعة الرهبة
قد سبقت الاشارة الى ان كلما أوردنا من البيان، عتبا كان او نقداً، حلواً كان أو مراً. صحيحاً كان أو سقيماً. ما دفعنا اليه الا عاملان:
أداء الواجب والخروج من عهدة المسؤولية.
انها نفثة مصدور، وزفرة مجمور، لا تعدو ان تكون كوضع الماء على النار لابد ان يغلي ويفور.
ونظراً الى ان جل الغرض هو النصح والارشاد والخدمة الانسانية لنوع البشر.
( نقول ) ان الدول الكبرى في هذا العصر كل واحدة منها تشعر أحوالها وأعمالها بأنها تتطلب بحرص وجشع شديد ان تكون لها سيادة العالم، وان تخضع لها كل الدول. والأخرى تريد لنفسها أيضاً مثل ذلك. فالجميع يتسابقون في هذا الميدان، ويبذل كل واحد كلما في وسعه من الجهود حسب الامكان لذلك الغرض، حرصاً على التفوق، وجشعاً الى الغلبة والأثرة.
ومن هنا تكثرت المخترعات وتوفرت آلات الإبادة وسلبت الراحة والاستقرار من عامة البشر وأصبحت كل أمة او دولة كأنها معلقة بنجاح طائر لا تدري متى ينتفض فتسقط وتهلك، وأصبح هذا التنافس بلاء ومحنة عليهم وعلى العالم كله.
وربما يكون التنافس وحب الغلبة والأنانية غريزة جبلت عليها النفوس وانصهرت بها العقول، والتغلب على الطباع، غير مستطاع، نعم قد يكون ذلك حقاً (وتأبى الطباع على الناقل ). ولكن الغلبة والتفوق والسيادة، وان كان فيها السعادة، لا ينحصر الطريق اليها بالبطش والفتك والاستعداد للإبادة والهلك، بل هناك من الطرق اليها ما هو أهون وأضمن، وأهون في الكفاح، وأضمن في النجاح. وهو طريق العدل والإحسان. فعوض ان يملكوا أجساد الشعوب والأمم بالظلم والإرهاق، وغل الأعناق. لماذا لا يملكون القلوب بالبر والإحسان والإشفاق، ويعلم كل ذي شعور ان طاعة الرغبة بالطوع والاختيار، أبقى وأخلد من طاعة الرهبة بالقسر والاضطرار. وقد قالت الحكماء ان الحركة القسرية لا تدوم وكل شيء يرجع الى طبعه والشعب قد ينتفض، والمغلوب قد يغلب والحرب سجال،والدنيا دول. أما ملك قلوب الشعوب بالإحسان والعدل فهو في أمن من هذه الأخطار فما بال تلك الدول المعظمة تعدل عن هذه الخطة السليمة، الى تلك الخطة السقيمة.
ولعل من يجيب عنهم يقول: ان ساسة تلك الدول رأت ان الانسانية قد هرمت مداركها وتحجرت عقولها وقست قلوبها فصار البر والاحسان لا يبعثها على السلامة ولا يمنحها الاستقامة ولا يسوقها الا السوط والعصا ولا يبرء علتها الا العملية الجراحية وإراقة الدماء بلا هوادة ولا رحمة.
( أقول ) وقد يكون هذا حقاً او فيه بعض الحق ولكن لا أقل من التجربة فاننا منذ زهاء مائة سنة منذ سمعنا ان في الدنيا دولة تسمى إنكلترا أو أمريكا أو فرنسا ما سمعنا ان واحدة منهن استعملت العدل والقسط مع مستعمراتها فضلاً عن البر والإحسان ثم هل ان الانسانية بجميع عناصرها وأواصرها قست قلوبها وتحجرت عقولها فلا تستحق الرحمة ولا ينبغي معاملتها بالإحسان إلا الأمة اليهودية واللقيطة الصهيونية، ام هي السياسة العمياء والمكيدة الماكرة لضرب العرب بالصميم.
واذا كانت الحكومات العربية قد زاغت عن سبل الفضيلة ونزعت عن المزايا والخلق الكريم فلا تعرف للاحسان قيمة ولا للعرف معرفة. فان الشعوب ولا سيما الشعوب العربية فيها على قلة بقية صالحة وخير كثير وانما يحتاج الى التوجيه والتنوير.
وقد شرع القرآن شريعة العدل والاحسان فقال تعالى: (اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ). وقد أخذ بها المسلمون في أول عهودهم فنجحوا وتركتها الحكومات الإسلامية فما ربحوا.
السانحة الثانية تدهور الأخلاق
ان الاخلاق والفضيلة والمثل العليا والنواحي الروحية قد بلغت من التردي والسقوط والتدهور في هذا العصر الى أبعد حدودها. استعرض على ذهنك كل ما على هذه الأرض من الممالك والأمم والشعوب والقبائل فان كانت ذات دين او نجاة فهل تجدها قد تقيدت بشيء من دينها او التزمت بحكم من أحكام شريعتها مثلاً ان أصول الفضائل في العهدين القديم والجديد والوصايا العشر وخطبة المسيح على الجبل وأهم ما فيها لا تقتل لا تسرق ولا تزني لا تكذب الى آخرها، فهل تجد شيئاً من هذه الفضائل عند اليهود او النصارى بل وعند أكثر المسلمين بل وحتى عند البراهمة والبوذيين الذين هم أشد الأمم تمسكاً بديانتهم والتزاما بتقاليدهم، وأهم الأحكام عند البراهمة الذين لا يسوغ في شريعتهم مخالفة بوجه من الوجوه لا اضطراراً ولا اختياراً حرمة ذبح الحيوان بل حرمة إيذائه حتى الهوام والحشرات والانسان بالضرورة أشرف من الحيوان ومع هذا فلما نشبت الحرب بين الهندوس وبين المسلمين قبل سنوات صار ألوف المسلمين بل مئات الألوف نساءاً ورجالاً وأطفالاً تصب عليهم القنابل من الطائرات في جو السماء والمدافع في دو الأرض. يحرمون قتل النملة ولا يحرمون قتل الناس جملة.
أما أمريكا فقد نسفت مدينة من كبريات مدن اليابان بكل من فيها من السكان والذرية، بفضل القنبلة الذرية. ما أدري بلحظة واحدة أو أكثر. كما لا أدري ما ذنب أولئك المساكين من البش حتى يهلكوا جميعاً على صعيد واحد، وبنفخة واحدة. وأمريكا تدين بدين النصرانية وتبشر به وتوراتهم وإنجيلهم يصرخ في كل فرد منهم لا تقتل، لا تقتل. والإسلام يشدد في أمر القتل ويحرمه أشد حرمة. الا في موردين او ثلاث لأسباب خاصة من قصاص ونحوه. كما يحرم الظلم والعدوان، ويوصي بالشفقة والرحمة، والعطف حتى على الحيوان. وأوصى بالشفقة والرقة حتى على الكلب فقال اذا رأيت الكلب يلهث من العطش فاسقه الماء فان لكل كبد حرى أجراً. وقال لا تضرب وجه دابتك ولا تحملها فوق طاقتها واذا بلغت المنزل فابدأ بسقيها وعلفها قبل نفسك. وقال ان للماء أهلاً فلا تبولوا فيه فتؤذوهم. وقال لا تحرقوا بيوت النمل. وقال أمير المؤمنين علي عليه السلام في بعض خطبه: والله لئن أبيت على حسك السعدان مسهداً، او أجر في الاغلال مصفداً أحب إلي من ان ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشيء من الحطام. ويقول في آخرها: والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على ان أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت.
هذا اضمامة صغيرة من زهرات آداب الإسلام وتعاليمه وحال الأصحاء من رجال المسلمين وأئمتهم. ولكن هل تجد شيئاً من ذلك عند المسلمين اليوم من عامتهم بل الكثير من خاصتهم.
أصبح اليوم الظلم والعدوان على حق الغير، والقسوة والرشوة، والكذب والبهتان، والقتل بجميع أنواعه، وما الى ذلك من المساوئ والرذائل، طعاماً سائغاً هنياً، يسيغه الناس كما يسيغون طعامهم وشرابهم من غير وحشة ولا نكير.
ولا أريد ان أستوفي هذا الموضوع حقه، وأخوض فيه الى أعمق نواحيه، إنما الذي اريد ان اقتله بحثاً وعلماً، واصل الى قعره وغوره، وهو معرفة العلة والسبب في هذا الانقلاب الذي يشبه ان يكون انقلابا فجائياً في هذه الأمة التي تقول بلسانها انها أمة مسلمة وليس لها من روحيات الإسلام وحقايقه وخلايقه شيء قل أو كثر.
نعم أمعنت النظر وأنعمت الفكر وقايست بين هذا العصر والعصر الذي أدركته قبل نصف قرن أيام حكومة الأتراك المسلمة والتفاوت الشاسع بين الحالين مع القرب بين الحالتين الذي جعله عندي انقلاباً فجائياً فكرت وتدبرت الأسباب والمسببات والعلل والمعلولات فلم يوصلني السير الحثيث والبحث المتواصل الا الى أمرين أحدهما يعتنق الآخر ويلازمه.
( الأول ) توغل الاستعمار وتمكنه من هذه الاقطار الإسلامية ومن المعلوم ان الاستعمار عند أربابه فن من الفنون وله إدارات ووزارات ودروس ومدارس وأساتذة وامتحانات وإجازات.
وقد تجلى لهم كما هو الواقع ان الغرض الأتم والفائدة المتوخاة لا تحصل لهم الا بتغيير نفسيات المسلمين ووجدان الإسلام بروحه وجوهره هو الأخلاق والملكات الفاضلة وهي تقوم على أساس رصين من شيِّنات الخير الثلاث يلازم بعضها بعضاً ولا ينفك أحدها عن الآخر وهي: الشرف. الشمم. الشهامة. في قبال شينات السوء. الشر . الشؤم. الشغب.
أول بذرة غرسها النبي في نفوس أصحابه الأولين وهم أولئك الضعفاء المساكين كصهيب الرومي وبلال الحبشي وسلمان الفارسي لا مال ولا رجال ولا عشيرة في محيط يتماوج بجبابرة قريش وطاغوتها وخيلاتها.
غرس في نفوس أصحابه العزة والاباء وكرامة النفس واحتقار المادة والصلابة في الدين فقال ما معناه: تذل السماوات والأرض ولا يذل المؤمن، وتزول الجبال ولا يزول إيمانه وقال في كتابه العزيز: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ). وقال: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ). وقال: (قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً).
أما اليوم فهم يقاتلوننا ويجدون فينا رخاوة بل مساعدة على قتل إخواننا.
يقتل بعضنا بعضاً ويمشي
|
|
أواخرنا على هام الأوالي
|
رأى المستعمر ان المسلم يستحيل ان يرضى بعار الاستعمار ويلبس ثوب الذل والصغار، ما دام مسلماً يعرف لنفسه عزة وكرامة وشرفاً وشهامة، واذا فلا مناص لمن يريد ان يستعمر المسلمين ان يسلبهم قبل كل شيء عزتهم وإيمانهم، حتى يستطيع ان يأخذ بسهولة أموالهم وبلدانهم وبأي شيء يستطيع سلب عزتهم وكرامتهم وسلب إيمانهم وشهامتهم؟.
( الجواب ) سهل واضح يتوسل الى ذلك بالمغريات واشراك الشهوات وحبائل المال والمادة وهكذا فعل وهكذا وصل وهكذا صارت حالة المسلمين وذهب منها كل خلق كريم. وصارت طباعها تمج الفضيلة وتستلذ الذلة والرذيلة ولا تجد لنفسها أي قيمة إزاء الظالمين والمستعمرين، أراك تشك في هذا أيها المسلم فان كنت تشك فانت مسلوب الحس والشعور أيضاً كما انك مسلوب العزة والكرامة.
ومما زاد في نمو هذه البذرة بذرة المهانة والذلة واحتقار النفس ونكران الذات والانغماس في الشهوات والعزوف عن صفات الأماجد وأماجد الصفات هو ( الأمر الثاني ) الذي تولد وتكون من الأمر الأول. ذاك سكوت المرشدين والواعظين بل الأصح في التعبير عدم وجود مرشد لبيب، او واعظ او خطيب، يصرخ في هذا المجتمع الهالك صرخة توقظه من نومه بل تحييه من موته وتنشره من قبره، تراكمت العلل والأمراض في جسم هذه الأمم الإسلامية ولا طبيب يتصدى لعلاج واحدة من عللها من سائر مللها بل سرى المرض الى الأطباء فالمريض والطبيب سواء.
( رب داء سرى فأعدى الطبيب ).
المغريات وبواعث الشهوات بالألوف والملاين، والمثبطات والعظات ولا واحدة فكيف يكون الحال.
السانحة الثالثة كيف نحل مشكلة فلسطين
ان اختلاف كلمة المسلمين في القرن السادس والسابع للهجرة سبب حدوث الحروب الصليبية وغلبة المغول والتتر على الممالك الإسلامية. وفي القرن الثالث عشر والرابع عشر للهجرة أدى اختلاف كلمة المسلمين ايضا الى ابتلائهم بالاستعمار الأوربي، فاستولى الإنكليز على مصر والمحميات التسع وإمارات الخليج والعراق والحجاز واستولت فرنسا على الجزائر وتونس ومراكش ولبنان وسوريا.
واختلاف كلمة الدول العربية بعد الحرب العالمية الثانية هو الذي أدى الى فاجعة فلسطين وانشاء دولة إسرائيل.
والعالم العربي الآن يعرف جيداً ان لإسرائيل أهدافاً اعتدائية. ويعرف ان إسرائيل كالنار الملتهبة تستمر في حرق ما يجاورها او تخمد ويقضي عليها، وكالوباء والمكروبي الذي يظل منتشراً او يقتل ويفني.
ان قضية فلسطين في القوت الحاضر بعد ان اعترفت بها دول كثيرة أصبحت معقدة جداً حلها يحتاج الى كثير من الحكمة والحذر والصبر والشجاعة. ولمعالجتهاينبغي ان نأخذ بنظر الاعتبار أموراً كثيرة أشير الى بعضها:
يجب الابتعاد عن الاقوال الفارغة والوعيد والتهديد والحذر من التظاهر بالدعوة الى الانتقام والثأر، والجولة الثانية، تلك الدعوة التي تدسها وتنشرها الدول الاستعمارية علناً عن سوء قصد، كي تلهي العرب بالخيال والأماني عن الواقع المر، ونحول نقمة العرب منهم الى إسرائيل.
وينبغي الحذر من دسائس الإنكليز والأمريكان ودحض دعابتهم التي تظهر العرب بمظهر المعتدي والمنتقم والحال ان العرب يطالبون بحقهم وهم الموتورون. ولو ردوا اليهم بلادهم لم يكن لهم مع اليهود ولا غيرهم حقد أو سوء. وقد عاش اليهود مع العرب بسلام حقبة طويلة من الزمن.
ان أصل بلاءنا بإسرائيل كما ذكرنا من إنكلترا التي كونتها، وأمريكا التي شجعت إسرائيل وعاونتها. فخلاصنا من إسرائيل مرتبط ارتباطاً بخلاصنا من الاستعمار.
فان استقلت الدول العربية استقلالا كاملا، وتكونت فيها حكومات نزيهة مخلصة تتعاون وتتحد وتتسلح للقضاء على الخطر تهيأ الخلاص للعرب من إسرائيل وماتت من نفسها بلا عناء بل تموت بدون حرب وتستلم في الحال بلا قتال ولا جدال، لطالب العرب ويمكن حينئذ ضم القسم اليهودي الى الاتحاد العربي الواسع ومعاملتهم كمواطنين او اعتبارهم من أهل الذمة حسب قانون الإسلام.
ان اختلاف كلمة دول العرب هو الذي أدى الى الكارثة ولا يتمكن العرب من إيقاف نمو إسرائيل او القضاء عليها الا بتضامنهم واتحادهم، والا فان البلاء اذا توسع هذه المرة فانه سوف يعم الجميع بل يؤدي الى فناء العرب وتشريدهم في الآفاق وينعكس الأمر فيصبح اليهود مجتمعين آمنين في بلدان العرب، والعرب مشردين عن بلدانهم وأوطانهم.
ولا ينفع حيئذ الندم ولا يمكن العلاج فان مثقالا من الوقاية خير من قنطار علاج وسوف نكون نحن الاسلاف لعنة الاخلاف وسبة الأجيال، واذا بقينا على خدرنا وكسلنا ونومنا العميق ستصلنا النار في القريب العاجل. بالله عليكم ايها العرب ارحموا انفسكم من العذاب الذي تعاونونه الآن ومن البلاء يدبره لكم الأعداء. ووحدوا صفوفكم وتضامنوا وتعاونوا ولا تتهاونوا تنجحوا وتفلحوا.
السانحة الرابعة النصح والارشاد، هل ينفع في دفع الشر والفساد؟
قد يقول قائل ان الموعظة والنصيحة مهما كانت صحيحة بليغة او فضيحة، ولكنها أصبحت في هذه العصور وفي هذه الأيام عديمة الجدوى فاقدة الفائدة ليس فيها الا العناء واضاعة الوقت فان الشر والفساد قد استحكم في النفوس حتى صار كطبيعة ثانية او ثابتة فيها الكلام لا يغير الطباع ولا يحل النظام. وقد قيل: غيروا ظروفكم تتغير أخلاقكم. يعني ان الانسان تكونه الظروف وتخلقه البيئة وقد انحدر سيل الفساد من أعالي جبال المدينة المادية كالتيار المتدافع لا ترده صيحات الصائحين، ولا تصده نصائح الناصحين، وعظات الواعظين، وكل من يقف في سبيل هذا السيل يحرفه ويقضي عليه.
( أقول ) وليست هذه النظرية من النظريات الحديثة وممن كان شأنها شدى بها في القدئم فيلسوف (المعرة) ونظمها في لزوميتها وفي غيرها بأساليب مختلفة مثل قوله:
كم وعظ الواعظون منا
فانصرفوا والعناء باق
|
|
وقام في الناس أنبياء
ولم يزل داؤك العياء
|
ويقول:
غلب البشر منذ كان على الخلق
واذا ما النفوس لم تقبل النصح
|
|
وماتت بغيظها الحكماء
فماذا تفيده النصحاء
|
وأبدع في كلمته المشهورة:
يروق مرأى لبني آدم
أحسن من أحسنهم صخرة
|
|
وكلهم في الذوق لا يعذب
ولا تظلم الناس ولا توكب
|
وسبقه المتنبي في مثله السائر :
الظلم من شيم النفوس فان تجد . . .
وقد أخذه من كلمة لأمير المؤمنين سلام الله عليه من كلماته القصار وجوامع الكلم وقد حلق اليها ابو الطيب وانحط دونها:
( الظلم مودع في النفوس، والقوة تبديه والضعف يخفيه )
ولكن هل في هذا واضعاف أمثاله من منظوم ومنثور، ومشهور ومأثور، قناعة لذي اللب بسقوط هذه الفريضة وارتفاع هذا التكليف؟ وهل الموعظة والإرشاد إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو من أهم فرائض الإسلام وأقوم أسسه ودعائمه؟ وهل كانت وظيفة الأنبياء والرسل سوى هذا؟ وهل نزلت الكتب إلا لهذا؟ وكانت الأمم الغابرة التي بعثت الأنبياء اليها أغلظ طباعاً وأشد قسوة وامتناعاً، من الأمم المتأخرة وقد سرد القرآن الكريم قصص الأنبياء وما تحملوا في سبيل الدعوة من الجهد والعناء وضرب أروع الامثال في هذا المجال. أنظر الى حال نوح ومن بعده من أولاده من الأنبياء وماذا قاسوه من المهالك كل ذلك كي نعتبر ونتأسى بهم ولا نخلق لانفسنا الكهوف والمغارات لنستريح اليها وننزوي فيها ونتكلف المعاير للتهرب منها.
وأصح ما وصل اليه الباحثون في علم لنفس ان الانسان بحسب أصل فطرته وطبيعته ساذج مرن يجوز ان يتشكل بكل شكل ويتلون بكل لون حسب الظروف والملابسات والتربية والتربة لا اقتضاء فيه لخير ولا شر.
نعم لا ريب ان لكل طبيعة من الطبائع شواذاً يقال عنها (شواذ الطبيعة) فيوجد بل وجد أفراد لا تنفع فيهم العظة ويهزؤن بالنصيحة كما أخبر عنهم جل شأنه: (قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً). (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ) والقرآن يجعلهم موتى ((إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى * وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ)).
ولكن هذا النوع قل أو كثر لا يسقط التكليف لاتمام الحجة وقطع المعاذير وليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة. واذا تركنا العظة والتبليغ لوجود مثل هؤلاء في البشر يكون كمن ترك الماء لأن شخصاً شرق بالماء فمات.
المواعظ البالغة هي وظيفة الأنبياء ومن أجل وجوب القيام بها صار العلماء ورثة الأنبياء تلك العظات كالسحاب الماطر اذا أصاب الأرض الطيبة أنبتت نباتاً حسناً واذا وقع على الخبيثة أخرجت شوكا او ملحاً. كل هذا مما لا مراء فيه انما الداء العضال وعقدة الإشكال في الواعظين فأين الواعظون المتعظون وأين الصالحون المصلحون والكل يعلم ويقول ان الكلام اذا خرج من القلب دخل في القلب واذا خرج من اللسان لا يتجاوز الآذان وأصوان الفرايض يجمعها ثلاثة عناوين يجب لى كل انسان ان يعلم ثم يعمل ثم يعلم وروح هذه الأصول الثلاثة الاخلاص والمعرفة وعلى درجات الاخلاص يكون التأثير في المحل القابل، والاستعداد الكامل، وصف المتقين أمير المؤمنين (ع) فما فرغ من خطبته حتى صعق همام ولحق بإخوانه المتقين، ووعظ بعض العرفاء شاباً من تلاميذه فشهق شهقة كانت روحه فيها فجاءت أمه تبكي ومعها أهله يطالبون الشيخ بديته فقال الشيخ نفوس طهرت وطابت، ثم دعيت فأجبت، خذوا ديته ممن أخذه ممن دعا فلباه وتجلى له فاستهواه.
نعم هكذا تصنع المواعظ البليغة في من يعيها من سامعيها أما أنا وأنت وأمثالنا من الهياكل البشرية الجوفاء المشحونة بالهوس والأهواء فأي أثر لوعظنا، وأي فائدة في إرشادنا لو أرشدنا نحن علماء نتلو آيات الكتاب ونعرف فقه الحديث ولكن من طراز الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها... ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد الى الأرض واتبع هواه.
مضى عليّ أكثر من خمسين سنة وأنا أهيب بإخواني المسلمين أدعوهم الى الاتفاق والوحدة وجمع الكلمة ونبذ ما يثير الحفائظ وينبش الدفائن والضغائن التي أضرت بالإسلام وفرقت كلمة المسلمين فأصبح الإسلام غريباً يستنجد بهم. تكالب عليه أعداؤه وجاحدوه وخذله أهله وحاملوه. ومن أراد شاهد صدق على ذلك فليراجع الجزء الأول من (الدين والإسلام) او الدعوة الإسلامية الذي طبع منذ 44 سنة ولينظر أول صفحة من الى صفحة 27 تحت عنوان ( البواعث والدواعي لهذه
الدعوة ). ثم يشفع هذه النظرة بأخرى في أول الجزء الثاني منه فيرى المقطوعة التي يقول أولها:
بني آدم إنا جميعاً بنو أب
|
|
لحفظ التآخي بيننا وبنو أم
|
ومنها يقول:
رأيتكم شتى الحزازات بينكم
خذوا ظاهراً من صورتي فضميرها
يود لو ان الأرض تصبح جنة
بني آدم رحماكم في قبيلكم
حناناً على هذي النفوس فإنها
هلم نعش بالسلم عصراً فإننا
إليكم بني الأديان مني دعوة
الى السلم فيكم والتساهل بينكم
|
|
وما بينكم غير التضارب بالوهم
تصور من روح التحنن والرحم
تفيئكم ظل السلامة والسلم
فقد جزتم بري العظام الى الهشم
سماوية من رشح ذيالك اليم
قضينا عصوراً بالتضارب واللدم
دعوتكم فيها الى الشرف الجم
فيا حبذا شرع التساهل والسلم
|
ولم تزل نشراتي ومؤلفاتي في أكثر من نصف قرن سلسلة متوالية الحلقات متصلة غير منقطعة كلا في النصح والإرشاد والدعوة الى الاتحاد، ودفع الفساد، وقد طبع ( أصل الشيعة ) تسع مرات في كل واحدة مقدمة طويلة في الحث والبعث الى الوعي واليقظة، وان البلاء على الإسلام قد أحاط بالمسلمين منهم ومن الملحدين ومن المشركين.
وفي خلال هذه البرهة تحملت الأسفار وركبت متون الأخطار في البر والبحر والهواء، وانا في المرحة الأخير، من الحياة المنهوكة بالعلل والأسقام والتي هي تحت أجنحة الحمام، كل ذلك في سبيل الدعوة الى الخير والحق، وخدمة الإسلام خالصاً لوجهه الكريم لا نريد مالا او جاها ولا جزاء ولا شكورا. ومع ذلك أجدني مقصراً، ولا أرى لعظاتي ونصائحي أثراً فما السر في ذلك؟ حديث غريب يحز في النفس ويبعث الألم.
أظن ( وظن الألمعي يقين ) ان التأثير يحتاج الى قوة وصلابة، يحتاج الى شجاعة أدبية وصرامة دينية، وجرأة واندفاع لا رخاوة فيه ولا هوادة، لست أنا ذلك المؤمن الذي لو القى على الرجل فرية أقول له أسكت يا كذاب. او جلس عندي شارب الخمر أقول له قم يا فاسق واذا زارني الظالم أكرمه وأركن اليه والله جل شأنه يقول: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ) لو اننا نقول للكاذب أت كاذب وللظالم أنت الظالم لما وصلنا الى هذا الحال التعيس الذي يلعنه حتى إبليس.
نعم هذا السكوت وهذا النفاق وهذه المخاتلة التي نسميها مجاملة. والمخادعة التي نقول انها مصانعة.
هذه التلبيسات الشيطانية الناشئة من خور الطبيعة وضعف الدين وهزال اليقين هو الذي جرأ المسلمين وجرهم الى ارتكاب هذه العظائم والجرائم غير مبالين ولا مكترثين.
انا سكتنا عن الكذاب فانفتحت
يلقي علينا أقاويل مزخرفة
|
|
أمامه لفنون الكذب أبواب
ولا نقول له أسكت أنت كذاب
|
هذه الخمور التي تباع جهاراً في أسواق المسلمين وفي حوانيت المسلمين هي محاربة لله ولرسوله وللاسلام. نقول لك بلسان حالها من وراء زجاجتها لى رغم أنفك أيها المسلم أتيت من أوربا لتشتريني وتدفع المال يصنع به السلاح لاستعبادك واستعمارك. تقول لك على رغم دينك وقرآنك الذي يقول: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ). ها أنا ذا بارزة أمامك وأمام المسلمين يمرون على تلك الحانات غادين ورائحين فهل حركت الغيرة جماعة منهم لمكافحتها او مكافحة من يراودها ويرودها ويخرج منها مثلاً بتمايل؟ هل هجم ذو غيرة وحمية للدين والقرآن فيحطم تلك الزجاجات والقناني التي قد يكون أثرها على البلاد أسوء من القنابل بل هي القنابل الصامتة والمدافع الخرساء؟ هل هجم عليها أحد كما هجم جدنا كاشف الغطاء على حانة خمر لأحد الصوفية في شيراز فأراق خمورها في الشوارع فأنشأ الصوفي في البيتين البديعتين بالفارسية:
( شيخ نجفي شكست خمخانه مي ) البيتين المشهورين.
نعم سكوتنا عن المجرمين شجعهم على الجرائم والساكت عن المجرم شريكه في جريمته، يقول الكتاب العزيز لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، ومما يثير العجب آية أخرى تقول: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) يفسق المترفون فتدمر القرية كلها.
نعم سكتوا عن المترفين او ساعدوهم. ونيرون لو لم يجد المساعدين من رعيته لما احرق المساكين. ويزيد لو لم يجد يساعده ابن زياد وابن سعد لما قتل الحسين وسبى عياله. وعتاة الصهيونية لولا أمريكا وانكلترا لما هجموا كل يوم على العرب والمسلمين يقتلون رجالهم ونساءهم وأطفالهم ثم تصر أمريكا على العرب بقبول ذلك الصلح الكافر. والظلم السافر الذي يهون الموت دونه ودون الخضوع له، وليعلم بنو العم سام وذيولهم سكسون وصهيون. انه من المستحيل بين العرب وإسرائيل، ان يقع صلح، او يندمل جرح، الا ان يرجع الحق لأهله ويعود العدل ال نصابه وترد البلاد لأربابها، ويخرج منها غاصبوها. والا فاذا انقطع الأمل في تلك الدول، ومن المربوطين بعجلتها العابدين لعجلها من الحكومات العربية، فأما ان تنهض الشعوب العربية معتمدة على نفسها وتعد عدتها وتوحد كلمتها وتأخذ ثأرها، وتغسل عارها، وتلبس الثياب الحمر وتنزع الثياب السود والا فلا معول بعد هذا الا ان تضربهم يد السطوة الأزلية بضربة من ضرباته التي لا يزال يضرب بها من طغى وتجير وحكم وظلم والحد وأفسد ثم يبطش بهم بغتة (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ وَمَا هِيَ مِنْ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ).
(سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا).
ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد الي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في لبلاد فاكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب ان ربك لبالمرصاد.
اللهم ان هذا الثالوث المشوم: أمريكا، انكلترا، فرنسا قد سفكوا من دماء البشر ما لم تسفكه السباع الضواري في الغابات والصحاري. قد تمر السنة ولا نسمع ان السباع والذئاب افترست أناساً وهؤلاء كل يوم يفترسون ألوفاً من البشر اللهم انهم قد حكموا في البلاد وأكثروا فيها الفساد وظلموا عبادك وهتكوا كل حرمة وارتكبوا كل حرام فأذهبهم بعاجل عقابك. وأضربهم بسوط عذابك حتى يستريح العالم كله من شرهم ومكرهم وشياطينهم وسلاطينهم، واقطع دابر القوم الذين ظلموا وقيل الحمد لله رب العالمين وسلام على المرسلين والمصلحين.