پنجشنبه 6 ارديبهشت 1403  
 
 
الدعوة لحضور الموتمر

المثل العليا في الإسلام لا في بحمدون

 

  



بسم الله الرحمن الرحيم

كان قد ورد إلى سماحة الامام الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء كتاب من نائب رئيس جمعية أصدقاء الشرق الأوسط في الولايات المتحدة الأمريكية يدعوه لحضور مؤتمر لرجال الدين من المسلمين والمسيحيين يعقد في لبنان لبحث القيم الروحية في الديانتين والأهداف المشتركة وموقف الديانتين من الشيوعية.

وقد رفض سماحته حضور المؤتمر لضعف مزاجه وكثرة اشغاله، ووعده بأن يرسل اليه كتاباً يوضح فيه رأيه في الموضوع.

والى القارئ نص كتاب نائب رئيس الجمعية وجواب سماحة الامام اليه المفصل،وقد رأينا ضرورة نشر الكتاب والجواب كي يستنير به العالم الإسلامي والشعوب العربية في الحذر من حبائل الاستعمار وخداعه وجرنا إلى الاستعباد، والاضطهاد والحرب والدمار والبوار.

الناشر

بسمه تعالى

ولما نفدت الطبعة الثانية وكثر الطلب أيضاً لم نجد بداً من الطبعة الثالثة وقد أضاف دامت بركاته اليها تتمة مهمة بثلاثة عناوين او اكثر مع زيادات في أثناء المواضيع السابقة.

20/ رمضان المبارك/ 1373هـ                                  الناشر

 

 

مقدمة الطبعة الثانية والثالثة

كنا قد نشرنا هذه الرسالة لأول مرة وأذعناها على العالمين الإسلامي والعربي فلقي من الحفاوة والاقبال ما سبب نفاد جميع نسخ الكتاب، ولما كان عدد المطبوع قليلا بحيث لا يبلغ الألف وما لبث القراء في جهات الأرض ان انهالت طلباتهم بكثرة يريدون منا ان نزودهم باعادة طبعه ثانياً.

ولما كان سماحة الامام الحجة الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء دامت بركاته في زيارة كربلاء - انتظرنا قدومه المبارك، وما ان قدم النجف باليمن والسعادة والاقبال وعرضنا عليه رغبة المسلمين الملحة في نشر الكتاب حتى تفضل (على عادته) فاجازنا بنشره مرة أخرى. وقد أضاف عليها بعض الزيادات، وبرزت هذه الطبعة أصح من الطبعة الأولى والثانية. وبما ان سماحته لا يوافق على إعادة طبعه الا بإشرافه، لذلك لا يجوز نشره بدون مراجعته.

فها نحن باسم العرب والمسلمين تقدم لسماحته فائق الشكر والثناء مبتهلين إلى المولى عز وجل ان يديم في عمره الشريف ويجعله ذخراً للاسلام ولسان صدق يذب عن حوزته انه سميع مجيب.

الدعوة لحضور المؤتمر

نيويورك، في 15 آذار سنة 1954م

فضيلة الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء المحترم

النجف -العراق

سيدي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

لاشك انكم تشاركونني الرأي في ان الإسلام والمسيحية لها أهداف واحدة في كثير من النواحي، كما ان لهاتين الديانتين أعداء مشتركة، من بينها المغريات الدنيوية والأغراض المادية ثم الشيوعية.

وأعتقد أيضاً انكم تشاركونني في رأيي انه ما دام لهاتين الديانتين العظيمتين أهداف مشتركة وأخصام مشتركة يترتب إذاً وضع أسس للتعاون بينهما.

وبعد التباحث مع بعض الشخصيات من المسلمين والمسيحيين وجدت ان أفضل الطرق لمعالجة هذا الأمر هو عقد اجتماع تمهيدي يضم رجال الدين من كلا الطرفين.

في هذا الاجتماع يدلي كل فرد من المجتمعين برأيه ويقر النقاط التي يمكن الوصول إلى اتفاق بشأنها. إذ ان هذا الاجتماع هو عبارة عن تبادل في الرأي.

بناء على ذلك عرضت الاقتراح على مجلس ادارة جمعيتي الذي رحب بدوره بالفكرة ورجا التوفيق لهذه الخطوة المباركة كما أبدى استعداداً لمؤازرة المشروع.

لذا فقد كلفني مجلس الإدارة المذكورة ان اتخذ الإجراءات اللازمة لعقد هذا المؤتمر، وهاأنذا أوجه الدعوة إلى 25 من الشخصيات الكسيحية و25 من الشخصيات المسلمة كيما تجتمع في أوتيل امبسادور، الكائن في (بحمدون) لبنان وذلك لحضور المؤتمر الذي سينعقد في 22 نيسان سنة 1954 ويستمر ستة أيام (أي 22 إلى 27)، هذا وقد حرصت على ان يجري عقد هذا المؤتمر في أحد المصايف المنعزلة في جو هادئ بعيد عن ضوضاء الصحافة.

وستكون أبحاث  المؤتمر محصورة في النواحي الروحية والقيم المثلى التي وردت في تعاليم الدين مبينة عقم الفلسفة المادية الفانية) وسيتناول البرنامج المواضيع الآتية:

مراجعة القيم الروحية في كلتا الديانتين :

القيم الروحية في الإسلام.

القيم الروحية في المسيحية.

النواحي الروحية في الدين وقدر الانسان وكرامته:

أهمية هذه القيم

بالنسبة إلى الفرد :

في الإسلام.

في المسيحية.

بالنسبة إلى العائلة :

في الإسلام.

في المسيحية.

بالنسبة إلى المجتمع:

في الإسلام.

في المسيحية.

((الصيغة الدينية والدنيوية في المجتمع .

والصيغة الجماعية والفردية في المجتمع)).

الاعمال الحيوية المستمدة من الدين:

في الإسلام - الزكاة وإمكانية انتشارها.

في المسيحية - أعمال البر والعدالة الاجتماعية.

خطر الشيوعية، على المجتمع في عصرنا الحاضر:

ما هو جواب الإسلام على الشيوعية.

ما هو جواب المسيحية على الشيوعية.

التطبيق العملي:

ما هي الطرق الكفيلة في الإسلام لنقل هذه القيم الروحية إلى الجيل الحديث؟

ما هي الطرق الكفيلة في المسيحية لنقل هذه القيم الروحية إلى الجيل الحديث؟

ما هي الوسائل التي يمكن للطرفين ان يتعاونا بموجبها لتحقيق هذا الهدف؟

وسيتباحث المؤتمرون معاً مرتين ام ثلاث في اليوم ثم يعقدون الجلسات عقب ذلك. ولي وطيد الأمل في ان يمضي المؤتمرون قسماً من وقتهم في التآلف والتآخي.

وبهذه المناسبة يسرني ان اذكر ان الكثيرين من الشخصيات المسيحية والإسلامية البارزة من جميع انحاء العالم قد قبلوا دعوتنا، واني استرعي انتباهكم إلى انه يمكنكم الاستعلام عن موقف جمعية أصدقاء الشرق الأوسط الأمريكية وأهدافها السامية من أصحاب السعادة الدكتور محمد فاضل الجمالي او السيد عبد الله بكر او السيد موسى الشهبندر.

كما واني أوردت في كتابي هذه التفاصيل كلها راجياً تشريفنا بقبول دعوتنا هذه التي أوجهها اليكم للاشتراك معنا في ابحاث المؤتمر. حيث ان حضوركم سيعود بالنفع الكبير.

نحن مستعدون لتغطية نفقات السفر ذهاباً وإياباً إلى (بحمدون) مع بقية نفقات المعيشة أثناء إقامتكم فيها.

اعتقد انكم تدركون ولا شك انه من الضروري جداً ان نعلم فيما إذا كنتم ستتكرمون علينا بحضوركم وذلك كيما أتمكن من دعوة شخص آخر بدلاً منكم إذا لم يكن بمقدوركم ذلك.

لذا أرجو ان تتكرموا بإرسال جوابكم لي برقياً وفي أقرب فرصة ممكنة. ويمكن إرسال البرقية بالعنوان التالي:

وبالختام تفضلوا بقبول فائق التحية والاحترام

 

المخلص

كارلند ايفانز هوبكنز

نائب الرئيس التنفيذي

جواب سماحة الشيخ محمد الحسين على كتاب الدعوة

من النجف الأشرف

بسم الله الرحمن الرحيم

جناب نائب رئيس جمعية أصدقاء الشرق الأوسط كارلند ايفانز هوبكنز المحترم.

اكراما واحتراماً

وردني كتابكم تدعوني فيه إلى الحضور في المؤتمر الذي اعتزمتم على عقده آخر نيسان في (بحمدون)، لبنان. ويتكون من خمسة وعشرين شخصاً من علماء المسلمين ومثلهم من المسيحيين للمداولة في أهداف كلتا الديانتين وقلتم ان ابحاث المؤتمر ستكون محصورة في النواحي الروحية والقيم المثلى التي وردت في تعاليم الدين، مبينة عقم الفلسفة المادية الفانية، ثم ذكرتم جهات البحث في كلتا الديانتين إلى ان وصلتم إلى الغاية المقصودة والناحية التي لعلها هي الغرض الوحيد من هذه الترانيم والاناشيد، فقلتم (4) خطر الشيوعية على المجتمع في عصرنا الحاضر، ويتلخص جميع ما ذكرتم من النواحي التي تريدون البحث عنها والنظر فيها من أعضاء المؤتمر الذين يبلغ عددهم الخمسين وتبلغ موادها العشرين، نعم تتلخص ابحاثها في أمرين:

القيم الروحية والمثل العليا في الإسلام والمسيحية.

خطر الشيوعية على المجتمع وطلب علاجها من الإسلام  والمسيحية

فنقول :

يلزم قبل كل شيء ان تعرفوا جيداً ان لسان العمل ابلغ واشد اثرا من لسان القول، ان ألوف المؤتمرات والمذاكرات وكل الاجتماعات والمجتمعات ليس لها أي أثر إذا لم تكن الدولة المؤسسة لتلك المؤتمرات والمذاكرات هي في نفسها منسجمة وملتزمة بالقيم المثلى والنواحي الروحية، ولا يندفع خطر الشيوعية الا بتحقيق حرية الشعوب والعدالة الاجتماعية وقلع جذور الظلم والعدوان وقمع رذيلة الحرص والشره على حق الغير والتجاوز عليه، فهل انتم معاشر الامريكان، ويا حكومة الولايات المتحدة، ويا دولة الانكليز، هل انتم واجدون تلك الصفات وهل عندكم شيء من القيم الروحية والمثل العليا، وهل ابقيتم للقيم الروحية قيمة، وقديماً قال الحكماء فاقد الشيء لا يكون معطياً.

أليست أعمالكم العظيمة وضربتكم القاسية للعرب والمسلمين في فلسطين قد سودت وجه الدهر، والبست الاعصار، جلابيب الخزي والعار. وها أنتم هؤلاء لا تزالون كل يوم تضربون العرب وبيدكم الأثيمة، ويد الصهيونية اللئيمة، فتهاجم قرى العرب العزلاء، وتقتل رجالها وأطفالها ونساءها الأبرياء. ألستم أنتم الذين لا تزالون تمدونهم بالمال والسلاح وتدفعونهم إلى هذه الجرائم دفعاً، والا فاليهود اقصر باعا وأضعف قلبا من ان يجرأوا على العرب هذه الجرأة.

ألستم أنتم أخرجتم تسعمائة الف نسمة من العرب أخرجتموهم من أوطانهم وبلادهم وشردتموهم بالصحاري والقفار يفترشون الغبراء ويلتحفون السماء، وكانوا في أوطانهم أعزاء شرفاء، يكاد يتفجع  لحالهم الصخر الأصم، ويبكي لحالهم الأعمى والأصم، وأنتم لا تزالون تغرون اليهود بالعدوان عليهم . فهل فعل نيرون كأفعالهم هذه والعجب كل العجب انكم في نفس الوقت تطلبون من المسلمين والعرب الانضمام إلى جهتكم، والتحالف معكم. وإبرام المعاهدات لكم فانكم تضربون العرب بأرجلكم ورجالكم، تصفعونهم على عيونهم بيد، وتمسحون رؤوسهم باليد الأخرى.

عبادة المادة

وجئتمونا اليوم تريدون عقد المؤتمرات للمثل العليا وتناشدون اقامة المذاكرات للقيم الروحية. أليست هذه الإضرابات والاضطرابات التي تراق فيها دماء أهل الوطن الواحد والملة الواحدة في طهران وسوريا ومصر ولبنان، أليست كلها من أصابعكم الخفية التي تلعب ليلا ونهارا من راء الستار. ألستم أنتم الذين تصبون البلاء والمحن وتريقون دماء الأبرياء في الشرق والغرب فتونس ومراكش والجزائر تصطلي في المغرب بناركم، وكوريا والهند الصينية وكينيا تضطرم في الشرق بأواركم، كل هذا حرصاً على المال وتهالكاً على المادة

- المادة التي تقول عنها في كتابك:

ان ابحاث المؤتمر ستكون محصورة في النواحي الروحية والقيم المثلى التي وردت في تعاليم الدين مبينة عقم الفلسفة المادية الفانية. وهل الدين عندكم غير المادة. وهل تعبدون الا المادة. وهل ملأتم الدنيا شرا وبلاءاً إلا في سبيل المادة. وهل أعددتم القنابل الذرية واخواتها المهلكة للعالم الا للاستيلاء والغلبة واستعباد العالم وتفانيا على المادة، وهل هذه الاصرار على الاستعمار، وسلب الاحرار حرياتهم المقدسة الا عبودية للمادة . وهل يسيل لعابكم الا لهذه المادة السائلة وهل تطلبون السيادة الا على هذه المادة السوداء.

نعم كانت أهالي القارة الأمريكية بمعزل عن العالم القديم. ولكن زج بها وجرها إلى هذه الويلات والولايات شيطان أبالسة الاستعمار، زجها بهذا الآتون المضطرم لصالحه واكمال رسالته في الاستعمار واستعباد الامام، والغلبة على الالمان والنازية التي كادت ان تجعله صفراً في أرقام صحيفة الدول. استعان بها في الحرب الأولى والثانية وقرأ عليها درس الاستعمار درساً درساً، وغرس في لهاتها ضروس الاستعباد ضرساً ضرساً.

وبالضرورة ان أمريكا أصبحت تريد السيطرة لا على الروس فقط بل على العالم كله، وعسى ان يصل التحالف الأمريكي الانكليزي إلى تخالف يسحق كل منهما الآخر.

نحن والشيوعية

نريد عقد مؤتمر في لبنان للبحث في العلاج لدفع خطر الشيوعية ولكن إذا كانت هذه سيرتكم وسريرتكم مع الامم عموماً ومع العرب والملمين خصوصاً فلعل كثيرا من الناس يقول: الف سلام على الشيوعية على شدة نفورنا منها وبعدنا عنها ومكافحتنا المريرة لمبادئها الهدامة ومحاربتنا لها بكل قوانا، ولكن لو انعمنا النظر وضربنا الرقم القياسي على طاولة الحساب، ووضعنا أعمال الجهتين في كفتين هانت علينا الشيوعية، وثلجت صدورنا منها، فان الشيوعية ما استعمرت من العرب دولة، ولا غصبت منا بلادا، ولا ابتزت منها مالا وعتاداً، وهذه الحرب الباردة التي تدسها الشيوعية في كل بلاد، حتى في النجف انما هي منكم ومن أجلكم، ولا تقصد الا الانكليزي المتقمص بثوب الإسلام او العرب:

ولو تخليتم عنا، ولم تستميلوا اليكم ضعفاء الايمان من رجالنا لما كان للشيوعية أي شأن معنا وكنا في مأمن من شرها فلا تكون لها ولا لينا. وليست لدينا من نظام الدول الشيوعية وأهدافهم وأسلوبهم في العمل، وإمارات وعلائم تدل انها تريد حربنا من الخارج، كما لا نريد حربها.

المساعدات الدولارية المبهرجة

لا أدري وليتني أبدا لا أدري. هل تنصاع هذه الدول العربية وتقع في حبائلكم كما وقعت الباكستان والدولة التي زعمت انها دولة مسلمة وباسم الإسلام وجدت وتكونت. ما أدري هل تنخدع الدول العربية بوعودكم الخلابة الكاذبة، وبالاسلحة الرمزية المزيفة، وبالمساعدات الدولارية المبهرجة التي برهنت التجارب انها كالسراب إذا جاءه العطشان لم يجده شيئاً، تدفع أمريكا دولاراً واحداً لتأخذ عوضه عشرة بل مائة.

نعم لا ادري، ولكن ساسة العراق المخلصين يتوجسون خيفة من الوضع الراهن في العراق ولعلهم يقولون، كما ان النبوة والبعثة تسبقها حالات شاذة. ويتقدمها حوادث غريبة، تسمّى (إرهاصات) النبوة، كذلك للسياسة إرهاصات.

ولعل منها هذه الرحلات والزيارات المطلية بطلاء المجاملات والدبلوماسيات، والاكتشاف والاستطلاع. ومما يزيد في بعث الريبة، ويبرم خيوط الظنة، اشارات من على رأس الحكومة وكنايتها الكيانات التي هي أبلغ من التصريح، كل ذلك يشعر ان وراء الستار مساومات ومعاملات وخطط واتجاهات، وان هذا الانكار المترجرج، والدفاع المتحرج، انما هو تخدير اعصاب وجسة نبض، ووضع خربطة.

ومع هذا كله، بل ومع كل هذا الذي يدلي به المعارضون من الامارات والدلالات على ان الواقعة سوف تقع وان الامر سوف يتم، وان البلاء لا سمح الله سوف ينزل، ولكن على كل الفروض والتقادير ولا تكاد نفسي تذعن وتؤمن بان حكومة العراق الرشيدة، بجميع أشكالها وتبدل رجالها وتغير أعضائها وأوضاعها تتورط في هذا المأزق، وتثير نقمة الشعب عليها التي تجر الى الاضطرابات والإضرابات الدامية.

ضرورة الحياد

كيف المسؤولون لا يغيب عنهم ثورة الشباب بالأمس، وتضحيتهم باغصان الشبيبة اليانعة في معاهدة (بورت اسموث).

وهي بالقطع واليقين أهون من هذه المعاهدة المغلفة والمغطاة بالمساعدة العسكرية، وعامة الشعب لم يكن قد شارك في تلك الوثبة لأنه لم تصله شؤوها وشجونها، ولم تفتح بهل عيونها، اما اليوم فقد عم الوعي، حتى لرجل الشارع بل حتى للنساء والأطفال واللهجة عامة اننا أية فائدة استفدنا من مساعدة الدول العربية في الحرب الأولى والثانية سوى اننا ضحينا بأموالنا وأنفسنا، بل تضررنا وخسرنا. بعد الحرب العالمية الأولى تفرقت الأقطار العربية بعد ان كانت متحدة.

نعم تفرقت كغنائم للمستعمرين واستوطن اليهود أرض فلسطين. وبعد الحرب العالمية الثانية ضاعت منا فلسطين والاسكندرية نهائياً، وأمريكا تريدها حرباً عالمية (لا كان ذلك) ولكن لو كان فليس لنا بالدخول معها سوى الضرر والخسران، بل قد يكون لنا الاحتلال والاضمحلال.

فان كانت هي الغالبة فليس لنا من الغنمة شيء، بل لا شك اننا نكون غنائم لها ولحلفائها المقربين، انكلترا وفرنسا وتركيا وإسرائيل. وان كانت المغلوبة فالويل ثم الويل لها ولأتباعها ونحن وحينئذ أول صريع في الميدان.

صور جديدة للاستعمار

كان الشرق بأجمعه يعاني كابوسين من الاستعمار. إنكليزي وفرنسي وفي كل برهة ينتفض قطر من المستعمرات انتفاضة يحاول التخلص من البلية الاستعمار، فيخدعونه باعطاء الاستقلال المزيف، في استعمار مغلف، ويبدلون الصيغ والعناوين، استعمار فانتداب فحماية، الحقيقة واحدة لا تتغير، والعبارات شتى.

حتى نزلت الى ميدان الاستعمار الدنيا الجديدة فجاءت بلون من الاستعمار جديد، الدفاع المشترك، المساعدات العسكرية النقطة الرابعة، المساعدات الفنية، الحلف العسكري، وكلها خداع وصراع، واختلاست وأطماع، خداع مغلف وطمع مزيف. ولو ان امريكا تريد المساعدات الحقيقية والمعنوية الجدية للدول الضعيفة المتأخرة لظهر أثر ذلك حتى الآن. وقد مضى على هذه المواعيد والأقاويل زمن ليس بالقليل. هذا العراق وهذه سوريا ولبنان أية مساعدة وجدوها من أمريكا وأي مشروع ينفع أنجزته أمريكا. نعم لم يجدوا غير الضجة والأقاويل، وكلها تهاليل وأباطيل.

تريد ان تأخذ منا كل شيء ولا تعطينا أي شيء، وقد قال بعض كبراء ساسة الولايات المتحدة مشيراً الى هذه الأساليب والأكاذيب:( هكذا علمتنا أمتنا إنكلترا ).

اضطهاد الزنوج يفضح سياسة حكومة أمريكا

لو كان عندالأمريكان شيء من المثل العليا، والقيم الروحية لحموا الهنود الحمر السكان الأصليين للبلاد، والأمريكان أجانب عنهم ونزلاء عليهم، لحموهم من الانقراض والفناء، لعطفوا عليهم لقلة عددهم وتأخرهم وحياتهم البدائية.

ولكن الهنود الحمر العزل المساكين لاقوا من الفاتحين المغامرين ألوان العذاب والموت والتشريد والتقتيل، ولو كان عند حكومة أمريكا الحاضرة ذرة من العدل والانصاف، لأحسنوا معاملة الزنوج الذين استعبدوهم منذ مائتين من السنين، ولم يفكوا أسرهم وعبوديتهم حتى الآن وقد بلغ عددهم خمسة عشر مليون نسمة. نعم الزنوج متساوون مع البيض في دستور الاتحاد الأمريكي ولكن بسبب القوانين والأنظمة التي تشرعها الولايات لتضر بالزنوج صراحة او اشارة، وبسبب العرف والتقاليد والتعصب العرقي السائد وتغاضي الحكومة والمسؤولين عن المحافظة على حقوق الزنوج من البيض المتعصبين، فان الزنوج  محرومون ،بالعمل وبالواقع من كل شيء، لغيرهم الغنم وعليهم الغرم، عليهم الواجبات الثقيلة، وليس لهم أبسط الحقوق، فلا يصوت في الانتخابات منهم الا عدد قليل، والزنجي ان قتل يذهب دمه هدراً، ويحرم التزاوج بين البيض والسود، ولا يملك الفلاح الزنجي أرضاً يزرعها، والعامل الزنجي يأخذ أجراً أقل من نصف أجرة العامل الأبيض، ويقوم بأعمال أشق من الاعمال التي يقوم بها البيض، ولا يدرس الزنوج في مدارس البيض، ولا يسكنون مع البيض في منزل واحد، ولا يسمح لهم بالنزول في فنادق البيض ولا يزورون البيض في منازلهم ولا يزارون. وفي الحقيقة ان الحرب الأهلية التي نشأت بين أهل ولايات الشمال وولايات الجنوب لتحرير العبيد في ايام ابراهام لنكولن لم تنفع الزنوج شيئاً بل أدت الى اشتراك أهل الشمال في الغنيمة، وهي أتعاب الزنوج البؤساء.

وكان اللوردات والملاكون الكبار من الانكليز يعاملون سابقاً سكان أيرلندة بصورة مشابهة مما أدى الى نضال أيرلندة المتواصل الى ان استقلت وتحررت من حكمهم وظلمهم.

اذن يروق لك أيها العربي الغيور ذلك الوضع التعيس والعيش الخسيس، وان ينتهي بك الأمر الى مثل ذلك الحال، فان الدولة التي تضطهد أبناء وطنها. فمن الأولى ان لا تتورع من اضطهاد أبناء الأقطار الأجنبية البعيدة.

ويكشف اضطهاد الزنوج في أمريكا كذب مزاعم حكومة أمريكا في الدفاع عن حرية الشعوب وفي السعي لتقدم الشعوب ورفاهها وسعادتها.

تذمر الشعب من سيرة الحكومة وسوء الإدارة

ليت شعري ولا أدري هل تجهل الحكومة العراقية حالة الشعب العراقي وتذمره الشديد، والكبت المؤلم من الحرمان وسوء الوضع في جميع دوائرها.

وقلنا ولا نزال نقول: ان الشعب قد تورم وتألم بأجمعه من سوء أعمال المسؤولين بجميع طبقاتهم من رأس الوزارة الى أدنى ادارة حتى صار كالجرح الذي تقيح ويوشك ان ينفجر.

ولو أردنا ان نجعل هذه الجملة كمتن من المتون ونشرحها ولو شرحا وجيزاً ونعلق عليها ولو تعليقاً خفيفاً لكان يلزمنا ان نخرج الى المكتبة العربية كتابا بحجم القاموس.بل لو أردنا ان نقتصر فقط على قضايا الشرطة ورشواتهم وسوء تصرفاتهم ومقاسمتهم السرقات مع اللصوص والمجرمين، ولم يحصي هذا الوضع التعيس قاموس بل ولا قواميس. وقل مثل هذا في كل دائرة من الدوائر، حتى القضاء المحاكم التي ربما يقال انها أنزه الإدارات نسبة، ولكن هل تنحسم الدعوى البسيطة بين المتخاصمين في سنة او سنتين؟ كلا! بل ربما تبلغ بالأخذ والرد والتمييز والاستيناف الى بضع سنين، وحتى يضيق الخناق وتبلغ النفوس التراق.

اما الاختلاسات والخيانات وفتح باب الرشوات على مصراعيه في الري والاشغال والاعمار والاعاشة والبلديات والاستهلاك وغيرها فهو أمر مكشوف لا ستار عليه ولا أغطية، وصار حديث المقاهي والأندية.

ليس الغرض بيان هذه الكوارث التي تهيج الشجون، وتستنزف ماء الجفون، وانما الغرض بيان تذمر الشعب الشديد، الى حد بعيد، فلو اصطدم بهذه الطامة الكبرى والكارثة العظمى يوشك ان ينتفض انتفاضة ينقلب بها الوضع رأساً على عقب ولا يقاومها أي قوة وكفاح، ولا يتمشى فيها أي ارشاد واصلاح.

وأعظم من ذلك خطر هذا الشباب المتحمس اذا حفزته الغيرة على وطنه والنخوة على أمته اندفع مع العاطفة اندفاع العاصفة لا يرده شيء، ولا جدوى حينئذ ولا صغوى الى نصائح الحاكمين وما ينشر في صحفهم من ان الشباب لا يجوز له ان يزج بنفسه ويتدخل بمعامع السياسة ويلزمه العكوف على مدرسته ودروسه، فأمثال هذه الكلمات المعسولة قد تكون في عرف السياسة مقبولة، لكنها في عرف العواطف زخارف ليس لها أي أثر مثل ان تلقى الزيت على النار وتنصحه ان يشتعل.

ضرورة تحالف صحيح من الدول العربية والإسلامية

ثم كيف وانى يتورط العراق بالدخول في حلف تركيا والباكستان، في الوقت الذي تدعو فيه الحكومة العراقية الدول العربية الى الوحدة العربية او الاتحاد العربي.

وهل هذا الا كجمع النقيضين، والتوفيق بين الضدين :( متطلباً في الماء جذوة نار ).

كيف نحالف تركيا وهي صديقة ( إسرائيل ) في الوقت الحاضر وأول دولة اعترفت بها ولا تزال تؤيدها وتروج بضاعتها وتجارتها؟!

وحكومة تركيا الآن عدوة العرب والإسلام وصديقة اليهود وقديماً قالوا:(صديق عدوي ليس لي بصديق ) وقد باعت تركيا شرف استقلالها بالدولار وصارت آلة لأمريكا وتصرفها كيف تشاء وباشارة منها أصبحت أكبر مساعد لإسرائيل لقيطة أمريكا وبنتها المدللة.

ثم ان دخول العرب في حلف تركيا سهم في قلب العروبة نعم هو سهم ذو ثلاث شعب:

انه إماتة لقضية فلسطين.

تمزيق لوحدة العرب.

نقمة الشعوب العربية وثورتها ولعنة الأجيال.

كل هذا من غير منفعة مادية، ولا فائدة أدبية.

نعم من الواجب واللازم إنشاء حلف صادق من الدول العربية والإسلامية مشروط بعدم دخول الدول الاستعمارية فيه واعتقد اعتقادا أكيدا ان الشعب الباكستاني المسلم سوف تقوده عقيدته الإسلامية السليمة الى فسخ المعاهدات العسكرية الاستعمارية في القريب العاجل.

كما ان الأمل غير ضعيف في الحركة النامية في تركيا للحرية الدينية والرجوع الى سياسة التآخي مع المسلمين، والاخبار من تركيا تنبئ بزيادة أعضاء حزب الأمة التركي الذي يدعو الى الحياد والانفصال عن الغرب والتقارب مع الدول الإسلامية.

وعي الشعوب

الحكومات والدول كلها تعلم او يجب ان تعلم، ان الشعوب ليست اليوم على وضعها السابق كسلع تباع وتشترى في الاسواق العالمية، في أسواق المستعمرين، ولا كغنائم حروب تقسم سهاما بين الفاتحين، المغرب حصة فرنسا والمشرق لإنكلترا، والجنوب لهولندا وإيطاليا وهكذا.

ثم فتحت أخيراً أمريكا عيونها وجاءت تريد الحصة الوافرة بل الكل من هذه الفريسة وتضحك على الذقون، فتقدم المساعدات المالية والأسلحة الرمزية، والقواعد العسكرية، ولا شيء الا المواعيد الخلابة، والأقاويل الكاذبة. أنظر الى القحة وصلابة العود، وصفاقة الوجه.

تبذل أمريكا الأسلحة الفتاكة لإسرائيل نقداً لا وعداً تدفعها بلا قيد ولا شرط، ولو تقاتل بها العرب، بل على ان تقاتل بها العرب.

اما العرب فتبذل له الأسلحة الرمزية العاطلة وعداً لا نقداً، وبشرط ان لا تقاتل بها إسرائيل.

ما أدري اذا لم تقاتل به إسرائيل فمن نقاتل؟! واي عدو لها أمرّ وأدهى من إسرائيل؟ ومن خلق وأنشأ دولة إسرائيل نعم تقول أمريكا بلسان الحال، الذي هو أبلغ من لسان المقال:

أعطيكم السلاح على ان يقاتل به بعضكم بعضا حتى تهلكوا جميعا كما هو الحال اليوم في ايران ومصر وسوريا وغيرها. وخاصة الدول العربية، وشعوبها ذات (الجامعة العربية ) التي فرقت العرب ومزقتهم شر تمزيق، وخانتهم وطعنتهم بالصميم.

وانكشف ان رئيسها وسبعة من أعضائها جواسيس للأجانب بل عمال للإنكليز، مستأجرون على ضرب العرب وتمزيقهم وقد أخذوا الألوف بل مئات الألوف أجرة على هذه الخيانة.

تهاون الحاكمين العرب في جمع الكلمة

ولو ان ساسة العراق المسؤولين القديرين على إبرام المعاهدات ووضع الأطواق في الاعناق على العراق، ولو انهم وتلاميذهم الذين يقذفونهم في كل سنة مرتين او ثلاث الى لندن، يقومون بالسفارة والخدمات الجبارة لأبناء سكسون، الزرق العيون، على حساب العراق، وجلب أمواله وخيراته وبركاته الى الجزر البريطانية.

لو انهم عوض تلك الرحلات والأسفار الى الأقطار النائية يجعلونها فقط ال مصر وسوريا ولبنان لجمع كلمة الدول العربية وشعوبها، واصلاح شؤونها وجمع كلمتها.

اما كان خيراً من تلك التنقلات والتجولات التي ليس فيها أي خير للعرب، ان لم تكن شراً عليهم وتمزيقاً لوحدتهم المهلهلة.

تلك الدول السبع التي سلمت لليهود فلسطين وشردت أهاليها الأعزاء وتركتهم في العراء أذلاء صاغرين. نصف مليون من اليهود يتغلب على سبعة ملايين من العرب بل على سبعين مليون:

يا للعار والشنار، وسوء الدمار، وخراب الدار، واليوم جاءتنا
( نيويورك ) وجمعية أصدقاء الشرق الأوسط تناشدنا الحضور في مؤتمر تبحث فيه عن القيم الروحية والمثل العليا.

يا هؤلاء العتاة الردة، ويا شياطين الأبالسة، انهضوا من عثرتكم، واستقيلوا من خطيئتكم، واخرجوا من ضلالتكم وردوا الحق الذي اغتصبتموه الى أهله، ردوا فلسطين الى أصحابها الشرعيين وأخرجوا منها الصهيونيين، وردوا أهلها المشردين اليها.

ثم اعقدوا المؤتمرات للبحث عن المثل العليا والقيم الروحية أما يد تسبح، ويد تذبح، وعين تدمع، وكف تصرع، فهذه مهزلة من المهازل، اذا جازت في عرف الكياسة ولغة السياسة، فلا تجوز في لغة العقل والمنطق. كل هذه الفظايع والشنايع التي تتجاهر وتتعاهر بها أمريكا وإنكلترا ووليدتهم البنت المدللة عندهم (إسرائيل) كله عجيب بل من أعجب الأعاجيب، وأعجب من ذلك خمود جمرة العرب وموت عزائمهم وغيرتهم، وتفرق كلمتهم، وتهافتهم على التمرغ على اعتابهم والعكوف على أبوابهم، وهم يجدون منهم هذه المعاملة القاسية والاصرار على إذلالهم، وإهانتهم وترجيح اليهود عليهم. وقسماً بكل المقدسات لو ان الدول العربية بقي في ظروفها وشل من الغيرة، وثمالة من الشرف والحمية، والنخوة الإسلامية لقاطعوا كل أمريكي وإنكليزي، ولأخذوا بسياسة السلب والمقاطعة التي أخذ بها زعيم الهند (غاندي) ونجح، ولحرموا على أنفسهم كل بضاعة أجنبية، من بضائع أولئك الظالمين ولأخذوا التدابير للاستغناء عن صنايعهم ومنسوجاتهم، فان لباس الصوف الخشن مع العز والكرامة انعم وأكرم، وأعلى وأشرف من لباس الحرير والاستبرق مع المذلة والمهانة.

ولكن إذا أراد الله ان يهلك قوماً بسوء أعمالهم، حبب اليهم عيش النعيم. فاستبدلوا الشرف بالترف وتوصلوا الى اللذة بالذلة. وفقدوا حس الشعور بكرامة النفس وعلو الهمه، وهانت عليهم الطعنات الجارحة، والضربات الفاضحة.

أمتي عزها بعظم رميم
هم على بعضهم أسود ولكن
ضربت في الهوان رقم قياس
(من يهن يسهل الهوان عليه
(ذل من يغبط الذليل بعيش
 

 

قدِّست تلكم العظام الرمام
لعداهم مذلة أغنام
عجزت عن حسابه الأرقام
ما لجرح بميت ايلام)
رب عيش أخف منه الحمام)

فيضان السياسة وسياسة الفيضان

قلنا للسفير الإنكليزي في محاورتنا معه التي نشرت في العام الماضي ([1]) ان العراق منذ احتلالكم له حتى الآن يسير من سيء الى أسوء في جميع نواحيه الاقتصادية والعمرانية وغيرهما.

فقال: ما معناه كلا! بل تحسنت الأمور وتقدم العمران وكان قصر الملك في بغداد يحيط به الماء كل سنة عند الفيضان، وقد صار آمناً من ذلك.

فقلت: ليس المهم قصر الملك بل المهم كوخ الفلاح الذي يشيد منه قصر الملك، بل وقصر الكريمات مقر فخامتكم في الكرخ كوخ الفلاح الذي يغرق منه كل سنة الألوف ومئات الألوف من الفلاحين المساكين يهيمون على وجوههم، ومن يسلم من موت الغرق من عيالهم وأطفالهم يصيحون بلا مأوى، ويستولي التيار على كل ما يملكون من مقومات الحياة وهكذا دواليك ( كل عام وأنتم بخير ). الناس منكم بشر واي شر. فأين العمران والتعمير يا فخامة السفير، وهل هذا الا التدمير.

نعم وكأن ترجمان الغيب شاء ان يصدقني ويحقق نبوءتنا وشاءت الطبيعة او شاء الله تعالى ان يضرب بغداد هذه السنة بنكبة لم يحدث تاريخ بغداد بمثلها، ولم يقتصر بلاء الماء على بغداد وحدها بل شمل مناطق واسعة من الحقول والقرى في لواء الكوت وديالة، ولواء بغداد، وتقدر الخسائر في المزارع والبضائع بنحو عشرين مليون دينار([2]). خمسة آلاف صريفة (كوخ) بل أكثر قلعها الفيضان، وهام أهلها على وجوههم شاردين بأبدانهم خمسون ألف نسمة على أقل تقدير، وهؤلاء هم عصب العمل، ودولاب الحركة في العاصمة، وهم أنفع للمجتمع من أولئك الذين يسكنون القصور، ويتمتعون بافتراش الحرير والحور، وشرب الخمور، ملايين الدنانير من المعبود الأسود، ومن ضرائب المساكين من الأهلين، يصرفها المستعمر وأولياؤه الحاكمون على مصالحهم وشهواتهم، ويهملون هذه الناحية المهمة، والمأساة التي تتكرر عليهم كل سنة، بالويلات والفجائع والروائع.

حدثني الكثير من الاعراب انهم كانوا يشاهدون الجثث من النساء والأطفال والرجال طافية على وجه الماء منتفخة أبدانهم ولا يستطيع أحد ان ينقذهم من غمرات ذلك التيار الذي أمتد من أعالي بغداد الى الكوت ومن الكوت الى الناصرية. وكلما مر على قرية او قبيلة أغرقها وقضى عليها وعلى أهليها.

سياسة الفيضان

ويظهر ان اخذ التدابير لدفع هذا الخطر الهائل عن العاصمة ليس من صالح الأسياد المستعمرين، والا لجعلوا بغداد في أمان من طغيان الفيضان مهما كان، بل كان في إمكانهم ان يجعلوها كبرج ايفل او كناطحات السحاب. ولعل من صالحهم ان تصير كل سنة بهذا المصير. ( العصفور يتقلى والصياد يتفلى ) البلاء يتموج والمستعمر  يتفرج.

وقبل سنوات غرق أيضاً معسكر الرشيد وجميع ما فيه من الأسلحة التي تقدر بالملايين الداخلة في خزائن الاستعمار والاستثمار ذاك على أثر اعطاء هذا الاستقلال العفن المزيف. بعد الجهود والتضحيات في طلب الاستقلال الصحيح.

نعم ولعل فيضان السياسة وسياسة الفيضان، اقتضت يومئذ ان تغرق وما يدرينا لعل هذا اليوم كذلك اليوم. فان للسياسة أسراراً غامضة دقيقة، وآباراً عميقة، وأضرار الفيضان هذه السنة كما ذكرنا تقدر على الأقل بعشرين او ثلاثين مليون دينار عدا الاضرار بالارواح، ولو ان المستعمر والمستعمر (بالكسر والفتح) تقدموا بصرف نصف هذا المبلغ او ثلثه لتحصين بغداد من الغرق لجعلوها أمنع من عقاب الجو، ولو بلغ الفيضان الى الطوفان، ما تسربت اليها قطرة واحدة.

قد مر على احتلاله ثلاثون سنة او أكثر في كل سنة تتمثل رواية هذه المأساة نصب عينيه فهل هذا الا الاهمال المقصود ولا يعلم سببه ولا سره الا الله والراسخون في علم الاستعمار.

الغرض الحقيقي من الدفاع المشترك

وملحوظة أخرى جديرة بالذكر والتفكر، وهي ان المستعمر حديثه وقديمه في الممالك العربية ولا سيما العراق، وهو المالك المطلق والفاعل المختار، ولا تمشي الأمور الا على وفق إرادته، وطوع مشورته، بل طوع إشارته، وبالأخص في النواحي الاقتصادية، والشؤون المادية والمالية كلها تعود اليه وتدخل في خزائنه مباشرة او غاية:

الذهب الأحمر والأبيض والأسود وكل ما هنا يرجع الى ما هنالك وكل المؤسسات ذات الشأن هي له ولمصالحه.

العراق يبني المدارس المشيدة، ولكن ثكنات عسكرية وتعمر الجسور المنضدة، ولكنها جسور حربية. ويقيم عمارات للسكك الحديدية، ولكنها متارس دفاعية. المهندسون والفنيون والمدراء كلهم إنكليز، ويستوفون الرواتب الضخمة من مالية العراق لصالح الأسياد والحلفاء. وراتب الواحد منهم شهريا مائتا دينار فأكثر. والعامل العراقي يكد ويكدح من الصبح الى المساء بربع دينار.

فإذا كانت كل نواحي العراق وغيره من الاقطار العربية في قبضة المستعمر، وفي قبضة العاملين له، اذن فما الباعث والداعي الى المحالفات والمعاهدات العسكرية والدفاع المشترك، والدخول في جبهة تركيا والباكستان اللهم الا ان يكون هناك أغراض أوسع وأنفع لهم.

نعم لعل لهم بذلك غرضين مهمين:

( الغرض الأول ) كبح جماح يقضة الاحرار ونهضة الشعوب العربية بالقوة والسلاح والثكنات والجيوش الأجنبية. وبالتالي بقاء سيطرتهم الاقتصادية والمادية بل زيادة منافعهم واستغلالهم.

( والغرض الثاني ) هو تقديم رجال العراق لميادين الحرب وجعل الشباب من الجيش العراقي دريئة ووقاية للمستعمرين اذا وقعت الواقعة، وقامت عليهم القيامة، ودهتهم القوى اليسارية بمدافعها وطائراتها وقنابلها الذرية وغير الذرية.

ففي الحرب الثانية الماضية بلغنا أكيداً أنهم كانوا يضعون الجنود من العرب والهنود في الصفوف الأمامية لمقابلة المدافع النازية في العلمين وتونس، والجيش الانكليزي خلفهم وفي ذلك فائدتان. لا يبقى للعربي مناص للخلاص، ولا مدار للفرار، فان الانكليز وراءهم والألمان أمامهم، فهم بين نارين. وأيهما هلك العرب او الألمان فهو فتح للآخرين. وعليه فحكومة العراق أرشدها الله مهما كانت وبأي شكل تشكلت يرجى ان تكون أعقل وأحجى، من ان تقذف بأولادها وفلذة أكبادها وذخيرة بلادها تقذفهم على حساب الغير، صفوف صفوف الى لهوات الحتوف، والى جهنميات القتال.

أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم

وليعلم الناظر في كلماتي هذه ان القلم قد طغى علي واندفع بالقاء هذه الفقرات او الجمرات، على غير قصد مني اليها. وما كان قصدي في جواب الكتاب المشتمل على دعوتي للحضور في المؤتمر الذي نوه عنه صاحب المكتوب. الا بيان أمرين مهمين يرتبطان بصميم أهداف الدعوة، بعد ان أرسلت اليه الجواب المختصر في الاعتذار عن الحضور ووعدته بأن أدلي اليه برأيي في تلك الابحاث التي اشار اليها في كتابه المتقدم (الأول) ما سبقت الاشارة اليه في كتابي هذا من ان اللازم ضرورة فيمن يدعو الى المثل العليا والقيم الروحية ان تكون متمكنة منه ويكون متمكناً منها, وانها من أخص صفاته وأرسخ ملكاته وهذه الركيزة من أهم ركائز الإسلام ودعائمه فالقرآن المجيد يقول:

(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ  كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ). وما أريد ان أخالفكم الى ما أنهاكم عنه. وفي أحاديث السنة النبوية من ذلك ما هو أكثر وأوفر فلا ينفع الوعظ الا من المتعظ. وهل يصح التعليم الا من المتعلم.

(و هل يستقيم الظل والعود أعوج ).

المثل العليا في الإسلام

وبهذا يرتبط ( الأمر الثاني ) ارتباطاً وثيقاً. وهو ان من يتطلب المثل العليا حقيقة، ويلتمس العثور على ما يجمع القيم الروحية تماماً وواقعياً، فلا يجدها مهما كد وكدح، وشرق او غرب، ولا يجدها الا في الإسلام، لا يجدها الا في شريعة محمد وقرآن محمد (ص)  وسيرة محمد (ص)  ولا يجد الديمقراطية الصحيحة والاشتراكية العادلة الا في حياة محمد (ص)  وعند خلفاء محمد (ص) .

كان أمير المؤمنين، علي بن ابي طالب (ع)  يشتري الثوبين فيعرضهما على غلامه ومولاه قنبر. ويقول له: اختر أحسنها فيدفع له أجودهما ويلبس هو سلام الله عليه أدناهما. ويصوم ويفطر على الماء وخبز الشعير اليابس يكسره على ركبتيه، ويطعم الأرامل واليتامى الجوز والتمر والزبيب. يقف مع خصمه اليهودي تارة عند قاضيه شريح فيحكم عليه ويرتاح لحكمه. وعند الخليفة الثاني أخرى، ويغيظه ان الخليفة كناه وقال له يا ابا الحسن. وما ساوى بينه وبين خصمه. ويؤثر بطعام افطاره اليتيم والأسير والمسكين ويبقى هو وعياله بلا طعام ثلاثة أيام. (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا)، إلى كثير من أمثال هذه المزايا والفضائل التي تبهر العقول والألباب في هذا الباب.

هذا الخليفة عمر بن الخطاب. توضع بين يديه كنوز كسرى وتاجه وأساوره من الذهب المرصع بالجواهر واليواقيت التي تخطف الأبصار فيأخذه العجب ويقول:

ان قوما يأتون بمثل هذا كاملاً لا يخونون فيه لقوم أمناء

فقالوا له: لما كنت أميناً صرنا أمناء (ولو خنت خنا).

فقسم المال على الجيش وعلى المهاجرين والأنصار ولم يبق لنفسه منه شيئاً. وما اكتفى بهذا ومثله في الأمانة والعفة، حتى رأى ذات يوم عند إحدى بناته او زوجاته قلادة محلاة بمثقال او مثقالين من الذهب. فقال هذا مال زائد عن الحاجة:فأخذه منها ووضعه في بيت المال.

وأتى اليه يوما رسول قيصر ملك الروم سفيراً، فسأل: أين الخليفة عمر؟ فقالوا: خراج المدينة فخرج اليه فوجده نائماً على الأرض وقد صنع له وسادة من الرمل وليس معه سوى درته التي هي أشد هيبة من سيف الحجاج. فقال له: أمنت فنمت، ولو خفت لسهرت.

هذا نموذج من تلامذة محمد (ص)  وخريجي مدرسته، وكلهم من هذا الطراز وعلى هذه الشاكلة. ولو أردنا تعدادهم وعد مزاياهم. لم نحص عدتهم الا بألف عداد. أما هو صلوات الله عليه وآله فقد كان المثل الأعلى، والناموس الأكبر، وعقل الكل وكل العقل، بشر الملائكة، وملك البشر.

أهداف الإسلام وأهداف المسيحية

يشترك الإسلام والمسيحية في أهداف معينة كثيرة، ويمتاز الإسلام عنها، ويفترق عنها بالكثير بل الأكثر.

يتفقان في الدعوة الى الاعتقاد بالخالق القادر الحكيم الأزلي الذي لا مبدأ له، وهو مبدأ كل كائن، والى وجوب عبادته وتقديسه والخضوع له بالطقوس الخاصة المحبوبة له، من الصوم والصلاة، والبذل والاحسان، والاعتقاد بالمعاد والدنيوية والجزاء وان المحسن يجزي بإحسانه. والمسيء يعاقب بإساءته، وانه لابد من يوم وموقف ينتقم فيه المظلوم من الظالم، وتقام فيه موازين العدل والقسط. ويرجع كل حق مغصوب من غاصبه الى صاحبه (يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُنْ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ  ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ. وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).

كل هذه الأهداف الشريفة التي جاءت بها الأديان واجتهدت وجاهدت فيها الانبياء انما هي لإصلاح البشر وسعادتهم في الحياتين وراحتهم في النشأتين. وان يتعاشروا بينهم بالمعروف والاخاء، والمودة والولاء، والتعاون على الخير ( لله المجد وعلى الأرض السلام )([3]) وأحسن كما أحسن الله اليك. وقولوا للناس حسناً.يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن النكر وأصبر على ما أصابك ان ذلك من عزم الأمور. ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً ان الله لا يحب كل مختال فخور.

حقاً ان هذه الجذور الأساسية للحياة الإنسانية حياة سعيدة ومجيدة هي أهداف جميع النبوات والديانات خاصة الإسلام والمسيحية ولكن فرق عظيم بين أهداف الديانتين وتعاليمهما المسيحية نظرت بل اقتصرت على الناحية الروحية وعلاقة الانسان بابيه الذي في السماء. وطلبه الغفران لخطيئة أبيه التي أوقعت أبنائه في الجريمة وان لم يشاركوه في ارتكابها، ولكن شاركوه في عقابها ( الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون ). المسيحية تدعو الى التسامح والتساهل والتحمل ولكن مع الخضوع والذل والاستسلام، مثلا الانجيل يقول: من ضربك على خدك الايمن فأعطه خدك الأيسر. ومن سلبك رداءك فأعطه إزارك. ومن سخرك ميلاً فسر معه ميلين. وهذا يعني غاية الذل والهوان وسقوط الهمة.

اما الإسلام فهو أيضاً يدعو الى التسامح والصبر والتحمل ولكن مع العزة والكرامة، وشرف النفس وعلو الهمة.

فيقول القرآن : وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين. ويقول: جزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفى واصلح فأجره على الله. الانجيل يقول ما معناه: أعط قوتك للفقير. اعط رغيفك للمسكين. والقرآن يقول: لا تبسط يدك كل البسط ولا تجعلها مغلولة الى عنقك فتقعد ملوما محسورا.

ويقول: وآتوا حقه يوم حصاده. ولا تسرفوا انه لا يحب المسرفين. لا تسرفوا في الاعطاء بحيث يضر شؤونكم وسد حاجتكم الانجيل يشرع ويحبذ الرهبانية التي هي كبت للغريزة الطبيعية، وحرمان من الموهبة الآلهية وقطع لما أراده الله من الحكمة في بقاء النسل والذرية.

أما القرآن فيقول محافظة على ذلك: فانكحوا ما طاب لكم من النساء. وشدد في تحريم البغاء والزنا. الإسلام أخذ من كل فضيلة بحدها الوسط، وجعل العدل في الأوساط، بين التفريط والافراط، وترك للانسان الحرية فيما زاد على الوسط من طرف الفضيلة، فامساك المال عن الواجب بخل، وانفاقه في الواجب عدل. وبذل مقدار منه في الاحسان والمعروف بحيث لا يخل بالواجب فضل، وما عدا ذلك تبذير وإسراف والبخل او الإسراف رذيلة ومحرم. وانفاق على النحو المشروع لنفسه وعياله واجب وبذله في سبيل البر والاحسان فضيلة ومستحب.

أهداف الشريعة الإسلامية، انتشال الانسانية من أوضار الطبيعة: وأقذار المادة وخسة الحيوانية، والعروج بها الى مصاف الروحانيين، والمثل العليا، ولم يدع وسيلة للهناء والسعادة، والعز والكرامة، الا عينها وبينها في هذه الحياة او في الحياة الأخرى وجعل لمن آمن به ويرسله وباليوم الآخر، مقاماً رفيعاً وكريماً في الدارين.

ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين

طلب الإسلام ان يكون المسلم صلب العود، رابط الجأش رفيع الهمة، عزيز النفس، طيب الأعراق، دمث الأخلاق، شديد العناد لأهل السوء والفساد، سلس القياد لأخوانه المسلمين. يغار لهم وتهمه أمورهم. جعلهم أخوة في الدين، ووحد كلمتهم بكلمة التوحيد يشد بعضهم بعضا كالبنيان المرصوص، ويواسي كل واحد منهم الآخر. فلا يشبع وأخوه جائع. ولا يأمن وأخوه خائف، ولا يعز وأخوه ذليل.

والكلمة الجامعة التي يريدها لاسلام لمن يتدين به، هي ان يجعل أخاه المسلم نفسه الا انه غيره، وجعل علامة الإسلام وشارته ان تهتم بأمور المسلمين فقال: من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس من الإسلام في شيء. وجعلهم أشداء على الكفار رحماء بينهم، وجعل عزتهم مع عزة الله ورسوله فقال تعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ). الى كثير من أمثال هذا الذي لو أردت أن أحصيه، وأفيض فيه، تجاوزت القصد، وفات الغرض، ولكن الذي أريد ان أقول: يا هل ترى هل تجد شيئاً من هذه الإشارات او الشارات والعلامات في واحد من هذا الناس الذي يزعمون انهم مسلمون، والإسلام يبرأ الى الله منهم. الإسلام أرادهم أعزاء ((وقد صاروا أذل من قوم الأمة)). وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله. انعكست فيهم الآية. أرادهم أشداء على الكفار. رحماء بينهم، فصاروا أشداء فيما بينهم مستعبدين للكفار أرادهم تن لا يكونوا لليهود والنصارى أولياء... من يتولهم منكم فانه منهم نعم ولم يتخذوهم أولياء ولكن اتخذوهم أسياداً وقادة وسناداً يعملون لصالحهم ويتهالكون على خدماتهم. أراد ((ان يهتم كل مسلم بأمور المسلمين)) فصار كل مسلم يهتم بتفريق كلمة المسلمين، وتمزيقهم وصب البلاء عليهم.

هجم اليهود بالنار والحديد والقنابل على العرب والمسلمين في قرية (قبية) العزلاء فنسفوا البيوت ردموها على من فيها من النساء والأطفال والرجال، وليس بينهم وبين الجيش الأردني الذي يقال انه عربي ومسلم، ليس بينه وبين موقع الحادثة سوى بضعة أمتار، يسمعون الصراخ والاستغاثة بآذانهم، ويرون النار وتساقط الدور بأعينهم، فلا يحرك واحد من الجيش ساكناً. ولو كانت القلوب من الصخر الأصم، لذابت لذلك الظلم الفظيع.

نعم بعهد انتهاء الحادثة ورجوع اليهود الى أماكنهم سالمين غانمين، جاء الجيش الأردني كي يحصي عدد القتلى هل هم مائتان أو أكثر. وكيف يحركون ساكنا، ويسعدون صارخاً، وقائد الجيش الأردني الإنكليزي ( كلوب باشا ) .

أنشأوا في الأردن جيشاً إنكليزيا ليضرب العرب وهكذا كان وهكذا فعل ويفعل. كل يوم تقع هذه البلية العاتية، والضربة القاسية من اليهود على القرى العربية، منذ خمس سنوات الى يومنا هذا. فهل سمعت طيلة هذه المدة مع هذه الهجمات الفظيعة من اليهود على قرى الأردن. هل سمعت ان العرب أو الدول العربية المحيطة بإسرائيل من كل جهاتها. هل سمعت انهم قتلوا كلباً يهودياً أو هرة يهودية فضلا عن انسان او صورة انسان. نعم السلاح الوحيد عندهم والملجأ للأردن وغير الأردن الاحتجاج الى الدول الغربية الكبرى الشكوى. وأقصى ما عند هؤلاء الدول الاستنكار الفارغ والعاب الفاتر. يشكي عاهل الأردن الى مثيله في العراق ( شكوى الجريح الى جريح مثله )، وتشتكي الدول العربية المنهوكة المهتوكة الى مجلس الأمن والدول الكبرى. (شكوى الجريح الى العقبان والرخم ). أندري ما يكون من من شكوى الجريح الى العقبان والنسور وأمثالها من سباع الطير، انه تنزل الى الجريح فتقطع لحمه وتمص دمه، وتهشم عظمه، وتأكله في ساعة طعاماً سائغا، وهكذا الدول الاستعمارية تصنع مسنا معاشر المسلمين. اذا اشتكينا اليهم يضربون بعضنا ببعض ويلقون بأسنا بيننا ثم يسلطون اليهود علينا.

أنظر الى ما يجري في مصر من الانقلابات والاضطرابات وإراقة الدماء، واعطف نظرك ثانياً إلى سوريا وشكليات الشيشكلي ومشكلاته، والنفوس التي زعقت في تلك الحوادث. وهكذا طهران ولبنان والعراق. الاستعمار يعبث فيها بيد فيشغلها بنفسها وفي داخلها ويدفع اليهود عليها باليد الأخرى ويقول: ارجعي الكرة على العرب واغتنمي ما دامت مشغولة بنفسها.

وما ندري أي المصيبتين أوجع، سحق العرب بعضهم لبعض وتضاربهم فيما بينهم وغفلتهم او تغافلهم عما يكيد لهم العدو الذي القى بأسهم بينهم، ام تهالك الدول الغربية على اهلاك العرب وإبادتهم. وضعة العرب والضعة التي خضعوا لها في تحملهم للذل والضيم وعدم الانتصار من ظالمهم تذكرني بقول الشاعر القديم (نُصيب) :

ولولا ان يقال صبا نُصيب
بنفسي كل مهضوم حشاها

 

 

لقلت بنفسي النشأ الصغار
اذا ضلمت فليس لها انتصار

 

ويحق ان نقول لتلك الدول العاتية الظالمة التي تتطلب المثل العليا والقيم الروحية يحق ان نقول لهم:

ضجت بظلمكم الشعوب جميعها
تلوى به عصب البلاد وتشتري

 

 

ورحى الفساد أدارها الدولار
ذمم الرجال وتخمد الأفكار

 

ما أدري أي المصيبتين أنكى وأنكد على الشعوب العربية، مصيبتها بحكوماتها التي تساوم عليها، تريد ان تبيعها بيع الرقيق وتسوقها الى الجزارين سوق الأغنام للذبح، أم مصيبتها من الدول الغربية التي أصبحت شراً على العالم كله، ونفثت على العرب خاصة أسوء سمومها وأنكى مكايدها, ولكني أنتظر بطشة الله الكبرى، بهذه الدول العاتية الطاغية. وما أدري ان حلمه تعالى واناته تتسع لأكثر من هذا الإمهال وان يترك هذه الأمم المستضعفة فريسة لهذه السباع الضواري من البشر.


 


([1]) وقد أعيد نشرها ثانياً في هذه السنة.

([2]) الإحصاء الأخير يقدر الخسائر بخمسين مليون.

([3]) الإنجيل.

 

نعم وحقاً ان الطعنة الدامية التي طعنتم العرب والمسلمين فيها بتهويد فلسطين واجلاء العرب عنها كانت قرة عين الشيوعية، شماتة بكم وبالدول العربية المسخرة لكم، والتي صارت مطايا تحتكم تبلغون بها إلى مقاصدكم من استعباد الشعوب، وامتلاء الجيوب باختلاس أموالهم وامتصاص دمائهم، نعم أنتم ذبحتم فلسطين ولكن بيد الدول العربية، ذبحتموها بيد الدول المسلمة ليكون ذبحا شرعيا ذبحاً بيد المسلم (ذبح على القبلة) حتى تكون ذبيحة يحل أكلها لكم وللصهاينة، لأنكم أناس أهل ورع ودين تريدون المثل العليا، فلا تأكلون الا الحلال الطيب، ذبيحة المسلم هي الحلال الطيب.

وما كفاكم ذلك. يا لله وللعجب كل يوم عدوان جديد من الصهاينة وصنائعكم على العرب. وفي عين الوقت تبذلون مساعيكم كي تزجون العرب في معاهدة الدفاع المشترك وأمثال هذا من الأحاييل والأشراك التي تصطادون بها الطيور الضعيفة، المقصوصة الأجنحة.

وكيف نعتمد على الدول الاستعمارية لتسليحنا، وهل حقا يريدون تسليحنا وهم أعداؤنا ونحن أعداؤهم. فهل يطمئن الشخص ويعطي سلاحه الى عدوه، نحن أعداء الحكومات الاستعمارية بالطبع ولسنا أعداء شعوبها.

ويمكن ان نتعاون مع الدول الغربية عندما تأتي حكومات تحسن النية معنا ويظهر لنا بوضوح تغيير سياستها. واذا أردنا ان نتسلّح حقيقة فالحكومة الوطنية تستطيع ان توفر من دخلها القومي وتنظيم ثروتها وتشتري أسلحة حقيقية لا رمزية من دول كثيرة مستعدة لبيع السلاح، الى الدول العربية، التي هي دول شرعية معترف بها دولياً، يجوز بيع الاسلحة لها، وليست عصابة ثائرة.

أما من يقول ان إنكلترا وفرنسا والدول الأوربية الداخلة في حلف الأطلسي قبلت المساعدات العسكرية ولم تفقد استقلالها.

فالجواب: ان هذه الدول بالحقيقة فقدت اسـتقلالها الكامل في أمورها الاقتصادية والسياسية والعسكرية وتبعت أمريكا في سبيل مصالحها الاستعمارية والاقتصادية المتبادلة. ومع ذلك نجد في تلك الدول أحزاباً كثيرة تدعو الى الانفصال عن السياسة الأمريكية مثل حزب العمال في إنكلترا وهو حزب كبير. أما نحن فلا تربطنا بأمريكا والدول الاستعمارية أية مصلحة هم يريدون لنا الفقر والجهل والتأخر في شتى النواحي، في التسلح والعمران والزراعة والصناعة لنبقى خاضعين لهم وراضين بنهب ثروات بلادنا الطبيعية، ونحن نريد العلم والسعادة والتقدم.

هم يريدون لنا التفرق والتفكك والتخاصم، ونحن نريد الاتحاد والاخاء، وهم يريدون الحروب والفتن والثروات، ونحن نريد السلم والأمن.

وقد يرى البعض ان لا حول لنا ولا قوة لصمود على الحياد ضد رغبة الدول الاستعمارية. وهذا رأي فاشل، فان الذل والخضوع والهوان لم تكن في يوم ما سبيلا ينال به الشعب حقه. والشعب الضعيف المتأخر باتحاد أبنائه وإخائهم وإخلاصهم وتفانيهم في العمل بنظام وحكمة يصبح قويا عظيما. وما ضاع حق له طالب.

وفي نفس الوقت الذي أحذر فيه الحكام العرب وساستهم من عقم طريقة الخضوع والاستسلام للدول الاستعمارية أنصح الشباب والجمهور في الحذر من الانجراف مع تيار الشيوعية، لأن ذلك يعقد الوضع الدولي ويخل بالسلام حيث قد تتخذ الدول الغربية من ذلك ذريعة لمقاومتنا بالقوة والاعتداء علينا وان كان ذلك حاصلا فعلا بالمعنى.

 


 

 
امتیاز دهی
 
 

 
خانه | بازگشت | حريم خصوصي كاربران |
Guest (PortalGuest)

دبيرخانه كنفرانس‌هاي بين‌المللي
مجری سایت : شرکت سیگما