چهارشنبه 12 ارديبهشت 1403  
 

الفردوس الاعلي

 
بعض اسرار الحج

 

الفردوس الأعلى

  


بسم الله الرحمن الرحيم

وله الحمد وصلى الله على محمد وآله

كتاب الزكاة

يشترط في وجوبها أمور:

الأول: البلوغ وهو والعقل من الشرائط العامة في كل تكليف مضافاً إلى المعتبرة المستفيضة المشتملة على انه لا زكاة في مال الطفل أو لا زكاة على مال الطفل ولا زكاة في مال اليتيم وأمثال هذه التراكيب الظاهرة أو الصريحة في نفي الوجوب وضعاً كنفيه عن غير البالغ تكليفاً، وهذه اخصّ مما دل على تعلق الزكاة وحق الفقير فيما بلغ النصاب من غير اختصاص بالبالغ مثل قولهم (عليهم السلام): (فيما سقت السماء العشر وفي كل اربعين شاة شاة) على ان الأطلاق فضلاً عن العموم في امثال هذه الأدلة ممنوع فأنها مسوقة لبيان المقدار لا لبيان من عليه المقدار فالقول بوجوبها على الطفل اذا بلغ اثناء الحول ويؤديها عنه وليّه أو بعد البلوغ ضعيف ولكنه الأحوط.

الثاني: العقل فلا زكاة في مال المجنون في تمام الحول أو بعضه ولو ادواراً فلا تجب لا وضعاً للأصل بعد ما عرفت من قصور ما دل على ثبوت الحق في تلك المقادير الخاصة عن شمولها للصبي والمجنون بقسميه مضافاً إلى صحيحة ابن الحجاج وخبر ابن بكير والأجماع المستفيض ولا تكليفاً لحديث رفع القلم عن المجنون حتى يفيق وظاهر معاقد الأجماعات وبعض الأدلة اعتبار العقل في تمام الحول على حد اعتبار البلوغ والملك ونحوهما فالمجنون ادواراً يعتبر حوله من حين افاقته كما صرح به العلامة (قدس سره) في محكى المنتهى، حيث قال: ولو كان الجنون يعتوره أدواراً اشترط الكمال طول الحول فلو جن في أثنائه سقط واستأنف من حين عوده، وخالفه في المدارك فقال: انما تسقط الزكاة عن المجنون المطبق واما ذو الأدوار فالأقرب تعلق الوجوب به في حال الافاقة إذ لا مانع من توجه الخطاب إليه في تلك الحال انتهى، وفيه ان المراد ان كان عدم المانع من توجه الخطاب المنجز اليه بالزكاة حال افاقته ولو في اثناء الحول أو اوله ففيه مضافاً إلى ما قيل من استلزام كون غير المكلف اسوء حالاً من المكلف وان عدم التكليف لا يصير منشأ للتكليف ان هذا مخالف لجميع ما دل على اعتبار الحول مطلقاً في النقدين والمواشي واعتبار بدّ والصلاح في الغلات وان كان المراد عدم المانع من توجه الخطاب المعلق إلى تمام الحول بمعنى اعتبار مدة الجنون من الحول ففيه ان هذا يحتاج إلى دليل خاص يفي بهذا الشرح والبيان اما اطلاق ادلة الحول فهي قاصرة عن شمولها لمثل هذا الفرد وبعبارة اجلى إن هنا إطلاقان اطلاق ادلة لا زكاة على مال المجنون، وافراده المتيقنة المجنون المطبق، واطلاق ادلة اعتبار الحول وافراده المتيقنة العاقل طول الحول وبقى من يجن في بعض الحول ويفيق في بعضه، وليس دخوله في احد الأطلاقين اولى، ومع الشك وقصور الأدلة فالمرجع إلى اصالة عدم الوجوب، وبعد بطلان الأحتمالين تعين ان عدم المانع انما هو عن توجه الخطاب المعلّق على تمام الحول من حين افاقته، وهذا هو الذي اختاره العلامة (رحمه الله) وعليه ظاهر المشهور.

الثالث: الحرية فلا زكاة على العبد وان قلنا بملكه بل ولو قلنا بعدم منعه من التصرف في بعض امواله، كما يظهر من موثقة ابن عمار: في رجل وهب لعبده الف درهم استحلالاً منه عما لعله ظلمه بضرب أو نحوه هل يحل ذلك المال للمولى، فقال(ع): لا يحل له وليردها له، وغيرها من الأخبار الظاهرة في ملكيته المطلقة، فليس المانع من وجوب الزكاة عدم الملكية، أو المنع من التصرف، بل المانع نفس العبودية والرقية، كما يظهر من ملاحظة مجموع الأدلة، كما لا تجب على العبد، كذا لا تجب على سيده، كما ذكر (قدس سره) في المسألة (3) وهو على القول بملكية العبد واضـح، واما على القول بعدم ملكه، فيجب عليه أي على سيده الزكاة مع التمكن العرفي من التصرف في المال الذي بيد العبد على نحو الوكالة والعمالة، كمال المضاربة، أو العارية والوديعة بحيث يقال عرفاً هو مال السيد في يد العبد، اما لو كان منسوباً إلى العبد عرفاً، كالمال الموهوب له من مولاه، أو من اجنبي بحيث لم تبق للواهب به علاقة فالأقوى عدم الوجوب عليهما معاً فانه كالطعام المعد للضيف الذي لا يسع صاحبه المنع عنه، مضافاً إلى صحيحة ابن سنان قلت له: مملوك في يده المال عليه زكاة؟ قال: لا قلت: فعلى سيده قال: لا لأنه لم يصل إلى السيد وليس هو للملوك، والمراد منها على الظاهر بعد التأمل ــ الأموال التي يكتسبها العبد المأذون من مولاه بالكسب، فأنها اموال في يد العبد ولكنها ليست له، فلا تجب عليه الزكاة، بل لمولاه، ولكن لا تجب عليه الزكاة ايضاً لأنها لم تصل ولم تحصل في يده وتستقر حولاً عنده.

الرابع: ان يكون مالكاً اعتبار الملك ضروري عقلاً فضلاً عنه شرعاً وانما المعتبر هنا شرطاً شرعياً هو تمامية الملك فقبل تمام الملك لا زكاة قبل القبض كالموهوب ــ بناء على ان القبض شرط في الصحة وحصول الملكية، سواء جعلناه ناقلاً فلا ملكية  قبله، أو كاشفاً وهو ممنوع من التصرف قبله وقول صاحب المدارك ان الخلاف في القبض بالهبة واقع بأنه شرط في الصحة أو اللزوم، لا في كونه كاشفاً أو ناقلاً، مدفوع بأنهم متفقون على ان الهبة بالقبض لا تصير لازمة وانها من العقود الجائزة بذاتها، ولا تلزم الا بأسباب مخصوصة، وان مرادهم باللزوم الكشف عن تحقيق الملكية السابقة لا اللزوم بالمعنى المصطلح في البيع ونحوه كما نبّه عليه كاشف الغطاء (قدس سره) وكيف كان فلا اشكال في وجوب الزكاة بعد مضي الحول من حين القبض ولو كان الملك متزلزلاً، نعم  لو رجع الواهب في اثناء الحول سقطت اما بعده فلا، وكذا فيما لا يعتبر فيه الحول كالغلات، فأنه يرجع المال إلى الواهب بعد اداء الزكاة؛ وكذا القرض لا تجب الا بعد قبض المقرض، وزكاته قبل ذلك على المقترض، كما سيأتي والفرق بين الهبة والقرض من حيث وجوبها على المقترض ويرجع المال بتمامه للمقرض وفي الهبة يرجع إلى الواهب بعد اخراج الزكاة منه ظاهر بالتأمل.

الخامس: تمام التمكن من التصرف يظهر هذا الشرط من المستفيضة التي اعتبرت في وجوب الزكاة أن يكون المال عنده أو في يده وان يكون وصل اليه، وان لا يكون غائباً عنه وامثال ذلك، ولا ينبغي الريب في ان المراد بهذه الكلمات الكناية عن السلطة التامة الفعلية للمالك بحيث لا مانع له من التصرف باي نحو اراد لا شرعاً ولا عرفاً فمثل المغصوب، والمجحود، والمسروق والضائع، وامثالها، لا مانع له من التصرف شرعاً فيه باي نحو اراد، ولكنه ممنوع عرفاً، بمعنى ان تصرفاته تعد لغواً عند العرف، اما مثل المرهون والموقوف والمحجر عليه لفلس ونحوه، مما يتعلق بالعين حق الغير فهو ممنوع من التصرفات فيه شرعاً بل وعرفاً ولعله (قدس سره) نظراً لهذا قال والمدار في التمكن على العرف فان العرف اذا احرز المنع الشرعي اكتفى به مانعاً اما النذر فسيأتي الكلام فيه.

(مسألة 1): يستحب للولي الشرعي اخراج الزكاة في غلات غير البالغ الخ جمعاً بين صحيحة محمد بن مسلم وزرارة عن ابي جعفر وابي عبد الله (عليهما السلام) مال اليتيم ليس عليه في العين والصامت شيء، فاما الغلات، فان عليها الصدقة واجبة، وبين موثقة ابي بصير وليس على جميع غلاته من نخل أو زرع أو غلة زكاة، فيحمل الوجوب على تأكد الاستحباب على اشكال، لان احتمال الاستحباب ليس باقوى من احتمال جريها مجرى التقية لان زكاة الغلات، بل والمواشي كان يأخذها عامل السلطان في تلك الازمنة، حتى من مال الصغير، ومن هنا ظهر الاشكال في استحباب اخراجها من مواشيه، وان الاحوط كما ذكره (قدس سره) الترك، بل هو الاقوى، لعدم دليل عليه سوى ما يدعي من عدم القول بالفصل، وهو كما ترى.

(مسألة 2): يستحب للولي الشرعي الخ مستنده صحيحة ابن الحجاج امرأة من اهلنا مختلطة أعليها زكاة؟ فقال: ان كان عمل به فعليها الزكاة، وان كان لم يعمل به فلا، ومثله خبر موسى بن بكير، وهو ظاهر في النقدين فلا تستحب في غيرهما ولو عمل به.

(مسألة 3): الأظهر وجوب الزكاة على المغمى عليه الخ ونقل سيد المدارك(1) عن العلامة (قدس سره) في التذكرة انه قال: وتجب الزكاة على الساهي، والنائم والمغفل، دون المغمى عليه، لانه تكليف وليس من اهله، ثم قال السيد في الفرق نظر فان اراده انه ليس اهلاً للتكليف حال الاغماء فمسلم، لكن النائم كذلك، وان اراد كونه مقتضياً لانقطاع الحول، كما في ذي الادوار، طولب بدليله انتهى ملخصاً وهو جيد.

بعض اسرار الحج

[وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ](2).

بما ان الانسان متكون من جوهرين جسم وروح، فقد جعل شارع الشريعة الاسلامية لكل من الجوهرين فرائض، وتكاليف، ليس الغرض منها سوى سعادة الانسان، وتعاليه في معارج الكرامة ومدارج العظمة، واهم فرائض الروح العقيدة والايمان، واهم فرائض البدن، اعمال خاصة يسميها الشرع بالعبادات والفروع أي فروع الدين، كما يسمي تلك باصول الدين، وتلك العبادات خمسة:، الصلاة والصوم، وهي بدنية محضة، والخمس، والزكاة وهي مالية محضة، والحج يتضمنهما معاً، فهو عبادة مالية، وبدنية وقد جمعت كل واحد من هذه العبادات أسراراً وحكماً اذا لم يكن الحج أكبرها مقاصد وأكثرها أسراراً وفوائد فليس هو بأقلها وقد أشارت الآيات إلى بعض تلك الأسرار والمزايا، وهي مادية اقتصادية، واخلاقية اجتماعية، ورموز علوية، ورياضات روحية، نعم الناظر إلى أعمال الحج نظرة سطحية قد ينسبق إلى ذهنه أنها الاعيب من العبث، واضراب من اللهو والنصب ولكن لا تلبث تلك النظرة العابرة حتى تعود عبرة وفكرة، تذهل عندها الألباب وتطيش في سبحات جلالها العقول، اما الذي فيه من الفوائد المادية، والاجتماعية، والاخلاقية، فلعل سطحه الاول ظاهر مكشوف، والتوسع فيه يحتاج إلى مجال أوسع ونظر أعلى وأرفع، وهي التي اشير اليها بقوله عز شأنه [لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ]ولكن اذا لم يتسع لنا المجال للإشارة إلى تشريح هذه المنافع أفلا يمكن التلويح إلى بعض تلك النفحات التي تهب نسائهما من الكنوز والرموز الروحية التي تتضمنها اعمال الحج اوّلها الإحرام، أرأيت المحرم حين يتجرد من ثيابه التي يتجمل بها بين الناس فيستبدل بها قطعتين من القطن الأبيض اشارة إلى قطعه جميع علائق هذه الحياة، وزخارفها، واكتفائه بثوبين، كمن ينتقل من هذه الحياة إلى الحياة الأخرى، لابساً اكفانه، منصرف النفس عن كل شهواتها، وعازفاً عن كل لذاتها، أتراه حين يرفع صوته كلما علا جبلاً أو هبط وادياً أو نام أو استيقظ (لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك) كأنه يجيب داعياً، ويخاطب منادياً، نعم يجيب داعي الضمير، وخطاب الوجدان خطاباً يجيب به نداء ربه، واذان ابيه ابراهيم، ودعوة نبيه محمد (ص) أتراه كيف يتجرد من الدنيا ويتحلى عن الروح الحيوانية فيصير روحاً مجرداً، وملاكاً بشراً فيحرّم على نفسه التمتع حتى من النساء والطيب والطيبات، بل حتى العقد على النساء ويحرم عليه ان يؤذي حيواناً، ولو من الهوام وان يصيد صيداً ولو من الأنعام، وان يقطع شجراً؛ أو يقطع نباتاً، واذا عقد على امرأة في احرامه حرمت عليه ابداً، ارأيته حين يطوف حول الكعبة رمز الخلود، ومركز الأبدية وتمثال العرش الذي تطوف حوله الملائكة [وَتَرَى الْمَلاَئِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ](3)طالباً ان تفتح ابوابها فتدخل في فردوسها الأبهى، ويخلد في نعيمها الأبدي، مع الخالدين، أتراك حين يبتدئ بطوافك من الحجر فتلمسه قاصداً انك تبايعه وتأخذ العهد منه وتقبله كأنك تقبل يد الرحمن، وانه قد نزل ابيض من اللجين ولكن ذنوب العباد كسته حلة السواد كناية انه تحمل ذنوبهم وتعهد بغفرانها من خالقهم، ارأيت كيف ينقلب الطائف حول الكعبة بعد الفراغ من طوافه إلى مقام ابراهيم فيصلى فيه اشارة إلى انه بعد طوافه على القلب قام مقام ابيه ابراهيم في دعائه إلى الرب واتخذوا من مقام ابراهيم مصلى ربنا تقبل منا انك انت السميع العليم وتب علينا انك انت التواب الرحيم، أتراه حين ينفلت بعد الفراغ من الطواف إلى السعي بين الصفا والمروة مهرولاً يدفعه الشوق إلى السوق حذار ان تعرضه خطرات الوسواس فتكون حجر عثرة في طريقه إلى مشاهدة الحق وتكدر عليه ذلك الصفا المتجلى عليه من اشعة تلك اللمعات والصفا هو الصخرة التي وقف عليها نبي الرحمة في اول دعوته الناس إلى التوحيد، والدخول في دين الأسلام، والتخلي عن عبادة الأصنام، وما بين الصفا والمروة هو الموقع الذي سعت فيه هاجر ام اسماعيل سبع اشواط في طلب الماء لولدها الذي تركته في المسجد الحرام حول الكعبة ولما أيست رجعت لولدها، رجعت اليه فوجدت ماء زمزم قد نبع من تحت قدميه ثم بعد اكمال السعي يقصر من شعره، ولعله اشارة إلى ان السالك إلى الحق مهما جد في المسير، فان مصيره ومنهاه إلى القصور في شعوره، أو التقصير، فأذا عرف قصوره، واعترف به، حل من احرامه، واحل الله له الطيبات التي حرمها عليه، ورجع من الحق إلى الخلق، وهو احد الأسفار الأربع، والى هنا تنتهي عمرته، ثم يوم الثامن يوم التروية يعقد الإحرام ثانياً، وهو احرام الحج، ويتوجه إلى منى وقبل الظهر يوم التاسع يكون في عرفات من الظهر إلى غروب الشمس، ثم يفيض إلى المشعر، وقبل طلوع الشمس يعود إلى منى، فيأتي بمناسكها الثلاثة الرمي، والذبح، والحلق يوم عيد الأضحى، وبعد الحلق يحل من كل ما حرم عليه بالحرام الا الطيب، والصيد، والنساء، ثم يعود إلى مكة، لأحرام الحج ويحل له بعده الصيد، والطيب؛ ثم يعود إلى منى ويبيت فيها ليالي النفر؛ الحادية والثانية عشر ويرمي الجمرات في اليومين، أو الثلاث بعد الأضحى ثم يطوف طواف النساء فتحل له وهنا تنتهي اعمال الحج والمناسك بأجمعها وفي كل واحد من هذه الأعمال رموز واسرار وحكم ومصالح لو اردنا شرح بعضها فضلاً عن كلها لأحتجنا إلى مؤلف مستقل لا نستطيع القيام به، وقد وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا، ولكن ليعلم ان الأسرار والمصالح التي في الحج، بل وفي كل عبادة، نوعان خاصة وعامة، اما الخاصة فهي الأسرار التي يتوصل اليها السالكون والعلماء الراسخون، والعرفاء الشامخون ولا تنكشف استارها، وكنوزها لعامة للناس، بل ولا يتصورها بلمح الخيال احد منهم واما العمة فهي الواضحة المكشوفة التي يستطيع كل متفكر ومتدبر ان يعرفها ويتوصل اليها واعظمها واهمها واجلى المصالح والأهداف التي يرمي اليها ويتطلبها على الظاهر المكشوف والتي يدركها كل ذي شعور هي الناحية الاجتماعية، ومن المعلوم ان الإسلام دين اجتماعي وقد اعطى للنواحي الاجتماعية اعظم الأهمية فشرّع صلاة الجماعة في مسجد المحلة كلّ يوم ثلاث مرات أو خمس وصلاة الجمعة في المسجد كل اسبوع وصلاة العيدين لعموم اهل كل بلد وضواحيها كل سنة مرتين ولم يكتف بذلك كله حتى دعي إلى مؤتمر عام بجميع اهل الحجى، والثروة، والطبقة الراقية، مالاً وعقلاً من المسلمين المتفرقين في اقطار الأرض الشاسعة في صعيد واحد، ليتعارفوا اولاً فأذا تعارفوا تآلفوا واذا تآلفوا تكاتفوا وصار كل واحد منهم قوة للآخر يتفقد شؤونه، ويشاركه في سرّائه وضرائه، ونعيمه وشقائه، فتكون من ذلك للمسلمين قوة هائلة، لا تقاومها كل قوة في العالم، اذكر انّي عام (1330)هـ اعني قبل احدى واربعين سنة لما تشرفت للحج اجتمعت على ربوة(4)مساء حول مسجد الخيف بجماعة من الحجاج، فكان فيهم الصيني، والمراكشي، واليماني، والعراقي، والهندي، وكان فيهم من يحسن اكثر اللغات، فأنجز الحديث إلى الحج ومنافعه، وفوائده مع كثرة متاعبه، وتكاليفه، فقلت أي فائدة تريدون اعظم من اجتماعنا هذا وهل كان يدور في خلد احد ان يجتمع الصيني في اقصى الشرق بالمراكشي وهو في اقصى الغرب والعراقي والفارسي وهو في طرف الشمال واليماني وهو في اقصى الجنوب، ولكن المسلمون يا للأسف لو كان يجدي الأسف انّهم لما فاتهم الحجى واللبّ اصبحت اعمالهم بل وعباداتهم قشراً بلا لبّ، يجتمعون وهم متفرقون، ويتقاربون وهم متباعدون، متقاربة اجسامهم متضاربة احلامهم، يحجون ولا يتعرف احدهم بأخيه ولا يرى الا صورته، ولا يعرف شيئاً من احواله بل ولا اسمه، وبهذا ومثله وصلنا إلى الحال التي نحن فيها اليوم، فلا حول ولا قوة، وبالله المستعان على هذا الزمان واهل الزمان.

بعض أسرار الصوم وامتيازه عن سائر العبادات

تشترك العبادات عموماً بأنها أفعال وجودية، هي بمنزلة الجسد وروحها النية، فالصلاة، والطواف، والسعي، كالغسل والوضوء، وامثالها اعمال جسدية، اذا لم يأت بها المكلف بداعي القربة فهي كجسد الميت لا حياة فيه، وكأشباح بلا ارواح، ولكن مهما كان فهو جسم عبادة؛ وصورة طاعة؛ وكل العبادات في ذلك سواء اعني انها اجساد ولها ارواح فان كانت تلك الروح فيه فهو حي، والا فهو ميت الا الصوم فقد كاد بل كان روحاً مجردة، وحياة متمحضة لا جسم له ولا مادة، وهذه ميزة امتاز بها الصوم عن سائر العبادات، ولم يشاركه فيها سوى الاحرام؛ فان الصيام والاحرام كل منهما تروك محضة، وعدميات صرفه، ليس فيها من الاعمال الجسمانية شيء، ولكن الاحرام فضحته ثياب الاحرام ولبسها وبقي الصيام محتفظاً بروحيته وتجرده من كل عمل ظاهري، ولم يتجاوز عن كونه نية خالصة، وعبادة قلبية خفية، لا يعلم بها الا صاحبها وربه العالم بالسرائر, ومن هنا اختص الصوم بميزة انفرد بها دون كل عبادة، وهي عدم امكان دخول الرياء فيه بل يستحيل ذلك الا بالقول، فيكون الرياء حين ذلك بالعبارة لا بالعبادة، وبالكلام لا بالصيام والاحرام ايضاً بجوهره وان كان نية وتروكاً كالصوم الا ان الاحرام فيه عمل واحد وجودي؛ وهو لبس ثياب الاحرام، ومنه قد يتأتى تدخل الرياء فيه، بخلاف الصوم المتمحض في النية والتروك فقط فهو عبادة صامتة خرساء، ومعاملة سرية بين القلب والرب، ولعل هذا هو المراد من الحديث المشهور (الصوم لي وانا اجزي به) مبنياً للفاعل، فيكون القصد انه تعالى تكريماً للصائم يتولى جزاءه مباشرة من دون وسائط الفيض، وعلى المفعول: فيكون المراد انه هو جزائي واللائق بمقام عظمتي وتجردي، فان الصائم يتجرد ويصير روحانياً، والمتخلق باخلاق الروحانيين يلحق بهم، وبكون لحوقه بهم جزاؤه لهم سواء عاد الضمير الى الصوم أو للصائم هذا مضافاً إلى ما يتضمنه الصوم من الفوائد الصحية، والرياضة البدنية، وتربية قوة الارادة، ومضاء العزم، وتهذيب النفس، وقمعها عن الانقياد إلى بواعث الشهوات، وكبح جماح قوتي الشهوة والغضب اللتين هما اصل كل جريمة، والسبب في هتك كل حرمة، ومن آثاره تذكر حال الفقراء و اهل الفاقة ومن كضه الطوى وامضه الجوع، فان الصيام يوجب رقة القلب واندفاع الدمعة فيواسي اخوانه، ويكون حليماً ورحيماً ومهبطاً للرحمة، والراحمون يرحمهم الله تعالى.

وحدة الوجود أو وحدة الموجود (5)

هذه القضية من امهات أو مهمات قضايا الفلسفة الالهية وهي تتصل اتصالاً وثيقاً بعلم الحكمة العالية والالهي بالمعنى الاعم الذي يبحث فيه عن الامور العامة، كالوجود والموجود وكالواجب والممكن، والعلة والمعلول والوحدة والكثرة، وامثالها مما لا يتعلق بموضوع خاص، لا حقيقة معينة من الانواع لا ذهناً ولا خارجاً، وللتمهيد والمقدمة نقول:

ان من المسائل الخلافية بين حكماء الاسلام وفلاسفة المسلمين مسألة اصالة الوجود أو الماهية بمعنى ان المتحقق في العين و الخارج هل هو الوجود والماهية امر اعتباري ينتزع من الوجود المحدود المقيد المتعين بالتعين الذي يميزه عن غيره بالجنس والنوع وغيرهما من الاعتبارات أو ان المتحقق في ظرف العين والخارج ونفس الامر والواقع هو الماهية والوجود مفهوم اعتباري خارج عنها منتزع منها محمول عليها من خوارج المحمول لا المحمولات بالضميمة، فماهية النار مثلاً اذا تحققت في الخارج وترتبت عليها آثارها الخاصة من الاضاءة والاحراق والحرارة صح انتزاع الوجود منها وحمله عليها فيقال النار موجودة والا فهي معدومة وهذا القول اعني اصالة الماهية، وان الوجود في جميع الموجودات حتى الواجب اعتبار محض على الظاهر كان هو المشهور عند الحكماء إلى اوائل القرن الحادي عشر، وعليه تبتني شبهة الحكيم(ابن كمونه)(6 ) التي اشكل بها على التوحيد زاعماً انه ما المانع من ان يكون في ظرف التحقق ونفس الامر والواقع هويتان مجهولتا الكنه والحقيقة؛ بسيطتان متباينتان بتمام ذاتيهما وينتزع وجوب الوجود من كل منهما ويحمل على كل واحد منهما من قبيل خارج المحمول لا المحمول بالضميمة لان ذات كل منهما بسيطة لا تركيب فيها إذ التركيب يلازم الامكان وقد فرضنا وجوب كل منهما وقد اعضلت هذه الشبهة في عصره على اساطين الحكمة واستمر اعضالها عدة قرون حتى صار يعبر عنها كما في اول الجزء الاول من الاسفار (افتخار الشياطين) وسمعنا من أساتذتنا في الحكمة ان المحقق الخونساري(7) صاحب (مشارق الشموس) الذي كان يلقب بالعقل الحادي عشر، قال: لو ظهر الحجة (عجل الله فرجه) لما طلبت معجزة منه الا الجواب عن شبهة ابن كمونة ولكن في القرن الحادي عشر الذي نبغت فيه أعاظم الحكماء كالسيد الداماد(8)، وتلميذه ملا صدرا(9)، وتلميذيه الفيض(10) واللاهيجي صاحب الشوارق الملقب بالفياض(11). انعكس الأمر واقيمت البراهين الساطعة على اصالة الوجود، وان الماهيات جميعاً اعتبارات صرفة ينتزعها الذهن من حدود الوجود اما الوجحود الغير المحدود كوجود الواجب جل شأنه فلا ماهية له بل (ماهيته انيته) وقد ذكر الحكيم السبزواري (رحمه الله)(12)في منظومته البراهين القاطعة على اصالة الوجود مع انه من اوجز كتب الحكمة فما ظنك بالاسفار وهي اربع مجلدات بالقطع الكبير، ويكفيك منها برهان واحد وهو اختلاف نحوي الوجود حيث نرى بالضرورة والوجدان ان النار مثلاً بوجودها الذهني لا يترتب عليها شيء من الآثار من احراق وغيره بخلاف وجودها الخارجي، ولو كانت هي المتأصلة في كلا الوجودين لترتبت آثارها ذهناً وخارجاً واليه اشار في المنظومة بقوله:

وانه منبع كل شرف

والفرق بين نحوي الكون يفي

وحين اسفرت الابحاث الحكمية عن هذه الحقيقة الجلية من اصالة الوجود الخارجي الغير المحدود نعبر عنه بواجب الوجود جلت عظمته يستحيل ان يفرض له ثاني. فان كل حقيقة بسيطة لا تركيب فيها يستحيل ان تتثنى وتتكرر لا ذهناً ولا خارجاً ولا وهماً ولا فرضاً، وقد احسن المثنوي(13) في الأشارة إلى هذه النظرية القطعية حيث يقول: عن استاذه شمس التبريزي(14).

شمس در خارج اكرجه هست فرد
         

ميتوان هم مثل أو تصوير كرد
                                                      

شمس تبريزي كه نور مطلق آست

 

آفتاب است وزانوار حقست

 

شمس تبريزي كه خارج از أثير

 

نبودش درذهن ودر خارج نظير

 

وبعد ان اتضح بطلان اصالة الماهية، واشرق نور الوجود بأصالته اختلف القائلون بأصالة الوجود بين قائل بأن الوجودات بأجمهعا واجبها وممكنها الذهني منها، والخارجي المتبائنة في تشخصها وتعيينها قطعاً هل اطلاق الوجود عليها من باب المشترك اللفظي، وهو اطلاق اللفظ على المعاني المتكثرة والمفاهيم المتبائنة التي لا تندرج تحت حقيقة واحدة، ولا يجمعها قدر مشترك كالعين التي تستعمل في الباصرة وفي النابعة والذهب إلى آخر ما لها من المعاني الكثيرة المتبائنة على عكس المترادف الفاظ كثيرة لمعنى واحد والمشترك معاني كثيرة تحت لفظ واحد، وقد نسب هذا القول إلى المشائين أو لأكثرهم.

أو انه من المشترك المعنوي فوجود النار ووجود الماء في باب المفاهيم ووجود زيد، ووجود عمرو في باب المصاديق شيء واحد وحقيقة فاردة وانما التبائن والتعدد في الماهيات المنتزعة من حدود الوجود وتعينات القيود فحقيقة الوجود من حيث هو واحدة بكل معاني الوحدة، وما به الامتياز هو عين ما به الاشتراك فتدبر هذه الجملة جيداً كي تصل إلى معناها جيداً، وحيث ان القول الأول يستلزم محاذير قطعية الفساد وما يستلزم الفاسد فاسد قطعاً، ومن بعض محاذيره لزوم العزلة بين وجود الواجب ووجود الممكن وعدم السنخية بين العلة والمعلول المنتهي إلى بطلان التوحيد من
اصله واساسه، والى هذا اشار سيد الموحدين واما العلماء الشامخين امير المؤمنين(ع)حيث يقول: (توحيده تمييزه عن خلقه وحكم التمييز بينونة صفة لا بينونة عزلة) ولله هذه الحكمة الشامخة والكلمة الباذخة ما اجلها واجمعها لقواعد التوحيد والتجريد والتنزيه ودحض التشبيه، والأصح الذي لا غبار عليه ان حقيقة الوجود من حيث هي واحدة لا تعدد فيها ولا تكرار بل كل حقيقة من الحقائق وماهية من الماهيات ايضاً بالنظر إلى ذاتها مجردة عن كل ما سواها يستحيل تعددها وتكررها ومن قواعد الحكمة المتفق عليها ان (حقيقة الشيء لا تتثنى ولا تتكرر والماهيات انما تتكثر وتتكرر بالوجود) كما ان الوجود انما يتكثر بالماهيات والحدود يعني ان ماهية الانسان وحقيقته النوعية انما تكثرت بالأفراد العينية والمصاديق الخارجية والتعيّن انما جاء من الوجود وبه تكررت الماهية وتكثّرت، ولولا الوجود لما كانت الماهية من حيث هي الا هي لا تعدد ولا تكثّر وكما ان الماهية بالوجود تكررت وتكثّرت فكذلك الوجود انما تكرر وتكثر بالحدود والتعينّات التي انتزعت منها الماهيات، فالقضية مطردة منعكسة تكثر الوجود بالماهية، وتكثرت الماهية بالوجود.

ثم ان الوجود نوعان ذهني وخارجي اما الذهني فهو اعتبار صرف ومفهوم محض كسائر المفاهيم الذهنية المنتزعة من المصاديق يحمل عليها بالحمل الشائع الصناعي من المحمولات بالضميمة لا خوارج المحمول فقولك زيد موجود كقولك: زيد كاتب وهو كلى واحد منطبق على افراده التي لا تحصى ومن المعقولات الثانوية باصطلاح الحكيم.

اما الوجود العيني الخارجي الذي يحكى عنه ذلك المفهوم وينتزع منه فهو بأنواعه الأربعة الذاتي وهو بشرط لا والمطلق وهو لا بشرط والمقيد وهو بشرط شيء ويندرج فيه الوجود الرابط وهو مفاد كان الناقصة والرابطي وهو ما يكون وجوده في نفسه عين وجوده لغيره كالأعراض والربطي وهو ما يكون وجوده لنفسه في نفسه ولكن بغيره كالجواهر فأنها موجودة لنفسها وفي نفسها لكن بغيرها أي بعلتها اما واجب الوجود فوجوده لنفسه في نفسه بنفسه، وهو أي الوجود ايضاً بذاته وبجميع هذه الأنواع وحداني ذو مراتب متفاوتة بالقوة والضعف والأولية والأولوية اعلى مراتبه واولها واولاها الوجود الواجب الجامع لكمالات جميع ما دونه من مراتب الوجود بنحو البساطة والوحدة الجامعة لجميع الكثرات وكل الكثرات نشأت منها ورجعت اليها (انا لله وانا اليه راجعون) واليه الإشارة بقولهم (بسيط الحقيقة كل الأشياء وليس بشيء من الأشياء) والتوحيد الكامل (رد الكثرة الى الوحدة والوحدة الى الكثرة) وهذ الوجود الخارجي من اعلى مراتبه الوجوبيّة إلى اخس مراتبه الامكانية وهي الهيولي(15) التي لها اضعف حظ من الوجود وهي القوة القابلة لكل صورة ولعلها هي المشار اليها في دعاء السمات وانزجر لها العمق الأكبر كله واجبة ممكنة ومادية ومجردة حقيقة واحدة وان اختلف في القوة والضعف والوجوب والامكان والعلية والمعلولية ولكن كل هذا الاختلاف العظيم لا يخرجه عن كونه حقيقة واحدة ولا يصيره حقائق متبائنة وان كان بالنظر إلى حدوده ومراتبه متعدداّ ومتكثراّ ولكن حقيقته من حيث هي واحدة لا تعدد فيها ولا تكثر الا ترى ان الماء من حيث انواعه واصنافه ما اكثره واوسعه فماء السماء وماء البحر وماء النهر وماء البئر وهكذا ولكن مهما تكثّرت الأنواع وتعددت المصاديق فحقيقة الماء وطبيعته في الجميع واحدة وهكذا سائر الماهيات والطبائع اذاً فوحدة الوجود بهذا المعنى تكاد ان تكون من الضروريات التي لا تستقيم حقيقة التوحيد الا بها ولا تنتظم مراتب العلة والمعلول والحق والخلق الا بها فالوجود واحد مرتبط بعضه ببعض من اعلى مراتبه من واجب الوجود نازلاً إلى ادناها واضعفها وهو الهيولي التي لا حظ لها من الوجود سوى القوة والاستعداد ثم منها ساعداً إلى المبدأ الأعلى والعلة الأولى منه المبدأ واليه المعاد، ثم ان اول صادر منه واقرب موجود اليه هو العقل الكلي والصادر الأول (اول ما خلق الله العقل) الحديث وهو العقل الكلي الخارجي العيني لا الكلي الذهني المفهومي وهو ظل الله وفيضه الأقدس نعم هو ظل الله الممدود من سماء الجبروت عالم السكون المطلق ومركز الثبات، إلى عالم الملك والملكوت والناسوت موطن التغيّر والحركات، الم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً، وهذا هو وجه الله الكريم الذي لا يفنى ولن يفنى ابداً وهو اسم الله العظيم الأعظم ونوره المشرق على هياكل الممكنات الذي يطلق عليه عند الحكماء بالنفس الرحماني وعند العرفاء بالحق المخلوق به، وفي الشرع رحمته التي وسعت كل شيء والحقيقة المحمدية، والصادر الأول (اول ما خلق الله نوري) وهو الجامع لكل العوالم عالم الجبروت والملكوت والملك والناسوت، وجميع العقول المفارقة والمجردة والمادية الكلية والجزئية عرضية وطولية، والنفوس كذلك كلية وجزئية والأرواح والأجسام والمثل العليا، وارباب الأنواع التي يعبّر عنها في الشرع بالملائكة والروح الأعظم الذي هو سيد الملائكة ورب نوعها. كل هذه العوالم صدرت من ذلك الوجود المطلق والمبدأ الأعلى الذي هو فوق ما لا يتناهى بما لا يتناهى قوة وشدة وعدة ومدة، اوجد عز شأنه ذلك الصادر الأول الجامع لجميع الكائنات والوجودات الممكنات، اوجده بمحض المشيئة، وصرف الإرادة في ازل الآزال إلى ابد الآباد [وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ](16) والتشبيه من ضيق نطاق الألفاظ، والاّ فالحقيقة ادق وارق من ذلك وهو المثل الأعلى الحاكي بنوع من الحكاية عن تلك الذات المقدّسة المحتجبة بسرادق العظمة والجبروت وغيب الغيوب (يا من لا يعلم ما هو الا هو) وذلك العقل الكلي أو الصادر الأول (ما شئت فعبّر) أو الحقيقة المحمدية متصلة بمبتدئها غير منفصلة عنه، لا فرق بينك وبينها الا انهم عبادك وخلقك؛ بدؤها منك وعودها اليك، (انا اصغر من ربي بسنتين) والكل وجود واحد ممتد بلا مدة ولا مادة، من صبح الأزل إلى عشية الأبد بلا حد ولا عد، ولا بداية ولا نهاية، ومن المجاز البعيد، وضيق خناق الألفاظ قولنا: هو الأول والآخر والظاهر والباطن، وجوده قبل القبل في ازل الآزال، وبقائه بعد البعد من غير انتقال ولا زوال.

همه عالم صداي نغمه اوست

 

كه شنيد اين جنين صداي دراز

 

 [مَا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ](17) وذلك النفس الرحماني والعقل الكلي، والصادر الأول ــ هو كتاب الله التكويني ــ الذي لا مفاد لكلماته [قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا](18) ولو اردنا التوسع في هذه الغوامض والأسرار أو كشف الرموز عن هذه الكنوز ملأنا القماطير بالأساطير ولم نأتِ الا بقليل من كثير.

( مثنوى هفتاد من كاغد شود)

ولكن ما ذكرناه مع غاية ايجازه لعله كاف للمتدبر في اثبات المعنى الصحيح (لوحدة الوجود) وانه مترفّع الأفق عن الإنكار والجحود، بل هو من الضروريات الأولية، وقد عرفنا الضروري في بعض مؤلفاتنا بأنه ما يستلزم نفس تصوره حصول التصديق به ولا يحتاج إلى دليل وبرهان، مثل ان الواحد نصف الأثنين فوحدة الوجود بالمعنى الذي ذكرناه لا ريب فيها ولا اشكال، انما الأشكال والاعضال في وحدة الموجود فأن المعقول في بادئ النظر وحدة الوجود، وتعدد الموجود المتحصل من الحدود والقيود والتعينات، ولكن الذي طفح وطغى في كلمات العرفاء الشامخين ومشايخ الصوفية السالكين والواصلين هو وحدة الوجود ووحدة الموجود ايضاً، وكانت هذه الكلمة العصماء يلوح بها اكابر العرفاء والأساطين في القرون الأولى كالجنيد(19) والشبلي(20)، وأبا يزيد البسطامي(21)، ومعروف الكرخي(22)، وامثالهم حتى وصلت إلى الحلاّج واقرانه إلى ان نبغ في القرون الوسطى محي الدين العربي وتلميذاه القونوي(23) والقيصري(24) فجعلوها فناً من الفنون والمؤلفات الضخام كالفتوحات المكية وغيرها، والمتون المختصرة كالفصوص والنصوص التي شرحها ونقحها صدر الدين القونوي، وانتشرت وعند عرفاء القرون الوسطى من العبر كابن الفارض وابن عفيف
التلمساني(25) وغيرهما، ومن الفرس كثير لا يحصى عددهم كالعطار(26) والهاتف(27) والجامي(28) واضرابهم واحسن من ابدع فيها نظماً العارف التبريزي الشبستري في كتابه المعروف (كلشن راز) وخلاصة هذه النظرية ان تلك الطائفة لما ارادوا ان يبالغوا ويبلغوا اقصى مراتب التوحيد الذي ما عليه من مزيد، وان لا يجعلوا للحق شريكاً لا في الربوبية كما هو المعروف عند ارباب الاديان بل نفوا الشريك له حتى في الوجود فقالوا لا موجود سوى الحق، وهذه الكائنات من المجردات والماديات من ارضين وسماوات، وما فيها من الافلاك والانسان والحيوان والنبات بل العوالم باجمعها كلها تطوراته وظهوراته وليس في الدار غيره ديار، وكل ما نراه أو نحس به أو نتعقله لا وجود له،وانما الوجود والموجود هو الحق جل شأنه، ونحن اعدام وليس وجودنا الا وجوده.

ما عد مهائيم وهستيها نما

 

تو وجود مطلق وهستى ما

 

كه همه اوست ونيست جزاو

 

وحده لا اله الا هو

 

وقد تفنن هؤلاء العرفاء في تقريب هذه النظرية إلى الاذهان وسبحوا سبحاً طويلاً في بحر هذا الخيال، وضربوا له الامثال (فصوروه) تارة بالبحر وهذه العوالم والكائنات كامواج البحر فأنها ليست غير البحر وتطوراته؛ وليس الأمواج شيء سوى البحر فأذا تحرك ظهرت، واذا سكن عدمت واندحرت، وهو معنى الفنـاء المشـار اليـه بقوله تعالى:

[كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ  وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ](29) يفنى وجه الممكن ويبقى وجه الواجب.

جه ممكن كرد امكان برفشاند

بجز واجب ديكر جيزي نمامد

 نعم الأمواج تطورات البحر لا شيء موجود غير وجود البحر.

جه درياي است وحدت ليك برخون

كزاو خيزد هزاران موج مجنون

 

هزاران موج خيزد هردم از وى

 

نكردد قطرة هركز كم از وى

 

قالوا: الوجه واحد والمرايا متعددة.

وما الوجه الا واحد غير انه

 

اذا انت عددت المرايا تعددا

 

وكذلك العدد ليس الا تكرار الواحد إلى ما لا نهاية له:

وجود اندر كما خويش ساري است

 

تعينها امور اعتباري است

 

امور اعتباري نيست موجود

 

عدد بسيار ويكجيز است معدود

 

 جه واحد كشته در اعداد ساري

ومن هذا القبيل التمثيل بالشعلة الجوّالة التي ترسم دائرة نارية من سرعة حركتها وليست هي الا تلك الشعلة الصغيرة.

همه از وهم تو اين صورت غير
ج

جه نقطه دائره است از سرعت سير

 

والوجود واحد والموجود واحد له ظهورات وتطورات، يترآئى انها كثرت وليست الا الذات ومظاهر الأسماء والصفات وشؤون الجمال والجلال والقهر واللطف؛ وقد رفع الكثير منهم حجب الأستار عن هذه الأسرار حتى ان محي الدين العربي(30) عبّر عن كل هذا بتغيير كلمة في البيت المشهور(31):

وفي كل شيء له آية

 

تدل على انه واحد

 

        فقال: (تدل على انه عينه) ثم تحامل وتقحم إلى ما هو اصرح واعظم حيث قال:

سبحان من حجّب ناسوته

 

نور سنا لاهوته الثاقب

 

ثم بدا في خلقه بارزاً

 

بصورة الآكل والشارب

 

ومشى على السبيل المتوعر كثير من شعراء العرب وعرفائهم في القرون الوسطى يحمل رايتهم ويفرضها ابن الفارض(32) في اكثر شعره ولا سيما تائيته الصغرى والكبرى التي يقول فيها:

هو الواحد الفرد الكثير بنفسه

 

وليس سواه ان نظرت بدقة

 

بدا ظاهراً للكل في الكل بيننا

 

نشاهده بالعين في كل ذرة

 

فكل مشاهد محسوس من الذرو إلى الذرى ومن العرش إلى الثرى هي اطواره وانواره ومظـاهره وتـجلياته وهو الـوجود الـحق المـطلق ولا شـيء غـيره فاذا قلت لهـم  فالأصنام والأوثان يقول لك العارف الشبستري:

مسلمان كربد انستي كه بت جيست

 

بدانستي كه دين دربت برستيست

 

واذا قلت فالقاذورات قاوا نور الشمس اذا وقع على النجاسة هو ذلك النور الطاهر ولا تؤثر عليه النجاسة شيئاً.

نور خورشيد أر بيفتد بر حدث

 

نور همان نور است نبذ يرد خبث

 

 وما اكتفوا بهذه التمثيلات والتقريبات حتى اخضعوا هذه النظرية المتمردة على العقول لسلطان البرهان الساطع والدليل القاطع وبيانه بالتنقيح وتوضيح منا بعد مقدمّّّتين وجيزتين:

(الاولى): ان الوجود والعدم نقيضا والنقيضان لا يجتمعان ولا يقبل احدهما الآخر بالضرورة فالوجود لا يقبل العدم، والعدم لا يقبل الوجود يعني ان الموجود يستحيل ان يكون معدوماً والمعدوم يستحيل ان يكون موجوداً والا لزم ان يقبل الشيء ضده ونقيضه وهو محال بالبداهة.

(الثانية):ان قلب الحقائق مستحيل، فحقيقة الانسان يستحيل ان تكون حجراً, وحقيقة الحجر تستحيل ان تكون انساناً، وهذا لمن تدبره من أوضح الواضحات، فالعدم يستحيل ان يكون وجوداً، والوجود يستحيل ان يكون عدماً، وبعد وضوح هاتين المقدمتين نقول: لو كان لهذه الكائنات المحسوسة وجود بنفسها لاستحال عليها العدم لان الوجود لا يقبل العدم وهو منافر له وضد له بطبيعته، مع اننا نراها بالعيان توجد وتعدم وتظهر وتفنى فلا محيص من الالتزام بأنها غير موجودة وليس الموجود الا وجود واجب الوجود الازلي الحق الذي يستحيل عليه العدم بطبيعة ذاته المقدسة وكل ما نراه من هذه الكائنات التي نحسبها بالوهم موجودة هي اطواره ومظاهره يفيضها ويقبضها يبقيها ويفنيها ويأخذها ويعطيها وهو المانع والمعطي والقابض والباسط وهو على كل شيء قدير وكل شيء هالك الا وجهه، وكل الاشياء تجلياته وظهوراته واشراقاته وانواره وكل الكائنات والممكنات كلها مضافة اليه بالاضافة الاشراقية لا المقولية اطرافها اثنان لا ثلاثة وسواء قلنا بان هذا البرهان صخرة صماء لا تمسه أظافر الخدشة أو ان للمناقشة فيه مجال فهو برهان منطقي على اصول الحكمة والمنطق هذا عدا ما يدعونه من الشهود والمكاشفة والعيان الذي هو اسمى من الدليل والبرهان اذ يقولون ان الدليل عكازة الاعمى:

باي استدلاليان جو بين بود

 

باي جوبين سخت بي تمكين بود(33)

 

زهى احمق كه أو خورشيد تابان

 

بنور شمع جويد در بيابان

 

در آن جائي كه نور حق دليل است

 

جه جاي كفتكوي جبرئيل است

 

سبحانك أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك ومتى بعدت حتى تحتاج الى ما يوصلنا اليك، عميت عين لا تراك ولا تزال عليها رقيباً(34).

ومع هذا كله فان علماء الظاهر وامناء الشرع يقولون ان سالك هذا الطريق كافر زنديق وهذه الطريقة اعني وحدة الوجود والموجود عندهم زندقة والحاد، تضاد عامة الشرائع والأديان مهما قام عليها الدليل والبرهان، اذ حينئذ اين الرب والمربوب، أين الخالق والمخلوق، وما معنى الشرائع والتكاليف، وما هو الثواب والعقاب، وما الجنة والنار، وما المؤمن والكافر، والشقي والسعيد، إلى آخر ما هنالك من المحاذير واللوازم الفاسدة، ولعل هذا هو مدرك ما ذكره السيد الأستاذ(قدس سره) ((في العروة الوثقى)) ما نصه(35) (القائلين بوحدة الوجود من الصوفيّة اذا التزموا بأحكام الاسلام فالأقوى عدم نجاستهم) واذا احطت خبراً بما ذكرنا تعرف ما في هذا وامثاله من كلمات الفقهاء رضوان الله عليهم، واني لا ارى من العدل والأنصاف، ولا من الورع والسداد، المبادرة إلى تكفير من يريد المبالغة في التوحيد وعدم جعل الشريك لله تعالى في كل كمال والكمال والوجود كله لله وحده لا شريك له، ومع ذلك فهم يؤمنون بالشرائع، والنبوات والحساب، والعقاب، والثواب، والتكاليف، بأجمعها على ظواهرها فالحقيقة لا تصح عندهم ولا تنفع بدون الطريقة والطريقة لا تجدي بدون الشريعة والشريعة هي الأساس وبها يتوصل ملازم العبادة، إلى اقصى منازل السعادة وعندهم في هذه المسائل مراحل منازل وتحقيقات انيقة وتطبيقات رشيقة ومعارج يرتقي السالك بها إلى اسمى المناهج ومؤلفات مختصرة ومطولة فوق حد الاحصاء نظماً ونثراً واذكار سراً وجهراً ورياضات ومجاهدات لتهذيب النفس وتصفيتها كي تستعد للحوق بالملأ الأعلى والمبدأ الأول وهناك من البهجة والمسرة والجمال والجلال ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وههنا اسرار عميقة ومباحث دقيقة لا تحيط بها العبارة ولا تدركها الإشارة فلنتركها لاهلها، ونسأله تعالى ان يفيض علينا من فضله بفضلها، نعم لا ريب ان كل طائفة اندس فيها من ليس من اهلها من الدخلاء، واهل الأهواء حتى يكاد ان يغلبوا على اربابها الأصحاء، فلا ينبغي ضرب الجميع بسهم واحد وأخذهم أو نبذهم على سواء كما ان بعض ان بعض المتطرفين المتوغلين في الغرام والهيام والشوق إلى ذلك المقام الأسمى قد توقدت شعلة المعرفة في قلوبهم فلم يستطيعوا ضبط عقولهم والسنتهم فصدرت منهم شطحات لا تليق بمقام العبودية مثل قول بعضهم (انا الحق) (وما في جبتي الا الحق) واعظم منها في الجرأة والغلظ والشطط قول بعضهم (سبحاني ما أعظم شأني) وهذه الكلمات قد حملها الثابتون منهم على انها صدرت من البعض حالة المحو لا حالة الصحو، وفي مقام الفناء في الذات، لا في مقام الاستقلال والثبات، ولو صدرت في غير هذه الحال لكانت كفراً، على ان المنقول عن الحلاج(36) انه قال للذين اجتمعوا على قتله اقتلوني فأن دمي لكم مباح لأني قد تجاوزت الحدود ومن تجاوز الحدود (اقيمت عليه الحدود) ولكن العارف الشبستري(37) التمس العذر لهذه الشطحات وجملها على احسن وجه حيث قال:

انا الحق كشف ان اسرار مطلق

 

بجز حق كيست تاويد انا الحق

 

روا باشد انا الحق از درختي

 

جرا نبود روا از نيك بختي

 

يقول من ذا يستطيع غير الحق ان يقول انا الحق واذا صح وحسن من الشجرة ان تقول انا الله فلماذا لا يحسن ذلك من العارف الحسن الحظ وحقاً اقول انَّ من اجال فكره وامعن النظر في جملة من آيات القرآن العزيز وكلمات النبي والأئمة المعصومين (عليهم السلام)وادعيتهم واورادهم سيجد في الكثير منها الإشارة إلى تلك النظرية  العبقرية، وقد شاعت كلمة رسول الله (ص) وهي قوله (ع): (اصدق كلمة قالها شاعر قول لبيد)(38):

(الا كل شيء ما خلا الله باطل)(39)

 وقد تضمنت هذه الكلمة في طياتها كل ما قاله العرفاء الشامخون من ان الأشياء اعدام اذ ليس الباطل الا العدم وليس الحق الاّ الوجود فالأشياء كلها باطلة واعدام وليس الحي والموجود الا واجب الوجود وهذا كل ما يقوله ويعتقده اولئك القوم افاض الله سبحانه هذه الكلمة على لسان ذلك الشاعر العربي الذي عاش اكثر عمره في الجاهلية وادرك في أخريات حياته شرف الإسلام فأسلم وقد صدق تلك الجوهرة الثمينة الصادق الأمين ومثلها كلمة ولده صادق اهل البيت (عليهم السلام) (العبودية جوهرة كنهها الربوبية) بل لو امعنت النظر في جملة من مفردات القرآن المجيد تجدها وافية بذلك الغرض واضحة جلية مثل قوله تعالى: [كُلُّ منْ عَلَيْهَا فَانٍ](40) و[كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ](41) فان المشتق حقيقة فيمن تلبس بالمبدأ حالاً فكل شيء فان فعلاً وهالك حالاً لا أنه سوف يهلك ويفنى.

ومهما أحاول ان اوضح الحقيقة أجدها عنّي ابعد من الشمس بيد انها اجلى منها وانّى لهذا اليراع القصير والعقل الصغير ان يجرأ فيتناول جرعة من ذلك البحر الغزير يا من بعد في دنوه، ودنى في علوه، ربنا عليك توكلنا واليك انبنا واليك المصير، سبحانك لا احصى ثناء عليك انت كما اثنيت على نفسك وفوق ما يقول القائلون وانا لله وانا اليه راجعون.

وحيث وفقنا جلّ شأنه لذكر ثلاث مسائل مهمة من مسائل الحكمة نشرت بهذا (الفردوس) وهي قاعدة الواحد لا يصدر عنه الا الواحد ومعنى العقول العشرة، ووحدة الوجود والموجود، رأينا من المناسب ان نعززهن برابعة من معضلات الشرع والدين والتي قصرت عنها في الغالب الأدلة والبراهين وهي قضية (المعاد الجسماني) التي ينسب إلى الشيخ الرئيس ابو علي بن سينا (رحمه الله) انه قال ما مضمونه ان العقل قاصر عن اثباتها ولا تتم الا من ناحية الشرع.

المعاد الجسماني

  المهّم و الاعضال في هذا الموضوع هو تصور كيف يعود هذا الجسم العنصري التي تعتور عليه الاطوار والادوار المختلفة المتنوعة التي ينتقل فيها من دور إلى دور لا يدخل في واحد الا بعد مفارقة ما قبله ولا يتشكل الا بشكل يباينه ما بعده ينشأ جنيناً، ثم طفلاً رضيعاً ثم صبياً وغلاماً، ثم شباباً وكهلاً، ثم شيخاً وهرماً، فبأي صورة من هذه الصور يبعث وأي جسم من هذه الأجسام يعود؟ ثم كيف يعود؟ وقد تفرق ورجع كل شيء إلى أصله غازاً أو تراباً، وكل ما فيه من عناصر، ولو جمعت كلها واعيدت فهو خلق جديد وجسد حادث، غايته انه مثل الأول لا عين الأول، مضافاً إلى الشبهات الكثيرة، كاستحالة اعادة المعدوم، وشبهة الآكل والمأكول وغير ذلك، وحيث ان الاعتقاد بالمعاد روحاً وجسماً يعدّ من اصول الدين الخمسة، أو من دعائم الإسلام الثلاثة التوحيد، والنبوة، والمعاد، ومهما كان فلا مجال للشك بأن المعاد الجسماني على الأجمال من ضروريات دين الإسلام، وهل الضروري من الدين الا ما يكون التديّن بذلك الدين مستلزماً للاعتقاد والتدين به مثلاً وجوب الصلاة من ضروريات دين الإسلام فهل يعقل الالتزام بدين الإسلام مع عدم الالتزام بوجوب الصلاة؟ والتصديق بنبوة النبي (ص) عبارة عن التصديق عن كل ما جاء به حق وهو من الله جلّ شأنه وهذا القدر يكفي في الاعتقاد بالمعاد ولا حاجة إلى اكثر من هذا للخروج من عهدة التكليف الشرعي أو العقل ولا يلزم معرفة كيف يعود؟ ومتى يعود؟ واين يعود؟ فأن التكليف بمعرفتها تكليف شاق على الخواص فكيف بغيرهم فأنه يكاد يكون تكليفاً بما لا يطاق والعلم اللازم في اصول الدين لا يقدح فيه الجمال ولا يلزم فيه ان يكون قادراً على البرهنة والاستدلال بل يكفي فيه حصوله من أي سبب كان وعدم جواز التقليد في اصول الدين يراد منه عدم كفاية الظن ولزوم القطع واليقين لا لزوم اقامة الحجج والبراهين، والغاية من هذا البيان والغرض الأقصى به انه لا يجب على المكلفين ولا سيما العوام البحث عن كيفية المعاد الجسماني بل قد لا يجوز لهم ذلك كسائر قضايا القواعد النظرية والمباحث الحكمية مثل قضية القضاء والقد والخير والشر والاختيار والجبر وما إلى ذلك من المعضلات العويصة اذ قد تعلق الشبهة بذهن احدهم(42) ولا يقدر على التخلص منها فيكون من الهالكين كما هلك ابليس اللعين بشبهة خلقتني من نار وخلقته من طين، فالأولى بل الأسلم هو الالتجاء إلى العلم الحاصل من النقل من كتاب وسنة واعتبارات يستفاد من مجموعها اليقين بأن المعاد الجسماني مثلاً من اصول الدين ويلتزم به ويقف عند هذا الحد وعلى هذه الجملة والأجمال لا يتجاوزه إلى تفاصيل الأحوال، اما الاستدلال عليه كما قد يقال: بأنه ممكن عقلاً وقد اخبر به الصادق الأمين فيجب تصديقه فهو دليل لا مناعة فيه لدفع الأشكال فأن المانع يمنع الصغرى ويدعى انه ممتنع عقلاً اما لاستحالة اعادة المعدوم أو لغير ذلك من المحاذير المعروفة وحينئذ فاذا ورد ما يدل عليه بظاهر الشرع فاللازم تأويله كي لا يعارض النقل دليل العقل كما في سائر الظواهر القرآنية مثل يد الله فوق ايديهم والرحمن على العرش إلى كثير من امثالها مما هو ظاهر في التجسيم المستحيل عقلاً اذاً أليس الأسد والأسعد للأنسان القاعة بالسنة والقرآن وترك البحث والتعمق وطلب التفصيل في كل ما هو من هذا القبيل؟ ولعل هذا المراد من الكلمة المأثورة(43) ((عليكم بدين العجائز)) أي اعتقاد الطاعنين أو الطاعنات في السن فأن من نشأ على عقيدة وشب وشاب عليها تكون في اقصى مراتب الرسوخ والقوة، ولا تزيله كل الشبهات والتشكيكات عنها، وان كانت العقيدة عنده مجردة عن كل دليل بل تلقاها من الآباء والأمهات انّا وجدنا آباءنا على امة وانّا على آثارهم مقتدون، ولعل في الكلمة (العجائز) تلميحاً ايضاً إلى العجز عن اقامة الدليل، فأن اهل الاستدلال والصناعات العلمية غالباً اقرب إلى التشكيك من اولئك البسطاء المتصلبين في عقائدهم غلطاً كانت في الواقع أو صواباً ولذلك كان الأنبياء (عليهم السلام) يقاسون انواع البلاء واشد العناء في اقناع امتهم بفساد عقائدهم واقلاعهم عنها من عبادة الأصنام أو غيرها، والبساطة في كل شيء اقرب إلى البقاء والدوام من التركيب والأنضمام، والبسائط اثبت من المركبات، لقبول الأجزاء الانحلال والتفكك، ولعل هذا هو السبب في جعل الاعتماد في الاعتقاد بالمعاد والجسماني منه خاصة على ظواهر الشرع والأدلة النقلية دون العقلية من بعض اكابر الحكماء كالشيخ ابن سينا (قدس سره) حيث قال في المقالة التاسعة من الهيات الشفاء (فصل المعاد) وبالحرى اننا نحقق ههنا احوال النفس الإنسانية اذا فارقت ابدانها وانها إلى أي حالة تعود فنقول: يجب ان نعلم ان المعاد منه ما هو مقبول من الشرع ولا سبيل إلى اثباته الا من طريق الشريعة وتصديق خبر النبوة وهو الذي البدن عند البعث وخيرات البدن وشروره معلومة وقد بسطت الشريعة الحقة التي اتانا بها سيدنا ونبينا ومولانا محمد بن عبد الله (ص) حال السعادة والشقاوة التي بحسب البدن، ومنه ما هو مدرك بالعقل والقياس البرهاني وقد صدقته النبوة وهما السعادة أو الشقاوة التي للأنفس انتهى محل الحاجة منه. وعليه فمن حصل له الاعتقاد بالمعاد من الأدلة السمعية ولم تعرض له فيه شبهة توجب تشكيكه لرسوخ عقيدته وقوتها فقد وفق واصاب، وبلغ النصاب، ولا ينبغي بل قد لا يجوز له الخوض في الأدلة العقلية والأصول النظرية ولكن من عرضته الشبهة واعتقد بالاستحالة والامتناع عقلاً وانه لا بد من تأويل الظواهر الشرعية كي لا يتنافى الشرع مع العقل ويسقط عنده قول المستدل: انه ممكن واخبر به الصادق الأمين لاندفاعه عنده بما اشرنا اليه قريباً فلا بد حينئذ من رفع هذه الدعوى اعني دعوى الاستحالة والامتناع وأثبات انه ممكن عقلاً بل واقع فاللازم اثبات امكانه الذاتي وامكانه الوقوعي ابقاء للأدلة الشرعية على ظواهرها، وقطع ايدي التأويل عن منيع مقامها.

وحيث ان الحاجة إلى النظر في هذه القضية لا بد ان يكون من غير الظواهر النقلية بل من المبادئ العقلية، فأعلم أو لا ان الأقوال في المعاد اربعة:

احدهما: انكاره مطلقاً لا جسماً ولا روحاً، وهو قول جميع الملاحدة والطبيعيين الذين ينكرون المبدأ، فكيف المعاد وهما متلازمان في المفاد وبينهما اقوى مراتب الاتحاد واثبات المبدأ يكفي في ابطال هذا القول. راجع الجزء الأول من (الدين والإسلام) تجد فيه لأثبات الصانع ما يغنيك عن غيره، بأجلى بيان، واقوى برهان.

ثانيها: اثبات المعاد الروحاني فقط نظراً إلى ان الأرواح مجرّدة والمجرد باق، والجسم مركب من عناصر شتى، واذا فارقته الروح، ودخلت في عالم المفارقات انحل هذا المركب ولحق كل عنصر بأصله. وانعدم وتلاشى ذلك المركب، وانعدمت تلك الصورة، والمعدوم يستحيل عوده، والروح باقية، وهي التي تعاد للحساب وانجاز عملية الثواب والعقاب، ولعل إلى هذا الرأي المثالي أو الخيالي بشير المعلم الثاني ابو نصر الفارابي (قدس سره)(44) في ارجوزته التي يقول فيها.

اصبح في بلابلي وامسي

 

أمسي كيومي وكيومي امسي

 

يا حبذا يوم حلول رمسي

 

مطلع سعدي ومغيب نحسي

 

من عرض يبقى بدار الحس

 

وجوهر يرقي لدار القدس

 

وكل جنس لاحق لجنس

 

 

ويعني بالعرض الجسم التعليمي، ذا الأبعاد الثلاثة، والكيفيات الخاصة وهو الذي تتفرق بالموت أجزاؤه، ويلحق كل جزء باصله من العناصر ولم يعلم رأيه انها تعود أو لا تعود وكيف تعود، وعلى كل فبطلان هذا القول يبتنى على منع صيرورة البدن معدوماً بالموت أو بعد الموت كما سيأتي قريباً ان شاء الله تعالى.

ثالثها: القول بالمعاد الجسماني فقط، وهو مذهب جميع أهل الظاهر من المسلمين وبعض المتكلمين، وهو لازم كل من أنكر وجود النفس والروح المجردة، بل أنكر وجود كل مجرد سوى الله (فلا مجرد الا الله) أما الملائكة، والعقول، والنفوس والارواح، فكلها أجسام، غايته انها تختلف من حيث اللطافة والكثافة والعنصرية والمثالية، يظهر هذا من كلمات عدة من العلماء ولكني أجلهم عن ذلك؛ وكلماتهم محمولة على غير ما يترائى منها، ومغزاها معاني اخرى جليلة(45).

رابعها: وهو احقها واصدقها اثبات المعادين الجسماني والروحاني أي معاد هذا الجسد الذي كان في الدنيا بروحه وجسمه! فيعود للنشر يوم الحشر كما كان، ويقف للدينونة بين يدي الملك الديان كما هو ظاهر جميع ما ورد في القرآن الكريم من الآيات الدالة على رجوع الخلائق إلى الله عز شأنه والرد على منكري البعث والمعاد لمحض العناد، أو الاستبعاد أو اخذاً بقضية استحالة اعادة المعدوم المرتكزة في الأذهان، وقد رد عليهم الفرقان المحمدي بأنحاء من الأساليب البليغة البالغة، إلى اقصى مراتب البلاغة والقوة، يعرفها من يتلو القرآن بتدبر وامعان، وحيث انّ غرضنا المهم من تحرير هذه الكلمات هو اثبات الأمكان، ودفع الأستحال؛ كي تبقى ظواهر الأدلة على حالها، لذلك لم نتعرض لسرد تلك الآيات النيّرات واتجهنا إلى تلك الوجهة، ودحض تلك الشبهة، بأوضح بيان، واصحّ برهان، ومنه تعالى نستمد وعلى فضل فيضه نعتمد، ونقول: حيث انّ من الواضح المعلوم بل المحسوس لكل ذي حس، ان كل شخص من البشر مركب من جزئين، الجزء المحسوس وهو البدن العنصري الذي يشاهد بعين الباصرة ويشغل حيزا من الفضاء، وجزء آخر يحس بعين البصيرة ولا تراه عين الباصرة، ولكن يقطع كل احد بوجود شيء في الانسان، بل والحيوان غير هذا البدن، بل هو المصرف والمتصرف في البدن، ولولاه لكان هذا البدن جماداً لا حس فيه ولا حركة ولا شعور ولا ارادة؛ اذاً فيلزمنا للوصول إلى الحقيقة والغاية المتوخاة البحث عن هذين الجزئين فأذا عرفنا هما حق المعرفة فقد عرفنا كل شيء واندفع كل اشكال ان شاء الله. (واليك البيان) يشهد العيان والوجدان وهما فوق كل دليل وبرهان واليهما منتهى اكثر الأدلة ان هذا البدن المحسوس الحي المتحرك بالإرادة لا يزال يلبس صورة ويخلعها وتفاض عليه اخرى وهكذا لا تزال تعتور عليه الصور منذ كان نطفة فعلقة فعظاماً فجنيناً فمولوداً فرضيعاً فغلاماً فشاباً فكهلاً فشيخاً فميتاً فتراباً، تكونت النطفة من تراب، ثم عادت إلى التراب، فهو لا يزال بعد أن انشأه باريه من امشاج ليبتليه فجعله سميعاً بصيراً، اما شاكراً أو كفوراً، في خلع ولبس، افعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد يخلع صورة ويلبس أخرى وينتقل من حال إلى حال ومن شكل إلى آخر مريضاً تارة وصحيحاً وهزيلاً وسميناً وابيضاً واسمراً وهكذا تعتوره الحالات المختلفة، والأطوار المتبائنة، وفي كلّ ذلك هو هو لم تتغير ذاته وان تبدلت احواله وصفاته فهو يوم كان رضيعاً هو يوم صار شيخاً هرماً لم تتبدل هويته ولم تتغير شخصيته بل هناك اصل محفوظ يحمل كل تلك الأطوار والصور، وليس عروضها عليه وزوالها عنه من باب الإنقلاب فان انقلاب الحقائق مستحيل فصورة المنويّة لم تنقلب دموّية أو علقية ولكن زالت صورة المني وتبدلت صورة الدم وهكذا فالصور متعاقبة متبادلة لا متعاقبة منقلبة (اذ صورة لصورة لا تنقلب) وهذه الصور كلها متعاقبة في الزمان لضيق وعائه مجتمعة في وعاء الدهر لسعته والمتفرقات في وعاء الزمان مجتمعات في وعاء الدهر ولا بدّ من محل حامل وقابل لتلك الصور المتعاقبة ما شئت فسمه مادة أو هيولي أو الأجزاء الأصلية كما في الخبر الآتي ان شاء الله وكما أن المادة ثابتة لا تزول فكذلك الصور كلها ثابتة في محلها في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا احصاها وقد عرفت في ما مرّ عليك من المباحث ان الشيء لا يقبل ضده والموجود لا يصير معدوماً والمعدوم لا يصير موجوداً وانقلاب الحقائق مستحيل.

ثم انّ هذا البدن المحسوس العنصري لا ريب في انه يتحصل من الغذاء وانّ اجزاءه تتحلل وتتبدل فهذا الهيكل الجسماني بقوة الحرارة الغريزية التي فيه المحركة القوى الحيوانية العاملة في بنائه وحفظه وتخريبه وتجديده كالجاذبة والهاضمة والدافعة والماسكة وغيرها لا يزال في هدم وبناء واتلاف وتعويض كما قال شاعرنا الحكيم في بيته المشهور:

والمتلف الشيء غارمه

 

وقاعدة: المتلف ضامن

 

وفي بيان أوضح انّ علماء (الفيزيولوجيا) علم أعضاء الحيوان قد ثبت عندهم تحقيقاً انً كل حركة تصدر من الانسان بل ومن الحيوان يلزمها يعني تستوجب احتراق جزء من المادة العضلية والخلايا الجسمية وكلّ فعل ارادي أو عمل فكري لا بد وان يحصل منه فناء في الأعصاب واتلاف من خلايا الدماغ بحيث لا يمكن لذرة واحدة من المادة ان تصلح مرتين للحياة ومهما يبدو من الإنسان بل مطلق الحيوان عمل عضلي أو فكري فالجزء من المادة الحية التي صرفت لصدور هذا العمل تتلاشى تماماً ثم تأتي مادة جديدة تأخذ محل التالفة وتقوم مقامها في صدور ذلك العمل مرة ثانية وحفظ ذلك الهيكل من الأنهيار والدمار وهكذا كلما ذهب جزء خلفه آخر خلع ولبس كما قال عزّ شأنه [أَفَعَيِينَا بِالْخلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ](46) ويكون قدر هذا الاتلاف بمقدار قوة الظهورات الحيوية والأعمال البدنية فكلمّا اشتد ظهور الحياة وتكثرت مزاولة الأعمال الخارجية ازداد تلف المادة وتعويضها وتجديدها ومن هنا تجد ارباب الأعمال اليدويّة كالبنائين والفلاحين واضرابهم اقوى اجساماً واعظم ابداناً بخلاف ذوي الأعمال الفكرية الذين تقل حركاتهم وتسكن عضلاتهم ثم انّ هذا التلف الدائم لا يزال يعتوره التعويض المتصل من المادة الحديثة الداخلة في الدم المتكونة من ثلاث دعائم من دعائم الحياة واسسها الجوهرية الهواء، والماء، والغذاء، ولو فقد الأنسان واحداً منها ولو بمدة قصيرة هلك وفقدت حياته.

وهذا العمل التجديدي عمل باطني سريّ لا يظهر في الخارج الا بعد دقة في الفكر، وتعمق في النظر، ولكن عوامل الإتلاف ظاهرة للعيان يقال عنها انها ظواهر الحياة، وما هي في الحقيقة الا عوامل الموت، لأنها لا تتم الاّ باتلاف اجزاء من انسجتنا البدنية واليافنا العضوية فنحن في كل ساعة نموت ونحيا ونقبر وننشر، حتى تأتينا الموتة الكبرى، ونحيا الحياة الأخرى، اذاً فنحن بناء على ما ذكر في وسط تنازع هذين العاملين. عامل الأتلاف، وعامل التعويض، يفني جسمنا، ويتجدد في مدار الحياة عدة مرات، بمعنى انّ جسمنا الذي نعيش به من بدء ولادتنا إلى منتهى اجلنا في هذه الحياة تفنى جميع اجزائه في كل برهة وتتحصل اجزاء يتقوم بها هذا الهيكل ليس فيها جزء من الأجزاء السابقة، ولا يمكن تقدير هذه البرهة على التحقيق يعني أي مقدار به تتلاشى تلك الأجزاء جميعاً وتتجدد غيرها بموضعها نعم لا نعلم ذلك ولكن ينسب إلى الفيزلوجي (موليشت)(47) انّ مدة بقائها ثلاثين يوماً ثم تفنى جميعاً ونقل عن (فلورنس)(48) انّ المدة سبع سنين وقد اجرى العلماء المحققون في هذه الاعصار الامتحانات الدقيقة في بعض الحيوانات كالرانب وغيرها فأثبت لهم البحث والتشريح تجدد كلً انسجتها بل وحتى عظامها ذرة ذرة في مدة معينة، فكيف يتفق هذا مع ما يرتئيه الماديون ومنكرو النفس المجردة في زعمهم انّ الذاكرة قوة تنشأ من اهتزازات فسفورية تخزن في الخلية العصبية من الدماغ عند وصول التأثيرات الخارجية اليها، نعم كيف يجتمع هذا مع ما تقرر في الفن وشهد به الاختبار والاعتبار من ان كل ما فينا من الانسجة والعظام والخلايا العصبية تتلاشى ثم تجدد بمدة معلومة اقصى ما تجدد به السبع سنوات، ولو كانت قوة التذكر والتفكر مادية وقائمة في خلايا الدماغ لكان اللازم ان تضطر في كل سبع سنين إلى تجديد كل ما علمناه وتعلمناه سابقاً، والحالة المعلومة بالضرورة والوجدان عندنا ان سيال المادة المتجدد والمجدد لما يندثر منا على الاتصال لم يحدث ادنى تغيير في ذاكرتنا، ولم يطمس أي شعلة من علومنا ومعرفنا، ولعمري ان هذا الاقوى دليل على وجود قوة فينا مدركة شاعرة مجردة عن المادة باقية بذاتها، مستقلة في وجودها، بقيّومة مبدئها، محتاجة إلى آلاتها المادية في تصرفها متحدة معها في ادنى مراتبها، ودثور المادة لا يستوجب دثورها، ولا دثور شيء من كمالاتها وملكاتها، ولا من مدركاتها، ولا من معلوماتها، كيف لا ولا تزال تخطر على بالنا في وقت الهرم امور وقعت لنا ايام الشباب بل ايام الصبا وما قبله، وكيف كان فان من الوضوح بمكان ان كل ما فينا يؤيد ثبات شخصيتنا وعدم تغيرها مع تغير وتبدل جميع ذرات اجسامنا، ولمزيد الايضاح وبيان ما يتفرع على هذا الاصل الرصين لا بد لنا من ذكر اصول في فصول للحصول على الوصول إلى حل عقدة المعاد الجسماني التي أعضل حلها كما عرفت على اكبر حكماء الاسلام.


(5) طلب مني غير واحد من الفضلاء ان اكتب عن هذه المسألة المعضلة((مسألة وحدة الوجود أو الموجود من معضلات المسائل العلمية والمباحث الغامضة ومقصود شيخنا الامام (دام ظله) في هذا المقام هو بيان هذه المسألة وتشريح هذه النظرية وبحثها بحثاً علمياً تحليلياً على حسب معتقد القائلين بها واظهار حقيقة رأيهم حول هذا الاعتفاد كما يعتقدون انفسهم باجلى بيان واوضح عبارة. ( القاضي الطباطبائي))) ما يندفع به اشكالها ويرتفع اعضالها وكنت في حدود سنة الرابعة اوالخامسة وخمسين بعد الالف وثلاثمائة بعد رجوعنا من المؤتمر الاسلامي في القدس كتبت مقالة ضافية وافية نشرها الفاضل الاديب (تاج الدين الفاروقي) في صحيفته الغراء (الجامعة الاسلامية)التي كانت تصدر في (يافا) ولكن ذهب ذلك العدد ولا يحضرني حالاً ولذا الجأني ذلك إلى كتابتها مجدداً وكتبنا شيئاً عنها في اجوبة الفاضل الاديب (احمد حامد الصراف) وهي مرسومة في دائرة المعارف العليا من مجاميعنا.

(منه دام ظله العالي)

(6) عز الدولة سعد بن منصور بن سعد بن الحسن بن هبة الله بن كمونة البغدادي الشهير بـ(ابن كمونة) له مؤلفات بخطه في الخزانة الغروية في النجف الاشرف انظر كتاب (خزائن الكتب القديمة في العراق ص135ط بغداد) لمؤلفه البحّاثة العراقي كوركيس عواد عضو المجمع العلمي العربي بدمشق ــ يظهر منها اسلامه وحسن عقيدته وجدّه الاعلى هبة الله بن كمونة الاسرائيلي كان من فلاسفة اليهود في عصر الشيخ الرئيس ابن سينا وصاحب الشبهات المعروفة ونسب إلى عز الدولة كتاب (تنقيح الابحاث في البحث عن الملل الثلاث) انظر كشف الظنون ج1 ص495 ط اسلامبول سنة(1360)هـ، والحوادث الجامعة ص441 ط بغداد وفي الذريعة لشيخنا البحّاثة الكبير مد ظله ج2 ص97 ــ 286 ــ 358 ط نجف وايضاً ج4 ص460 ط طهران، ان نسبة هذا الكتاب اليه من تهمة العوام له وله شرح الاشارات فرغ منه سنة (679)هـ، واهداه لشمس الدين الجويني صاحب ديوان الممالك وتوفي سنة (690)هـ أو (683)هـ فلا وجه لما في كشف الظنون انه توفي سنة (676)هـ ومن ملاحظة ما ذكرناه على الاجمال وكذا المصادر التي اوعزنا اليها يظهر مواضع الخلل فيما ذكره اللغوي المعاصر (دهخدا) في كتابه الكبير الفارسي (لغت نامة) ج1 ص343 ط طهران فراجع.

القاضي الطباطبائي

(8) مولانا محمد باقر الحسيني الشهير بــ(الداماد) سيد الحكماء ومن أعظم رؤساء الدين له مقام شامخ في العلوم ومرتبة سامية في الفقاهة والرياسة والسياسة له مؤلفات نفيسة توفي سنة (1041)هـ، انظر سلافة العصر ص485 ــ 487ط مصر. الاعلام الزركلي ج3 ص868 ط مصر.

(9) محمد بن ابراهيم صدر الدين الشيرازي الشهير بــ(ملا صدرا) و(صدر المتألهين) أكبر فيلسوف عارف متشرع أعلم حكماء الاسلام وافضلهم وهو امام من تأخر عنه واقتفى أثره كل من نشأ بعده من حكماء الامامية توفي سنة (1050)هـ انظر روضات الجنات ص331 ط 1 ــ طهران.

(12) المولى هادي بن مهدي السبزواري من اكبر حكماء الامامية الفيلسوف الفقيه العارف صاحب التصانيف الجليلة ولد سنة (1212)هـ، وتوفي سنة (1289)هـ انظر المآثر والآثار ص147 ط طهران.

(20) ابو بكر دلف بن جحدر الشبلي الخراساني البغدادي من كبار مشايخ الصوفية نقل: انه كان يبالغ في تعظيم الشرع المطهّر توفي سنة (334)هـ.

(22) معروف بن فيروز الكرخي ابو محفوظ احد اعلام الزهّاد والعرفاء كان من موالي الأمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) توفي ببغداد سنة (200)هـ،. انظر تنقيح المقال ج3 ص228 الأعلام ج2 ص1056 ط مصر.

(27) الهاتف هو السيد احمد الاصفهاني الشاعر المشهور توفي سنة (1198)هـ والهاتفي هو المولى عبد الله ابن اخت الجامي توفي سنة (927)هـ.

(28) المولى عبد الرحمان الجامي الدشتي الصوفي النحوي المنتهي نسبة إلى محمد بن الحسن الشيباني وهو صاحب شرح الكافية في النحو توفي سنة (898)هـ وقد يطلق الجامي على ابي نصر احمد بن محمد البجلي المعروف (زنده بيل) احد مشايخ الصوفية توفي حدود سنة (536)هـ.

(31) هذا البيت الذي نسبه سماحة شيخنا الأمام ــ متّعنا الله تعالى بطول بقائه ــ إلى الشهرة انما هو لأبي العتاهية الشاعر المعروف وهو ابو اسحاق اسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان العنزي بالولاء العيني المولود 130 هـ والمتوفي 210 أو 211 أو 213هـ، والمدفون حيال قنطرة الزياتين في الجانب الغربي ببغداد. ويعد من مقدمي المولدين وفي طبقة بشار وابي نؤاس وامثالهما ونشأ في الكوفة وسكن بغداد. وعن الصولي انه كان يتشيّع بمذهب الزيدية التبرية. وروى انه جلس في دكان وراق فأخذ كتاباً فكتب على ظهره على البديهة (من المتقارب): =

الا اننا كلنا بائد

 

وأي بني آدم خالد

 

وبدءهم كان من ربهم

 

وكل إلى ربه عائد

 

فيا عجباً كيف يعصى الأله

 

ام كيف يجحده الجاحد

 

ولله في كل تحريكة

 

وفي كل تسكينة شاهد

 

وفي كل شيء له آية

 

تدل على انه الواحد

 

وفي نسخة: (على انه واحد) ولما انصرف اجتاز ابو نؤاس الشاعر الشيعي الشهير بالموضع فرأى الأبيات فقال: لمن هذا. فقيل له: لأبي العتاهية. فقال: لوددتها لي بجميع شعري. وروى صاحب الأغاني ان ابا العتاهية كان يرمى بالزندقة فجاء يوماً إلى الخليل بن اسد النوجشاني. فقال: زعم الناس اني زنديق والله ما ديني الا التوحيد. فقال له الخليل: فقل شيئاً نتحدث به عنك. فقال الأبيات السابقة انظر إلى الأنوار الزاهية في ديوان ابي العتاهية المطبوع في بيروت ص69 الطبعة الرابعة سنة (1914)م أقول: غير خفي على الباحث المنقب ان الرمي بالزندقة والكفر أو الغلو وما أشبه ذلك ناش في الأغلب من الحسد والحقد ومن افترآت الخصوم والمغرضين والمخالفين في المذهب والعقيدة ولا سيما في حق الشاعر الشيعي أو العالم الديني أو العارف الألهي ولذا نجد بعد البحث والتنقيب وامعان النظر والتحليل الصحيح ان اكثر هذه الأقوال الشائنة في حق الرجال عارية من الصحة وخالية عن الحقيقة ولا قيمة لها عند المؤرّخ الباحث والمتحري للحقائق وقد رموا جمعاً كثيراً من اكابر الشيعة بالزندقة والغلو وامثال هذه المفتريات وكلها من الهفوات والشطحات ومن التهاب نار البغضاء والعداوة في القلوب والأحقاد والسخائم في الصدور وحاشاهم ان يكونوا كذلك أو يقولوا ما يوجب ذلك. وحقاً اقول ان من العجيب ان الشهرة الكاذبة من الخصماء والأعداء والمغرضين في حق بعض رجال الدين ونشر الروايات الموضوعة في حقهم وذمهم وحطهم كانت بدرجة حتى صارت منشأ لأشتباه بعض علمائنا الرجاليين في حق بعض هؤلاء العظماء وذهولهم عن كيد الأعداء في حق هؤلاء الأتقياء كما اتفق ذلك في حق معلى بن خنيس الكوفي المدني ومحمد بن سنان الزاهري الخزاعي ومفضل بن عمر وجابر الجعفي وامثالهم رضوان الله عليهم. ومعلى من اصحاب الأمام الصادق (عليه السلام) وخواصه وصاحب سره ووكيله وامينه في جباية الأموال وجمعها من شيعته وايصالها اليه وقد شهد الأمام له بالجنة وهو من اجلاء الشيعة وجلالته وزعامته بينه بمثابة لم تخف حتى على علماء اهل السنة فقد قال ابن حجر العسقلاني في (لسان الميزان) ج6 ص63 طبع حيد آباد (معلى ابن خنيس الكوفي من كبار الروافض) امر بقتله داود بن علي العباسي وصلبه وفاز بالشهادة ونال السعادة ولم يصبر الأمام الصادق (عليه السلام) على هذه الفاجعة حتى امر ابنه اسماعيل بقتل قاتله وهو (السيرافي) صاحب شرطة داود ودعا الله تعالى على داود حتى اهلكه الله في ليلة واحدة ووردت الروايات الكثيرة عن الصادق (عليه السلام) في شأنه وكونه صاحب سر الأمام (عليه السلام) ولذا صرح المحققون من علمائنا الباحثين في علم الرجال ومنهم السيد بن طاووس والمجلسي الأول والمحقق البحراني والوحيد البهبهاني والشيخ عبد النبي الكاظمي وغيرهم قدس الله اسرارهم بجلالة قدره وعلو شأنه وقال شيخ الطائفة الشيخ ابي جعفر الطوسي (قدس سره) في كتاب الغيبة ان المعلى كان من قوام ابي عبد الله (عليه السلام) وكان محموداً عنده ومضى على منهاجه. وأيضاً صرح جمع منهم في نتيجة بحوثهم القيمة بتوثيقه وتعديله كالعلامة الأردبيلي في جامع الرواة والمجتهد المحقق شيخنا العلامة المقمقاني (قدس سره) في تنقيح المقال فراجع تجد بحثاً علمياً ضافياً حول ترجمة الرجل، ومن النغمات العجيبة والنزعات الممقوتة في= =القرن العشرين ما تفوه به بعض اهل عصرنا في حق المعلى حيث رماه بالمجوسية. غفرانك اللهم من هذا البهتان العظيم والأفك الصريح والجرأة العظيمة في حق خاصة الأمام ووكيله وقد اتى بهذا القول الشائن بعد القرون المتمادية رجماً بالغيب في حق رجل جليل بريء من هذه السفاسف والمفتريات. نعم ان حب الشيء يعمي ويصم حيث انه سوبت له نفسه جرح رجل كبير من اعاظم الشيعة لأثبات بعض اغراضه ودعاويه الموقدة نار التفرقة بين المسلمين، مع انهم عموماً والشيعة خصوصاً، في امس الحاجة اليوم إلى وحدة الكلمة، ونبذ الفرقة، وترك العداء ورفض الضغائن عصمنا الله تعالى عن التفوه بما يسخطه.

ونظير هذه الأفترآت من ارباب الأغراض والأضغان ــ كما هو شأن الخصوم في كل عصر وزمان ــ ما اشتهر في حق ابي العتاهية حيث رموه بالزندقة حتى افهموا العامة والهمج الرعاع بهذا المعنى قال جامع ديوانه في مقدمته: ص10 ( وكانت طبقته الأولى تعيبه حسداً له وبغضاً حتى قالوا انه لا يؤمن بالبعث وانه زنديق وان شعره ومواعظه انما هي في ذكر الموت وقد بان في شعره لمن طالعه وعنى بهم كذبهم وافتراؤهم لما فيه من ذكر التوحيد وذكر البعث والأقرار بالجنة والنار والوعد والوعيد) فيا سبحان الله هل كان هذا التكفير في كل زمان والحكم في كل اوان بزندقة من تكلم في التوحيد وصفات الحق وآثار عظمة جلاله وجماله؟ وهل يرمى في كل الأعصار من افصح بذكر الموت وتزكية النفس والزهد في الدنيا والأعراض عنها، أو صدع بمناقب اهل بيت رسول الله (8) بالتصوف، أو الغلو، أو الإلحاد، أو في هذا العصر التعيس بالمجوسية السوداء؟ واليك يا رب المشتكى.

القاضي الطباطبائي

(33) هذا البيت للعارف الرومي صاحب (المثنوي) وانتقده سيد الحكماء السيد الداماد (قدس سره) بابيات فارسية مذكورة في ديوانه ص20 ــ 21 ط اصفهان سنة (1350)هـ منها قوله (قدس سره):

أي كه كفتي باي جو بين شد دليل
 

ورنه بودي فخر رازي بي بديل

 

فخر رازي نيست جزمرد شكوك

 

كرتومردي از نصير الدين بكوك

 

هست در تحقيق برهان اوستاد

 

داده خاك خرمن شبهت بباد

 

در كتاب حق اولوا الالباب بين

 

وان تدبروا كه كرده است آفرين

 

جيست آن جز مسلك عقل مصون

 

كر نداري هستي از لا يعقلون

 

ز آهن تثبيت فياض مبين

 

باي استدلال كردم آهنين

 

باي برهان آهنين خواهي براه

 

از (صراط المستقيم) ما بخواه

 

باي استدلال خواهي آهنين

 

(نحن ثبتناه في الافق المبين)

 

 

(34) هذه الكلمات النيرة بتغيير يسير من عبارات دعاء عرفة لسيد الشهداء (عليه السلام) نقلها السيد رضي الدين بن طاووس (قدس سره) في كتابه (الاقبال).

 القاضي الطباطبائي

(36) ابو معتب الحسين بن منصور الحلاج الصوفي الشهير قتل في سنة (309)هـ ببغداد اختلف الناس حتى الصوفية في حقه. انظر الفهرست لأبن النديم ص269 ــ 272ط مصر. تنقيح المقال ج1 ص345ط نجف. الكنى والألقاب ج2 ص164ط صيدا.

(37) سعد الدين محمود بن امين الدين التبريزي الشبستري من اكابر العرفاء والحكماء صاحب كتاب (كلشن راز) الذي ناهز شروحه عن احد عشر شرحاً توفي سنة (720)هـ ولم يتجاوز عمره عن (33)سنة وقد عد في كشف الظنون بعض مؤلفاته من كتب الشيعة وكذا شيخنا البحّاثة المحقق في الذريعة انظر ج4 ص158 و ج7 ص42 ط طهران.

(38) لبيد بن ربيعة العامري الأنصاري من الشعراء المخضرمين يقال انه مات في زمن معاوية وهو ابن مائة وسبع وخمسين سنة ولم يقل شعراً في الأسلام الا بيتاً واحداً وهو قوله:

الحمد لله اذ لم يأتني أجلي

 

حتى كساني من الأسلام سربالا

 

وقال له عمر انشدني من شعرك فقرأ سورة البقرة وقال: ما كنت لأقول شعراً بعد اذ علمني الله سورة البقرة.

الشعر والشعراء لأبن قتيبة ص50 ط1 مصر سنة (1322)هـ.

(39) والمصرع الثاني قوله: (وكل نعيم لا محالة زائل) وبعده هذا البيت:

سوى جنة الفردوس ان نعيمها

يدوم وان الموت لا بد نازل

(42)فأن الشبهة قد تثبت بالخاطر وتعلق به ويضل فهم احدهم عن ذكر الجواب اذ الشبهة قد تكون جلية واضحة ولكن الجواب عنها يكون دقيقاً علمياً غامضاً لا يحتمله عقله فيتورط في الهلكة كما صرح به الأمام المحقق نصير الدين الطوسي (قدس سره) ايضاً في كلام اجاب به عن بعض من سأله عن ايمان الجاهل بأدلة المعارف الخمسة وصدع (قدس سره) بايمانه وان كان جاهلاً بأدلتها تفصيلاً ونقل تلك الرسالة الوجيزة بتمامها العلامة ابن ابي جمهور الأحسائي (قدس سره) في كتابه (معين المعين) المخطوط ــ ونقلها ايضاً القاضي نور الله الشهيد (رحمه الله) في مجالس المؤمنين والعلامة الفيض القاشاني (رحمه الله) في كتابه محجة البيضاء ولكن بتغيير في بعض العبارات والظاهر ان الرسالة المذكورة هي التي اشار اليها الشيخ الأنصاري (قدس سره) في (الرسائل) ــ في الكلام في اعتبار الظن في اصول الدين.

القاضي الطباطبائي

(43) مراد شيخنا الأمام دام ظله من كون تلك الكلمة مأثورة هو كونها مأثورة عن بعض السلف لا انها مأثورة بهذه العبارة عن احد المعصومين (ع) لأنها ليست من المأثورات عن النبي (8) أو اهل بيته (ع) ولم يروها احد من المحدثين بطرق اصحابنا الأمامية أو بطرق اصحابنا الأمامية أو بطرق اهل السنة في الجوامع الحديثية عنهم صلوات الله عليهم كما حققنا ذلك تفصيلاً في بعض مجاميعنا. وقال الحافظ أبو الفضل محمد بن احمد المقدسي في كتابه (تذكرة الموضوعات) ص40 ط2 مصر سنة 1354 (عليكم بدين العجائز ليس له اصل رواية صحيحة ولا سقيمة الا لمحمد بن عبد الرحمن البيلماني بغير هذه العبارة له نسخة كان يتهم). وذهب جماعة من العلماء كالشيخ البهائي وتلميذه الفاضل الجواد والفاضل المازندراني إلى ان تلك الكلمة من كلام سفيان الثوري من متصوفة العامة وقال القوشجي في شرح التجريد ان عمرو بن عبيدة لما اثبت منزلة بين الكفر= =والأيمان فقالت عجوزة: قال الله تعالى: هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن فلم يجعل الله من عباده الا الكافر والمؤمن فقال سفيان: عليك بدين العجائز وقال المحقق القمي (قدس سره) صاحب القوانين ( المذكور في الألسنة والمستفاد من كلام المحقق البهائي (قدس سره) في حاشية الزبدة ان هذا هو حكاية دولابها وكف اليد عن تحريكها لأظهار اعتقادها بوجود الصانع المحرك للأفلاك المدبر للعالم) وحكى سيد الحكماء السيد لداماد (قدس سره) في (الرواشح السماوية) ص202 ط طهران عن بعض العلماء ان (عليكم بدين العجائز) من الموضوعات وعن كتاب (البدر المنير) انه لا اصل له بهذا اللفظ.

ولكن روى الديلمي مرفوعاً اذا كان في آخر الزمان واختلفت الأهواء فعليكم بدين اهل البادية والنساء قفوا على ظواهر الشريعة واياكم والتعمق إلى المعاني الدقيقة أي فأنه ليس هناك من يفهمها انتهى.

 القاضي الطباطبائي

(44)محمد بن محمد بن طرخان ابو نصر الفارابي ويعرف بالمعلم الثاني من أكبر حكماء المسلمين وفلاسفتهم المشاهير. وهو تركي الأصل مستعرب ولد في (فاراب) (260)هـ وانتقل إلى بغداد فنشأ فيها ورحل إلى الشام واتصل بسيف الدولة الهمداني وتوفي في دمشق سنة 339هـ وصلى عليه سيف الدولة في اربعة من خواصه= =متستراً، وكان مقدماً في كل الفنون لم يشاركه في التعليم احد الا المعلم الأول (ارسطو) وله نحو مائة تصنيف وبكتبه تخرج الشيخ الرئيس ابو علي ابن سينا ولولاه لم يكن ابو علي رئيساً لحكماء الأسلام كما نقل عن ابن سينا نفسه. وكان يحسن اكثر اللغات الشرقية المعروفة في عصره. وكان ازهد الناس في الدنيا والأعراض عنها. ولا شك في تشيعه وحسن عقيدته ولكنه ايضاً كأمثاله من الأكابر وقع هدفاً لسهام اللوم والتكفير والطعن والتقنيد. وقد تقدم منا انه لا وقع في التاريخ الصحيح بهذه التهم والأفائك لأن اغلب الأكابر لم يسلموا عن هذه السهام المسمومة ولم يشذ احد منهم عن القذف بالمروق والشذوذ وما شابه ذلك ولم يسلم اكثرهم سواء في حياتهم أو بعد مماتهم عن الكلمات الخاطئة والتحامل عليهم بالقول الزور وبكل افيكة. ولذا لا ينبغي التسرع إلى تلقي تلك الكلمات الشائنة في حقهم بالقبول والإصغاء اليها كما صرح به العلامة الوحيد البهبهاني (قدس سره) وغيره لأن الرمي بالتكفير والتفسيق وما شابههما جهات واسباب مختلفة لا يسعنا المقام ذكرها منها الجهل وقصور الفهم وعد القابلية والاستعداد لدرك الحقائق ونقصان الغريزة عن فهم المطالب الغامضة والمعاني الدقيقة التي دبجوا الأكابر تضاعيف عباراتهم المعضلة وكلماتهم المتشابهة بها وهي ودائع منهم لأهلها ولمن نال استعداد فهمها وحفظها فصلوات الله وتسليماته على من تكلم بهذه الكلمة النيرة ان (هذه القلوب اوعية وخيرها اوعاها). ومن الواجب على رواد العلم وحملة الفضيلة ان ينعموا النظر في تلك الكلمات والعبارات والمطالب والغوامض ويحملوها على الصحة والسداد لا على الاعوجاج والفساد مع الذهول عن المقصود والغفلة عن المراد، ويتركوا الجمود والخمود، مع التجنب عن الاضطهاد والتباعد عن البغضاء والعناد ونبذ المعادات والتهمات، والى غيرها من الصفات والموبقات. وان يحملوا كلمات كل طائفة على ما هو ظاهر عندهم ومعلوم لديهم مع رعاية مصطلحاتهم ومعرفة اصطلاحاتهم واياهم والتداخل في العلوم التي لم يحوموا حولها ولم يدرسوها بالدراسة التحليلية عند اساتذتها كما اشار بذلك شيخنا واستاذنا الأمام والعلامة ادام الله ايامه فيما تقدم من ترجمة كلماته الشريفة ص41 ــ 43 فأنهم ان لم يراعوا هذه الطريقة المثلى والشرعة الوسطى، ولم يرفضوا المشاغبات والمضاربات من جميع الجهات، ولم يتركوا المطاعنات والمشاحنات من كافة نواحيها، فلا محالة يتورطون في المهالك والمسالك الوعرة، والغياهب المدهشة، واخزى تلك النكبات والهلكات تكفير قوم بغير حق وهذه هلكة هلكاء وشقة سوداء. ولذا لم يكد يسلم اكثر الأكابر في كل الأعصار وحتى اليوم عن طعن الطاعنين ورمي المغرضين وغمز الجاهلين وتكفير القاصرين.

اليس مثل الشيخ الرئيس ابن سينا والفقيه الحر المتضلع ابن ادريس الحلي صاحب السرائر وآية الله العلامة الحلي والشيخ ابن ابي جمهور الأحسائي صاحب غوالي اللئالئ وشيخنا البهائي وتلميذه صدر المتألهين صاحب كتاب الأسفار الذي هو من جلائل كتب الأمامية ومن انفس آثارهم العلمية والحكيم الألهي المولى رجب علي التبريزي وتلميذه القاضي سعيد القمي والمحقق الثاني صاحب جامع المقاصد والفيض القاشاني صاحب الوافي والمحقق السبزواري صاحب الكفاية والذخيرة ونظرائهم من حماة الحق وذادته، واعضاد الدين وقادته، لقوا ما لقاه امثالهم من الطعن والتشنيع؟ بل جم غفير من علمائنا قبل هؤلاء العظماء لم يسلموا من الرمي بالغلو والتكفير، والتصوف البغيض، أليس القميين رموا جمعاً من علمائنا بالغلو والتكفير وآخر وأخرجوا رجالاً من (قم) بأدنى غمز فيهم وكانوا ينسبون اليهم الأنحراف في العقائد الدينية بمجرد رؤية رواية في كتابهم أو نسبة احد ذلك اليهم حتى افرطوا في الجمود وطعنوا في مثل يونس بن عبد الرحمن الثقة الكبير الذي كان من اكابر رجال  =الشيعة وعلامة زمانه؟ وقد وبخ سيدنا مفخرة الأمامية السيد المرتضى علم الهدى (قدس سره) في بعض رسائله (وتشرفت بمطالعة هذه الرسالة وهي مخطوطة) القميين بسبب جمودهم على الظواهر وافراطهم في التمسك بها واستثنى منهم رئيس المحدثين الشيخ الصدوق (قدس سره) حيث ان الأفراط في الجمود على ظواهر عدة من اخبار الأحاد ــ التي لا بد من تأويلها ورفع اليد عن ظاهرها ــ يفضي إلى بعض المحظورات والأخطار من الجبر والتشبيه وامثال ذلك ولذا وبخهم سيد الأمامية وحذرهم من ذلك ولم يكن مقصود السيد ان القميين كانوا يعتقدون بعض العقائد الفاسدة. حاشا سيد الأمامية من نسبة العقائد السخيفة اليهم وحاشاهم ايضاً ان يعتقدوا العقائد الباطلة كما هو معلوم بالضرورة وقد ذهل العلامة المولى ابي الحسن العاملي (قدس سره) تلميذ العلامة المجلسي (قدس سره) عن مقصود سيد الأمامية وزعيمها ولم يصل إلى مغزى مرامه فصنف رسالته (تنزيه القميين) المطبوعة (بقم) سنة (1368)هـ حيث تخيل ان مراد السيد (قدس سره) ان القميين يعتقدون بعض العقائد السخيفة حقيقة فتصدى في تلك الرسالة للذب عنهم واثبات نزاهة ساحتهم المقدسة عنها مع جلالة السيد (قدس سره) الأسمى اجل واسنى من ان ينسب اليهم بعض الأعتقادات الممقوتة فما نسبه المولى العاملي (قدس سره) إلى السيد (قدس سره) وتصدى للجواب عنه فلعله ذهول منه (قدس سره) ولكن هو ابصر واعرف بما به براعته فلو جمعنا ما ضبطه التأريخ من الطعون على الأكابر لصار كتاباً مستقلاً وسفراً لطيفاً. وقال الوحيد البهبهاني (قدس سره): (الذي نراه في زماننا انه لم يسلم جليل مقدس وان كان في غاية التقدس عن قدح جليل فاضل متدين فما ظنك بغيرهم ومن غيرهم حتى آل الأمر إلى انه لو سمعوا من احد لفظ (الرياضة) وامثال ذلك اتهموه بالتصوف وجمع منهم يكفرون معظم فقهائنا بأنهم يجعلون لأهل السنة نصيباً من الأسلام).

فالتكفير الذي تفوه به بعض في حق الحكيم الفارابي وامثاله انما هو من هذا القبيل وناش من عدم تأمل وتحليل وقال بعض الأعلام (قدس سره): (اعلم ان بعض العلماء تسرع في تكفير الفارابي حيث وجد في كتبه ما يدل على قدم العالم وانكار المعاد وامثال ذلك ولم يلتفت ان هذا كله ترجمة بالعربي لكتب بعض الفلاسفة لا انه كتاب عقيدة لأبي نصر الفارابي أو ليس في رسالة النصوص المنسوبة اليه خلاف هذه الكلمات؟ وبالجملة لا ينبغي التسرع في مثل هؤلاء الأعاظم المعلوم بالضرورة اسلامهم وايمانهم بمجرد السواد على البياض الذي لم يتحقق موضوعه ولا حقيقة نسبته ولا صاحب قيله نعوذ بالله من سوء الرأي في الأعاظم). ونسأل الله تعالى ان يحفظنا من الأعوجاج وان يجمع كلمتنا على الخير والهدى وإماتة المطاعنات وهو مجيب الدعوات وغافر الخطايا والسيئات.

القاضي الطباطبائي

(47) مولشت ــ عالم في علم وظائف الأعضاء ولد في هولندا (1822 ــ 1893)م وكان مادياً في تعاليمه وكتبه. انظر مبادئ الفلسفة تعريب الأستاذ أحمد أمين ص268 ط4 قاهرة.

(48) فلورانس ــ عالم فرنسي من اشهر علماء وظائف العضاء وله تأليفات كثيرة في هذا الفن ولد سنة 1794م، وتوفي سنة 1867م، انظر قاموس العلام ج5 ط اسلامبول لمؤلفه شمس الدين سامي بك المتوفي سنة 1904م.


 

 

 
امتیاز دهی
 
 

 
خانه | بازگشت | حريم خصوصي كاربران |
Guest (PortalGuest)

دبيرخانه كنفرانس‌هاي بين‌المللي
مجری سایت : شرکت سیگما