چهارشنبه 12 ارديبهشت 1403  
 

الفردوس الاعلي

 
الكلام في قسمة الديون

 

الفردوس الأعلى

  


المقدمة السادسة: (في الآذان والاقامة)

مشروعيتهما في الجملة من الضروريات بل كاد ان يكون منكرهما منكراً لضرورة المذهب بل ضرورة الاسلام وهذا مما لا ريب فيه ابداً وانما الكلام في كيفية مشروعيتهما واعتبارهما في الصلاة فنقول: ان الاقوال في المسألة خمسة:

احدها: هو اعتبارهما في الجماعة دون غيرها.

ثانيها: هو اعتبارهما للرجال مطلقاً دون النساء.

ثالثها: هو اعتبارهما في الغداة والمغرب لا غير.

رابعها: عدم اعتبارهما مطلقاً.

خامسها: هو التفصيل بين الاذان والاقامة فالقول بالاستحباب في الاول مطلقاً وبالوجوب في الثاني كذلك والى هذا ذهب جمع مع المحققين ومنهم استاذنا الاعظم كاشف الغطاء مد ظله العالي نظراً إلى ظهور جملة من الأخبار في الوجوب بل وفي بعضها لا صلاة الا بالاذان والاقامة غايته يرفع اليد عنه بالنسبة إلى الاذان لقيام الدليل الخارجي فمقتضى الجمع بين الأخبار بالنسبة اليه هو حمل الأخبار الظاهرة في الوجوب على الاستحباب بنصوصية بعض الأخبار الدالة على عدم اعتباره واما الاقامة فحيث لم يقم دليل معتبر على ما ينافي ظواهر الأخبار فلا وجه لرفع اليد عنها بالنسبة اليها نعم غاية ما يقال في المقام امور:

احدها: منع ظهور الأخبار في الوجوب وذلك لان الأخبار الصادرة في الباب على طوائف بحسب التركيب والاسلوب منها ما فيه مادة الاجزاء وان الاقامة مجزية عن الاذان وهو الاكثر والعمدة في الباب وغاية مفاد تلك الأخبار هو اجزاء الاقامة وحدها عن التكليف الثابت في المقام واما التكليف الثابت هل هو وجوب أو استحباب فغير ناظرة اليه اصلاً لان الاجزاء يستعمل في المندوبات كاستعماله في الواجبات بلا تجوز ولا تكلف ابداً ومنها ما يدل على لزوم الإقامة في الصلاة على صيغ مختلفة مثل قوله (ع) لا صلاة الا بالأذان والإقامة أو انه لا بد من الإقامة وانه لا يسقط بحال وغير ذلك من الأخبار وهذه الأخبار كما ترى لا تدل على ازيد من اللزوم المطلق والنفي راجع إلى الكمال كما هو غالب موارد استعماله.

ثانيها: ان القول بالوجوب في الإقامة والاستحباب في الأذان خرق للإجماع المركب هذا عمدة اتكال المانعين كما يظهر من ملاحظة كلماتهم.

ثالثها: هو ظهور بعض الأخبار في الاستحباب كما في صحيحة زرارة أو خبره سألت ابا جعفر (ع) عن رجل نسي الأذان والإقامة حتى دخل في الصلاة، قال (ع): فليمضِ في صلاته وانما الأذان سنة بناءًَ على ظهور السنة في الاستحباب وارادة الأعم من الأذان لكي يطابق السؤال ويؤيد ذلك اختلاف الأخبار في ترتب الثواب والجر على من اذن واقام وانه يصلي خلفه صفان من الملائكة.

رابعها: هو قيام الشهرة على القول بالاستحباب فيهما مطلقاً وهي اقوى قرينة على عدم ظهور تلك الأخبار في الوجوب أو انها تكشف عن القرينة الدالة على الاستحباب والا لما صار جلَّ الأصحاب اليه مع كون هذه الأخبار بمسمع منه ومرأى هذا زبدة ما يقال في المقام وخلاصته ولكنه لا يكاد يتم شيء منها اما الأول فلأن التراكيب المأخوذة فيها مادة الأجزاء واساليبها على نحو لو القيت إلى العرف لا يفهمون منها الا وجوب التكليف الذي اقل ما يجزيه هو الإقامة وما ذكر في المقام انما هو تطبيق الدليل على ما ارتكز في الذهن من ذهاب الأكثر الى الاستحباب لا أخذ الحكم منه والا لو خلي الذهن عن هذا الارتكاز لما فهم منها الا الوجوب واما الثاني فهو على اللزوم والحتم اذل لأن اللاء المركب الذي هو مفاد كان الناقصة ظاهرة في اللزوم والأبدية وبعبارة اخرى ظاهر في لزوم شيء في شيء بحسب العرف بداهة ان الظاهر من قوله (ع): لا صلاة لجار المسجد الا في المسجد ولا صلاة الا باقامة ونحو ذلك من التراكيب المشتملة على اللاء المركب هو لزوم وقوع صلاة جار المسجد في المسجد ولزوم الإتيان بالاقامة معها وانه لا بد منه الا ان يأتي دليل آخر يستوجب رفع اليد عن هذا الظهور.

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين وصلوات الله على محمد وآله الطاهرين.

الكلام في قسمة الدين تارة يقع في قسمة المديونين ما عليهم من الديون واخرى في قسمة الدائنين ما لهم من الديون.

اما (الاول): فكورثة الميت الذي تعلق حق الغرماء في تركته فللورثة ان يقتسموا الديون فيتقبل كل واحد منهم دين غريم من الغرماء فان رضي الغرماء اجمع بذلك صحت القسمة وبرأت ذمة الميت وانتقلت الديون إلى ذمم الورثة فلو خاس بعض الورثة بحق صاحبه لم يكن الرجوع على باقي الورثة ولا الغرماء ولا التركة لأن الحق لكل واحد منهم وقد رضى والتزم بأنتقاله وتحويله إلى ذمة الغير فليس له الا مطالبة تلك الذمة بحقه اما صحة القسمة فلا اشكال فيها لدخولها في عمومات القسمة كما ان لزومها كذلك.

واما (الثاني): اعني قسمة ارباب الدين فهي ايضاً تقع على وجهين لأن الدين المشترك اما في ذمة واحدة أو في ذمم متعددة سواء كان الدين المشترك المشاع عوض مال مشاع ايضاً كما لو كانت دار مشاعة بين جماعة فباعوها من واحد أو جماعة أو لم يكن كذلك كما لو باع رجلان صفقة واحدة هذا داره وذاك عقاره بمائة دينار فتكون المائة مشاعة بينهما بالنسبة وان لم تكن العوض مشاعاً وكيف كان فالكلام يقع تارة في الديون المتعدد على ذمة واحدة واخرى في المتعلقة بذمم متعددة اما الثاني فالمشهور بينهم عدم الصحة وخالف في ذلك ابن ادريس وجماعة من المتأخرين كالمحقق الأردبيلي (قدس سره)(1)وغيره ويظهر من صاحب الجواهر (رحمه الله) ان مقتضى الأصل عدم الصحة وكأنه ناظر إلى اصالة بقاء المال على اشاعته واشتراكه بناءً على ما هو الحق من تحقق الإشاعة والاشتراك بما في الذمة ولكنك خبير بانقطاع الأصل بشمول ادلة القسمة للمقام وعدم المانع فلو كان مائة لشخصين في ذمة زيد ومثلها لهما في ذمة عمرو ثم اقتسما ذينك المائتين المشاعتين فعينا حق احدهما بما في ذمة زيد والآخر بما في ذمة عمرو كانت قسمة صحيحة وتمييزاً للحقين وتعييناً لأحدهما من الآخر والظاهر انه لا كلام لهم في ان مقتضى الأصل والقاعدة صحة القسمة في هذا الفرض اعني صورة الذمم المتعددة وانما المانع عندهم في صحتها اطلاق الأخبار المانعة بزعمهم وسيأتي الكلام عليها. نعم قد يشكّل الحال في صورة تعدد الديون على الذمة الواحدة، وذلك كالمثال المتقدّم فيما لو باع زيد داره وعمرو عقاره صفقة واحدة من خالد بمائة مثلاً فالمائة في الفرض وان كانت مشاعة بينهما في الذمة ومقتضى اشاعتها ان كل مقدار يستوفيه احدهما منها فهو لهما وكل ما هلك وتوى فهو عليهما فهما بمنزلة الدائن الواحد وقبض احدهما النصف نصف قبض لا قبض النصف ولكن ذلك لا يمنع قبوله للقسمة وصحتها ولو اتفقا عليها بأن يعينا حق كل واحد منهما في ما يقبضه فأن قبضا معاً فكل واحد قبض حقه وان قبض احدهما تعين الباقي للآخر فدعوى عدم امكان القسمة لعدم امكان التعيين مما لا وجه لها وهذا القدر كافِ في صحة القسمة بلا ريب فأنه تعيين للحق رافع لتلك الإشاعة والاشتراك حقيقة فأذاً عينه المالك اعني كل واحد من الشريكين تعين، فأن المال الكلي الثابت في الذمة لهما، ولهما التصرف فيه كيف شاءآ سواء رضى من عليه الحق ام لا، وان كان له اختيار تعيين الكلّي في أي مصداق اراد، وبالجملة فلا مجال للتأمل في صحة القسمة وان وامكانها وشمول عموماتها لهذا النوع بل ولزومها بعد تحققها فيكون لكل منهما ما يقبضه ولا يشاركه الآخر فيه ولو قبض احدهما وتعذر قبض الآخر بحيث عد كالتالف كان من نصيبه فقط، بل يمكن القول بصحة قبض احدهما نصيبه من ذلك المشاع حتى مع عدم القسمة، فلو عمد احد الشريكين وقبض نصف المال ممن عليه الحق ولكن بقصد انه قبض حقه وتمام حصته لا بقصد الحصة المشتركة من المال المشترك صح وكان المقبوض له بتمامه ولو مع اذن شريكه بل ولو مع عدم رضاه كما يظهر من ابن ادريس(2) من ان لأحد الشريكين ان يقبض حقه كما له ان يهبه أو يبرأ الغريم منه أو يصالح عليه، فلو شاركه في المقبوض لكان في هذه الصور كلها يشارك من لم يهب ولم يبرء فيما يستوفيه الخ، لان هذه التصرفات كلها لا تنافي الاشاعة ضرورة جواز الصلح على المشاع وهبته ونحو ذلك، بل لان الدين المشترك ولو على ذمة واحدة في نظر وبناء العقلاء كدينين مستقلين في ذمة واحدة أو ذمم متعددة فهو كما لو كان لزيد مال في ذمة بكر ولعمرو مال مستقل في ذمته فلكل منها ان يستوفيه مستقلاً غير منوط احدهما بالآخر، هذا ما يقتضيه الاصل والقاعدة في جميع تلك الصور.

 واما الأخبار التي قد يتوهم مها دلالتها على مقالة المشهور من عدم الصحة فليس في شيء منها ما يدل على المنع في محل الفرض اعني قسمة الدين اذ ليس في شيء منها التصريح بلفظ الدين عدا موثق ابن سنان وهو لا يصلح وحده لاثبات مثل هذا الحكم المخالف للاصل وللقاعدة كما عرفت واما بقية الأخبار: فالظاهر منها ارادة قسمة المال الحاضر والغائب من الاعيان المشتركة، ومن المعلوم عدم صحة قسمة الاعيان الغائبة مع جهالتها، ويحتمل ان يراد به قسمة الدين ولكن لا على نحو القسمة الشرعية بل على نحو التفويض والتخويل من غير جبر ولا تعديل، أو تحمل على انه قد جعل التأوي لأحدهما بعد العلم بتوائه عادة، ويحتمل بعيداً ان يراد وجود وجوب ان يرّد احدهما على الآخر شيئاً مما استوفاه تعبداً وجبراً لا استحقاقاً ولكن ينافيه قوله ما يذهب بماله، وكيف كان فالوجوه المحتملة فيها كثيرة تصادم ظهورها في ارادة قسمة ان لم نقل بظهورها في غيره وليس الصريح سوى خبر واحد يقصر عن اثبات حكم مثل هذا مصادم للقواعد المتقنة والاصول المحكمة، واما الشهرة فمعلومة الحال ويكفي فيها انهم تخيلوا دلالة الأخبار على المنع أو تخيل شيخ على الاكابر ذلك ثم اتباع الباقين له كالشيخ الطوسي (قدس سره)(3)حتى صار مشهوراً، فالحكم بالصحة في جميع الصور هو المطابق للقاعدة، مضافاً إلى ان في بعض الأخبار ما يدا على الصحة ايضاً كخبر على بن جعفر (ع) عن اخيه موسى (ع) المروي عن قرب الاسناد سألته عن رجلين اشتركا في سلم أيصلح لهما ان يقتسما قبل ان يقبضا قال:لا باس(4) ــ وحمله المشهور على ارادة بيان الجواز وانت خبير بان لازم قولهم بعدم امكان التعيين فلا يمكن القسمة عدم الجواز اصلاً وطرح الخبر فلا محيص عن الالتزام بالأمكان والجواز والصحة بل واللزوم هذا، وقد افرط بعضهم فقال: بعدم جواز الصلح عليه بان يصالح من عليه الحق على حصته ويقبض حقه منه بدعوى اطلاق النصوص في المنع تارة وبكون القسمة نوعاً من الصلح أو قريبة منه فمع ظهور النصوص في عدم قسمة الدين قد يستفاد منه عدمها ولو بالصلح ايضاّ ولكن الجميع كما ترى.

هذا جميعاً خلاصة ما افاده شيخنا الاعظم آية الله ادام الله ظله في الدرس نسأله تعالى دوام ايام افاداته.

بعض ما في العبادات من الحكم والاسرار

وما تشتمل عليه من جلب المنافع ودفع المضار ــ بقلمه الشريف.

ذكرنا في آخر المجلد الاول من تعاليقنا على (السفينة) جملة من اسرار الطهارة اعني الطهارة المائية،ولم نتعرض لبدلها، وهو الطهارة الترابية لأن الذي يظهر من الأخبار ان الغرض منها محض التعبد واطاعة الامر، ولكن يمكن ان يكون فيها مضافاً إلى ذلك فائدة للمحدث في إزالة الحدث ولو بالنسبة إلى تخفيفه وإزالة مرتبة منه، وقد حققنا في بعض مؤلفاته ان الحدث الحاصل من الأسباب المعروفة اقرب تمثل له هو الظلمة الحاصلة في البيت، هو ظلام وانقباض وكدر يحصل في البدن والطهارة كنور يطرد ذلك الظلام، ويزيل ذلك الكدر، ويبدله بالصفاء، ولعل إلى هذا يشير ما في بعض الأخبار من ان تجديد الوضوء نور على نور، وكما ان النور له مراتب، ويقبل الشدة والضعف، فكذا الظلمة وما يشبهها من الحدث وهذا واضح جلي، بان حدث الحيض والجنابة اشد من حدث المس والاستحاضة فضلاً على الأحداث الصغرى كالنوم والبول، وكما ان الأحداث تختلف في مراتبها ضعفاً وشدة فكذا روافعها اعني النور الحاصل ايضاً يختلف قوة وضعفاً، فالغسل هو الرافع الأعظم الأعلى والوضوء هو الأصغر والأدنى، ويجوز أن يكون مس التراب والأرض وهي (أمنا الحنون) كما في بعض الأخبار وهي التي نشأنا منها واليها نعود كما المعنى إلى لمحة من هذا في رسالتنا (الأرض والتربة الحسينية) والتي تختلف أيضاً في الشرف والقداسة كأرض الكعبة والتربة الحسينية، وارض المساجد المعظمة، ومراقد الأئمة والعلماء التي يحرم تنجيسها، وهتك حرماتها، حرمة مؤكدة، ولا سيما تربة الحسين (ع) وهي تربة الشفاء وتربة السجود وتربة الدفن كي تنجي من عذاب البرزخ، وقد اشرنا إلى نبذة من خواصها وأسرار عظمتها في تلك الرسالة، وإنما الغرض هنا انه ليس من الغريب جداً أن يكون لمس الأرض أو التراب ومسح الجبين واليدين خصوصية في الحدث لا لرفع كله بل لرفع مرتبة منه، ولذا اخترنا في أبحاثنا الفقهية أن التيمم رافع لا مبيح كما لعله المشهور، غايته انه رافع لمقدار منه، وليس وجود الماء أو التمكن من استعماله ناقض للتيمم كما قد يتوهم، بل التمكن من استعماله مستوجب للطهارة المائية لإزالة ما بقي من الحدث، يعني إزالة الحدث بجميع مراتبه ورفع الظلمة بكل طبقاتها، بهذا تنحل عقدة الإشكال الذي يصدم القول بالرافعية ومن تدبر فيما تخرجه الأرض والتراب من الفواكه والحبوب والخضروات يندهش عقله لما يحتوي هذا التراب من العناصر والأواصر والمواد، وما فيها من الأجزاء ذات القوة والاستعداد والعتاد لمنافع العباد، فسبحان المبدع الحكيم: ولأحكامه وحكمته الانقياد والتسليم.

وحيث أن ما كتبناه من أسرار الطهارة والصلاة في ذلك الجزء وان كان من النزر اليسير ولكه على قلته كثير وخطير، ومن أراد معرفة عظمة التشريع الإسلامي في كافة أحكامه فلينظر فيه فانه يجد فيه ما يكفيه إن شاء الله: ولكن تكملة لتلك المباحث نعيد النظر في قوله تعالى: [ إِن  الصَّلاَةَ  تَنْهى  عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ  أَكْبَرُ](5) فانا ذكرنا طرداً ولم نقف عندها ولو قليلاً وتداركاً لذلك نقول: إن علماء التفسير وأهل الذكر، وان ذكروا في تفسيرها وجوهاً وحملوها على معاني شتى، ولكن الذي اطمأن إليه واعتمد عليه أن المراد (والله اعلم) إن الصلاة التي هي ذكر ودعاء وتوجيه إلى المبدأ الأعلى واستحضار عظمه وكبريائه في كل تكبير استحضاراً يستوجب أقصى مراتب الخضوع والخشوع في السجود والركوع، وبالضرورة إن مثل هذه الصلاة تنهي العبد عن ارتكاب أي معصية كبيرة أو صغيرة، بل كل الذنوب كبائر بالنظر إلى مخالفة ذلك الكبير، ولا شك أنها تصده وتمنعه عن ارتكاب الفحشاء والمنكر، وذكر الله وتصور عظمته وعظيم نعمه على العبد اكبر من أن يجتمع من الفحشاء والمنكر، فالصلاة اكبر من أن تجتمع مع المعصية، والعبد إذا ذكر الله فصلى، ولكن ذكر الله بالرحمة والتوفيق في اجتناب المنكر اكبر من ذكره لله؛ فذكره لله يمنعه عن المنكر، وهذا كبير ولكن ذكر الله له اكبر، وقد جمعت الآية على وجازتها كلتا الجهتين واعلى الناحيتين، وذكر الله اكبر فانعم النظر فيه وتدبر، ولذا فاني لا ازال ادعو الشبَّان بل وغيرهم ممن يتقاذفهم تيار من الشهوات في الغمرات ويرمي بهم على غرة من غمرة إلى غمرة، انصحهم انهم مهما انجرفوا في شهواتهم ومعاصيهم، ولكن عليهم ان يلتزموا باقامة الصلاة ولو بأقل مراتبها، فانهم اذا التزموا بها لا شك انها تجرهم إلى خير، وتختم لهم بالحسنى، واذا ضيعوها ضاعوا وضاع عنهم كل خير، فانها الحبل الذي يوصل العبد بربه، وبتركها ينقطع الحبل المتين، وهنالك الخسران المبين في الدنيا والآخرة ولا حول ولا قوة.

الزكاة والاشتراكية الصحيحة والتعاون في الاسلام

لما قضت العناية الازلية، والحكمة البليغة لبقاء هذا النوع (البشر) ان يكونوا مختلفين غير متساويين في القوى والملكات والافهام والذكاء كاختلافهم في الاخلاق والصفات، والخلق والهيئات، وكاختلافهم في الغنى والفقر، والسعادة والشقاء، ولو كانوا جميعاً في رتبة واحدة من الذكاء والفقر والغنى والسعادة والعنا لهلكوا جميعاً، والى هذا اشار الامام الجواد (ع) في كلمة موجزة من ابلغ الكلمات القصار، حيث يقول: (لو تساويتم لهلكتم)، وهذا جلي واضح لا حاجة إلى ايضاحه، ولكن لازم هذا الاختلاف الواسع والتباين الشاسع لحفظ بقاء النوع هو التعاون مع رعاية التوازن، والتعاون ضرورة من ضرورات الحياة، وهو في الجملة غريزة وطبيعة قضت به حاجة بعضهم إلى بعض، وتبادل المنفعة وتكافئ المصالح، وبه يتم النظام، وتحفظ الهيئة الاجتماعية، وهذا التعاون التي تدفع اليه الحاجة وتدعو له الضرورة هو في غنى عن الحث والبعث اليه وانما الذي يحتاج إلى التشريع والبعث اليه هو التعاون بلا عوض, وعمل الخير والاحسان؛ وصنع المعروف لوجه الله، وفي سبيل الله، لجميع عباد الله، للفقير والغني، والعاجز والقوي، للمؤمن والكافر، وهذه الفضيلة هي فضيلة الجود والسخاء التي يقابلها رذيلة الشح والبخل فالكرم عطاء بلا عوض، وبذل من دون نظر إلى الاستحقاق وعدمه، والبخل المنع حتى مع الاستحقاق، والأولى هي بمرتبتها العليا هي صفة الحق جلّ شأنه والأمثل فالأمثل من الأنبياء والمرسلين، والأوصياء والصديقين، ولعلها في بعض البشر من الغرائز والمواهب لا تحصل بالطلب والكسب كصفاء اللؤلؤة واشراق الشمس وفيض الينابيع، ومثلها رذيلة البخل قد تكون طبيعية في بعض البشر وغريزة وهناك اوساط ونفوس ساذجة ليس في جبلتها هذا ولا ذاك فيؤثر فيها المحيط والتربية، والأفران فضيلة أو رذيلة، وما من شريعة من الشرائع، ولا دين من الأديان، ولا كتاب من الكتب قد حثَّ وبعث وبالغ في الدعوة إلى الإحسان والمعروف وبذل المال في سبيل الخير مجاناً لوجه الله تعالى كشريعة الإسلام وكتابها المجيد، وقلما تجد سورة من سور القرآن ولم يتكرر فيها طلب الأنفاق والوعد بالأجر العظيم له خذ اول سورة بعد الفاتحة وهي اوسع سورة بعد الفاتحة وهي اوسع سورة تضمنت التشريع الاسلامي وعامة فرائضه من الصلاة والصوم والزكاة والحج والنكاح والرضاع والطلاق والمعاملات والديون والرهن والقصاص والديات وغير ذلك، افتتح البارئ جل شأنه هذه السورة بالأنفاق، وقرنه بالايمان بالله، وبأهم دعائم الاسلام وهي الصلاة فقال: [الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهمْ يُنفِقُونَ](6) ثم قال جلَّ شأنه فيها بعد جملة آيات [وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ](7) ، ثم قال بعد فصول طويلة، وبيان احكام كثيرة [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ](8) ، ولم يكتف بهذا كله في هذه السورة المباركة حتى افاض في فضل الانفاق واجره العظيم، وانّه يعود باضعافه المضاعفة وجاء بأبلغ الامثال، وابدع المقال فندب الى البذل والاحسان وحرمة الربا الذي فيه قطع سبيل المعروف، وأكل المال بالباطل، وجعل من يصر على استعماله محارباً لله العظيم والله محارب له، كل ذلك في ضمن اكثر من ثلاثة عشر آية مطولة بأها عزَّ شأنه بقوله: [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ](9) الى قوله تعالى: [الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ](10) ، ثم بعدها اربعة عشر في فضل الانفاق الحقها بتحريم الربا، وفظاعة شأنه، وتهويل جريمته، وبيان جملة من احكامه فقال: [الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ](11) وهذا تصوير بديع لحال المرابين، وعظيم جشعهم، وحرصهم على جمع المال وادخاره وتوفيره، فهو كالذي فيه مس من الجنون يذهب ويجيء ويقوم ويقعد ويأخذ ويعطي، فهو في حركة دائبة، وعمل متواصل لا يقر له قرار، ولا يستريح من التفكير والتوفير والادخار في ليل ولا نهار واذا اعترضه معترض قال مبرراً عمله انما البيع مثل الربا والبيع حلال فالربا مثله، وهو قياس فاسد، ويعرف فساده من القاعدة الشرعية المباركة (الغنم بالغرم)(12) فكل معاملة فيها غنم بلا غرم فهي اكل مال بالباطل، والبيع غنم بغرم، ومبادله مال بمال، بخلاف الربا فأنه للآخذ غنم بلا غرم، وللدافع غرم بلا غنم، فاذا اعطى العشرة باثنتي عشر من جنس واحد فقد اخذ اثنين بلا عوض فهو اكل مال بالباطل ولذا اختص الربا بالمتجانسين، أي ان يكون العوضان من جنس واحد ويكون من المكيل والموزون، اذ المعاملة بالمعدود، والمشاهدة نادرة والنادر ملحق بالعدم، ومدار المعاملات في العالم على الكيل والوزن مضافاً الى جهات اخرى، وما ابدع ما اروع تعقيب آيات الحث من الانفاق احساناً وكرماً بآيات تحريم الربا فأن ذلك فضل واحسان، وهذا جور وعدوان،وهذه الفصول في آخر هذه السورة التي هي اطول او افضل سور القرآن من حيث بيان النواميس الاسلامية، محبوكة كالسرد الوضين فأنه عزَّ شأنه ذكر فضل الإنفاق في سبيل الله والعطاء المجاني وربط به حرمة الربا، وهو الاخذ العدواني، ثم اردفه بالدين والرهن واحكامهما والامر بانظار المعسر [وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ](13) انظر واعجب لهذه الرحمة الواسعة، وهذا التشريع الرفيع، وهل يبقى لك شك في ان هذا القرآن من الوحي المعجز والذكر المبين، نزل به الروح الامين من رب العالمين، وهل تجد شيئاً من هذه الاساليب في شيء من التوراة والانجيل والزبور وغيرها، وهي اكبر حجماً، واكثر الفاظاً ورقماً أرأيت كيف تنازل العظيم من أوج عظمته الى مخلوقه العاجز الضعيف فصار يستقرضه ويقول: [مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ](14) ثم لم يكتف بهذا كله في الدعوة الى التعاون وتعاطف البشر بعضهم على بعض بالاحسان والمعروف، نعم لم يكتف بما ندب اليه من المعروف على سبيل الندب والاستحباب وان كان واجباً اخلاقياً، نعم لم يكتف بذلك العموم والاطلاق في الترغيب الى الانفاق والاحسان لكل ذي روح حتى البهائم والهوام بل وحتى الكلب العقور، فأذا رأيت كلباً يلهث من العطش استحب لك في الشريعة الاسلامية ان تسقيه الماء (فأن لكل كبد حرا أجر) كما في الحديث امّا الرفق بالحيوان والحمولة والدواب فقد عنيت الآداب الاسلامية برعايتها والرحمة لها عناية بالغة، وفي الحديث ما مضمونه: اذا وصلت المنزل فأبدأ بسقي دابتك وعلفها وراحتها قبل نفسك ولا تتخذوا ظهور دوابكم منابر، ولا تحملوا عليها فوق طاقاتها ولا تجهدوها ولا تضربوا وجوهها الى كثير من امثال ذلك مما لا مجال لإحصائه في هذا البيان، اما الفقراء والضعفاء والعجزة فلم يكتف لهم الشارع المقدّس ورحمته الواسعة بهذه العمومات والمطلقات، بل جعل لهم مزيد عناية تخصّهم وفرض لهم في اموال الاغنياء نصيباً مفروضاً، وصيّرهم شركاء لهم فيما بأيديهم، ولكن من دون اجحاف واعتساف باموالهم بل قال الشارع الأقدس في كتابه المقدّس [وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ](15) يعني الزائد من المال على حاجته حسب شأنه في سنة او سنوات، وقال المبلغ عنه من فضول اموال اغنيائكم ترد على فقرائكم وفي الحديث ما مؤدّاه (لمّا علم الله ان نسبة الفقراء من الاغنياء العشر فرض لهم العشر في اموالهم وما جاع فقير الا بما منعه الغني من حقه) نعم فرض للفقراء الحق على الاغنياء ولكن جعل السلطنة للاغنياء واعطاهم الحرية الواسعة والاختيار العام فيما يدفعون من نقود او عروض ولأي فقير يدفعون، وبأي وقت يشاؤون، والفقير وان صار شريكاً ولكن لا سلطة له على الاخذ وانّما سلطة الدفع والتعيين لربّ المال، وعدلت الشريعة الاسلامية هذه القضية حذراً من تفشي داء الكسل والاتكال في النفوس وترك الناس السعي والعمل وتغلب البطالة والكسالة على المجتمع فخصَّ ذلك الحق بالفقير الذي لا يستطيع العمل لعذر من الاعذار، او كان عمله لا يفي بمؤنة عياله، ثم حث الناس على الكسب والسعي في توفير المال وأوجبه لتحصيل الرزق له وللعيال، كما اوجب للعمال دفع حقوقهم موفرة من ارباب الاموال وعدم بخس  ما يستحقونه من الأجر وان يدفع للعامل أجرته فوراً قبل ان يجف عرقه، وهذه هي الاشتراكية الصحيحة العادلة السمحاء التي وقعت وسطاً بين افراط الاشتراكية الحمراء وتفريط الرأسمالية القاسية السوداء فلم تسلب الغنيّ حريته فيما بيده وما استحصله بجهده كما تسلبه الشيوعية الظالمة التي تسلب بعسفها، وظلمها افضل نعم الله على العبد وهو الحريّة، ولا سلبت العامل ما يستحقه بعمله من الأجرة، ولم تبخس حقه كالرأسمالية [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا](16) انظر سعة نظر التشريع الاسلامي وعنايته بسد الحاجة وتدارك مواضع الضعف في الأمة فيما فرض من الزكاة وتعيين مصرفها ومستحقيها فجعل الفقراء والمساكين في الدرجة الاولى ثم للعاملين في جبايتها ثم للمدينين الذين لا يستطيعون وفاء دينهم ثم الاسراء والعبيد وعتقهم ثم ابناء السبيل المنقطعين في الغربة والمؤلفة قلوبهم وفي سبيل الله أي المصالح العامة كبناء القناطر والمدارس والمعاهد والمعابد وتعبيد الطرق وامثال ذلك فرض الله الفقراء العاجزين عن تحصيل ما يمونهم وعيالهم لنقص في ابدانهم من مرض ونحوه او عدم مواتاة الحظ لهم (أن صح انّ شيئاً يسمى الحظ له شيء من التأثير في المقادير) نعم فرض الله الزكاة وقرنها بالصلاة اهتماماً بها في زهاء عشرين آية متفرقة [أَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ] اربع منها في سورة البقرة(17) ثم تكررت في عامة سور الطوال، والمفصل والقصار وآخرها في سورة البينة آخر القرآن [وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ](18) وفي الجميع قدمت الصلاة على الزكاة الا في آية واحدة [ قدْ أَفلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى](19) لنكتة معلومة، ولكن في الحديث ما يشير الى انه تعالى ربط الزكاة بالصلاة للدلالة على ان من لا زكاة له لا صلاة له، يعني ان من وجبت عليه زكاة في امواله لم يدفعها لمستحقها لم تقبل صلاته، وان اتى بها على اصح وجوهها، ومن سعة رحمته وعنايته بخلقه جعلها في اهم الاشياء واعمها، والزمها في حياة البشر ومقومات العيش وهي الاجناس التسعة النقدان، والغلات الاربع والانعام الثلاثة، وهو عزَّ شأنه وان فرض فيها النزر اليسير، وهو العشر ونصفه أو ربعه ولكن الحاصل من مجموعه الشيء الكثير، وليست فوائد هذا التشريع وهذه الاشتراكية العادلة الحرة مقصورة على الناحية المادية فقط بل فيها من الفوائد الاجتماعية والتأليف بين الطبقات، وتعاطف الناس بعضهم على بعض وقطع دابر الفساد والشغب فيما بينهم ما هو اوسع وانفع واجلّ واجمع فأنّ فيه غرس بذور المحبة بين الغني والفقير فالغني يدفع وينفع الفقير باليسير من ماله عن طيب خاطره اداءً لواجبه ورغبة بطلب المثوبة من ربه والفقير يأخذ من غير مهانة ولا ذلة لأنه اخذ الحق الواجب له من مالكه وخالقه ثم اردف الزكاة بالخمس توفيراً لحق الفقراء، وتكريماً للعترة الطاهرة عن تلك الفضول التي هي صدقات ونوع من الاستجداء ثم رعاية شبه الجزاء والاجر لجدهم الاعظم فيما تحمل من عناء التبليغ واعباء اداء الرسالة.

وبعد ذلك الحث على الانفاق عموماً، وتشريع الزكاة والخمس خصوصاً هل قنعت واستكفت سعة تلك الرحمة وبليغ هاتيك الحكمة؟.

هل اكتفت للفقراء والعناية بهم بكل ذلك؟.، كلا بل فتحت في التشريع الاسلامي باب (الكفارات) وهو باب واسع يدخل في اكثر العبادات وغير العبادات وغير المحرمات، فقد مشت وفشت فريضة هذه الضريبة حتى في الصلاة وتكثّرت في الصوم والاعتكاف والحج والايلاء والظهار والنذر واليمين وقتل الخطأ بل والعمد وغير ذلك مما يجد المتتبع في اكثار ابواب الفقه، وهو اطعام للفقراء تارة، وكسوة اخرى، وعتق ثالثة، جمعت الشريعة الاسلامية بسعة رحمتها وعظيم حكمتها بين رعاية الفضل والعدل، واقامت قواعد الاقتصاد والاعتدال في بذل الاموال ولما ندبت وبالغت في الحث على الانفاق في سبيل الله، وتدرجت فيه الى ابعد غاية الانفاق من فاضل المال وحواشيه اولاً لا من صلبه ثم المواساة والمشاطرة من صميمه ثانياً [وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ  لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ](20) ثم الايثار على النفس ثالثاً [وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ](21) وهذا اقصى ما يتصوّر من السخاء والكرم والردع عن رذيلة البخل والشحّ، وحذراً من ان تطغي هذه العاطفة فتجحف بالمال وتضرّ بالأهل والعيال، ويضطرب بها حبل المعيشة والعائلة تداركت الشريعة ذلك وعدلت هذا الميل على المال، وقالت لا صدقة وذو رحم محتاج بل سبق ذلك كتاب الله المجيد، فأنه جلّت عظمته لمّا بالغ في دعوة الناس عموماً، والمسلمين خصوصاً الى البذل والاحسان وانفاق المال على الفقراء والمساكين فيما يزيد على سبعين آية بأساليب مختلفة، وتراكيب عجيبة توجه الكتاب الكريم الى تعديل ذلك فأمر بالاقتصاد والتدبير والاعتدال ومجانبة التبذير فقال جلّ وعلا: [وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا](22) بل زاد فقال: [كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوا](23) أي لا تسرفوا في العطاء بل اوضح ذلك في سورة الاسراء وسورة الفرقان فقال في الاولى: [وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا](24) وفي الثانية: [الَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا](25)الى كثير من امثالها، ومن هنا كانت الشريعة الاسلامية شريعة العدل والفصل [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكمْ أُمَّةً وَسَطًا](26) لا تدعو الى فضيلة الا وتقرنها بالاعتدال والعقل والتوسط (خير الامور اوسطها) فلله شريعة الاسلام المقدّسة ما اوسعها واجمعها وامنعها وانفعها، افلا قائل يقول لهذا الشباب الطائش المخدوع بتلك الشيوعية الحمراء، والبلشفية السوداء؟… أتطلبون اشتراكية اعلى وأصح من هذه الأشتراكية المنظمة العادلة التي توسع على الفقراء والمحاويج ما يرفع حاجتهم، ويحفظ لأرباب الاموال والاغنياء مكانتهم وحريتهم، ولا تضايقهم ولا ترهقهم ولا تحرم العاملين ثمرة اتعابهم ولا تجعلهم كآلة ميكانيكية، او كالبهائم ليس لها الا علفها ومعلفها، نعم انك لا تهدي مـن احببـت ولكن الله يهـدي من يشـاء، بـل الشيـطان سـوّل لـهم وامـلي لهم، ولعل العناية تدركهم فتردهم الى صوب الصواب والمنهج القويم ان شاء الله تعالى(27).


(1) مولانا العالم الرباني احمد بن محمد الأذربيجاني الأردبيلي من آيات الله الباهرة ومن اكبر فقهاء الأمامية ورؤساء الأمة قال العلاّمة المجلسي (رحمه الله): (لم اسمع بمثله في المتقدميين والمتأخريين) توفي سنة (993)هـ ودفن في جوار القبة العلوية البيضاء في النجف الأشرف قدس الله روحه.

(10) سورة البقرة آية: 274.

(11) سورة البقرة آية: 275 قوله تعالى: كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان أي المصروع وتخبط الشيطان من زعمات العرب يزعمون ان الشيطان يخبط الأنسان فيصرع والخبط الضرب على غير استواء كخبط العشواء فورد على ما كانوا يعتقدون والمس الجنون وهذا ايضاً من زعماتهم وان الجني يمسه فيختلط عقله ولهم في الجن قصص واخبار وعجائب وانكار ذلك عندهم كأنكار المشاهدات، هذا مختصر ما قاله الزمخشري في الكشاف.

القاضي الطباطبائي

(12) وقد شرح سماحة شيخنا الأمام ــ متعنا الله تعالى بطول بقائه ــ هذه القاعدة الشريفة في كتابه القيم (تحرير المجلة) ج1 ص55 ــ 56 في مادة 85 ــ 87 وادى حقها في التحقيق والتنقيب ومن اراد ان يطلع عليها ويفهم المراد منها فعلية ان يراجع ذلك السفر الجليل الذي جادت به براعته منذ سنين وهو من جلائل الكتب الممتعة ومن نفائس الآثار المترشحة من قلم سماحته وفيه تستبين الموازين العلمية بين فقه سائر المذاهب الاسلامية وفقه المذهب الجعفري وما فيه من غزارة المادة وسعة الينبوع وكثرة الفروع وقوة المدارك وتشعب المسالك ورصانة المباني وسمو المعاني ومطابقة العقل والعرف وغير ذلك من المزايا العالية والخصائص الكامنة فيه وكيف لا يكون هذا الفقه جامعاً لهذه الأوصاف مع انه مأخوذ من اهل البيت النبوي ومن الأئمة الطاهرين (ع) خزان علم الله وحفظة وحيه وتراجمة كلامه وعلومهم مقتبسة من مشكاة النبوة وهم اعرف بفقه شريعة جدهم من غيرهم كأبي حنيفة الفارسي (( لاشك ان ابا حنيفة كان من الفرس انظر كتاب (تبييض الصحيفة في مناقب ابي حنيفة) من تصانيف جلال الدين السيوطي الشهير ص3 ط2 حيدر آباد الدكن ــ وفي ذلك الكتاب من القضاياء العجيبة التي ادوها من المناقب في حق ابي حنيفة مما تأباها العقول السليمة ففي صفحة (19) انه حفظ على ابي حنيفة انه ختم القرآن في الموضع الذي توفي فيه سبعين الف مرة ولم تفطر منذ ثلاثين سنة وفي صفحة (35) انه صلى خمساً واربعين سنة على ضوء واحد وامثال هذه الترهات كثير ولا يزيدك الا تعجباً فراجع)) وامثاله. فدع عنك الجنايات الصادرة من اقلام ابن خلدون البربري المغربي ونظرائه الذي عاش في اقصى المغرب ولم يطلع على مزايا الفقه الجعفري حتى تفوه في حقه بزخرف القول والكلام المقذع كما هو موجود في مقدمته المشهورة. وكم له من امثال هذه الجنايات الفظيعة التي اقتفى اثره فيها المقلدة من كتبة العصر فتحاملوا على الشيعة باقلامهم المستأجرة والصقوا بهم كل سنعاء. والى الله المشتكى.

القاضي الطباطبائي

(17) سورة البقرة آية: 43 ــ 83 ــ 110 ايضاً سورة البقرة آية: 177 [ اقام الصلاة وآتى الزكاة] ايضاً سورة البقرة آية: 277 [ اقاموا الصلاة وآتوا الزكاة].

(20) سورة المعارج آية: 24 ــ 25 وفي سورة الذاريات آية: 19 قوله تعالى [ وفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ  لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ].

(22) سورة الاسراء آية: 26 ــ 27.

(27) وبمناسبة ذكر الزكاة نذكر فيما يلي بعض تعليقات سماحة شيخنا الأمام دام ظله على (العروة الوثقى) ــ للسيد آية الله الشريف الطباطبائي اليزدي (قدس سره) ــ مما لم تذكر في حاشيته المطبوعة على الحجر سنة (1367)هـ في النجف الأشرف التي لم يكتب مثلها على كثرة التعاليق والحواشي مع الأشارة إلى المدارك والقواعد وزيادة بعض الفروع والمباحث العالية والفوائد النافعة والثمار اليانعة فراجعها تجدها فوق ما نقول.

القاضي الطباطبائي


 

 

 
امتیاز دهی
 
 

 
خانه | بازگشت | حريم خصوصي كاربران |
Guest (PortalGuest)

دبيرخانه كنفرانس‌هاي بين‌المللي
مجری سایت : شرکت سیگما