الجمعة, شوال 24, 1445  
 

التوضيح في بيان حال الانجيل و المسيح

فائدة عامة

 

الباب الثالث في بيان أحوال الأناجيل

 

  



الباب الثالث في بيان أحوال الأناجيل
وأحوال مؤلفيها وأحوال التلاميذ والرسل من حيث الوثاقة
والاعتماد والقوة والسداد، وبدء نمو بذرة تلك الدعوة

 

أعلم أن يسوع المسيح بدأ في الدعوة وهو ابن ثلاثين سنة كما نص عليه في الثالث من (لوقا) عدد 23 وصلب وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة فيكون تمام أيام نبوته ثلاث سنوات، وتزعم الأناجيل أن خلقاً كثيراً شاهدوا عجايبه ومعجزاته ولكن لا يعلم على التحقيق من مقدار من آمن به سوى سبعين نفراً، وقد اختار من هؤلاء السبعين اثني عشر تلميذاً، كانوا هم خواصه وملازميه الذين لا يفارقونه غالباً، وشاهدوا أكثر عجايبه، وهم حسب نص الأناجيل، سمعان، الذي سماه بطرس وهو أقدمهم وأقربهم منه، ويعقوب بن زبدي، ويوحنا أخو يعقوب، واندرواس، وفيلبس، وبرثولمارس، ومتى، وتوما، ويعقوب بن حلفي وتداوس، وسمعان القانوي، ويهوذا الاسخريوطي.

وكان بطرس هو الذي استخلفه يسوع وأقامه وصياً عنه وقال له: إبنِ كنيستي على الصخرة، وفي نظر التحقيق ان رأس الزاوية لدين النصرانية هم الأحد عشر التلاميذ وحجر الزاوية الأول هو بطرس والحجر الثاني هو تلميذه بولس، أما بطرس فانا اوقفك على منزلته من الإيمان، ومقامه من اليقين، ورسوخ قدمه في الصبر والثبات والتفاني في حب إله اليسوع، ويكفيك لذلك شاهدان من نفس الأناجيل.

(الأول) ما في الاصحاح السادس (22) من (متى) فأخذه بطرس إليه وابتدأ ينتهره، أي ينتهر المسيح قائلا حاشاك يا رب أن يكون لك هذا (23) فالتفت وقال لبطرس: اذهب عني يا شيطان أنت معثرة لي لانك لا تهتم بما لله لكن بما للناس.

(الثاني) ما اتفقت عليه الأناجيل كلها، منها ما في (26)، عدد (31) من (متى) ما نصه: حينئذ قال لهم يسوع كلكم تشكون في هذه الليلة لانه مكتوب اني اضرب الراعي فتتبدد خراف الرعية فقال بطرس وان شك فيك الجميع فانا لا اشك فيك ابداً، قال له يسوع: الحق أقول لك انك في هذه الليلة قبل أن يصيح ديك تنكرني ثلاث مرات، قال له بطرس: ولو اضطررت ان أموت معك لا انكرك، وهكذا قال جميع التلاميذ، ولكن مع الأسف (كما قال) ان اليهود قبضوا على المسيح، فاما التلاميذ فقد كان أقصى مدافعتهم ومواساتهم لربهم الفرار عنه فصاروا شذر مذر، لا عين ولا أثر، نعم ثبت معه بطرس ولكن أي ثبات، ثباتاً كانت الهزيمة خيراً منه، فانه سرعان ما أنكر المسيح وبرء منه وما اكتفى بذلك حتى صار يلعنهُ ويحلف انه لا يعرفه.

ففي اصحاح (27) من (متى) عدد (69) ما نصه: أما بطرس فكان جال خارج الدار فجاءت جارية قائلة: وأنت كنت مع يسوع النصارى فانكر أيضاً بقسم اني لست اعرف الرجل (73) وبعد قليل جاء القيام وقالوا لبطرس حقاً أنت منهم. فان لغتك تظهرك (74) فابتدأ حينئذ يلعن ويحلف اني لا اعرف الرجل، وللوقت صاح الديك (75) فتذكر بطرس كلام يسوع الذي قال له انك قبل ان يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات انتهى بحروفه، تأمل في هذه القصة جيداً ولا تفوتنك المزايا والخصوصيات، وحينئذ يستبين لك مقام الرجل (بطرس) ومرتبته من الإيمان وتفاديه لربه اليسوع الذي جعله خليفة ووصياً عنه.

أما يهوذا الاسخريوطي الذي هو أحد الاثني عشر الذين اختارهم الرب يسوع فقد عرفت مبتدأ خبره، وعاقبة امره، وبهذا قد ظهر لك حال الأعلى والأدنى والأوساط من التلاميذ الذين هم خاصة المسيح والحواريون له فما ظنك بالباقين، هذه هي الطبقة الأولى من اصحاب المسيح، أما الطبقة الثانية وهم تلاميذ

التلاميذ فاعظمهم واشهرهم (بولس) وبنظر الاعتبار في ترجمة أحواله المسرودة في كتاب (أعمال الرسل) الذي هو أهم الأناجيل بعد الأربعة الأولى، نجده أكبر مجاهد في نشر الدعوة المسيحية، وفي الحق انه هو الذي نشر دين النصرانية في سوريا وادخله في الرومان واليونان وبلغ به إلى تخوم أوربا وتغلغل به إلى حدود اسبانيا وكافح المصايب والمصاعب في هذا السبيل، وصار غير مرة عرضة للهلكة حسبما أورده في (أعمال الرسل) وتبعه على ذلك تلميذه (مرقس) الذي اقتنصه في بعض اسفاره هذا كله بنظر الاعتبار الأول في (أعمال الرسل) وغيره، وأما بالنظرة الثانية الدقيقة التي تخرق السطوح وتنفذ في الأعماق، فانك لا محالة تجد من سيرة هذا اليهودي المتنصر انه قد كان رجلا مهرتقاً لا يركن إلى دين، ولا يتقيّد بشريعة بل كان يتلاعب بالأديان، ويسعى وراء غاية كبيرة وهي تمزيق الشرايع السموية، والنواميس الإلهية، فقد كان أولا مدّة حياة المسيح وبعد صلبه يهودياً قاسياً، ورومانياً صلباً، وفريسياً قحاً، وكان يحسن العبرانية والرومانية واليونانية وهذا هو الذي نشطه للدعاية والتبشير وكان اسمه حين كان يهودياً (شاول) وسمى نفسه حين تنصر (بولس) ادرك المسيح وهو ابن عشرين سنة ولم يؤمن به بل صار من أعظم المضطهدين للنصارى والساعين في قلع جرثومتهم، وهو أحد شهود رجم (استفانوس) الذي يعرف عند النصارى بالشهيد الأول، واحد السبعة الذين اختارهم التلاميذ الاثني عشر لنشر الدعوة وكان قد فر جمع النصارى إلى دمشق بعد رجم (استفانوس) تخلصاً من بلية شاول وقومه الفريسيين فلحقهم ليردهم إلى نير اضطهاده، فيقال ان المسيح تجلى له في الطريق قائلا له: إلى تضطهدني، فصار من ذلك النور أعمى ثلاثة أيام، ثم بعد أن دخل دمشق أبصر واستبصر وصار يجد ويجتهد في نشر تعاليم المسيح، واجتمع مع التلاميذ خاصة مع (بطرس) وهو ان تلمذ في الظاهر عليهم ولكن صار في الحقيقة استاذاً لهم،

والامارات تشهد ان هذه التعاليم التي بأيدي النصارى اليوم كلها ترجع إلى مخترعاته على الأخص تعليم (الثالوث) الذي هو الطامة الكبرى في دين النصرانية.

دخل هذا اليهودي في شريعة المسيح وهي في اضعف مبادي ترعرعها ما استحكمت اصولها ولا انتظمت فروعها، فتلاعب (بولس) فيها وفي الشريعة اليهودية ما شاء وشاءت له الأهواء، أما اليهودية فسحق بل محق جميع أحكامها وجعل دين الله من وجهة الأحكام ونواميس التروك والأفعال، إباحة مطلقة، وهكذا جعل دين النصرانية في فروعه، وأما أصوله فافسدها بتعليم الثالوث وان الواحد ثلاثة، الأمر البديهي الاستحالة، ويدلك على ما نقول، ما تجده في رسائله لو تدبّرتها من توهين التوراة واحتقارها والنظر إليها من طرف خفي بعين الازدراء، ففي الاصحاح السابع من رسالة العبرانيين عدد (18) ما نصه: فانه يصير ابطال الوصية السابقة (أي التوراة) من أجل ضعفها وعدم نفعها، إذاً الناموس لم يكمل شيئاً، وفي السابع من الثامن: فانه لو كان الأول بلا عيب لما طلب موضع الثاني، ويقول للغلاطيين في ردعهم عن العمل بالتوراة: كيف ترجعون إلى الأركان الضعيفة الفقيرة التي تريدون ان تستعبدوا لها من جديد أتحفظون أياماً وشهوراً وأوقاتاً وسنين اخاف عليكم أن أكون تعبث فيكم عبثاً هـ.

لعمري لقد تفلسف، ودقق النظر في الأديان وتلطف، ولكن فلسفة زندقة والحاد يشهد لذلك أكثر كلماته في قواميسه ونواميسه فانها تشبه اتم الشبه كلمات ملاحدة البابية والبهائية في خزعبلاتهم التي وسموها (بالبيان والاقدس) وأمثالها، فقد قال (بولس) في عدد (14) و(15) من رسالة (تيطس) ما نصه: لا تصغوا إلى خرافات يهودية ووصايا اناس مرتدين عن الحق، كل شيء طاهر للطاهرين، وفي الاصحاح الثاني من رسالة (كولوسي) عدد (20) ما نصه: تفرض عليكم

فرائض لا تمس لا تذق لا تجس التي جميعها للفناء، وقد أكثر من هذه الهرتقة بل الزندقة الماحقة للأديان فقال في عدد (16) من تلك الرسالة اصحاح (2): لا يحكم عليكم أحد في أكل ولا شرب أو من جهة عيد أو سبت أو هلال، أقول هذا غاية في الإلحاد ومحق كل الشرايع وكلية الأديان فلا صوم ولا صلاة ولا نواميس ولا تقاديس ولقد أبدى ملحوظاته السخيفة، وزندقته الطريفة بقوله في الاصحاح العاشر من رسالة (كورنتوش الأولى) عدد 29: لماذا يحكم في حريتي من ضمير آخر انا اتناول بشكر فلماذا يفترى علي لأجل ما اشكر عليه... ويستبين لك من هذه الفقرات وأمثالها في رسائله المشهورة المعدودة من ملحقات الأناجيل أن ذلك اليهودي أراد أن يجعل الديانة روحية محضة بعد أن كانت اليهودية جسمانية بحتة فوجد في النصرانية مجالا عريضاً لتوسيع تلك الفكرة، فانتحلها، وفي الحقيقة أفسدها وأبطلها، (زاد في الرقة حتى انقطعا)، والخلاصة ان من نظر أحوال هذا الرجل بامعان وتدبّر في سطوح فضلا عن أعماقها، لا يرتاب في انه زنديق قد أفسد الديانتين الموسوية والمسيحية، بل صار بلية كبرى على عموم أهل الأديان.

ومع إني لا أجد أكبر منه في رجال النصرانية حديثاً ولا قديماً، بل ولا من يدانيه، في قوة مساعيه، وجده وجهده في بث فكرته ونشر دعوته، ولكن مع ذلك فالمجهول من سيرته وترجمته أكثر من المعلوم، قال الدكتور (جورج بوست) في قاموس الكتاب المقدس: وجميع ما صنع هذا الرسول الغيور من الأعمال العظيمة... مدوّنة في سفر (أعمال الرسل) إلى أن سجن أول مرة في رومية حيث مضى عليه سنتان في ذلك الحبس من سنة (61) إلى (63) مسيحية وإلى هنا ينتهي ما ورد في الكتاب المقدّس عن سيرته، وأما ما بقي من تاريخ حياته فغير متيقن عندنا إلى أن قال: وما زال يبشّر إلى أن وصل إلى بلاد اسبانيا فأخذ منها أسيراً إلى رومية واستشهد هنالك سنة (67) أو (68)، ثم قال اما استشهاده في رومية فأمر

متفق عليه عند أكثر المسيحيين ويقال انه اخرج إلى خارج المدينة فقطع رأسه هناك على مشهد جمهور غفير هـ.

ومن جميع ما بسطناه لديك تعرف ان الحجر الأول من أساس مذهب النصرانية هو (بطرس) خليفة المسيح ووصيه، وقد عرفت كيف كانت مرتبة إيمانه ويقينه بربه اليسوع حتى انكره وتبرأ منه، بل ولعنه في آخر ساعة من حياته، فكانت منه (تحية الوداع)، والحجر الثاني هو (بولس)، وعرفت انه في ظاهر الحال وان كان يعد تلميذاً لبطرس، ولكنه استاذه في الحقيقة فانه كان أعلى فكراً، واغزر مادةً، وأكثر نشاطاً وسعياً وأكبر اثراً، وكان دين النصرانية يوم صلب المسيح نقطة ضعيفة، على صقيل صحيفة، فهي كانت سريعة الانمحاء ولكن بولس بمساعيه جعلها خطاً متصلا إلى اليوم، ولكنه في الحقيقة اتى بدين جديد لا يعرفه المسيح ولا تلاميذه وعزاه إلى المسيح ترويجاً له، وهو الذي نفخ روح البدعة في نفوس النصارى وزعمائهم وكان يطعن ويندد على بطرس ولا يعده شيئاً.

ففي الاصحاح الثاني من رسالته إلى أهل غلاطية ما نصه: ولما اتى بطرس إلى انطاكية قاومته مواجهة، لانه كان ملوماً لانه قبل ما اتى قوم من عند يعقوب كان يأكل مع الأمم (يعني الوثنيين التي لا تبيح التوراة مواكلتهم)، ولكن لما اتوا (أي النصارى) مع يعقوب كان يؤخر ويفرز نفسه (يعني يظهر انه يتنجس من الوثنيين رياءً، ولذا قال: ورآئي معه اليهود أيضاً حتى ان برنابا انقاد إلى ريائهم انتهى.

فانظر كيف جعل بطرس خليفة المسيح الذي يبني كنيسته مرائياً كذاباً، ولكن لا عجب بعدما عرفت من أن بطرس بنفسه لعن ذات المسيح وتبرأ منه، والمسيح بنفسه لعن بطرس وقال له يا شيطان انك معثرة لي، فقد اصبح هؤلاء الزعماء والقادة يكفر بعضهم بعضاً ويلعن كل فريق منهم صاحبه، وتلك الرذيلة اعني رذيلة الرياء التي نبز بها بولس استاذه بطرس، قد وقع هو فيها بذاته واستعملها من قبل نفسه.

ففي الاصحاح السادس من (أعمال الرسل) من العدد الأول إلى الرابع ما هو صريح في أن بولس ختن (تيموثاوس) لئلا يثير غضب اليهود، وهو الذي لم يزل يحرض على المعمودية ويمنع من الختان، فهل هذا إلاّ الرياء؟ والمداهنة في نواميس الدين، نعم قد استنزلوا لهم آية من السماء واثبتوها بزعم الوحي في الأناجيل، وتلك الآية هي التي فتحت لهم باب التلاعب بالأديان والتلون بأحكام الشريعة وتحويرها كيف شاؤا، ففي (16) (متى) عدد (18): أنت بطرس وعلى هذه الصخرة ابن كنيستي... واعطيك مفاتيح ملكوت السموات فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السموات، وكلما تحله على الأرض يكون محلولا في السموات انتهى.

وحسبنا هذا القدر الوجيز من بيان أحوال مؤسسي ديانة النصرانية ورأس الزاوية منها، والكبراء والزعماء الأولون لها، وقد عرفت مرتبة ايمانهم، وقسط ميزانهم من الثقة والأمانة واليقين والاعتماد، فما ظنك بالباقين الذين هم فقع بقاع لا أصل ولا فرع، ولا ثمرة ولا نبع، لا عمل فيشكر، ولا قول فيشكر، فتبصر، أيها المسلم في حال من تنصر هداك الله إلى الطريق الحق وهدى بك ان شاء الله، وحيث عرفت أحوال الرسل والتلاميذ والطبقة العليا من الحواريين، فلنوف لك القول موجزاً عن حال الأناجيل وأربابها.

وهي على قسمين الأناجيل الرابعة التي هي العمدة ولها المكانة الأولى عندهم وإليك بيانها (1) انجيل (متى)، و (2) انجيل (مرقس)، (3) (لوقا)، (4) (يوحنا)، والأول هو المقدّم وضعاً ورتبة على الباقي لانه تأليف أحد الاثني عشر الذين اختارهم المسيح للدعاية والتبشير، فيحق لو تقدم عليها وأخذ الحظ الوافر من الثقة، ولكن يوهن الاعتماد عليه أمور يجدر التوقف فيه من أجلها (1) عدم

الاتفاق بين النصارى الأولين على نسبة هذا الإنجيل إلى (متى)، فقد أنكر جماعة صحته فانكار صحة البقية كما يستفاد من (قاموس الكتاب المقدس)، (2) الاختلاف في لغته الأصلية، فقيل كتب اولا بالعبرانية، وقيل السريانية التي كانت لغة فلسطين الدارجة، وقال آخرون كتب باليونانية كما هو اليوم والمرجح عند المنقبين منهم الأول، وانه ترجم إلى اليونانية، فاختلفوا في المترجم انه هو أو شخص آخر مجهول، وكيف كان فبعد ان تلاعبت به يد الترجمة مع فقد النسخة الأصلية العبرانية وجهالتها لم يبق مجال للوثوق به، (3) ما عرفت من اشتماله على التناقضات والمنافيات بينه وبين نفسه، وبينه وبين غيره، (4) الاختلاف في زمن تأليفه فقيل: كتب بعد الصعود بثمان سنين، وقيل: بخمس عشرة، والمرجح عند أهل النظر منهم انه كتب بين الستين والسبعين بعد الصعود، وهذا أيضاً مما يوهن الاعتماد عليه.

(2) انجيل (مرقس) شاب يهودي ادرك المسيح وآمن به وتلمذ على بطرس وليس هو من الاثني عشر، وكتب انجيله في أواخر القرن الأول، وبعضهم يرى ان ترجمة كلمات بطرس، واختلف أيضاً في لغته الأصلية، وفيمن نقله إلى اليونانية فان الأناجيل قبل برهة كلها كانت يونانية، ومنها نقلت إلى اللغات الشايعة اليوم في أقطار المعمور، فكل الموهنات المتقدمة توهن هذا أيضاً وتزيد ان مرتبته من الوثاقة في حدّ نفسه ضئيلة ولا يعلم من أحواله إلاّ أن له مشاجرة قوية مع بولس فانه كان يتعصب لاستاذه بطرس، قال في (قاموس الكتاب) ما نصه: ولا يعرف شيء حقيقي عن حياته هـ.

(3) انجيل لوقا كان من الوثنيين فتنصر على يد بولس فليس هو من الاثنى عشر بل ولا من السبعين، ورافقه في بعض اسفاره الأخيرة، وذهب معه إلى فيلبي وبقي معه إلى أن أسر وأخذ إلى رومية، ثم قال أيضاً ولم يعلم شيء من حياته بعد

ذلك، وكفى بذلك موهناً مضافاً إلى الموهنات المتقدمة.

(4) انجيل يوحنا وهو آخر الأناجيل كتب عند نهاية القرن الأول من الميلاد ومؤلفه أحد الاثني عشر وهو ابن زبدي أخو يعقوب، وكان يسوع يحبه، وهو الشاب الذي كان يتكئ على صدر يسوع ويجلسه في حضنه شغفاً به، وبالجملة فصاحب هذا الإنجيل من المقرّبين، وأهل الطبقة الأولى، ولكن عدم اشتماله على جملة من الوقايع ومخالفته للأناجيل الثلاثة في جملة من الموارد، واشتماله على الغرايب التي انفرد بها عن اخوته، كل ذلك مما يوهن الثقة به أيضاً والاعتذار بالاتكال على ما في الأناجيل لا يجدي بعد تقدمه في الطبقة وتحريه التصفية والتهذيب، ولذا انكر جماعة قانونية هذا الإنجيل وجعلوه كتاباً قصصياً لا دينياً، وقد سبق لهم تشاجر طويل إلى ان قررته الكنيسة، وأنت ترى من جميع ما اشرنا إليه وهو قليل من كثير، إن هذه الأناجيل محفوفة من حيث الصحة والاعتبار بشبهات متراكمات كظلمات بعضها فوق بعض، فمن أين يأتي الاعتقاد والاعتماد بأن كل ما فيها وحي من الله منزل على نبي مرسل؟ كلا ثم كلا، فان تناول نجوم السماء أهون من اثبات هذه الدعوى، وهب ان (يوحنا) و(متى) لكونهما من الرسل الاثني عشر الذين ارسلهم يسوع إلى دعوة العالم يصلحون للوحي، ولكن من أين لمرقس ولوقا ذاك المقام الشامخ والشأو الرفيع.

وقد كان يجدر أن يكون انجيل (يوحنا الانجيلي) أوثق الأناجيل واصحها لقربه من المسيح وملازمته، فهو ثاني بطرس، ولكن ليس لذلك الإنجيل تلك المنزلة عند النصارى انفسهم، وفي الحق انه كان ينبغي إسقاطه لما فيه من الطامات الكبرى حتى ان فيه ما يظهر منه نسبة القول بتعدد الآلهة إلى المسيح، راجع عدد 33 إلى 36، محاورة اليهود مع المسيح: اجابهم يسوع أليس مكتوب في ناموسكم أنا قلت انكم آلهة. ان قال إله لاولئك الذين صارت إليهم كلمة الله فالذي قدّسه

الأب وأرسله إلى العالم اتقولون له انك تكفر لاني قلت اني ابن الله.

هذا حال الأناجيل الأربعة التي هي الأصول والدعايم، ومنها يعلم حال الفروع والتوابع، وهي (13) ـ أو (14) رسالة (لبولس) ورسالة (ليعقوب) ورسالتان (لبطرس) و3 رسائل (ليوحنا) ورسالة الرؤيا له ورسالة (يهوذا)، فهذه (27) رسالة ليست بذات أهمية وانما الأهمية للأربعة الأولى مع كتاب (أعمال الرسل)، ويرجحون انه تأليف (لوقا) صاحب الإنجيل الثالث، وهو سلسلة تاريخ لبطرس وبولس ومن تلمذ عليهما وبيان جملة من أعمالهما، وهو أيضاً غير مستوف لتمام ترجمتهما.

هذه مصادر النصرانية ومواردها، واصولها وأسانيدها، ولعل حبال الشمس وخيوط الهباء أقوى منها أحكاماً، وأشد ابراماً، ولكنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء.

خاتمة

ان دعاة السوء ومبشرين الشوم المنتشرين في الآفاق، والمتهاجمين في هذه الأيام على عواصم العراق يحملون بضاعة الصلف والقحة وعدم الحياء داعين إلى دين الخمر والخنزير وترويج سلعة المكر والتزوير، ربما يطرحون بعض الكلمات على بعض عوام المسلمين وبسطائهم تشويشاً لاذهانهم، وتوهيناً لعقدة ايمانهم، وتلك الكلمات وان كانت احقر من ان تذكر، وأقل من ان تنقل، وفي الغالب ان جواب تلك الشبهات الواهية لا يخفى حتى على العوام بفضل ما منحهم الله من سلامة الفطرة وصفاء القريحة وحسن الذوق وعناية الحق جل شأنه.

يقولون للمسلم مثلا ان محمداً(صلى الله عليه وآله) عند المسلمين هو حبيب الله وعيسى باعترافهم هو روح الله والروح اعز وأشرف من الحبيب.

ولا شك ان المسلم مهما كان لا تخفى عليه هذه المغالطة، فان الحبيب قد يكون اعز من الروح، وطالما بذلت الأرواح في سبيل الأحبة كما تبذل دون الاعراض وفي سبيل الصون والشرف، (وثانياً) ان المراد من قولنا عيسى روح الله ليس ان الله بدن كسائر الأبدان وان عيسى روح ذلك البدن الذي به يشعر ويحس ويقوى ويقدر، بل المراد بالضرورة ان عيسى روح من الله نفثها في رحم مريم، فصارت بدناً حساساً وهيكلا شاعراً، وهذه الصفة عامة غير خاصة، فان كل انسان هو من روح الله ومن مشيئته، كما قال عز شأنه (وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي)(1)، ولكن الحبيب صفة خاصة لصفيه (محمد) لا يشاركه فيها أحد.

يقولون ان محمداً قد مات وعيسى حي باعتراف المسلمين والحي أفضل من الميت، وهذه مغلطة الأطفال ومضحكة الصبيان، فان (محمداً(صلى الله عليه وآله)) أولا حي عند

____________

1- الحجر: 29، ص: 72.

الله يسمع ويرى، ونحن نقول في زيارة الأئمة من اوصيائه وذريته: أشهد أنك تسمع الكلام وترد الجواب والله سبحانه يقول (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَ تَاً بَلْ أَحْيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)(1)، فكيف بسادة الشهداء وقادتهم؟ و(ثانياً) ليس الحي أفضل من الميت مطلقاً فكم ميت أفضل من حي وكم حي أذل من ميت (رب عيش اخف منه الحمام).

وعلى هذين السؤالين فقس ما سواهما مما لا يخفى جوابه، ولا يحتجب وجه المغالطة فيه على أدنى طبقات البشر فضلا عن أعاليها والله الموفق للصواب وهو ولي التوفيق وبه المستعان.

____________

1- آل عمران: 169.

فائدة عامة

(أيها المسلم)

إذا استدل عليك المبشر خاصة أو المسيحي عامة بآية من القرآن الكريم فقل له: أما ان تؤمن بجميع هذا الكتاب وبكل ما اُنزل فيه أو تكفر به اجمع، فان كنت تؤمن به اجمع فما بالك تقول بالتثليث؟ وهو ينادي بأعلى صوته صايحاً: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَآ إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَ احِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِى السَّمَـوَ تِ وَمَا فِي الاَْرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا)(1)، وما بالك لا تؤمن بنبوة (محمد(صلى الله عليه وآله)) الذي أوحي القرآن إليه، ونص بالنبوة عليه.

وان كنت تكفر به أجمع فلا يصح لك الاستدلال بشيء منه، وإلاّ كنت ممن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض اولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون، وأما الالزام فهو جدل وخصام، ليس من الحكمة ولا المنطق ولا الكلام.

وعلى هذه الغاية فليكن الختام، فقد اسفر الصبح وارتفع الظلام؟

____________

1- النساء: 171 ـ 172.

 


 

 
امتیاز دهی
 
 

 
Guest (PortalGuest)

دبيرخانه كنفرانس‌هاي بين‌المللي
Powered By : Sigma ITID