يكشنبه 16 ارديبهشت 1403  
 
اصل الشیعه
 
مقدمة الطبعة السابعة


  



g

( 129 )


« مقدمة الطبعة السابعة »

بقلم المؤلَف









( رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْري * يَسسِّرْ لِي أمْري * وَاحللْ عُقْدَةً مِنْ لِساني * يَفْقَهُوا قَولِي ) (1)

من الواضح الغني عن البيان ما وصلت اليه حالة المسلمين ، ولا سيَّما في هذه القرون الأخيرة ، من الضعف والسقوط والذلَّة ، وتحكُّم الاجانب بهم وإستعبادهم ، واستملاك أراضيهم وديارهم ، وجعلهم خولاً وعبيداً ، يستعملونهم كاستعمال البهائم في مصالحهم ، وليستغلُّونهم بوضع الاغلال في أعناقهم ، إلى ما فوق ذلك من الهوان والخسران ، ممّا لا يحيط به وصف واصف ، ولا تستطيع تصويره ريشة مصوِّر ، كلُّ ذلك جلي واضح كوضوح أسباب ذلك ، وانَّ السبب الوحيد هو : تفرُّق كلمة المسلمين ، وتباغضهم وتعاديهم ، وسعي كل طائفة منهم لتكفير الآخرين ، فإذا اعتقدوا كفرهم لا محالة يسعون في هلاكهم وإبادتهم ! ! وما هو إلاّ الجهل المطبق ، والعصبية العمياء. فالجهل يمدهم ويطغيهم ، ومكائد الاجنبي المستعبِّد
____________
(1) طه 20 : 25 ـ 28 .


( 130 )


تشدهم وتغريهم .
وقد أفاضت أقلام الاعلام والخطباء ، وطفحت الصحف والمؤلَّفات في هذا الموضوع ، حتى أوشك أنْ يكون من الاحاديث التي صار يمجها الطبع ، وينبو عنها السمع ، لان الطبع موكل بمعاداة المعادات ، وكراهة المكررات . على إنَّك تجده بأوفى بيان في الكلمة الآتية التي كنّا جعلناها كمقدمة للطبعة الثانية وعنوانها : « كيف يتحد المسلمون » أو « كلمة لا بُد منها في الاصلاح ».
وإنَّما المقصود بالبيان في هذه الكلمة إنَّنا لمّا وجدنا قبل هذا أنَ المسلمين بالحال التي وصفنا ـ وليس المسلمون اليوم في رقعة هذه الكرة سوى طائفتين : السنَّة والشِّيعة ، وكلُّ المذاهب والطوائف المختلفة في الاسلام لابُدَّ وأنْ ترجع وتندمج في الاولى أو الثانية ، حيث يصح إطلاق إسم الاسلام عليها ـ ووجدت أنَّ الشِّيعة ـ وأخص علمائهم ـ يعرفون مذاهب اخوانهم السنِّيين كمعرفتهم بمذاهبهم ، حتى ألَّفوا الكتب الكثيرة بذلك : كالانتصار للسيِّد المرتضى ، والخلاف للشَّيخ الطوسي ، والتذكرة للعلامة الحلِّي ، واضعافها لغيرهم ، أمّا السنَّة فلا يعرف حتى علماؤهم ـ فضلا عن عوامهم ـ شيئاً من حقيقة الشِّيعة وواقع أمرهم ، بل لم على العكس يرون أنَّهم خارجون عن حظيرة هذا الدِّين ، وأنَّهم جمعية هدّامة ! ! وينسبون كلَّ فضيعة اليهم ، فإذا وجد الشِّيعة ذلك في كتب القوم يدفعهم الحقد والغضب ، فيقابلونهم بمثل ذلك ، أو بما هو اسوأ منه. . . وهكذا تمزَقت الوحدة ، وتفرَّقت الكلمة ، وصار ذلك قرَّة عين المستعمر ، وبلغ بهذا أقصى أمانيه .
فرأيت يومئذٍ أنَّ الحاجة ماسة ، والضرورة ملحة ، والواجب يُحتم تأليف رسالة وجيزة توضِّح للمسلمين : اُصول عقائد الشِّيعة وفروعها ، ومبدأ تكوِّنها ، وغارس بذرتها ، وأسباب نموِّها وسموِّها. بصورة موجزة ، وعبارة


( 131 )


دارجة ، فألَّفت رسالة « أصل الشِّيعة واُصولها » وجريت فيها على عفو الخاطر ، وجري القلم . أمليتها إملاءاً ، من غير تجديد مراجعة ، أوتزويد مطالعة ، إذ لم يكن الغرض فيها الجدل والاحتجاج ، وإقامة الادلَّة والبراهين ، بل مجرُّد ذكر رؤوس المسائل ، ومتن اُصول المذهب وفروعه ، ليعرف الناس مكانته في الاسلام ، وشدَّة علاقته بالدِّين ، وقواعده الاساسية .
وما كنّا نحسب أنْ تحظى تلك الرسالة بهذا الرواج ، ويحصل لها هذا الاقبال الواسع ، حيث تُرجمت إلى عدَّة لغات ، وطُبعت أربع بل خمس مرَّات ، ولكن . . . ومن الاسف المضني أنَّ الحال لا يزال على ذلك المنوال ، ولم يُخفِّف انتشار الكتاب شيئاً من غلواء القوم ، ولم يكسر من شدة سورتهم ، ولم تبرح أقلام الاساتذة المصريين في كلِّ مناسبة تطعن بالشِّيعة ، وتنسب اليهم الاضاليل والاباطيل التي كانت تُنسب اليهم في العصور المظلمة والقرون الوسطى ، عصر ابن خلدون ، وابن حجر ، واضرابهما ، مع أنَّ الكتاب « أصل الشِّيعة » قد طُبع في القاهرة « الطبعة الثالثة » ووزِّعت كلّ نسخه هناك .. .
أفما كان من الجدير ـ أو الواجب ـ أنْ يُغيِّر اللهجة ، ويخفف الوطأة ؟ ! كلا ، بل الشِّيعة لا تزال هي تلك الطائفة أهل البدع والاهواء ، والسحنة السوداء !! وقد سرى بغضهم والطعن فيهم إلى الخلفاء الفاطميين . . . لماذا ؟ لأَنَّهم شيعة ، ولأنهم روافض فهم أدعياء في النسب ، قرامطة في المذهب ، ينتهي نسبهم إلى يهودي في قول بعض ، وعقائدهم إلى ملحد ! ! هذا مع ما للفاطميين من الخدمات الكبرى للاسلام عموماً ولمصر خصوصاً ، فقد نشروا العلم والثقافة في مصر ، ورفعوا منار المعارف ، وشيَّدوا الجوامع والمساجد ، وأنشأوا الاَساطيل والمدافع لدفاع المهاجمين عن بلاد الاسلام . . . ألا يستفزك العجب من حملات المصريين على الفاطميين


( 132 )


وانت وهم يعلمون أنَّ درة تاج مفاخر مصر ، وغرَّة جبين مآثرها هو : « الجامع الازهر »(1) وهو من مآثرهم ومنشآتهم . ذلك العهد الجليل ، الميمون النقيبة ،
____________
(1) يُعد الجامع الأزهر ـ وذلك مما لا خلاف فيه ـ من المآثر الاسلامية الخالدة التي استطاعت ـ ورغم تقادم الدهور والعصورـ أنْ تبقى شاخصة ثابتة تحكي للاجيال مآثر الحقب والسنين التي شهدت اشراقة شمس الاسلام على بعض الدول والمدن رغم ما أحاط بهذا الدين العظيم من الكيد والمحاربة .
والجامع الازهر كان ثمرة واحدة من تلك الثمار المباركة والطيبة ، حيث اُنشأ في زمن الدولة الفاطمية ، واُسمي بالأزهر تبركاً باسم سيِّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها آلاف التحية والسلام .
بنى هذا المسجد جوهر الصقلي ، قائد جند أبي تميم معد بعد عام من فتح الفاطميين لمصر واقامتهم لدولتهم فيها عام ( 359 هـ ) ، وحيث تم بناؤه وأُقيمت أوّل صلاة جمعة رسمية فيه في يوم الجمعة سابع شهر رمضان عام ( 361هـ ـ 972 م ) ، وكانت تُقام قبل ذلك تارة في جامع عمرو ، وتارة في اًخرى في الجامع الطولوني .
بقي المسجد آنذاك محطة للمصنَين وطلبة للمصِّلين ، وحيث عُقدت بعد تأسيسه ببضع سنين أوَّل حلقة للدرس من قبل قاضي القضاة أبو الحسن علي بن النعمان القيرواني ، حيث قرأ آنذاك مختصر أبيه في فقه آل البيت عليهم السَلام ، وكان ذلك في صفر عام ( 365 هـ ـ 975 م ) .
بقي هذا المسجد يتلقى الرعايا والعناية من قِبل الحكّام الفاطميين ، وحيث زاد في بنائه المستنصر والحاكم ووسَعا فيه ، وكان يقابلهم كثرة توافد الطلبة والدارسين على طلب العلم في اروقته ، والتزود من أساتذته ، وبقي هذا الحال ردحاً من الزمن ، حتى انقضت دولة الفاطميين وجاء صلاح الدين الأيوبي ، فشهر سيفه ـ وذلك ممّا يؤسف له ـ لمحاربة الشِّيعة وقتلهم تحت كلِّ حجر ومدر ، وطمس اثارهم ومآثرهم ، وكان نصيب الازهر من ذلك منع الخطبة فيه ، وقطع الكثير ممّا أوقفه عليه الحاكم ، واستمر ذلك ما يقارب القرن من الزمان حتى أمر الملك الظاهر بيبرس باعادة الخطبة فيه ، وشجع على التعليم في أروقته ، بل وزاد بعض الشيء في بنائه .
وهكذا فقد شهد الأزهر وطوال الحقب الماضية أشكالاً مختلفة من المد والجزر ، تأثراً بالأحداث المختلفة التي أحاطت به وبالعالم الاسلامي ، ولكنًه بقي أثراً خالداً شاهداً على تلك الحقبة الماضية التي تولى فيها الفاطميون حكم مصر وادارة شؤونها


( 133 )


المبارك اللقب ، الاغر الطلعة ، الذي تخرج منه المئات من كبار العلماء والسّاسة ، أمثال : الشيخ محمَّد عبده ، وسعد زغلول ، ونظائرهما ممَّن كبرت وكثرت خدماتهم لمصر وللإِسلام . وإنَّ بقاء هذه المؤسسة الدينية اكثر من ألف سنة ، وما نالته وتناله كلّ سنة من الحظ والتوفيق للإتساع والرقي ، لأقوى شاهد على إخلاص بانيه ، وروحانية مؤسسيه ، وأنَه ممدود بالعناية ، ومحفوف بالالطاف الألهية . ولكن الاسف المؤلم أنَّ الفاطميين مع ذلك كلِّه عند المصريين أدعياء في النسب ، قرامطة المذهب ، ملاحدة في الدين ، لانَّهم روافض ، ولانهم شيعة ، ومن الشّيعة أخذوا عقيدة الوصية لعلي بن أبي طالب عليه السَّلام ، وقد أنكرها هو ولم يرضها في حياته كما لم يرض غيرها من الالقاب التي وضعها الشِّيعة له . . . ! !
والشِّيعة هم الذين يقفون بعد صلاة المغرب كلّ ليلة على باب السرداب فى سامراء ويهتفون بإمامهم المنتظر : اًخرج اُخرج . . . ! ! إلى آخر ما ذكره الاسّتاذ الفاضل في كتاب : « الحركة الفكرية » الذي طبع قريباً(1) .
والمدهش الغريب أن سامراء بلدة سنِّية ، وجامع الغيبة الذي فيه السرداب ـ ولا يزال ـ في تصرُّف السنّيين ، يقيمون تحت قبته جمعتهم وجماعتهم في الاوقات الخمسة ، ولا نصيب منه للشِّيعة ، إلا الاستطراق والدخول فيه للزيارة والصلاة والدعاء ، لأن ثلاثة من أئمتهم كانوا يتهجّدون فيه بالاسحار ، ويتفرغون فيه لعبادة الحقِّ آناء الليل وأطراف النهار . كان عيشهم عليهم السَّلام للزهادة ، وليلهم للتهجّد والعبادة ، ونهارهم للتعليم والافادة . نعم ، كانوا يُحيون الليل بالتهجُّد والعبادة في تلك البلدة ، وفي عين الوقت الذي كان فيه المتوكِّل ، خليفة المسلمين ، وأمير المؤمنين يحيي
____________
(1) الكتاب من تأليف الدكتور عبداللطيف حمزة .


( 134 )


الليالي الطوال في الخمر والشراب مع المغنِّيات والراقصات ، وأهل المجون والخلاعة ، كعبادة المخنَّث وغيره ، إلى أنْ هجم عليه الاتراك وقطَّعوه هو ووزيره الفتح بن خاقان بسيوفهم وهم سكارى لم يفيقوا إلاّ بحَرِّ السيوف ، حتى اختلط لحم الخليفة بلحم الوزير ، ولم يتميَّز أحدهما منَ الاخر(1) ، وإلى هذا أشار ملك الشًّعراء وأشعر الملوك ، البطل الفارس أبو فراس ، يخاطب بني العبّاس في شافيته المعروفة :

مِنكُم عَليةَ أمْ منهُمْ وَكانَ لَكُم * شَيخُ المُغَنِّينَ إبراهيمَ أمْ لَهُمُ
تَبدو التلاوَةُ مِنْ أبياتِهِمْ سَحراً * وَمِنْ بُيُوتكُمُ الاوتار وَالنَّغَمُ


فهل يُلام الشِّيعة على تقديس منازل أئمتهم وبيوتهم التي أذن الله تعالى أنْ ترفع ويُذكر فيها اسمه ؟
ولنتراجع إلى المقصود بالبيان ، وهو إنَّنا كنّا نأمل بنشر ذلك الكتاب الوجيز أنْ نرى أثره المحسوس ، ومفعوله الملموس ، في تعديل الخطة ، وتلطيف اللهجة ، وتقارب الفريقين ، فلم نجد إلا ما يوجب اليأس ، ويحطِّم الامل ، وعرفنا أنَّ تلك العقائد والآراء صارت طبيعة موروثة للقوم ، لا يستطيعون نزعها والنزع عنها « وتأبى الطباع على الناقل ».
ولا لوم على عوام الفريقين في سوء الظن ، كلُّ فريق بالآخر ، وعداوته لأخيه ، إنَّما اللائمة على العلماء والعقلاء الذين يؤججون نار العداوة والبغضاء وقد جعلهم الله إخواناً وجعل دينهم دين التوحيد والوحدة .
ومع هذا الاسف المؤلم ، واليأس البليغ ، طلب مني جماعة ـ اخص بالذكر من بينهم ولدي محمَّد كاظم الكتبي ـ الاذن بطبعته السابعة ، وأنْ
____________
(1) اُنظر : مروج الذهب 5 : 37 ، الكامل في التأريخ 7 : 95 ، تأريخ الطبري 9 : 226 .


( 135 )


نضيف اليه بعض الاضافات والاصطلاحات ، وأنْ نتوسَّع بعض التوسُّع فيه ، فأجزنا إعادة طبعه ، على يأس من الفائدة المتوخاة ، وأضفنا في بعض أبوابه الشيء اليسير الذي لا يخرجه عن الايجاز ، لأننا نجد إنَّ الايجاز في هذه العصور أقرب إلى القبول .
( رَبَّنا عَلَيكَ تَوَكَّلْنا وَإليكَ أنَبنا وَإليكَ المَصيرُ ) (1)
____________
(1) الممتحنة 60 : 4.


( 136 )



( 137 )


ومنه أستمد وبه أستعين ، بعد حمد الله وسلام على عباده الذين اصطفى ...
يكتب سطور هذه الطروس محمد الحسين آل كاشف الغطاء في النَّجف الأشرف ، أوليات جمادي الاولى سنة الخمسين بعد الألف والثلاثمائة هجرية .
والسبب الباعث على كتابتها :
إنَّه منذ سنتين كتب إليَّ شاب عراقي من البعثة العلمية التىِ أرسلتها الحكومة العراقية للتحصيل في ( دار العلوم العليا ) بمصر كتاباً مطوّلاً ، ومما يذكر فيه ما خلاصته :
إنَه كان يختلف إلى كبار علماء القاهرة في الأزهر وغيره ، وربما جرى الحديث بينهم ـ والحديث شجون ـ على ذكر ( النَجف ) وعلمائها ، وطريقة التحصيل فيها ، والهجرة إليها ، وكانوا يكيلون لهم الكيل الوافي من الثناء والإعجاب بسموِّ مداركهم ، وعلوّ معارفهم ، ولكن يردفون ذلك بقولهم : ولكن يا للأسف أنَهم شيعة ! !


( 138 )


يقول ذلك الشاب : فكنتُ أستغرب ذلك وأقول لهم : وما الشِّيعة ؟ وهل هي إلاّ مذهب من مذاهب الاسلام ، وطائفة من طوائف المسلمين ؟
فيقول قائلهم في الجواب ما حاصله : كلا ليست الشِّيعة من المسلمين ! ولا التشيُّع من مذاهب الاسلام ! بل ولا يحق أنْ يكون أو يُعدَّ مذهباً أو ديناً ! وإنَّما هي طريقة ابتدعها الفرس ! وقضية سياسية لقلب الدولة الأموية إلى العبّاسية ! ولا مساس لها بالأديان الإلهية أصلاً ! !
ثم يكتب ذلك الشّاب تلو هذا : وأنا ـ يا سيِّدي ـ شاب مترعرع ، لا علم لي بمبادئ الأديان ، وتشعُّب المذاهب وفلسفة نشأها وارتقائها ، وكيف انتشرت ، ومن أين ظهرت ، وقد دخلني من اُولئك الفخام الجسام ـ الصدودين من الأعلام ـ شك من أمر تلك الطائفة ، وصرت على شفا ريبة من إسلامهم ، فضلاً عن سلامتهم .
ثم أخذ يتوسَّل إليَّ بالوسائل المحرجة أنْ أكشف له عن صميم الحقيقة ، ولباب الواقع ، كي يستريح من حرارة الشك إلى برد اليقين وروح الطمأنينة . يقول : وإذا لم تنقذني من تلك المتاهة فالمسؤولية عليك إنْ زللتُ أو ضللتُ.
فكتبتُ إليه ما اتسع له ظرف المراسلة ، واحتمله كاهل البريد ، وما يلائم عقلية ذلك الشاب ، وما رجوتُ أنْ يزيح عن فؤاده كابوس الشك والإرتياب ، ولكنِّي حملت على شواعري من الاستغراب أضعاف ما كان يحمل هو من الإرتياب ، وطفقتْ تتعارض على خواطري أسرابُ الشكوك من صحة تلك الواقعة ، وإنَه كيف يمكن أن يبلغ الجهل والعناد بعلماء بلاد هي في طليعة المدن العلمية الاسلامية ، ومطمح أنظار العرب ، بل كافة المسلمين في تمحيص الحقائق ، وتمزيق جلابيب الأكاذيب ، المنبعثة ـ على الأكثر ـ عن الأغراض والأهواء ، أو الاسترسال إلى مفتريات السَّفلة


( 139 )


والجهالة ؟ !
وما كدتُ أركن إلى صدق ما نقله ذلك الشّاب حتى وقع في يدي ـ في تلك الآونة ـ كتاب الكاتب الشهير ( أحمد أمين ) الذي أسماه ( فجر الاسلام ) فسبرتُه حتى بلغتُ منه إلى ذكر ( الشيعة ) فوجدتُه يكتب عنهم كخابطِ عشواء(1) أو حاطب ليل ، ولو أنَّ رجلاً في أقاصي الصين كتب عنهم في هذا العصر تلك الكتَابة لم ينفسخ له العذر ، ولم ترتفع عنه اللائمة ، ولكن وقفتُ على قدم ثابتة من صحة ما كتبه ذلك الشّاب ، وقلتُ : إذا كان مثل هذا الرجل وهو يكتب كتاباً يريد نشره في الامَّة الواحدة التي جعلها الله إخواناً بنصِّ فرقانه المجيد ، واستطلاع أحوالهم ، والوقوف على حقيقة أمرهم على كثب منه أيسر شيء عليه ، ومع ذلك يسترسل ذلك الاسترسال ، ويتقوَل على تلك الطائفة تلك الاقاويل ، إذن فما حال السواد والرعاع من عامة المسلمين ! وقد عرف كلُّ ذي حسٍ مسيسَ الحاجة ، وقيام الضرورة الحافزة إلى شدَّ عقد الوحدة ، وإبرام امراسها ، وإحكام أساسها ، وإنَه لا حياة للمسلمين اليوم إلاّ بالتمسُّك بعروتها ، والمحافظة عليها ، وإلاّ فلا حياة عزيزة ، ولا ميتة شريفة .
ولو عرف المسلمون حقيقة مذهب الشِّيعة ، وأنصفوا أنفسهم وإخوانهم ، لأماتوا روح تلك النشرات الخبيثة التي تثير الحفيظة ، وتزرع الضغينة ، وتكون قرة عين وأكبر سلاح للمستعمرين ولملاحدة العصر ، الَّذين هم أعداء كلّ دين .
____________
(1) هي الناقة التي في بصرها ضعف ، حيث تخبط إذا مشت ولا تتوقى شيئاً . ومراده من قوله هذا رحمه الله : ان هذا الكاتب لم يكن يتلمَّس موضع خطاه ، فاخذ يتخبط في أقواله وآرائه دون بصيرة ودون هدى .


( 140 )


أفلا يثير الحفيظة ، ويؤجج نار الشَّحناء في صدور عامة الشِّيعة ما يقوله في ( فجر الاسلام ) صفحة 33 : « أنَّ التشيُّع كان مأوى يلجأ اليه كلُّ من أراد هدم الاسلام » إلى آخر ما قال . . يكتب هذا وهو يعلم أنَّ النقد من ورائه ، والتمحيص على أثره ، يجرح عاطفة أًمَّة تُعدًّ بالملايين ، وتتكوَّن منها الطائفة العظمى من المسلمين .
ومن غريب الاتفاق أنَّ ( أحمد أمين ) في العام الماضي ( 1349 هجري ) ـ بعد انتشار كتابه ، ووقوف عدّةٌ من علماء النجف عليه ـ زار ( مدينة العلم ) وحظي بالتشرُّف بأعتاب ( باب تلك المدينة ) في الوفد المصري المؤلَّف من زهاء ثلاثين بين مدرِّس وتلميذ ، وزارنا بجماعته ، ومكثوا هزيعاً(1) من ليلة من ليالي شهر رمضان في نادينا في محفل حاشد ، فعاتبناه على تلك الهفوات عتاباً خفيفاً ، وصفحنا عنه صفحاً جميلاً ، وأردنا أن نمرَّ عليه كراماً ونقول له سلاماً .
وكان أقصى ما عنده من الاعتذار « عدم الاطلاع وقلة المصادر » ؟! فقلنا : وهذا أيضاً غير سديد ، فإنَّ من يريد أنْ يكتب عن موضوع يلزم عليه أولاً أن يستحضر العدة الكافية ، ويستقصي الاستقصاء التام ، وإلاّ فلا يجوز له الخوض فيه والتعرّض له ، وكيف أصبحت مكتبات الشيعة ومنها مكتبتنا المشتملة على ما يناهز خمسة آلاف مجلد أكثرها من كتب علماء السنّة ، وهي في بلدة كالنجف فقيرة من كل شيء إلاّ من العلم والصلاح إنْ شاء الله ، ومكتبات القاهرة ـ ذات العظمة والشأن ـ خالية من كتب الشيعة إلاّ شيئاً لا يذكر.
____________
(1) هزيعاً من الليل : أي طائفة منه ، وهو نحو من ثلثه أو ربعه . الصحاح ـ هزع ـ 3 : 1306 .


( 141 )


نعم ، القوم لا علم لهم من الشيعة بشيء وهم يكتبون عنهم كلّ شيء ! ! ، وأشدّ من هذا غرابة وأبعد شذوذاً أنَ جماعة من أبناء السُنَة في العراق لا يعرفون من أحوال الشيعة شيئاً مع دنوِّ الدار وعصمة الجوار.
كتب إليّ قبل بضعة أشهر شاب مهذَّب عريق بالسيادة من شيعة بغداد : أنَه سافر إلى لواء الدليم ( وهو اللواء المتصل ببغداد )(1) وأكثر أهاليه من السُنَة ، فكان يحضر نواديهم فيروق لهم حديثه وأدبه ، ولمّا علموا أنَه من الشِّيعة صاروا يعجبون ويقولون : ما كنّا بحسب أنَّ في هذه الفرقة أدباً وتهذيباً فضلاً عن أن يكونوا ممَّن له علم أو دين ! ! وما كنّا نظنّهم إلاّ من وحوش القفر وشذاذ الفلوات ! !
وكان هذا الشاب يستثير حميتي بقوارص الملام ، ويحثّني بالطلب المتتابع على أنْ أكتب عن الشِّيعة رسالة موجزة تُنشر بين الامم الجاهلة ، وتعرِّفهم ـ ولو النزر اليسير ـ من أحوال هذه الطائفة ومعتقداتها ودياناتها .
ثم بعد برهة سافر هذا الشّاب إلى سوريا للاصطياف ، وعرج منها إلى مصر ، فكتب إليَّ : يا سيدي الحال عن الشِّيعة عند أهالي مصر هي الحال التي أنبأتُك عنها في لواء الدليم ، والصورة تلك الصورة . ثم يقول لي : أفما آن لك أنْ تفي بوعدك ، وتقوم بواجبك ؟ فإن الشِّيعة مصوَّرة عند القوم بأبشع صورة يتصوّرها انسان . . . إلى آخر ما كتب ، وحقاً ما كتب وإنْ طال وأطنب .
فمن هذا كلّه ، وأضعاف مثله ممّا نجده في الصحف المصرية والسّورية وغيرها ، وما تنشره مقالاتهم آونة بعد اُخرى من قذف تلك الطائفة بكلِّ عظيمة(2) ، ونبزهم بكلِّ عظيمة ، هم منها براء براءة يوسف الصدِّيق
____________
(1) وهو الآن يدعى بـ : محافظة الأنبار.
(2) العَضَة والعِضَة والعضيهة : الكذب والبهتان . القاموس المحيط 4 : 288 .


( 142 )


وأخيه من السَّرقة ، ولكن داء الجهل والعصبية هو الداء العياء الذي قد أعيى الأطباء.
نعم من كلِّ ذلك رأيتُ من الظلم الفاحش السّكوت والتغاضي عن هذه الكارثة ، لا أعني أنَّه من الظلم على الشِّيعة ، ولا أُريد أن أدفع الظلم عنهم ، والمفتريات عليهم ، كلا ، ولكن أعظم الغرض ، وأشرف الغاية ، رفع أغشية الجهل عن المسلمين من عامة فرق الاسلام ، كي يعتدل المصنف ، وتتم الحجة على المعاند ، وترتفع اللائمة ووصمة التقصير عن علماء هذه الطائفة .
وأعلى من ذلك رجاء حصول الوئام ، ورفع الشّحناء والخصام بين فرق الاسلام الذي قد عم كلّ ذي شعورـ ولا سيما في هذه العصور ـ انَه من ألزم الاُمور ، عسى أن لا يعود كاتب ( فجر الاسلام ) الذي تكاثفت عليه غواشي الظلم والظلام ، فيقول في تلك الصفحة التي أوعزنا إليها ما نصه : « والحقُّ أنَّ التشيّع ماوى يلجأ إليه كلُّ من أراد هدم الإسلام لعداوة أو حقد ، ومن يُريد إدخال تعاليم ابائه من يهودية ونصرانية وزرادشتية ـ إلى قوله ـ فاليهودية ظهرت في التشيُّع بالقول بالرجعة ، وقالت الشِّيعة : إنَّ النّار محرَّمة على الشّيعي إلاّ قليلاً ، وقال اليهود : لن تمسّنا النّار إلاّ أياماً معدودة . والنصرانية ظهرت في التشيُّع في قول بعضهم : إنَّ نسبة الإمام إلى الله كنسبة المسيح اليه ، وقالوا : إنَّ اللاهوت اتحد بالناسوت (1) في الامام ، وإنَّ النبوة والرسالة
____________
(1) اللاهوت والناسوت : علم اللاهوت : علم يبحث عن العقائد. وفي الكليات : اللاهوت الخالق والناسوت المخلوق .
وربما يُطلق الأول على الروح ، والثاني على البدن . بل وربما يطلق الاوَّل أيضاً على العالَم العلوي ، والثاني على العالَم السفلي ، وعلى السبب والمسبب ، وعلى الجن والإنس.

 

 

 

 
امتیاز دهی
 
 

 
خانه | بازگشت | حريم خصوصي كاربران |
Guest (PortalGuest)

دبيرخانه كنفرانس‌هاي بين‌المللي
مجری سایت : شرکت سیگما