دوشنبه 17 ارديبهشت 1403  
 
 
أتدري مَنْ جعفر بن محمّد
 

عين الميزان في نقد الجرح والتعديل للشيخ القاسمي

آية الله العظمى

الشيخ محمّد حسين آل كاشف الغطاء

  



عين الميزان

الشيخ محمّد حسين آل كاشف الغطاء

نقد بها مقالة (ميزان) الجرح والتعديل للشيخ القاسمي

 بسم الله الرحمن الرحيم 

بعد الحمد لله والصلاة على نبيّه وآله وصحبه :

قد وقفتُ على مقالة ضافية ، لعالِم الشام الشيخ (جمال الدين القاسمي) عنوانها «ميزان الجرح والتعديل» نشرتها مجلّة «المنار» الغرّاء ، في العدد الحادي عشر من هذا العام[1] .

فسبرتها سبر استفادة وتطفيل ، لا سبر جرح وتعديل ، تعويلا على ما هو عتيد لديّ من شهرة هذا الرجل بالفضل ، وميزته بالتحقيق; فوجدت المقالة رهينةً بالدلالة على مقامه ، قمينة بِبيان فضله ، شاهدةً له بطول باع وسعة اطّلاع .

وقد حاول فيها الانتصار لحقيقة جديرة بالنصر ، حريّة بالنشر ، لازمة الاتّباع ، ضروريّة في ناموس الاجتماع ، ألا وهي : عدم التسرّع في الجرح بالتفسيق ، فضلا عن الطعن بالتكفير .

هي أن لا يبادر المسلم ـ بل وغيره ـ إلى رمي أخيه المسلم ـ بل الإنسان ـ بالبدعة والمروق عن الدين ، فيردّ روايته ، ويهدم عدالته ، ويمزّق جلباب ستاره ، وإهاب صيانته .

وأَكْرِمْ بها من حقيقة أخلاقيّة ، وقاعدة اجتماعيّة ، يلزم بها العقلُ والنقلُ والطبعُ والشرعُ والأدبُ والأخلاقُ .

ولكن أصلح الله الإنسان (وهيهات أن يصلح أو يستقيم) كأنّه جُبِلَ على التغالي والتطرّف في كلّ شيء ، حتّى في ذمّ التغالي والتطرّف ، بينا تراه ينعى على الشيء ويُزْري به; إذا باصرته طامحة إليه طائحاً فيه ، من حيث يدري ولا يدري يتغالى ويتطرّف ، حتّى حين يذمّ من يتغالى ويتطرّف .

اندفعت أسلة يراعة ذلك الفاضل ، وسالت على طرسه محبرة نقسه ، باحثاً في المنشأ والأسباب للنبز بالابتداع ، وبحثها بحثاً فلسفياً ، إلى أن قال ـ وراء عنوان (من شهر الرواية عن المبدَّعين ، وقاعدة المحقّقين في ذلك) ـ ما حرفه :

 كان من أعظم من صدع بالرواية عنهم الإمام البخاري(رضي الله عنه) وجزاه عن الإسلام والمسلمين أحسن الجزاء ، فخرّج عن عالم صدوق ثبت من أيّ فرقة كان ، حتّى ولو كان داعية ، كعمران بن حطّان ، وداود بن الحصين .

وملأ مسلم صحيحه من الرواة الشيعة .

فكان الشيخان ـ عليهما الرحمة والرضوان ـ بعملهما هذا قدوة الإنصاف ، وأُسوة الحقّ الذي يجب الجري عليه ، لأنّ مجتهدي كلّ فرقة من فرق الإسلام مأجورون أصابوا أم أخطأوا ، بنصّ الحديث النبوي .

ثمّ تبع الشيخين على هذا المحقّقون من بعدهما ، حتّى قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر في شرح النخبة : التحقيق أن لا يردّ كلّ مكفّر ببدعته ، لأنّ كلّ طائفة تدّعي أنّ مخالفيها مبتدعة ، وقد تبالغ فتكفّر ، فلو أخذ ذلك على الإطلاق لاستلزم تكفير جميع الطوائف .

قال : والمعتمد أنّ الذي تردّ روايته من أنكر أمراً متواتراً من الشريعة معلوماً من الدين بالضرورة ، واعتقد عكسه .

وأمّا من لم يكن كذلك ، و ينضمّ إلى ذلك ضبطه لما يرويه ، مع ورعه وتقواه; فلا مانع من قبوله .

 انتهى ما نريد نقله من كلامه[2] .

ثمّ استوسع في البحث ، وجال في عرض المسألة وطولها ، وجاء على ما يناهز عشرين أودعها رشيقاً من التحقيق وطرفاً من الإنصاف .

ولكن لم يخلُ جانبٌ منها من موضع للنظر ومجال للملاحظة ، غير أنّنا لا نريد تعقيب كلّ ما ذكر ، وتمحيص جميع ما سطر ، فإنّها بحسب الجوهر أُصولية ، وإن كانت ببعض الملاحظات أخلاقية اجتماعية .

ولكنّنا نريد أن نقف على حافّة هذه العقبة ولا نتجاوزها قبل تعرّف حقيقتها ، وبلوغ أقصى أثرها .

ولولا أنّ المسألة بحال لا تخصّ طائفةً دون أُخرى ، ولا ترتبط بمذهب دون مذهب ، لما سمحنا لليراع أن يخوض فيها ، ولا للفكر أن يمسّها ، ولكنّها مسألةٌ غير اختصاصية ، بل يعمّ ظهور الحقيقة فيها عامّة المسلمين ، والجميع فيها شرع سواء .

لأنّا نريد أن ننظر هل كلّ أحد تقبل روايته؟ أم البعض من ضرورة الإسلام عدم قبول روايتهم؟

إذن ، فبدافع طلب الحقيقة ، أعود إلى الفقرات التي تقدّم نقلها ، وأقول سائلا متعجّباً : أهل غاب عن شيخنا القاسمي دام فضله : أنّ عمران بن حطّان ، كان من رؤوس الخوارج ، بل كان داعيةً لهذه الضلالة كما ذكر؟

أم غاب عنه أنّ قاعدة مذهب الخوارج ، وأسُّ دعامتها هي تكفير الصهرين وبغضهما والبراءة منهما؟

أم يجهل ـ وحاشاهُ ـ أنّ محبّة أهل البيت وموالاتهم من ضرورات شريعة الإسلام؟ وأنّ مبغضهم مبغض لرسول الله صلوات الله عليه ، ومبغض رسول الله مبغض لله جلّ شأنه ، والله سبحانه أشدّ بغضاً له ، وهو عدوّ لله ، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلا؟ كما ورد في صحيح الآثار التي لا تغيب عن كلّ مُتَشَرِّع ، فضلا عن علماء الشرع؟

فإذا كان حبّ أهل البيت من ضرورات الشريعة الإسلاميّة ، وكان عمران بن حطّان ، وابن الحصين ، ينكرون هذا الضروريّ ، ويتّخذون أساس دينهم البراءة من آل رسول الله ، وتكفيرهم وبغضهم والطعن فيهم ، وفي سيّدهم أمير المؤمنين .

فكيف مع هذا كلّه يحاول تصحيح روايتهم وقبول أخبارهم ، وإخراجهم من خطّة الفسق الذي أمر الله بالتثبُّت عنده ، وعدم التعويل على خبر من اتّصف به .

نعم ، إنّ تلك دعاو أرسلناها تباعاً ، من دون أدلّتها وبراهينها ، ولكن (لبّثْ قليلا يلحق الهيجا حملْ) على رسلك حتّى يستبين موضع القول .

ثمّ عسى أن تخوض في شاطيء الدليل ، دون أن نتلجلج فيه ، رعايةً للمقام .

إنّ الذي أوقفني موقف الحيرة والدهشة ، ودفعني إلى بثّ هذه النفثة ، هو ذهول شيخنا القاسمي عن لازم ما نقله (مختاراً له) عن ابن حجر في شرح النخبة من قوله :

 والمعتمد أنّ الذي تردّ روايته : من أنكر أمراً متواتراً من الشريعة ، معلوماً من الدين بالضرورة ، وأعتقد عكسه .

 فيالله العجب ، يالله للمسلمين ، ما أدري أيّ أمر أشدّ تواتراً في الشريعة ، وأكثر معلوميّة من الدين بالضرورة ، من وجوب مودّة أُولي القربى وأهل بيت النبوّة؟!

ومن جرّاء ذلك دفعتني الحيرة إلى العجب ، والعجب إلى الحيرة ، وطفقتُ لا أدري هل أنّ القاسمي لا يرى هذا أمراً متواتراً من الشريعة معلوماً من الدين بالضرورة؟

أم أنّه لايرى أنّ ابن حطّان كان لايعتقد عكسه ، ويدين بخلافة؟

وإلاّ ، فمع بداهة هذين الأمرين : وجوب الموالاة لأهل البيت بالضرورة ، وبغض ابن حطّان وكلّ خارجي لهم بالبداهة؟

كيف يحكم أوّلا بتصحيح التخريج عنه والتعويل عليه؟

وهل هذا إلاّ التدافع بعينه؟ والتهافت بحقيقته؟ .

فنحن ـ إذن ـ في حاجة (على آداب المناظرة) إلى إثبات هذين الأمرين ، لتصحّ ملاحظتنا

على ذلك الميزان ، وإثبات الميل والانحراف فيه .

أمّا كون محبّة أهل البيت(عليهم السلام) من الواجبات الضرورية في الشريعة الإسلامية :

(فقل لا أسألكم عليه دليلا) بعد قوله تعالى : ( قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) .

ولولا أنّ هذه الجليّة ، والمسألة البديهيّة ـ ألا : وهي فريضة موالاة أهل البيت ـ قد عادتْ بفضل انتشار الكتب واتّساع العلم وتقلّص ظلّ العصبيّات والتمويهات وكتمان الحقائق ، نعم ، قد أصبحتْ من الحقائق الراهنة ، والأُمور المسلّمة ، التي قد تصافق المسلمون عليها ـ اليوم وقبله ـ يداً واحدةً ، وعادوا فيها شرعاً سواسية ، لا يستطاع لها كتمان ، ولا يختلف فيها اثنان .

لولا ذلك ، لأوردنا من نصوص الكتاب الكريم ، ومحكمات السنّة النبويّة ـ من الصحاح الستّة وغيرها من المسندات ، كمسند الإمام أحمد بن حنبل ، وغيره ـ ما ينظّمها في سلك أكبر الفرائض الإسلاميّة ، وأساسيّات الشريعة المحمّديّة ، كوجوب الصوم والصلاة والحجّ والزكاة .

ولستُ بناظر إلى جميع فضائل أهل البيت ، وما ورد من منتشر الأحاديث الذائعة ، في كرامتهم ، وعلوّ مقامهم ومنزلتهم عند الله ورسوله .

كلاّ ، فإنّ محاولتي أن أجمع شعاع الشمس في يدي ، وأضع النجوم في قبضتي ، أهون عليَّ من محاولة إحصاء تلك الأنباء والإحاطة بهاتيك السعة .

ولكنّي لا أتطامن لحرمان هذه الطروس والسطور من الحظوة بشيء من تلك الأحاديث الشريفة ، الدالّة على فضل أهل البيت سلام الله عليهم ، وخصوص : أنّ مبغضهم وعدوّهم عدوّ لله ، خارجٌ عن الدين ، ليس بمسلم فضلا عن كونه ليس بعدل ولا مقبول الشهادة والرواية .

وإنّما أورد لك من الأخبار ما هو الشائع المشهور الذي طرق كلّ سمع ، ودخل في كلّ جمع ، ثمّ نبحث قليلا عن مفاد متنه وسطح مؤدّاه ، دون التوغّل والتعمّق في أغواره وأنجاده وشعفه ووهاده .

إنّ من الأحاديث التي أخذتْ حظّها من الوثاقة والشيوع والشهرة ، وكادتْ أن تكون متواترةً معنىً ولفظاً ، بأنحاء من البيان وأساليب من التعبير ، في أسانيد عديدة قريبة وبعيدة : قولُ النبي صلوات الله عليه : «ياعليّ لا يحبّك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق» .

وقد روته أكابر المحدّثين وثقات نَقَلة الأخبار ، من الصحاح الستّة وغيرها : فممّن رواه مسلم في صحيحه ، والترمذي ، والحافظ أبو نعيم ، والنسائي ، والإمام أحمد بن حنبل ، والقاضي عياض في «الشفاء» وخلق كثير[3] .

وكفاك أنّ الثقة الثبت ، وينبوع معين الحديث والوثاقة والتثبّت (الحافظ ابن عبدالبَرّ) في «الاستيعاب»[4] قال ما نصّه : وروى طائفةٌ من الصحابة أنّه قال :

«ياعليُّ ، لا يحبّك إلاّ مؤمنٌ ولا يبغضك إلاّ منافقٌ» .

وقال(صلى الله عليه وآله) : «مَن أحبّ عليّاً فقد أحبّني ، ومن أبغض عليّاً فقد أبغضني ، ومن آذى عليّاً فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله» .

وروى هو ـ أيضاً ـ بسنده إلى ابن شاس ، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله)أنّه قال :

قال لي رسول الله(صلى الله عليه وآله) : «قد آذيتني!» فقلت : ما أُحبّ أن أُوذيك يارسول الله; فقال صلوات الله عليه : «من آذى علياً فقد آذاني»[5] .

أمّا مسلم ، فقد روى الحديث السابق ، عن الأعمش ، عن عديّ بن ثابت ، عن زرّ بن حُبيش ، قال : قال عليّ : «والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة إنّه لعهدُ النبيّ الأُمّي : أن لا يُحبّني إلاّ مؤمنٌ ولا يبغضني إلاّ منافقٌ»[6] .

ورواه النسائي في «الخصائص» عن أحمد بن شعيب ، عن أبي كريب محمّد ابن العلاء الكوفي ، عن أبي معاوية ، عن الأعمش ، عن عديّ بن ثابت ، عن زرّ ابن حبيش ، عن عليّ (عليه السلام) قال : «والله الذي فلق الحبّة وبرأ النسمة إنّه لعهد النبيّ : أنّه لا يحبّني إلاّ مؤمنٌ ولا يبغضني إلاّ منافقٌ»[7] .

ثمّ رواه بطرق ثلاثة متقاربة .

وقال القاضي في «الشفا» ما نصّه : قال النبيّ (صلى الله عليه وسلم)في عليّ : «من كنتُ مولاهُ فهذا عليٌّ مولاهُ ، اللهمّ والِ من والاهُ ، وعادِ من عاداهُ» .

وقال فيه : «لا يحبّك إلاّ مؤمنٌ ولا يبغضك إلاّ منافقٌ»[8] .

ولو ذهبنا إلى سرد من نصّ على ورود هذا الخبر الشريف وروايته مرسلا ومسنداً في الصحاح والمسندات ، حتّى ينتظم في عداد المتواترات التي لا شبهة في أنّه بلفظه من كلام ذلك الصادق الأمين ، لطال بنا المقام بما تضيق عن سعته هذه العجالة ، وفي ما ذكرناه من رواية أُولئك الحفظة الأعلام كفاية لصحّة سنده وحصول القطع بصدوره .

إذن فلنعطف النظر على مفاد متنه ومغزى دلالته :

ولا أحسب أنّ العارف بحسن الأساليب وبلاغة التراكيب يخفى عليه أنّ هذا الحديث الشريف من جوامع كلم النبيّ صلوات الله عليه التي أودع بها المعنى الكثير في اللفظ القليل .

كما أنّ معنى النفاق جليّاً هو إظهار الإيمان واستبطان الكفر .

فهو صلوات الله عليه يشير إلى أنّ مبغض عليّ (عليه السلام)كافرٌ بالله قد أبطن الكفر وأظهر الإيمان ، وعلامة كفره الباطنيّ هو بغضه لعليّ (عليه السلام)فكأنّه يرمز بالحصر ، وبطرد القضية وعكسها في الحبّ والبغض : أنّ الله سبحانه قد أتمّ الحجّة في ولاء عليٍّ ، ولزوم حبّه .

فلم يبق فيها بشرع الإسلام مجال شبهة أو مظنّة تأويل ، فإنّ السفير عن الله قد قطع المعاذير وأزاح العلل والمساتير ، فمن يؤمن بالله ورسوله ـ لا محالة ـ لساطع الحجّة وقاطع العذر يحبّ عليّاً ويواليه .

ومن يبغضه يكون بالضرورة غير مؤمن بالله ولا مصدّق برسوله ، فإنّ التصديق بالرسول أن يأخذ على الأقلّ بالضروريّ من دينه ولا شيء في دينه بأجلى وأشدّ ظهوراً ووضوحاً من وجوب الولاء والمحبّة لتلك النفس التي هي نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله)بنصّ آية المباهلة[9] .

فالحديث يوحي إلى أنّ مبغض عليٍّ كافرٌ; وإن أظهر الإيمان ، فإنّ الإيمان الصحيح الواقعيّ لا يجتمع مع بغضه ، فلا يصحّ أن يكون له سببٌ سوى الكفر ، إذ التأثير بغير ذلك من أسباب البغض الاعتياديّة ـ حتّى قتل الآباء والعشائر ـ ممّا يُغَطّي عليها الإيمان ، لو كان ، فتدبّره بلطف ، كي لا تفوتك فائدة الحصر ، وفذلكة النفي والإثبات ، فإنّه صلوات الله عليه ضمّن الجملتين : الدعوى والدليل ، والطرد والعكس ، والسلب والإيجاب .

على أنّ ظاهر الكلام وسطحه الأوّل غنيٌّ لإثبات الغرض عن هذه الأغوار والتعمّقات :

من ذا يشكّ أنّ المنافق ـ حيثما أطلق في الكتاب والسنّة ـ فالمراد به من يؤمن بلسانه وهو كافر بجنانه؟! .

وإذا عرضت لك وقفةٌ في ذلك; فخذْ من أوّل مقام ذكر الله فيه المنافقين ناعتاً لهم بأوصافهم وشاراتهم ودخائلهم ومخايلهم ، وجميع ما دقّ وجلّ من أمرهم ، في جملة آياته .

فإنّه جلّ شأنه بعد أنْ ذكر المؤمنين ونعوتهم الكاملة بقوله تعالى : ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)إلى تمام ثلاث آيات .

ثمّ تلاهم بذكر الكافرين وسجاياهم السافلة ، فقال جلّ شأنه : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) .

ثمّ شرح جلّت عظمته في الإبانة عن النوع الثالث من الناس ، وهم المنافقون فقال تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الاْخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) إلى تمام إحدى عشرة آية .

ثمّ سِرْ تباعاً على ذلك النهج في الكتاب الكريم ، وقِفْ على كلّ كريمة ذكر فيها المنافق ، حتّى تصل إلى سورة المنافقين ، حيث يقول جلّ قائلا : ( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) .

فإذا انتهى السير إلى هُنا; فانظر هل تجد في ضميرك شكّاً وريبةً بأنّ المنافق كافرٌ عند الله ، بل أعظم من الكافر; لأنّه يخادع الله ورسوله ويكذب في شهادته أنّ النبي رسول الله; لاعتقاده بخلافها; فهو يجمع كفراً بالله ومكراً وخديعةً ونكراً ، بخلاف الكافر المحض .

ومن هنا صار المنافق في الدرك الأسفل من النار : ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الاَْسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) من جملة آيات كثيرة في أُخريات سورة النساء ، يذكر فيها حال المنافقين أيضاً ، بما يجعلهم أشدّ جرأةً على الله ، وأعظم بليّةً على رسوله ، من الكافرين المجاهرين .

كيف ؟ والمنافق عدوٌّ داخليٌّ ، والكافر عدوٌّ خارجيٌّ ، والعدوّ الداخليّ أنكى وأضرّ وأدهى وأمرّ من العدوّ الخارجيّ .

فإمّا أن تكون أخي بصدق            فأعرف منك غثّي من سميني

                     وإلاّ فاطّرحني واتّخذني               عدوّاً أتّقيكَ وتتّقيني

 وإلى هُنا ، فقد تحصّل جليّاً لدينا أنّ المنافق كافرٌ في الشرع ، أو أسوأ حالا منه .ثمّ نرجع إلى مورد البحث خصوصياً ، ونقول : إنّ ابن حطّان و إخوانه من عامّة الخوارج يبغضون عليّاً (عليه السلام) بلا ريب : بل قاعدة مذهبهم وأساس ضلالتهم ، وذلك ممّا يعلمه ويعترف به كلّ أحد ، حتّى شيخنا القاسميّ .

ومُبغضُ عليٍّ مُنافقٌ بنصّ ذلك الحديث المتواتر ، والمنافق كافرٌ أو أسوأ منه بنصوص تلك الآيات الكثيرة; التي يعضد بعضها بعضاً ، ويسجّل بعضها الآخر .

فتنسيق هذه المقدّمات يقع بهذا النظم الذي يلي :

* ابن حطّان وسائر الخوارج يبغضون عليّاً .

* وكلّ مَن يبغض عليّاً منافقٌ .

* وكلّ منافق كافرٌ .

* فابن حطّان كافرٌ .

وحينئذ; فنسأل من شيخنا القاسمي : أيّ هذه المقدّمات المبرهنة يمكن المناقشة فيها ؟

والخدشة بها ؟ .

وعلى تقدير عدم الإمكان ـ كما لا ريب فيه ـ أفهل تصحّ رواية الكافر ، والركون إليه ؟ أم هل يصحّ التخريج عنه وجعله في صفّ العدول من المسلمين ؟ .

هذا ما نلقيه من الأسئلة على شيخنا القاسمي .

وهذا هوالذي أوجب هجوم الدهشة علينا! وأوقفنا موقف الحيرة من نشرته تلك المقالة التي يحاول فيها تعديل ابن حطّان أو قبول روايته ! .

هذا ، وقد أثبتنا كفر ابن حطّان من رواية واحدة عن النبيّ صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه .

أمّا لو توسّعنا في النظر واستبحرنا في النقل ، وأوردنا ـ ولو النزر القليل من كثير ما ورد في فضل أمير المؤمنين (عليه السلام)وعلى الأخصّ الروايات التي تعرّض فيها النبيّ(صلى الله عليه وآله) لحال أعدائه وشانئيه ـ لحططنا على ابن حطّان الطمّ والرمّ ، والدمار والبوار ، والسيل والويل ، والحرب والعطب ، والتوى والهلاك .

أينسى المسلمون حديث الغدير الذي سارت به الريحُ إلى كلّ سمع ، وكتبته الشمس على صحيفة النهار بأنوارها ، والنجوم على أديم الليل البهيم بأضوائها؟

الحديث الذي رواه ـ ولا أُحصي من رواه ـ النسائي في «الخصائص» بما ينيف على عشرين طريقاً ، منها ما نصّه : أخبرنا محمّد بن المثنّى ـ ثمّ أوصل السند إلى زيد بن أرقم

ـ قال لمّا دفع النبيّ(صلى الله عليه وآله) من حجّة الوداع ، ونزل غدير خمّ ، أمر بدوحات فقممن ، ثمّ قال : «كأنّي دعيتُ فأجبتُ ، وإنّي تارك فيكم الثقلين : أحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما؟ فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض» .

ثمّ قال : «إنّ الله مولاي وأنا ولي كلّ مؤمن» .

ثمّ إنّه أخذ بيد عليّ رضي الله عنه فقال : «من كنت وليّه فهذا وليّه . اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه» .

فقلت لزيد : سمعتَه من رسول الله؟! .

فوضع يديه على أُذنيه ، وقال : استكّتا إنْ لم أسمعه ، وإنّه ما كان في الدوحات أحدٌ إلاّ رآهُ بعينهِ وسمعه بأُذنهِ .

ثمّ رواه بطرق أُخرى تقرب من ذلك[10] .

وقد روى مسلم حديث الغدير ولكن ببيان آخر ، كما تجده في «صحيحه»[11] .

ورواه الحافظ ابن عبدالبرّ في«الاستيعاب» وهذانصّه: روى بريدة، وأبوهريرة، وجابر ، والبراء بن عازب ، وزيد بن أرقم ـ كلّ واحد منهم عن النبيّ ـ أنّه قال يوم غدير خمّ: «من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه ، اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه»[12] .

ورواه الإمام أحمد بن حنبل بعدّة طرق ، وأبو نعيم ، والقاضي في «الشفا» وكلّ كبراء العلم وعظماء المحدّثين[13] .

ولو ذهبنا إلى إحصاء رواة هذا الحديث لجمعنا أضخم كتاب، وفتحنا أوسع باب.

قال السيّد الكبير جمال الدين ابن طاوس في كتاب «الإقبال» ما معناه : (فصل) في ما نذكره من مختصر الوصف ، ممّا رواه علماء السنّة عن يوم الغدير من الكشف . . . فمن ذلك ما صنّفه أبو سعد مسعود بن ناصر السجستاني المتّفق عند أهل المعرفة به ، على صحّة ما يرويه صنّف كتاباً سمّاه «كتاب الدراية لحديث الولاية» وهو سبعة عشر جزءاً ، روى فيه حديث نصّ النبيّ على عليّ بالولاية يوم الغدير ، عن مائة وعشرين نفساً من الصحابة .

ومن ذلك رواه محمّد بن جرير الطبري صاحب التاريخ الكبير[14] في كتاب «الردّ على الحرقوصيّة» روى فيه حديث الغدير من خمس وسبعين طريقاً .

ومن ذلك ما رواه أبو القاسم عبيدالله بن عبد الله الحسكاني في كتاب سمّاه «كتاب دعاء الهداة إلى أداء حقّ الموالاة» .

ومن ذلك الذي لم يكن مثله في زمانه : أبو العباس أحمد بن سعيد بن عقدة الحافظ ، الذي زكّاه وشهد بعلمه الخطيب مصنّف تاريخ بغداد ، فإنّه صنّف كتاباً سمّاه «حديث الولاية» وجدته بنسخة قد كتبت في زمن مصنّفه تاريخها سنة ثلاثين وثلاثمائة ، صحيح النقل ، عليه خطّ الطوسي وجماعة من شيوخ الإسلام : روى فيه الغدير ونصّ النبيّ(صلى الله عليه وآله)على أمير المؤمنين (عليه السلام) بالولاية عن مائة وخمس طرق .

وإن عدّدت أسماء المصنّفين من المسلمين في هذا الباب طال ذلك .

وجميع هذه التصانيف عندنا الآن إلاّ كتاب الطبري . انتهى ملخّصاً[15] .

وحسبك أنّ السيّد السند خرّيت الحديث والسنّة السيّد حامد حسين اللكنهوي صاحب «عبقات الأنوار» الذي هو بقدر تاريخ الطبري ، قد خصّص جزئين ضخمين لخصوص حديث الغدير : أحدهما في سنده ، والثاني في دلالته .

وعليه فالخارجيّ الذي هو عدوّ أمير المؤمنين عدوٌّ لله ، بمقتضى قول النبيّ(صلى الله عليه وآله) : «اللهمّ عاد من عاداه» .

وعدوُّ الله لا تقبل روايته ، ولا يجوز التعويل على نقله والاستناد إلى قوله ، ألبتّةَ .

ثمّ ليت شعري ! ولا أدري : أنّه إذا كان الإمام من أئمّة الحديث قد توسّع وتساهل ، حتّى صار يقبل رواية مثل عمران بن حطّان ، وداود بن الحصين ،ومروان بن الحكم ، ونظراءَهم ـ وهم أعداء الله كما عرفت ـ فما باله تضايق وتحرّج ; فلم يرو عن مثل جعفر بن محمّد؟ .

أتدري مَنْ جعفر بن محمّد ؟

هو جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن زين العابدين بن الحسين الشهيد السبط ابن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وابن فاطمة الزهراء بضعة رسول الله وسيّدة نساء العالمين ، سلام الله وتحيّاته المباركة عليهم جميعاً .

جعفر بن محمّد هو الذي يقول عنه الإمام مالك ـ حسبما رواه القاضي في «الشفا» ـ قوله

: لقد كنت أرى جعفر بن محمّد الصادق ، وكان كثير التبسّم ، فإذا ذكر عنده النبيّ اصفرّ ، وما رأيته يحدّث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلاّ على طهارة ، وقد اختلفتُ إليه زماناً فما كنتُ أراه إلاّ على ثلاث خصال : إمّا مصلّياً ، وإمّا صامتاً ، وإمّا يقرأ القرآن ، ولا يتكلّم في ما لا يعنيه ، وكان من العلماء والعبّاد الذين يخشون الله عزّوجلّ[16] .

فإذا كان المحدّث قد جمع كتاباً أودعه عشرات الأُلوف من الأحاديث ، وقد توسّع فيها حتّى للرواية عن اللكع بن اللكع عمران بن حطّان ، والوزغ بن الوزغ مروان بن الحكم طريد رسول الله!

فما باله لم يروِ ـ ولا حديثاً عن بقيّة رسول الله ولحمه ودمه وصفوة أهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، وأحد العترة الذين أمر رسول الله بالتمسّك بها ، وقرنها مع التمسّك بالقرآن ، وقال : «إنّهما لم يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض»؟[17] .

ما بالنا نتّسع تارةً بأوسع ممّا بين الخافقين ، وأُخرى حتّى نكون نتضايق أضيق من سَمّ الخياط ؟! .

هذا ما أسأل شيخنا القاسميّ عنه ؟

فلعلّ عنده فضل علم في ذلك ، يحلّ به عنّي هذه العقدة ! ويكشف هذه الشدّة! .

وإنْ كنتُ جدّ عليم بثغرتها ، وموضع المفصل والمحزّ منها ، ولكن (وكم سائل عن أمره وهو عالم) .

والقصارى أنّنا أردنا أن نستطرد ذكر شيء من فضائل أهل البيت ، ووجوب موالاتهم ، والخروج عن الإسلام ببغضهم والانحراف عنهم; فوجدنا أنّنا في ذلك كمن يريد أن يدلّ على الشمس بشمعة ، ويمدّ السيل بجرعة .

فكان إكثارنا من القول فيها ، وسرد الأدلّة عليها ، لا يعدو أن يكون تحصيلا لحاصل ، وتوضيحاً لواضح .

ولكن قد أضاء الصبح لذي عينين من الشذرة التي نقلناها ، وهي واحدة من أُلوف ما ورد في فضلهم ، ووجوب موالاتهم عن النبيّ (صلى الله عليه وآله)قد تجلّى واتّضح منها ما أردناه من كون محبّتهم وولائهم فريضةً من فريضة الإسلام الضروريّة التي لا مساغ للاجتهاد والتأويل فيها .

وضروريّات الدين ـ كما يعلم كلّ فقيه ومتفقّه ـ ليست معرضاً للاجتهاد ، ومنكرها ـ بأيّ وجه كان ـ يعدّ خارجاً من الدين .

ألا ترى : لو أنّ طائفةً من منتحلي الإسلام نبغت اليوم أو قبل هذا; فاجتهدتْ في أمر الصلاة ، وزعمت أنّ اجتهادها دَلَّها على عدم وجوب الصلاة بهذا النحو المتّفق عليه ، وتأوّلت ما ورد في الكتاب من قوله تعالى : ( أقيموا الصلاة) بأنّ المراد منها معناها اللغوي ، وهو إقامة الدعاء والثناء لله جلّ شأنه ، وأنّ السنّة كلّه أخبار آحاد لا تفيد علماً ولا عملا ، والكتاب غير صريح بتفاصيل هذه الصلاة !

كما ينقل أنّ طائفة من المسلمين اليوم هكذا تزعمُ في الصلاة والزكاة ، وتحملها على مطلق الصدقة على الفقراء والمساكين!

فهل ترى أنّ سائر المسلمين يفسحون العذر لهذه الطائفة؟ ويقولون : إنّها مجتهدةٌ ومتأوّلةٌ ؟!

أم يعدّونها خارجةً عن ربقة الإسلام ; بما أنّها أنكرت ضروريّاً من ضروريّات الدين لا يقبل الاجتهاد والتأويل ! .

وليس هذا من باب الحجر على حرّية الأفكار ، وسدّ باب النظر ، كما لا يخفى على ذوي الفضل والمعرفة ، بل هو من باب الكشف عن جحود ذلك المتأوّل لما يعلمه ضرورةً ، ويعتقده باطناً أنّه من الدين ، ولكنّه يريد أن لا يتقيّد بدينه ، ولا ينقاد لعلمه ; فيتستّر ضارباً في عرض هذه التأويلات .

وولاية أهل البيت من هذا القبيل .

وكلّ هذا جليٌّ واضحٌ غنيٌّ عن البيان ، يعلمه شيخنا القاسمي أحسن العلم .

كما يعلم هو وكلّ أحد وضوح حال ابن حطّان في بغض أهل البيت ، وتكفيرهم ، واستحلال قتلهم ودمائهم ; كاستحلاله دماء سائر المسلمين ممّن ليس على شاكلته .

أليس ابن حطّان هذا هو شريك عبدالرحمن بن ملجم في قتل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب سلام الله عليه ؟ .

أليس هو المحبّذ لفعله ، والمادح له على قتله ، والقائل فيه :

ياضربةً من تقيّ ما أراد بها            إلاّ ليبلغ من ذي العرش رضوانا

                  إنّي لأذكره يوماً فأحسبه                أوفى البريّةِ عند الله ميزانا

 أفيجهل أحدٌ أنّ هذا الكلام كان أوجع لأمير المؤمنين ، ولقلب رسول الله ، من ضربة ذلك الحسام الذي خرّ منه الإمام صريعاً في محرابه ، وخضّب كريمته من دم رأسه وهو في صلاته وبين يدي ربّه؟

أليس تلتئم جراحات السنان ، ولا يلتئم ما جرح اللسان؟!

أليس الفقيه الطبري ـ وهو من أعاظم علماء السنّة الشريفة ـ يقول في ردّه ، كما ذكره

المبرّد في «الكامل» على ما أعهد :

ياضربةً من شقيّ ما أراد بها            إلاّ ليبلغ من ذي العرش خسرانا

 إنّي لأذكره يوماً فألعنه                   وألعن الكلب عمران بن حطّانا[18]

 أفهل أزيدُ شيخنا القاسمي علماً بفظائع الخوارج وشنائعهم في الإسلام ، وفعلاتهم الجافية القاسية التي تهدّ الجبال الرواسي ، وتقشعرّ منها أبشار البشريّة ، وينتكس من ذكرها رأس الحياء ؟! .

وما أحسب أنّ مسلماً من المسلمين ينسى قتلهم لذلك العبد الصالح سليل الصحابي المكرّم عبد الله بن خبّاب بن الأرتّ ، تلك القتلة الفظيعة! .

بل لا أحسب أنّ مسلماً يذكرها أو تذكر له ، إلا ويمتعض قلبه ، ويتألّم لبّه ، ويبرأ إلى الله من ناعقهم وسائقهم ، وصالحهم وطالحهم ، وأوّلهم وآخرهم .

اتّفق المؤرّخون والمحدّثون وعلماء العربيّة ; كالمبرد وغيره ممّن استطرد لذكرها وتعرّض لنقلها ، قالوا : لقيهم عبد الله بن خبّاب وفي عنقه مصحفٌ ، ومعه امرأته ـ وهي حامل ـ فقالوا : إنّ هذا الذي في عنقك ليأمرنا بقتلك !

قال : ما أحيى القرآن فأحيوهُ ، وما أماته فأميتوهُ .

فوثب رجلٌ منهم على رطبة فوضعها في فيه ، فصاحوا به ، فلفظها تورّعاً ، وعرض لرجل منهم خنزيرٌ فقتله ، فقالوا : هذا فساد .

فقال عبد الله : ما عليَّ منكم بأسٌ ، إنّي لمسلمٌ .

قالوا : حدّثنا عن أبيك ـ وكان أبوه خبّابٌ من أعيان الصحابة وذوي المقامات العالية ـ فقال سمعت أبي ، يقول : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول : «تكون فتنةٌ ، يموت فيها قلبُ الرجل كما يموتُ بدنُه; يُمسي مؤمناً ويُصبح كافراً ، فكن عبد الله المقتولَ ولا تكن القاتلَ» قالوا : فما تقول في أبي بكر وعمر؟

فأثنى خيراً .

فقالوا : فما تقول في عليّ قبل التحكيم ، وفي عثمان ستّ سنين ؟ .

فأثنى خيراً .

قالوا : فما تقول في الحكومة والتحكيم ؟ .

قال : أقول : إنّ عليّاً أعلم بكتاب الله منكم ، وأشدّ توقّياً على دينه ، وأنفذ بصيرةً .

قالوا : إنّك لستَ تتبع الهدى ، إنّما تتبع الرجال على أسمائها .

ثمّ قادوه كما يقاد العنز ، وربطوه وقرّبوه إلى شاطيء النهر فذبحوه صبراً ، أمام زوجته ، والمصحف في عنقه ، وهو يكثر من شهادة «لا إله إلاّ الله» .

فلمّا ذبحوه امذَقَرَّ دمُه (أي جرى في النهر مستطيلا) .

وساموا نصرانياً بنخلة له فقال : هي لكم بلا ثمن .

فقالوا : ما كنّا لنأخذها إلاّ بثمن .

فقال : ما أعجب هذا ! تقتلون الرجل الصالح عبد الله ، ولا تقبلون منّي جنى نخلة! .

وفي رواية عبدالحميد شارح النهج : أنّهم بقروا بطن الحامل ، وأخرجوا [19] .

وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) قد نهى أن يبدأهم أحدٌ بقتال ، وكلّما قيل له :

إنّهم خارجون عليك ; قال : «لا أُقاتلهم حتّى يقاتلوني» .

وكان قد بعث إليهم أوّلا نبع دوحته وملازم حضرته والمستقي من ينبوع علومه; الحبر عبد الله بن عباس ، فحاجّهم حتّى دحض حجّتهم ، وقطع عن الجواب ألسنتهم; حتّى اتّبعه منهم ألفان راجعين معه إلى عسكر عليّ (عليه السلام)وأصرّ على العناد الباقون ، وهم أربعة آلاف ، استمرّوا على الحياد والعتاد ، بغير حجّة ولا برهان ولا دليل ولا تأويل ، وذلك بعد أن خرج إليهم الإمام (عليه السلام) بذات نفسه ، مع صعصعة بن صوحان ، وعالجهم بالحجّة والبيان ; فكان آخر كلامهم معه : أنْ تُبْ إلى الله تعالى واستغفره ; نعد معك .

فقال (عليه السلام) : «أستغفر الله من كلّ ذنب» .

فرجعوا وهم ستّة آلاف ، ثمّ كان من فتنة الأشعث بن قيس ومكره ما هو مشهور ، فعادوا إلى الخروج على أمير المؤمنين ، وكان من محاورة ابن عبّاس معهم وانقطاعهم ورجوع ألفين منهم ما مرّت الإشارة إليه .

كلّ هذا كان قبل قتلهم عبد الله بن خبّاب ، أمّا حين بلغ خبر مقتله لأمير المؤمنين اشتدّ به الغضبُ لله ، ونالت منه هذه الواقعة الفظيعة منالا عظيماً ، ومع ذلك لم يغلب الغضب عليه ، ولم يأخذ الغيظ على شكيمة ورعه سلام الله عليه ، ولكن خرج إليهم بنفسه ، مع عدّة من أصحابه ، وقال لهم : «ارجعوا وادفعوا إلينا قاتل عبد الله بن خبّاب» .

فقالوا : كلّنا قَتَلَتُهُ وشرك في دمه .

فاحتدمت نار الحميّة لله فيه ، وقال : «والله لو أنّ جميع أهل الأرض أقرّوا بدم عبد الله لاستبحت دماءهم» (أو ما هو بمعناه) .

وأراد أصحابه أن يحملوا عليهم ، فقال : «لا تبدأوهم بقتال» .

فخرج رجل منهم وحمل على صفّ عليّ (عليه السلام)فقتل منهم ثلاثة وهو يقول :

أقتلهم ولا أرى عليّا            ولو بدا أجرته الخطيّا

 وعن حبّة العُرَني قال : لمّا انتهينا إليهم ; رمونا ; فقلنا لعليّ (عليه السلام) :

رمونا ! فقال : «كفّوا عنهم» .

ثمّ رمونا ; فقلنا له ; فقال : «كفّوا» .

فلمّا كانت الثالثة ، قال : «الآن طاب القتال» .

وعندها حمل عليهم ، وحمل أصحابه ; فكانت وقعة النهروان التي أبادهم سلام الله عليه فيها ، ولم ينجُ منهم بالفرار سوى تسعة كانوا هم الجُرثُومة والأرومةُ لتلك الفئة .

والغرض من نقل هذه الجملة الوجيزة عن نشوء أُولئك الطغام والأوشاب أن نذكّر القرّاء الكرام أنّ أُولئك المارقين ـ كما سمّاهم رسول الله صلوات الله عليه ـ ما كانوا متأوّلين ولا مجتهدين ، وكانت قد تمّت عليهم الحجّة ، وانقطعت منهم أسباب المعذرة ، وانطبقت عليهم الآيات البيّنة .

فليس هم إلاّ معاندون للحقّ ، جاحدون للدين ، عابدون للهوى ، وإن كانوا بصورة أهل الدين ، ولكن ليس غرضهم ـ كما يشهد الله ورسوله ـ إلاّ الفتنة والإفساد في الأرض ، وشقّ عصا المسلمين ، وأن تكون لهم إمرةٌ وإثرةٌ .

ثمّ هَبْ أنّهم مجتهدون ومتأوّلون ; كما يزعم الزاعمون ، لكن : أفليس قد أخبر النبيّ الصادق الأمين صلوات الله عليه أنّهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، وأنّهم يقرأون القرآن لايتجاوز حناجرهم أو تراقيهم[20] .

أفليس من الحقّ الصراح ، والذي هو أجلى من فلق الصباح : أنّه إن كان حديثٌ قد تواتر بلفظه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يبق مؤرّخٌ ولا محدّثٌ ولا فقيهٌ ولا أديبٌ ولا مؤلّفٌ من مؤلّفي العلوم العربيّة ، إلاّ وقد ذكره بأساليب مختلفة متباعدة ، أو مؤتلفة ، وكلّها على تباعدها وتقاربها متكانفةٌ على تلك الجملة الجليّة ، ونقل تلك الشذرة الذهبيّة : «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة» .

صاح رسول الله صلوات الله عليه بهذه الكلمة في الأُمّة صيحةً أسمعت الغافل والنائم ، والقاعد والقائم ، أسمعت الذرّ في الأصلاب ، والنطف في الأرحام ، والأطفال في المهود ، والموتى في اللحود ، والرفات في القبور ، والنساء في الخدور .

ولكن ماذا كان من بعد كلّ هذا العناء ؟

ما كان سوى أن جاء المتأوّلون من الأعراب ، فقالوا : «هؤلاء مجتهدون متأوّلون ; فلا ضرر في الركون إليهم والتعويل عليهم» ! .

فإذا ضايقتَهم في ما ورد فيهم عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) من المروق عن الدين ; قالوا : مأوّلٌ أو محمولٌ .

ونحن نورد الحديث النبويّ بالنصّ ، الذي أورده الإمام البخاري(رضي الله عنه) ونقتصر على ذلك ، ولا نطيل عليك بسرد طرقه ومتونه ، ورواية كلّ راو ومحدّث ومؤرّخ له; فإنّنا لو أردنا جمع ذلك لعقدنا له كتاباً مفرداً بالتأليف ، ولجاء كأكبر كتاب متوسّط ، ولكنّا نقنع من كلّ ذلك برواية شيخنا البخاري (رضي الله عنه) لإنّه لا يورد في صحيحه إلاّ ما هو حجّةٌ بينه وبين ربّه ، ـ كما يقولون ـ قال في باب «علامات النبوّة» ما نصّه :

حدّثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، عن الزهري ، قال : أخبرني أبو سلمة بن عبدالرحمن : أنّ أبا سعيد الخدري (رضي الله عنه) قال : بينما نحن عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم)وهو يقسّم قسماً ، إذا أتاه ذو الخويصرة ـ وهو رجل من بني تميم ـ فقال :

يارسول الله ، اعدل! .

فقال : «من يعدل إذا لم أعدل ، قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل» .

فقال عمر : يارسول ائذن لي فيه أضرب عنقه !

فقال : دعه ، فإنّ له أصحاباً يحقّر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم; (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة) ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء ، ثمّ ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء ، ثمّ إلى نضبه ـ وهو قدحه ـ فلا يوجد فيه ، ثمّ ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء ، قد سيق الفرث والدم ، آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر ، ويخرجون على حين فرقة من الناس .

قال أبو سعيد : فأشهد أنّي سمعت هذا الحديث من رسول الله (صلى الله عليه وسلم)وأشهد أنّ عليّ بن أبي طالب قاتَلهم وأنا معه ، فأمر بذلك الرجل فالُتمِسَ فأُتِيَ به حتّى نظرتُ إليه على نعت النبي (صلى الله عليه وسلم)الذي نعته . انتهى بحرفه من الصحيح[21] .

ولكنّي أقول : صلّى الله عليك يارسول الله ، من نبيّ صدّيق باهر المعجزات قاهر الآيات ظاهر البيّنات ، سوى أنّي لا أهتدي إلى كلماتك الشريفة ورموزك الدقيقة ، ولا أدري لماذا ذلك التشديد والتأكيد والمبالغة : «ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء ، ثمّ إلى رصافه (وهو مغرز النصل من السهم) ثمّ إلى نضبه ثمّ إلى قذذه فلا يجد في الجميع شيئاً»؟ .

لا أدري يارسول الله ، ما الذي توعّز إليه ؟

وعمّاذا تكنّي وتشير ، بذلك التكرير؟

أكلّ ذلك إيعازاً لأُمّتك باجتناب تلك الطائفة ، وإنذاراً بأن لا شيء فيها من الخير ، ولا بصيص لها من النور ، ولا رصيص بها من الانتفاع والهدى ؟

أكلّ ذلك خوفاً على أُمّتك ممّا وقعتْ فيه من الانخداع بعبادتهم ، والاغترار بسود جباههم ، والاستنامة على نغمات قرائتهم ، وكثرة صلواتهم ؟ .

أشهد ـ يارسول الله ـ لقد أدّيتَ الأمانة ، ونصحتَ للأُمّة ، وأتممتَ الحجّة ، ونصبت الأعلام البيّنة والمنار الساطعة .

ولكن إنّ من أُمّتك من يتولّون عن نصائحك ويتأوّلون .

أُف لك يادهرُ ، وتعساً لك أيّها الزمان ، ما كنتُ أحسبُ أن يمتدّ بي زمني حتّى أرى للعلم دولة تقوم فيها الكتبة والصحف للذبّ عن الخوارج والكفاح دونهم ، والجهاد في رفع سمة الفسق عنهم ، التي هي أقلّ ما يقال فيهم ، والتي هي دون ما يستحقّونه بكثير ، فإنّ حقيقة أمرهم وتمام ما هو حقيق فيهم ما قاله سيّد أُمناء الحقائق وأمين الله عليها (رسول الله) صلوات الله عليه «أنّهم المارقون من الدين» ، وهذا كما هو جليّ فوق الفسق بكثير .

نعم ، ما كنتُ أحسب أن يمتدّ بي زمني حتّى يدفعني إلى تلويث قلمي بنشر بعض سيّئاتهم وفظائعهم ، والكشف عمّا ليس بمستور من أحوالهم .

وكنت كالمستيقن أنّ هذا ـ أعني أمر الخوارج ـ شيء قد فرغ منه ، وتسالم المسلمون فيه ، وختموا عليه ، وانقادوا إلى قول نبيّهم : أنّ هؤلاء ـ كاسمهم ـ خوارج مارقون ، ولا يعدّون في عداد المسلمين .

ثمّ من عظيم البليّة وكبير المحنة أن يخصّ من بين الخوارج خصوص عمران ابن حطّان الذي هو أعظم جرماً عند الله من عبدالرحمن بن ملجم ، فإنّ ضربته لا تزال تنكأ الجرح ، وتقرح قلوب المؤمنين إلى يوم الدين .

ويشهد الله أنّي إنّما اندفعتُ لنشر هذه الحروف ، على أنّ الوقت والحال لا يساعد على شيء من ذلك ، ولكن رأيت من القريب أن أرى يوماً قد نشرت فيه بعض الصحف تعديل عبدالرحمن بن ملجم قاتل عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)وأبي لؤلؤة قاتل عمر(رضي الله عنه) ، أو مروان بن الحكم ، وعمر بن سعد ، ويزيد[22] قتلة الحسن والحسين سيّدي شباب أهل الجنّة وريحانتي رسول الله صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام .

إنّ تعديل ابن حطّان أو تصحيح الرواية عنه ليس بدون تعديل هؤلاء .

ولماذا يعدّلون؟!

لأنّ بعض المحدّثين روى عنهم رواية ، فمن أجل رواية واحدة نرفع اليد عن ضروريّ من ضروريّات الدين ، بل عدّة من الضروريات :

منها : مروق الخوارج من الدين .

ومنها : وجوب موالاة أهل البيت (عليهم السلام) والخروج عن الإسلام ببغضهم .

ثمّ إذا كان الإمام البخاري (رضي الله عنه) هو راوي حديث مروق الخوارج من الدين في صحيحه ، ويعتقده حجّة بينه وبين ربّه ، فبماذا يعتذر شيخنا القاسمي في صحّة تخريج الرواية عن رأس من رؤوس المارقين عن الدين ؟ وداعية من دعاتهم؟ حسب اعترافه في ما قدّمنا نقله من نصّ عبارته .

أفهل يسوغ أن يسمّي رسول الله (صلى الله عليه وآله) هؤلاء مارقين من الدين مروق السهم من الرميّة ، ونجيىء نحن فنقول : نعم قد مرقوا من الدين ، ولكن نأخذ بأخبارهم ونعتمد على نقلهم ; لأنّهم أهل ورع واجتهاد وزهد وعبادة؟!

أم هل يعدّ التأوّل في الدين مروقاً من الدين ؟

أم نحن أعلم بهم من رسول الله صلوات الله عليه ، وقد أخبر عن تفاصيل شؤونهم قبل وجودهم بثلاثين عام ، وهي من أعلام نبوّته ودلائل بعثته؟![23] .

وما أقصى ما يذبّ عنهم المحامي لهم ، والمصحّح للرواية عنهم؟! إلاّ أن يقول :

إنّنا نرتاح إلى نقلهم ، ونسكن إلى روايتهم ، لما نعلمه من تحرّجهم عن الكذب ، وتصلّبهم في الورع ، وتجافيهم عمّا يعلمون حرمته من ضرورة الكتاب ، وشعائر الإسلام التي لم تدخل عليهم شبهةٌ فيه ، كما دخلت عليهم في غيره ، فنقلهم ورواياتهم لنا ، وبدعتهم عليهم!!

وقد ورد مثله عن بعض أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) حيث قال في بني فضّال ـ بعد أن زاغوا ووقفوا ـ : «خذوا ما رووا وذروا ما رأوا»[24] .

والخبر لا موضوعيّة له في نفسه ، وإنّما الغرض التوصّل به إلى السنّة وكلام المعصوم ; فإذا حصل الوثوق جاز الاعتماد عليه ; أو تخريجه من أي مخبر كان ، واعتبار العدالة من أجل أنّها هي الطريق الغالب لتحصيل الوثوق ، لا لخصوصية فيها .!

هذا غاية ما في وسع المجالد عنهم والمكافح دونهم ، قد قمنا عنه ببيانه وتشييد أركانه .

ولكن هل يخفى على اللبيب ما فيه من الخطأ والخطل ومواضع النظر المماحكة .

فإنّا بعد أن رأيناهم يتأوّلون في أعظم الضروريّات حرمةً عند الله ، ويرتكبون أعظم الكبائر متأوّلين أو غير متأوّلين ، فمن أين يبقى لنا وثوقٌ بأنّهم لم يتأوّلوا كاذبين في خبر يروونه ، لغرض لهم لا نعلمه بعينه : إما لترويج باطل من أباطيلهم ، أو لدخيلة من دخائلهم؟!

وهل حرمة الكذب أجلى وأظهر وأعظم وأكبر من قتل عبد الله بن خبّاب ، وشقّ بطن زوجته ، فإذا جاز تأوّلهم في هذا ، فلماذا لا يجوز ولا يحتمل تأوّلهم في ذاك ؟ .

أم هل تأوّلهم في تكفير الخليفة عثمان(رضه) وتكفير أميرالمؤمنين(عليه السلام) واستباحة دمه وقتله في محرابه ، كان أسهل وأهون من كذبة في خبر يكذبونه ؟

نعم «شنشنة أعرفها من أخزمِ» .

قد تورّعوا من أكل الرطبة ، وأخذ النخلة عن رضا من مالكها بلا ثمن ، ولم ينفتح لهم بابُ التأويل انفتاحَه في قتل ذلك الصحابي الطاهر؟؟؟

أمّا القياس على ما ورد عن أهل البيت في بني فضّال ، فما أشدّ البَوْن ! وأبين الفرق ! وأجلى المغايرة والمنافرة ! بين المقامين .

فإنّ ذلك الإمام ـ الذي تؤثر عنه تلك الفقرة ـ كان قد سُئِلَ عن أخبار مخصوصة هو سلام الله عليه يعلم بأنّ بني فضّال كانوا قد رووها عن آبائه سلام الله عليهم ، فلهذا أجاز لطائفته العمل بها والتعويل عليها .

وبنو فضّال لم يرد فيهم : «أنّهم مرقوا من الدين» ، حتّى يكون الأخذ برواياتهم وصحّة التخريج عنهم اجتهاداً في مقابلة النصّ ، بل الأمر على العكس : فإنّ النصّ ورد بالجواز ؟

فأين هذا من ذاك ؟

على أنّنا لو فتحنا ذلك الباب ، وقلنا بأنّ اعتبار العدالة طريق محضٌ ، لا جهة موضوعيّة فيه أبداً ; إذن لاتّسع الأمر ، وجاز أن نعوّل في الشرعيّات حتّى على خبر الكافر!

وهذا ممّا لا أظنّ مسلماً يقول به .

كيف ؟ وهذا شيخنا القاسمي نفسه قد ذكر في ما ألّفه من حياة البخاري (رضي الله عنه)قال في عنوان «شرط البخاري في جامعه» : قال الحافظ ابن حجر : عن الحافظ أبي بكر الحازمي : أنّ شرط الصحيح أن يكون إسناده متّصلا ، وأن يكون راويه مسلماً صادقاً غير مدلِّس ، ولا مخلّط ، متّصفاً بصفات العدالة ، متحفّظاً سليم الذهن ، قليل الوهم ، سليم الاعتقاد .

يالله وياللمسلمين ! ما أدري أين انطباق هذه الأوصاف على عمران بن حطّان ، وابن الحكم مروان ، وداود بن الحصين ، وكثير من أضرابهم ؟ .

أين الإسلام ، وقد مرقوا من الدين ؟

أين الصدق ، وقد كذبوا على أمير المؤمنين في الرضا بالتحكيم ؟ .

أين الاتّصاف بالعدالة ، وهم يقتلون النفوس المحترمة ويسفكون الدماء المقدّسة ، كدم عبد الله بن خبّاب ، ويشقّون بطن زوجته وهي حبلى ؟ .

أين التحفّظ وسلامة الذهن وقلّة الوهم ؟

أين سلامة الاعتقاد ؟ .

أكلّ هذه النعوت الفاضلة قد اجتمعت متكاملةً في أُولئك الخوارج!! ولم تجتمع ولا في واحد من رواة الشيعة ، بل ، ولا في إمام الشيعة وسيّدهم وسيّد أهل البيت وبقيّة

رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟ .

اجتمعت في عمران ابن حطّان!! ولم تجتمع في جعفر الصادق سلام الله عليه ، ولا في واحد من أولاده الأئمّة ، ولا في واحد من رواة شيعته .

نعم ، لم يجتمع فيهم ; لأنّ الشيعة يعملون بالتقية فيكذبون ! .

ويستدلّ على ذلك شيخنا القاسمي بكلام الذهبي ، ذاك الذي أحقّ ما يقال فيه قول أبي الطيب :

سمّيتَ بالذهبي اليومَ تسميةً            مشتقّةً من ذهاب العقل لا الذهبِ

اجتمعت كلّ تلك الشروط في المرجئة والقدريّة!! ولم تجتمع في بضعة رسول الله وسليله جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن فاطمة الزهراء بنت رسول الله وفلذة كبده وبقيّته في أُمّته؟

لم يكن جعفر بن محمّد صادق أهل البيت سلام الله عليهم أهلا لأن يروي عنه ولا حديثٌ واحدٌ ضمن تسعة آلاف ونيف وثمانين حديثاً !! .

نعم ، لا يروي عنه ، ولا عن شيعته ; لأنّه ـ كما روى شيخنا القاسمي في حياة البخاري عن الذهبي في ميزان الاعتدال (وما أكثر ما تكذب الأسماء أو تكون بعلاقة الضدّ) أنّه قال في ترجمة (عليّ بن هاشم الخزّاز) : قال ابن حبّان : غال في التشيّع ، روى المناكير عن المشاهير ، وقال البخاري : كان هو وأبوه غالين في مذهبهم ، وقال أبو داود : ثبتٌ متشيّعٌ .

ومع هذا ، فقد وثّقه ابن معين وغيره ، وروى عنه الإمام أحمد ومسلم والأربعة .

قال الذهبي : ولغلوّه ترك البخاري إخراج حديثه ، فإنّه يتجنّب الرافضة كثيراً ، كان يخاف من تديّنهم بالتقيّة ، ولا يتجنّب القدرية ولا الخوارج ولا الجهمية; فإنّهم على بدعهم يلتزمون الصدق . انتهى ما نقله شيخنا القاسمي من عبارة الذهبي[25] .

وكنتُ قد وقفت على هذه الفقرة حين ما نشرها الشيخ القاسمي في «العرفان» الأغرّ ، قبل سبعة أشهر تقريباً ، وأنا إذْ ذاك نزيل دمشق بلد الشيخ ، فلمّا وقع نظري عليها يومئذ جاش صدري وغلتْ نار الحميّة للحقّ في فؤادي وتنمّر قلمي ، وفارتْ محبرتي بنفسي ، واستعرض لي متصدّياً طرسي ، وتزاحمتْ تتراكم على ذهني وجوه النظر والبيان لردّ هذه الفرية والبهتان .

ثمّ راجعتُ حلمي ، وخفضتُ من زماعة عزمي ، ورأيتُ أنّنا في وقت هو في أشدّ الحاجة إلى دفن هذه النبايث ، وستر تلك الهنائث ، وبثّ روح السلم والموادعة ، وتأكيد روابط الجامعة ، وقلت : لعلّها غرّة من شيخنا القاسمي ، أو عثرة من قلمه ، وسوف ينتبه إلى خطرها وشروى شرّها ، فلا يعود إلى نشر مثلها ، ممّا يجرح خواطر إخوانه ، ويمسّ عواطفهم ، فضربتُ عنها صفحاً ، ولم أشر في معارضتها حرفاً .

فما أغبّ غير قليل حتّى نشر لنا توثيق عمران بن حطّان ، الذي هو الشريك في دم أمير المؤمنين سلام الله عليه ، فرأينا ما لا يحسن السكوت والصبر عليه ، ولا نعذر عند الله جلّ شأنه وأوليائه بالتساهل فيه ، ولا يسمح لنا الضمير والحقيقة في الإغضاء عنه .

ولستُ بمطراب إذا شبّت الوغى            ولكن متى ما أُدْعَ للشرّ أركبُ

 فنشرنا هذه الحروف عن خالص نيّة ، ومجرّد نصرة للحقيقة .

والله سبحانه هو العليم بالسرائر ، ولا تخفى عنه خافية .

أما حديث التقيّة وعمل الشيعة به :

فلو أنّ الظروف تسمح لي لعرّفتُ الذهبي أو شيخنا القاسمي : ما هي التقيةّ؟ وكيف مقامها من الدين؟ وأنّها من غرائز العقول وبدايِهِ الفطرة في كلّ مذهب وملّة ، بدافع الطبع والجِبِلّة .

وحيثُ أنّ دين الإسلام ما جاء بما يصادم العقول ويخالف البديهيات ، فلذلك كانت التقيّة من إحدى ضرورياته .

نعم ، لو أنّ الوقت يفسح لي لذكّرتُ الذهبي قوله تعالى : ( إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة) وقوله عزّ شأنه : ( إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالاِْيمَانِ)وقول إبراهيم(عليه السلام) : ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) وكثيراً من نظائر ذلك في القرآن الكريم ، والسنّة النبويّة .

نعم ، لو سنحت لي الفرص واتّسع معي الوقت; لعرّفت الذهبي ـ حيث يقول : «كان يخاف من تديّنهم بالتقيّة ، وأنّ غيرهم يلتزمون الصدق ، لَعَرَّفته الصادق من الكاذب ، والمحقّ من المبطل ، والناجي من الهالك .

ولأفصحتُ له عن أنّ هذه التقيّة التي نبز بها الشيعة ليس معرّتها وإثمها إلاّ على أئمّته من متأمّري بني أُميّة وملوكهم; من معاوية ويزيد ومن بعده; أُولئك الذين سعوا في إطفاء مصابيح الهدى وطمس أعلام الحقّ ، وتتبّعوا شيعتهم يقتلونهم تحت كلّ حجر ومدر ، ويصلبونهم على كلّ عود وشجر .

ولئن يقال ـ إذ ذاك لمن يوالي أهل البيت ـ : «يا كافر» خيرٌ من أن يقال له : «يا ترابي» ، لأنّه إذا قيل له : «يا ترابي» هجمت على الفور داره ، وأُسرت عياله ، وأُزهقت روحه : إمّا زجّاً في أعماق السجون ، أو رفعاً إلى أعالي الخشب .

المعرّة ـ أيّها الحافظ الذهبي ـ على مَن ضغط على الأفكار ، وحجر على العقول ، وسلب حرّية النفوس ، وحال بين الحقائق والأذهان ، ولم يدع كلّ إنسان وما يدين به بينه وبين ربّه .

أُولئك الذين سوّلت لهم شياطين سياستهم أن يمحقوا من الإسلام اسم أهل بيت النبوّة ، ولا يتركوا لهم أثراً ولا عيناً ، فلا يدعون ذاكراً يذكرهم ، أو أحداً يعرفهم ، فضلا عن أن يواليهم أو يتشيّع لهم .

حسبك ما فعل زياد بن أبيه ، وابنه عبيدالله بن زياد ، والحجّاج وغيره ، بل وحتّى الدوانيقي ، والمتوكّل الذي تتبّع رمم أهل البيت في أجداثهم ، وأسف أن لا يكون قد شارك قتلهم في حياتهم .

أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا            في قتلهِ فتتبّعوه رميما

فعارُ التقيّة وشنارها وسوء عاقبتها ووبالها على من اضطرّ الشيعة إلى استحياء رمقهم بها ، والفزع إليها .

على أنّ التقيّة التي كانت عند الشيعة ، إنّما كانت في خصوص النقطة السياسيّة التي يحاذرها بنو أُميّة أو بنو العبّاس ، وهي خصوص ولاية أهل البيت(عليهم السلام) أو ما يؤدّي إلى ذلك ، أمّا في سائر شرائع الدين ، فكانوا يجاهرون بها على صلابة الحقّ ، ولا تأخذهم فيها لومة لائم .

هذا ، مع أنّ التقيّة ـ حتّى في الولاية ـ كانت أشبه بالرخصة والإباحة ، حفظاً للدماء ، وبُقيا على النفوس ، وتأليفاً للكلمة ، وحرصاً على جامعة الإسلام ، وصوناً لعقد نظام الأُمّة أن ينثر من وسطه وأطرافه فتلتقطه الأغيار .

أمّا الأخصّاء من رجال الله وذوي المقامات العالية والمكانة الرفيعة ، إذا أمنوا الخطر على الإسلام ، فقد كان لهم أن يجاهروا بالحقّ ، ويبرأوا من الباطل ، ويعلنوا حتّى بالولاية ، رغماً عن كلّ الاضطهادات والعقبات التي وضعتها متغلّبةُ بني أُميّة .

وناهيك حديث مِيثم التمّار ، ورُشيد الهجري ، وأمثالهم من خاصّة أصحاب أمير المؤمنين سلام الله عليه ، وخزنة علومه وأسراره ، أُولئك الذين قبض عليهم ابن زياد وابنه ، وأمرهم بالبراءة من أمير المؤمنين; فلم يفعلوا ، وبالعكس تبرّأوا من فرعون بني أُمية وجنوده ، حتّى صلبهم على جذوع النخل بكناسة الكوفة ، وسلّ ألسنتهم من أفواههم .

وقبل هذا ما كان من حديث عمرو بن الحمق الخزاعي ، وحجر بن عديّ الكندي; سيّدَي الأوّابين ، مع جماعة من أصحابهم ، حُملوا من الكوفة إلى فرعون بني أُميّة ، على أوعر محمل ، بغير راحلة ولا زاد من الكوفة إلى الشام ، فلمّا حضروا عنده وأمرهم بالبراءة أبوا ذلك ، وقدّموا أنفسهم أضاحي على مذبح الحقّ وقرابين لدين الله ، فقتلوا صبراً في «مرج عذراء» من الشام .

وحُمل رأس عمرو بن الحمق الخزاعي ـ ذاك الصحابي الكريم ، الذي أثنى عليه النبيّ وترضّى عنه في مواضع ـ حُمل رأسه من الموصل إلى الشام ، وهو أوّل رأس حمل في الإسلام .

هؤلاء رجال الشيعة الذين يزعم الذهبيّ أنّ البخاري لا يروي عنهم ويخاف منهم لتديّنهم بالتقيّة ، ولا يخاف من الخوارج والجهمية والقدرية ، قد رأيت كيف قدّموا أعناقهم للضرب وأجسامهم للصلب دون كذبة واحدة ؟

وهؤلاء قليلٌ من كثير أمثالهم الذين لا يتّسع المقام لتعداد أسمائهم فضلا عن سرد أقاصيصهم ومساعيهم المشكورة للدين ومواقفهم الشهيرة أمام الظالمين .

هؤلاء رجال الشيعة أيّها الحافظ الذهبي ، فهل في رجالك من بني أُميّة واحد منهم؟

ولم أرَ أمثال الرجال تفاوتاً            من الفضل حتّى عدّ ألفٌ بواحدِ

 ولو أردنا أن نذكر لك نبذةً وافيةً من عظيم ما جرى على الشيعة من الاضطهاد والظلم والجور والمحن والإحن ، في كلّ ذلك ثابتون على مبادئهم ، راسخون ـ رسوخ الجبال ـ على لاحب منهاج أئمتهم ، سائرون على الصدق والاستقامة ، على رغم كلّ تهديد ووعيد وبلاء شديد .

نعم ، لو أردنا الخوض في ذكر ما جرى عليهم من العناء والبلاء لأسمعناك أيّها الناظر في هذه العجالة ما يقشعرّ له بدنك ، وترتعش منه مفاصلك ، وينسيك حديث عاد وثمود وفرعون ونمرود .

كلّ ذلك ، لماذا ؟

لأنّهم يوالون أهل بيت نبيّهم ، ويسيرون على منهاجهم وسنّتهم ، ويبرؤون من أعدائهم عتاة بني أُميّة وحزبهم.

هذا هو أكبر ذنوب الشيعيّ الذي من أجله لا يزال الحافظ الذهبي كلّما ذكر واحداً منهم في «ميزانه» ضعّفه ورماه بالغلوّ والكذب ، ووصمهم بكلّ وصمة ، ونبزهم بكلّ حطّة ، ومنها هذه المقالة الشنعاء التي نحن في صددها .

ولعلّ الفرص تسنح لنا فنضع مشروعاً يفي بشرح هذه الشؤون والأحوال ونوفّيها حقّها من البيان ، ونعرّف الناس الذهب المزيّف من الخالص ، والمغشوش من السبيك .

وعلى أيٍّ ، فنحن لا نستغرب صدور مثل ذلك من الذهبي ، فإنّ نزعته معلومة ، وإنّما من ينشر أقواله ويصغي لها أُذناً واعية بدخائلها ونزعاتها .

أمّا «عليّ بن إبراهيم القمّي الخزاز» الذي هو موضع كلام الحافظ الذهبي :

فهيهات أن تقبل روايته ، أو تصحّ عدالته! ولو أنّ مسلماً ، والإمام أحمد بن حنبل ، والأربعة من أرباب الصحاح ، وابن معين ، جميعاً قد وثّقوه ورووا عنه !

ولكن سيّئته لا تغفر ، وشهادة أُولئك الأعاظم في حقّه لا تقبل .

كيف ؟ وهو من كبار رواة الشيعة ومحدّثيهم ، وهو أُستاذ شيخنا الكليني ثقة الإسلام صاحب «الكافي» رضوان الله عليه .

كما أنّه لا غرابة في عدم رواية الإمام البخاري عنه ، بعد أن كان البخاري لم يرو حتّى عن سيّده وسيّد أهل البيت جعفر بن محمّد الصادق سلام الله عليه .

وليس عليّ بن إبراهيم إلاّ قطرة من ذلك البحر ، وفرعاً من ذلك الأصل ، وشعلةً من ذلك الزند ، وشعبةً من ذلك الرند .

وإذا كان الأصل متروكاً ومهجوراً أو مغموزاً فيه (معاذ الله) فبالحريّ أن يُترك الفرع ويهجر النبع ! .

نعم ، وعلى العلاّت ، وعلى ما في الحلق من الشجى ، وما في العين من القذى ، فنحن لا نمسّ كرامة الإمام البخاري(رض) ولا ننحي عليه باللائمة في عدم روايته عن دوحة رسول الله ونبعته وبقيّته في أُمّته . مع روايته عن أُولئك المارقين من الدين بنصّ رسول الله صلوات الله عليه ، في رواية البخاري نفسه في «صحيحه» كما تقدّم نقله .

ونقول للاّئم : «لعلّ لها عذراً وأنت تلوم» .

وإذا كان ابن الدمينة يقول في ذات حبّه :

منعتْ تحيّتها فقلت لصاحبي            ما كان أكثرها لنا وأقلّها

فدنا وقال لعلّها معذورةٌ            من بعض رقبتها فقلت لعلّها

 فحريّ بنا أن نقول مثلها في ذلك الحافظ المتحمّل لسنّة نبيّنا صلوات الله عليه .

على أنّنا لا نغالي ونتطرّف فنزعم أنّه «أمير المؤمنين» ولا نلقّبه أو غيره من المحدّثين بذلك ، كما ذكره شيخنا القاسمي في ما جمعه من «حياة البخاري» .

بيد أنّ البخاري مهما كان; فليس يمتنع عليه الخطأ أو النسيان ، نعم ، وأنّ العصمة لله ولمن اختصّه الله ، وليس الخطأ بمحال على الإنسان ، طالما لا يكون معصوماً ، سوى أنّنا قد نحمل نشرة العتاب أو الملام ـ ولكن على أكفّ الكرامة وأجنحة الاحترام ـ ونضعها أمام شيخنا القاسمي قائلين :

إنّه قد كان الجدير بمثله ـ حيث تعرّض لنشر تلك الشذرة الأخلاقيّة ـ أن يقف فيها على حدودها ، ولا يتطرّف ويتغالى بها ، وحيث أبى إلاّ أن يتوسّع فيها ، ولا يقف على نقطتها المركزية ، وحقيقتها الجوهرية ، فلقد كان من الحزم والصرامة وسعة العلم والكرامة أن لا يذكر ذلك الشقيّ «عمران بن حطّان» شريك «ابن ملجم» مخمّد ذلك النور الإلهيّ الذي ما أضاء في ظلمات هذا الكون ـ بعد النبيّ سلام الله عليه ـ مصباح هُدىً مثله .

أليس من الحتم اللازم بمصلح مثله طمّ هاتيك الرمايم ، ومحو تلك السخايم ، والابتعاد عن النبايش والخوادش ، في كلّ زمان وعلى كلّ حال ، فضلا عن مثل هذه الأحوال الحرجة ، والمآزق الضيّقة .

وإنّ لنا ـ اليوم ـ عن إثارة الدفائن ونبش الضغائن لشغلا شاغلا بالرزايا التي نزلت بالإسلام ، والأخطار التي أحدقت به من كلّ صوب ومكان ، حتّى أصبح على شفا جرف هار ، وفي قلب كلّ مسلم عليه جذوة نار ، تدفع كلّ ذي مركز ومقام وغيرة وحميّة أن يجعل الهموم همّاً واحداً ، فلا يعاني ولا يزاول ولا يهمّ ولا يحاول ، ولا يجري قلمه ولا تهمّ هممه ، ولا يصبح ويمسي ويغدو ويروح : إلاّ في بثّ روح الإخاء والوحدة في نفوس المسلمين وتنبيه إحساساتهم ومشاعرهم إلى ما حلّ بهم من تلك المنابذات والمشاغبات التي تركتهم طعمةَ الطغام وأكلةَ حتّى للحشرات والهوامّ .

فعسى أن تنشط عزائمهم من ذلك الخدر الذي تركهم كالميّت لا يحفظ موجوداً ولا يردّ مفقوداً .

وحسبي بالله شهيداً أنّي في نقدي هذا ما رفعت ووضعت القلم إلاّ وأنا في أشدّ سأم وبرم .

اليراعة تُنمِّق السطور . وزند الأسى يتقادح في الصدور ، ولكنّها الحقيقة ـ يا أخا ودّي ـ أبتْ إلاّ أن تتجلّى وتظهر ، ولا تتّسع لها ظروف الكتمان في أيّ الظروف والأزمان .

الحقيقة كالنار الموادعة في العود أو الحجر ، يتطاير عند الاحتكاك والصدام لا محالة منها الشرر .

ولعَمْر الحقيقة : إنّ الانتصار لها ليس من التعصّب في شيء ، ولئن كان; فهو من التعصّب للحقّ الذي بودّنا أن نكون من أهله ، وأن لا نكون من المتساهلين فيه .

وعلى ذكر هذا ، أذكر كلاماً أورده شيخنا القاسمي في منشوره الذي نحن فيه ، في البحث الذي صدّره بعنوان «خطر النبز بالفسق» فإنّه ـ بعد أن جرى في شوط بعيد ، ورمى ولا أعلم إن كان سديداً أو غير سديد ـ ولكنّه اندفع في خطوه يلفّ الحزون بالسهول ، كالسائر العجول ـ جاء قائلا :

ولمّا لم يكن عند من يرمي أخاه بالفسق إلاّ الظنّ; جاء النهي عن سوء الظنّ إثر تلك الآية ـ يعني آية «التنابز بالألقاب» في قوله تعالى : (  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) إلى آخرها ـ .

ولمّا كان الرمي بالفسق مدعاةً لتفرّق القلوب وإثارة الشحناء ، على عكس حكمة الله تعالى في خلقة الخلق للتعارف والتآلف; جاء على إثر ما تقدّم بقوله سبحانه : (  يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَر وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) .

فليتدبّر المتّقي هذه الآيات الكريمة ، وليقف عند أوامرها وزواجرها ، وليعتبر وليستعبر .

قال السيّد الطباطبائي في «المفاتيح» : الفسق أن يتحقّق بفعل المعصية المخصوصة مع العلم بكونها معصية ، أمّا مع عدمه ، بل مع اعتقاد أنّه طاعة ، بل من أُمّهات الطاعات; فلا .

والأمر في المخالف للحقّ كذلك; لأنّه لا يعتقد المعصية ، بل يزعم أنّ اعتقاده من أهمّ الطاعات ، سواء كان اعتقاده صادراً عن نظر أو تقليد ، ومع ذلك لا يتحقّق الفسق .

وإنّما يتّفق ذلك ممّن يعاند الحقّ ، مع علمه به ، وهذا لا يكاد يتّفق وإنّ توهّمه من لا علم له ، انتهى ما نقله من «المفاتيح»[26] .

وفرّع عليه قوله : فترى من العجب ـ بعد ما ذكرناه ـ أن يوسم بالفسق من لا يحلّ وسمه به ، لأنّ معناه لا ينطبق بوجهّ ما .

ثمّ أخذ في فضل رواة الأحاديث ، بعد أن علّق على عبارة «المفاتيح» في الحاشية ما حرفه : «في النقل عن هذا السيّد الإماميّ الكبير (رحمه الله) حجّة على متعصّبة الإماميّة في تفسيقهم مخالفهم أيضاً» . انتهى .

ونحن لا نريد أن نعقّب بنات رأيه واحدةً واحدةً ، ولا نبدي الملاحظات على أقواله كلمةً كلمةً ، فإنّ ذلك يخرج عن تخوم هذه العجالة ويضيق وسعها عنه ، كما أنّه لا يحضرني ـ في حاضر وقتي هذا ، وأنا في لهوات الأسفار ، وثناياً الاغتراب ـ كتابُ «المفاتيح» للسيّد المجاهد; لأنظر صدرَ العبارة وذيلها ، ونرى ما حقيقةُ ما يُريد السيّد[27] .

أمّا العبارةُ المنقولةُ فلا يخفى مواقعُ النظر منها على أوائل الأفاضل فضلا عن أعاليهم ، ولو فتحنا هذا الباب باب المدار على الاعتقاد على إطلاقه لاتّسع الفتق ، وتعسّر الرتق .

والغرض أنّنا لسنا بهذا الصدد ، ولكنّا نريد أن نتدبّر في قوله : «حجّة على متعصّبة الإماميّة» ونقول : ما المراد بمتعصّبة الإماميّة؟

إن أراد بهم : من لا يقبلُ رواية ابن حطّان والخوارج ونظرائهم ، ويبرأ منهم ، ويعاديهم في الله ، كما يحبّ عليّاً وأهل البيت في الله .

إن كان هذا تعصّباً; فكلّ الإماميّة ، بل كلّ المسلمين ، يتعصّبون هذا التعصّب ، ولا مندوحة لهم عنه ، بصفة كونهم مسلمين ، فإنّها أُسوةٌ منهم بنبيّهم ، وانقيادٌ لأمره ، وطاعة له ، التي هي طاعة لله; فإنّ النبيّ صلوات الله عليه أوّلُ مَن تبرّأَ من أُولئك القوم ، وأخبرَ أنّهم يمرَقون من الدين ، وأنّهم من المنافقين .

وإن كان المراد بالمتعصّبة مَن يُفسّق مَن خالَفَه في سائر الآراء والاعتقادات التي هي مفسح الأنظار والاجتهادات ، عدا ذلك الأمر الضروريّ ، والركن الركين من الدين ، وهو ولاء أهل البيت وحفظ كرامتهم من الله ورسوله صلوات الله عليه; فحاشا عقلاء الإماميّة وعلماؤهم من ذلك .

كيف؟ وهم ـ دون غيرهم ـ لا يزال باب الاجتهاد مفتوحاً عندهم ، من أوّل الإسلام إلى هذا اليوم ، لم يحجروا على الأفكار ، ولم يسدّوا باب العلم والنظر ، ويوسّعون لكلّ إنسان عذره في العمل برأيه ، ويحفظون كرامة أخوّته الإسلاميّة ، وروابطه الدينية ، على حدود ما يلزم ويجب عقلا وشرعاً وأدباً وديناً .

وأمّا عدم أخذهم وعملهم بروايات مَن يروي عن مثل ابن حطّان ومروان وداود بن الحصين ونظرائهم; فإنّهم يبدون وجهاً في ذلك لعلّه وجيهٌ عند أهل المعرفة والإنصاف ، وذلك أنّهم يقولون : نحن في غنىً عن تلك الروايات بما رواه لنا أهلُ البيت من عليٍّ والحسن والحسين وزين العابدين والباقر والصادق سلام الله عليهم ، عن جدّهم رسول الله صلوات الله عليه ، فإنّهم هم أهل بيت النبوّة (وأهل البيت أدرى بما في البيت) .

فإنّا وجدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بإجماع الفريقين قد أمرنا بالتمسّك بهم ، كما أمرنا بالتمسّك بالكتاب الكريم ، فنحن على يقين من البراءة في العمل برواياتهم ، وعلى شكٍّ من العمل بغيرها ، ولا يسوغ عند العقل رفعُ اليد عن المتيقّن إلى المشكوك .

ورواياتُهم ـ بحمد الله ـ وافيةٌ كافيةٌ في كلّ أبواب الفقه والأخلاق والمعاش والمعاد ، فضلا عن التوحيد والنبوّة والمعارف الإلهيّة والأدعية والمناجاة ، وكلّ ما يسنح على الفكر ، ويخطر على البال .

فلا حاجةَ بنا إلى العمل بروايات المُغيرة ، وأبي هُريرة شيخ المضيرة ، ومروان ، وابن حطّان ، وفلان ، وفلان . . . لو كانوا من أهل الدين ، فكيف؟ وقد عرفنا علاقتهم من الدين ، وحجزتهم من الشرع؟ .

هذا ما عندَهم .

وإلى الله سبحانه نرغب أن يجمع الكلمة ويلمّ شعث الأُمّة .

وكلمتي الأخيرة التي هي الغرض والقصد من كلّ هذه العجالة : أنّ الشيخ القاسمي قد أحسن بتلك الحقيقة ، وأجاد بوضع ذلك الميزان للجرح والتعديل ، ولزوم التثبّت والتحقيق في أمر الردّ والتفسيق .

ولكنّه قد مال ميزانُه بعضَ الميل ، وبخس بعض الكيل . ولم يتعادل في أمر جرحه وتعديله ، بل تجاوز وتطرّف وتوسّع وتعسّف .

وكان الأولى بمثله والحريّ بفضله : أن يعدّل السير ، ويتوسّط; فإنّ الوسط هو الخير .

ولا يذهب بنا إلى أن نوالي كلّ أحد ، حتّى من اتّضح أنّه من أعداء الله ، وأنّه عدوٌّ لأولياء الله .

وإلاّ ، فأين الحبّ في الله؟ والبغض في الله؟ الذي هو أفضل شرائع الإسلام ، كما ورد في كثير من الصحاح؟

ومن قبيل ذلك ما نقده الشيخ القاسمي على كتاب «النصائح الكافية» ذلك الكتاب الذي يليق أن يعدّ من أكبر حسنات هذا العصر وأنصع مآثره .

تلك النصائح التي ما كنّا نخال فاضلا كالقاسمي يحيدُ عنها ويحيفُ عليها بتلك النقود; التي ليس لها من الحقيقة مسيسٌ ، ولا من المتانة والقوّة رسيس .

ومن نظر في «النصائح» ثمّ عقّبه بالنظر إلى نقدها; وجد جليّاً أنّ كلّ تلك النقود قد ذكرها السيّد الشريف في «نصائحه» ودحضها بأقوى الحجج والبراهين ، ثمّ جاء الناقد فأورد وأغفل جواباتها .

وهذا ما لا يليق بشيخ كالقاسمي .

فكان الحال في نقده ذاك كالحال في ميزانه هذا .

وحيث أنّنا قد دلّلنا على بعض مواضع الميل والانحراف في هذا الميزان ، فحريٌّ بمقالتنا هذه أن نسمّيها «عين الميزان» .

ونحن أوّلا وآخِراً نمدّ يد المصافحة بكلّ بَجالة وكَرامة ، لشيخنا القاسمي ، ونقسم له بذي العزّة والجلال أنْ ليس له عندنا إلاّ الإخاء الصحيح والولاء الصريح ، وما دفعنا إلى تنميق هذه الأسطر على جرّ القلم إلاّ ما دفعه هو إلى وضع «ميزانه» من نصرة الحقيقة وتعديل الطريقة ، وحريّة الفكر في نشر الآراء ، واثقين بارتياحه إلى خالص الانتقاد المجرّد عن الهوى والعصبيّة ، إن شاء الله ، شأن ذوي الأخلاق الكاملة والنفوس الكريمة من أمثاله .

فليغنمْ منّا في الختام كريمَ التحيّة والسلام ، المزيج بالودّ الأكيد ، . والحسنى والمزيد ، والله على ما نقول شهيد .


 

[1] كان ذلك عام (1330هـ ) .

[2] اُنظر : 194 ـ 195 من هذا العدد .

[3] فضائل الخمسة من الصحاح الستّة : 2/230 ـ 234 .

[4] الاستيعاب 3/204 ، ط دار الكتب العلمية ، بيروت ، الطبعة الأولى ، 1415هـ .

[5] في صفحة (455) من طبعة الهند . (منه) وهو في مناقب أميرالمؤمنين(عليه السلام) (2/487) .

[6] في الجزء الأوّل من صحيحه . صحيح مسلم تحقيق فؤاد عبدالباقي : 1/86 ح131 .

[7] خصائص أميرالمؤمنين(عليه السلام) أبي طالب(عليه السلام) : 101 ح97 تحقيق أبي إسحاق الجويني الأثري ط دار الكتب العربي ، بيروت الطبعة الأولى ، 1407هـ .

[8] الشفا بتعريف حقوق المصطفى(صلى الله عليه وآله) ، للقاضي عياض : 2/107 افسيت

دار الفيحاء ، عمّان الطبعة الثالثة ، 1407هـ .

[9] هي الآية (61) من سورة آل عمران (3) .

[10] خصائص علي(عليه السلام) للنسائي (ص85) ح76 .

[11] صحيح مسلم .

[12] الاستيعاب : 3/203 .

[13] لاحظ فضائل الخمسة : 1/399 ـ 431 .

[14] وقد ذكر الحموي في السادس من معجمه ، عند ترجمة الطبري ، في عداد مؤلّفاته أنّ له كتاب فضائل علي بن أبي طالب(رضي الله عنه) ، تكلّم في أوّله بصحة الأخبار الواردة في غدير خمّ ، ولم يتمّ ، وأنّه ردّ على بعض الشيوخ ببغداد ممّن كذب حديث الغدير .

أقول : وحدّثني السيد الحبر الشريف ابن عقيل عند اجتماعي معه في القاهرة أنّه وقف على هذا الكتاب في بعض مكتبات الهند العموميّة ، وأحسبه قال : «حيدرآباد» وأنّه كتاب كبير جدّاً ، واسمه «أنباء الرواة في حديث من كنت مولاه فعليّ مولاه» . (من المؤلّف)

[15] الإقبال بالأعمال الحسنة ، للسيّد ابن طاوس (ت664هـ ) (2/239 ـ 240) تحقيق جواد القيومي ، ط مكتب الإعلام الإسلامي ـ قم 1415هـ .

[16] انظر : الشفا للقاضي عياض : 2/99 .

[17] فضائل الخمسة : 2/52 ـ 59 .

[18] انظر الكامل : 3/1085 هامش رقم (2) .

[19] شرح نهج البلاغة .

[20] انظر : فضائل الخمسة في الصحاح الستّة : 2/444 ـ 449 .

[21] صحيح البخاري (4/179) دارالفكر ـ بيروت ، 1401هـ من طبعة دار الطباعة العامّة باستانبول .

[22] لقد صدق ظنّ الشيخ قدّس الله روحه «وظنّ الألمعيِّ يقينٌ» حيث طلعَ في عصرنا قرنُ الشيطان وألّف كتاباً بعنوان «أمير المؤمنين يزيد بن معاوية» وتلاهُ من يخطب في الجمعة بتبرئة يزيد من جرائمه التي ملأت آذان التاريخ وأوجه الكتب والصحف ، ومن يتذرع إلى ذلك بالهجوم على مراسيم العزاء لسيّد الشهداء(عليه السلام) والحديث عن هذا ذو شجون وأشجان ، والله المستعان على ما يصفون!

[23] انظر دلائل النبوّة للأصبهاني (ص174) دار طيبة ـ الرياض 1409هـ .

[24] كتاب الغيبة للطوسي : 239 ـ وسائل الشيعة  : كتاب القضاء .

[25] ميزان الاعتدال : 3/160 .

[26] وقد مرّ نقل كلامه في «الميزان» للقاسمي .

[27] لقد ذكرنا سابقاً أنّ الطباطبائي إنّما نقل كلام الشهيد الثاني في المسالك بنصّه ، والظاهر موافقته عليه ، وقد عارض ذلك صاحب جواهر الكلام (41/18 ـ 19) فليلاحظ .


 

 
امتیاز دهی
 
 

 
خانه | بازگشت | حريم خصوصي كاربران |
Guest (PortalGuest)

دبيرخانه كنفرانس‌هاي بين‌المللي
مجری سایت : شرکت سیگما