چهارشنبه 5 ارديبهشت 1403  
 
 
كلمة السيد محمد رضا الحسيني الجلالي
 

عين الميزان في نقد الجرح والتعديل للشيخ القاسمي

آية الله العظمى

الشيخ محمّد حسين آل كاشف الغطاء

  



 

 كلمة السيد محمد رضا الحسيني الجلالي

 بسم الله الرحمن الرحيم 

لم يفرّق المسلمون بين «القرآن الكريم» كلام الله، وبين «الحديث الشريف» كلام الرسول، في الحجّية والقدسيّة إطلاقاً، فإنّهما معاً عبارتان عن «الحقّ» الذي جاء به رسول الله(صلى الله عليه وآله) .

تميّز القرآنُ بما تميّز به من الأحكام ; كالإعجاز، والتعبّد بالتلاوة، والقراءة في الصلاة، وعدم المسّ لغير الطاهرين والمطهّرين .

وتميّز الحديثُ الشريفُ بأنّه بيانٌ لما جاء به القرآن، ولما فيه من الشريعة، ولما جاء له من أهداف .

كما تميّز القرآنُ بالتواتر منذُ أوّل وهلة لنزوله وحتّى آخر الزمان، فهو ( ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) .

لكنّ الحديث تميّز بدخول طبقات الرواة وتوسّطهم في نقله، بعد الطبقة الأُولى الذين سمعوه مباشرةً من الرسول (صلى الله عليه وآله) وهم صحابته الكرام وحملة علمه ومعارفه، وكذلك الأئمّة(عليهم السلام) وصحابتهم .

وحديث الرسول ابتُلي في عصره بالكذابة عليه، حتّى تصدّى لهم فقال: « . . . حدّثوا عنّي ، ولا تكذبوا عليَّ»[1] .

وفي هذا تحذيرٌ عن رواية الكاذبين، وهم الذين أمر القرآن الكريم بالتثبّت من أخبارهم في قوله تعالى:  "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإ فَتَبَيَّنُوا"[2] وتبيُّنُ الأمر هو التثبُّتُ من صحّة الخبر الذي جاء به الفاسق، والكاذب من أظهر مصاديق الفاسق في ما يتعلّق بالأخبار والروايات .

ولعلّ الآية الكريمة، والحديث الشريف المذكور، كانا كافيين لردع الكذبة والفسقة من التجرُّؤ على أن يجيئوا ـ بعدهما ـ بالكذب من الحديث الشريف، إلاّ أنّ المنافقين نبغوا وبرزوا على الساحة بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) وبدأوا بثّ الأحاديث الكاذبة .

ولكنّ حماة الدين من الصحابة الصادقين تصدّوا لهم، وفي مقدّمتهم أمير المؤمنين وسيّد المسلمين عليُّ بن أبي طالب (عليهم السلام) .

فهو أوّل من فصَّل أنواع الناقلين للحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكشف لخالص منهم عن الزائف، في الحديث الذي رواه الإمام أبو جعفر الكليني في الكافي الشريف، قال :

عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِم، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَى،عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَرَ الْيَمَانِيِّ، عَنْ أَبَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاش، عَنْ سُلَيْمِ بْنِ قَيْس الْهِلالِيِّ، قَالَ: قُلْتُ لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): إِنِّي سَمِعْتُ مِنْ سَلْمَانَ، وَ الْمِقْدَادِ، وَ أَبِي ذَرّ، شَيْئاً مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَ أَحَادِيثَ، عَنْ نَبِيِّ اللهِ (صلى الله عليه وآله) غَيْرَ مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، ثُمَّ سَمِعْتُ مِنْكَ تَصْدِيقَ مَا سَمِعْتُ مِنْهُمْ، وَ رَأَيْتُ فِي أَيْدِي النَّاسِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَ مِنَ الأَحَادِيثِ، عَنْ نَبِيِّ اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَنْتُمْ تُخَالِفُونَهُمْ فِيهَا، وَ تَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ بَاطِلٌ .

أَ فَتَرَى النَّاسَ يَكْذِبُونَ عَلَى رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) مُتَعَمِّدِينَ ؟ وَ يُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بآرَائِهِمْ؟!

قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيَّ; فَقَالَ: قَدْ سَأَلْتَ فَافْهَمِ الْجَوَابَ .

إِنَّ فِي أَيْدِي النَّاسِ حَقّاً وَ بَاطِلاً، وَ صِدْقاً وَ كَذِباً، وَ نَاسِخاً وَ مَنْسُوخاً، وَ عَامّاً وَخَاصّاً، وَمُحْكَماً وَمُتَشَابِهاً، وَحِفْظاً وَوَهَماً .

وَقَدْ كُذِبَ عَلَى رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله) عَلَى عَهْدِهِ; حَتَّى قَامَ خَطِيباً فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ الْكَذَّابَةُ، فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» .

ثُمَّ كُذِبَ عَلَيْهِ مِنْ بَعْدِهِ .

وَ إِنَّمَا أَتَاكُمُ الْحَدِيثُ مِنْ أَرْبَعَة، لَيْسَ لَهُمْ خَامِسٌ:

( 1 ) رَجُل مُنَافِق، يُظْهِرُ الإِيمَانَ، مُتَصَنِّع بِالإِسْلامِ، لا يَتَأَثَّمُ وَ لا يَتَحَرَّجُ أَنْ يَكْذِبَ عَلَى رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) مُتَعَمِّداً .

فَلَوْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُ مُنَافِقٌ كَذَّابٌ لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ، وَ لَمْ يُصَدِّقُوهُ، وَ لَكِنَّهُمْ قَالُوا: «هَذَا قَدْ صَحِبَ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَ رَآهُ وَ سَمِعَ مِنْهُ» وَ أَخَذُوا عَنْهُ وَ هُمْ لا يَعْرِفُونَ حَالَهُ .

وَ قَدْ أَخْبَرَهُ اللهِ عَنِ الْمُنَافِقِينَ بِمَا أَخْبَرَهُ، وَ وَصَفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ، فَقَالَ عَزَّ وَ جَلَّ : ) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَ إِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ( .

ثُمَّ بَقُوا بَعْدَهُ، فَتَقَرَّبُوا إِلَى أَئِمَّةِ الضَّلالَةِ، وَ الدُّعَاةِ إِلَى النَّارِ، بِالزُّورِ وَ الْكَذِبِ وَ الْبُهْتَانِ، فَوَلَّوْهُمُ الأَعْمَالَ، وَ حَمَلُوهُمْ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ، وَ أَكَلُوا بِهِمُ الدُّنْيَا .

وَإِنَّمَا النَّاسُ مَعَ الْمُلُوكِ وَ الدُّنْيَا، إِلاَّ مَنْ عَصَمَ اللهِ .

فَهَذَا أَحَدُ الأَرْبَعَةِ .

(2 ) وَ رَجُل سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) شَيْئاً لَمْ يَحْمِلْهُ عَلَى وَجْهِهِ، وَ وَهِمَ فِيهِ، وَ لَمْ يَتَعَمَّدْ كَذِباً; فَهُوَ فِي يَدِهِ يَقُولُ بِهِ وَ يَعْمَلُ بِهِ وَ يَرْوِيهِ، فَيَقُولُ: أَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) .

فَلَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ وَهِمَ; لَمْ يَقْبَلُوهُ، وَ لَوْ عَلِمَ هُوَ أَنَّهُ وَهِمَ لَرَفَضَهُ .

(3 ) وَ رَجُل ثَالِث سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) شَيْئاً أَمَرَ بِهِ، ثُمَّ نَهَى عَنْهُ وَ هُوَ لا يَعْلَمُ، أَوْ سَمِعَهُ يَنْهَى عَنْ شَيْء، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ وَ هُوَ لا يَعْلَمُ، فَحَفِظَ مَنْسُوخَهُ وَ لَمْ يَحْفَظِ النَّاسِخَ

وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضَهُ، وَ لَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ ـ إِذْ سَمِعُوهُ مِنْهُ ـ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضُوهُ .

( 4 ) وَ آخَرَ رَابِع لَمْ يَكْذِبْ عَلَى رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) مُبْغِض لِلْكَذِبِ; خَوْفاً مِنَ اللهِ وَ تَعْظِيماً لِرَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) لَمْ يَنْسَهُ، بَلْ حَفِظَ مَا سَمِعَ عَلَى وَجْهِهِ; فَجَاءَ بِهِ كَمَا سَمِعَ، لَمْ يَزِدْ فِيهِ وَ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ، وَ عَلِمَ النَّاسِخَ مِنَ الْمَنْسُوخِ; فَعَمِلَ بِالنَّاسِخِ وَ رَفَضَ الْمَنْسُوخَ .

فَإِنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) مِثْلُ الْقُرْآنِ نَاسِخٌ وَ مَنْسُوخٌ، وَ خَاصٌّ وَ عَامٌّ، وَ مُحْكَمٌ وَمُتَشَابِهٌ، قَدْ كَانَ يَكُونُ مِنْ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) الْكَلامُ لَهُ وَجْهَانِ: كَلامٌ عَامٌّ وَ كَلَامٌ خَاصٌّ مِثْلُ الْقُرْآنِ .

وَقَالَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ :  ( ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) .

فَيَشْتَبِهُ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْرِفْ وَ لَمْ يَدْرِ مَا عَنَى اللهِ بِهِ وَرَسُولُهُ(صلى الله عليه وآله) .

وَلَيْسَ كُلُّ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) كَانَ يَسْأَلُهُ عَنِ الشَّيْءِ فَيَفْهَمُ، وَ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْأَلُهُ وَ لا يَسْتَفْهِمُهُ .

حَتَّى إِنْ كَانُوا لَيُحِبُّونَ أَنْ يَجِيءَ الأَعْرَابِيُّ وَ الطَّارِئُ فَيَسْأَلَ رَسُولَ اللهِ(صلى الله عليه وآله)حَتَّى يَسْمَعُوا .

وَ قَدْ كُنْتُ أَدْخُلُ عَلَى رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) كُلَّ يَوْم دَخْلَةً، وَ كُلَّ لَيْلَة دَخْلَةً، فَيُخَلِّينِي فِيهَا; أَدُورُ مَعَهُ حَيْثُ دَارَ .

وَ قَدْ عَلِمَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَنَّهُ لَمْ يَصْنَعْ ذَلِكَ بِأَحَد مِنَ النَّاسِ غَيْرِي .

فَرُبَّمَا كَانَ فِي بَيْتِي يَأْتِينِي رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَكْثَرُ ذَلِكَ فِي بَيْتِي .

وَ كُنْتُ إِذَا دَخَلْتُ عَلَيْهِ بَعْضَ مَنَازِلِهِ أَخْلانِي وَ أَقَامَ عَنِّي نِسَاءَهُ فَلا يَبْقَى عِنْدَهُ غَيْرِي، وَ إِذَا أَتَانِي لِلْخَلْوَةِ مَعِي فِي مَنْزِلِي لَمْ تَقُمْ عَنِّي فَاطِمَةُ وَ لا أَحَدٌ مِنْ بَنِيَّ .

وَ كُنْتُ إِذَا سَأَلْتُهُ أَجَابَنِي، وَ إِذَا سَكَتُّ عَنْهُ وَ فَنِيَتْ مَسَائِلِي ابْتَدَأَنِي .

فَمَا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) آيَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ إِلاَّ أَقْرَأَنِيهَا وَ أَمْلاهَا عَلَيَّ، فَكَتَبْتُهَا بِخَطِّي، وَ عَلَّمَنِي تَأْوِيلَهَا وَ تَفْسِيرَهَا وَ نَاسِخَهَا وَ مَنْسُوخَهَا وَ مُحْكَمَهَا وَ مُتَشَابِهَهَا وَ خَاصَّهَا وَ عَامَّهَا، وَ دَعَا اللهِ أَنْ يُعْطِيَنِي فَهْمَهَا وَ حِفْظَهَا; فَمَا نَسِيتُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللهِ، وَ لا عِلْماً أَمْلاهُ عَلَيَّ، وَ كَتَبْتُهُ مُنْذُ دَعَا اللهِ لِي بِمَا دَعَا .

وَ مَا تَرَكَ شَيْئاً عَلَّمَهُ اللهِ مِنْ حَلال وَ لا حَرَام وَ لا أَمْر وَ لا نَهْي كَانَ أَوْ يَكُونُ، وَ لا كِتَاب مُنْزَل عَلَى أَحَد قَبْلَهُ مِنْ طَاعَة أَوْ مَعْصِيَة; إِلاَّ عَلَّمَنِيهِ وَ حَفِظْتُهُ، فَلَمْ أَنْسَ حَرْفاً وَاحِداً .

ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِي وَ دَعَا اللهِ لِي أَنْ يَمْلأَ قَلْبِي عِلْماً وَ فَهْماً وَ حُكْماً وَنُوراً .

فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ بِأَبِي أَنْتَ وَ أُمِّي، مُنْذُ دَعَوْتَ اللهِ لِي بِمَا دَعَوْتَ لَمْ أَنْسَ شَيْئاً، وَ لَمْ يَفُتْنِي شَيْءٌ لَمْ أَكْتُبْهُ، أَ فَتَتَخَوَّفُ عَلَيَّ النِّسْيَانَ فِيمَا بَعْدُ ؟

فَقَالَ: لا، لَسْتُ أَتَخَوَّفُ عَلَيْكَ النِّسْيَانَ وَ الْجَهْلَ[3] .

إنّ هذا النصّ يُعدُّ أهمّ وثيقة علميّة لتأسيس علم الرجال المسمّى بعلم الجرح والتعديل، الذي يهدف إلى تحديد أحوال الرجال للوصول إلى قيمة مرويّاتهم، فقد جمع فيه أُسس ذلك العلم وقواعده، فيكون الإمام أميرالمؤمنين(عليه السلام) بهذه «التعليقة الرجاليّة» هو المؤسّس لهذا العلم، كما أسّس علم النحو بما ألقاه إلى أبي الأسود الدُؤَلي في «التعليقة النحوية» لمشهورة[4]

إنّ الغرض الأهمّ من «علم الرجال» هو تقييم الرواة للحديث الشريف، ومن ثَمَّ تقييم ما يروونه، وتصحيحه أو تضعيفه، ليؤخذ به أو يترك، وهذا غرض مهمّ جدّاً، إذ به يتميّز الحديث الصحيح من غيره، فيعتمد عليه، وبه يتحقّق الركن الثاني من أركان الدين والعمود الثاني من أعمدة الثقافة الإسلاميّة، وهو نصوص النبي والأئمّة (عليهم السلام) التي هي بيان للإسلام وتوضيح للقرآن، وتعريف بالشريعة، والسنّة الشريفة، وما تحتويه من معارف وعلوم وآداب وحدود وقيم .

وقد أولى علماء الإسلام علم الجرح والتعديل اهتماماً بليغاً، باعتباره الأداة لتمهيد طرق إثبات الحديث، فأسّسوا له القواعد وحدّدوا له الحدود، وسدّوا منه الثغور، وأوردوا فيه البحوث حتّى تكاملت قواعده، وسلك كلّ حسب قناعاته منهجاً معيّناً، سار عليه للتوصّل إلى مبغاهُ من تحديد النصوص المعتمدة من الحديث الشريف .

فعلم الرجال، كان أداةً ووسيلةً لمثل هذا الهدف السامي، عند السلف الصالح، قد استنفذوا أغراضهم منه، وتمكّنوا من تحصيل ما ابتغوه من الجهود المبذولة حوله، وبنوا على قواعده ما استنبطوه من الأحكام الشرعيّة، وما عرفوه من الآداب والسنن الإسلاميّة .

ولكن جاء من بعدهم خلفٌ ; اختلطت عليهم الأسباب بالمسبّبات، والأهداف بالأدوات، فجعلوا من علم الرجال ذاته غرضاً مقصوداً، بعد أن كان وسيلةً موصِلةً، فأخذوا يتنطعون بمصطلحات هذا العلم، ويستعملونها في غير مواضعها، ويستفيدون منها ما لا تفيد الغرض، بل تزيد بُعداً عنه، ممّا أدّى بهم إلى الإساءة بالحديث الشريف، وإتلافه، وانتهاك كرامته وكرامة رواته ورجاله .

مثلا : بينما كان السلف القدماء إنّما يتشدّدون في أمر الرجال، في ما يتعلّق بأُمور الأحكام الشرعيّة، وما تحته عملٌ وحكمٌ إلزاميٌّ، ويتساهلون في غير ذلك من أُمور السنن والمستحبّات، وكذلك أحاديث الفضائل وغيرها .

جاء المستسلفون الجدد يطبّقون قواعد الجرح والتعديل في كلّ صغيرة وكبيرة، وعلى كلّ حديث ورواية، حتّى في مسائل من قبيل التواريخ والأحداث .

وبينما كان السلف الصالح، لم يُعِرْ اهتماماً بالجرح والتعديل في أحاديث الآحاد في ما يتعلّق بالعقيدة; ممّا يجب العلم به والجزم بمضامينه عن فكر وعقل والتزام قلبيّ، بينما الخبر الواحد لا يفيد العلم، بإجماع العلماء، وليست تلك الأُمور ممّا يتعبّد بها، ولا يكفي فيها الالتزام الظنّي غير الجزمي والقطعي .

جاء الخلف يتعالم بتطبيق قواعد الجرح والتعديل على أحاديث العقائد، ليستخرج ـ بزعمه ـ الخبر الصحيح الدالّ على عقيدة، ويحكم بوجوب الالتزام به لأنّه من الحديث الشريف الواجب الاتّباع ! غافلا عن أنّ الاتّباع التعبّدي غير مفيد للجزم اللازم في الاعتقاديات .

وغير ذلك من الأُمور الهامّة التي أشبعها علماء الحديث المحقّقون بحثاً ودرساً في مؤلّفاتهم القيّمة .

لكن جاء من بعدهم خَلفٌ أضاعوا كلّ الجهود، واقتصروا على اجترار كلمات القدح; فقط، بغرض تقويض أعمدة الحديث، وهدم دور كتبه وبيوت علمه، بزعم الخبرة في علم الجرح .

من دون أن يرتبطوا بالمتون، ولا أن يطّلعوا على فقه الحديث، وحتّى مع البعد عن لغته وذوقه .

فغاية ما يلوكه أحدهم هو أقوال منقولة عن رجال من أصحاب الجلود المنفوخة، والذين لم يتّصلوا بهم بالأسانيد ولا الطرق، وإنّما وجدوا أقوالهم مبثوثةً في الكتب والمؤلّفات، مع عدم التأكّد من ضبطها، ولا تمييز صحيحها من سقيمها، ولا تصحيح نسبتها ولا نسختها، ولا ملاحظة معارضاتها أو مناقضاتها .

ولكنّهم يكرّرونها، وكأنّها حقائق واقعة، وأحكام ثابتة، لا ريب فيها، يكيلونها على رواة الحديث الشريف، فيُهلكون رجال الحديث، وينسفون أبنية العلم، ويهدمون قواعده .

ومن المؤسف أنّ هؤلاء المتنطّعين على موائد العلم، قد تصدّوا لإبراز عضلاتهم أمام الرأي العامّ، فظهروا على قنوات فضائيّة، يعرضون ما يحفظون من العبارات ـ من دون إدراك لمغزاها ولا فهم لأبعادها،ولا ملاحظة للجوانب والعواقب، ويتناقلونها مفتخرين، ويبنون على ظواهرها اللغوية، دون مغازيها المصطلحة .

مع أنّ مثل هذه المعارف لها دلالات اصطلح عليها أهلها، غير ما تدلّ عليها عبارتها اللغوية وألفاظها الظاهرة، ولا يعرفها إلاّ ذوو التخصّص من علماء الرجال و الحديث، ولا يدركها من ليس له درس، وتحقيق، وبحث علميّ فيها، ومداولة لأقوال العلماء عنها، وقدرة على تطبيقها

والأغرب أنّ المتحاورين على تلك الفضائيّات، ومثل ذلك على ساحات النقاش على الانترنيت، من كافّة المذاهب، ليسوا على المستوى اللائق بالمحاورة، من حيث التخصّص العلمي، وفي خصوص علوم الحديث، وبالأخصّ علم الرجال .

وإنّما هم منتمون إلى مذاهب معيّنة، وهم أحداث في طلب العلم، لم يرتبطوا بالعلم إلاّ من خلال عموميّات من قبيل التاريخ والفقه والحديث، وإلاّ بالزيّ والبزّة واللحية، وليسوا بمستوى البحث العلميّ والنقاش في المسائل التخصّصيّة .

فكيف يحضر على الشاشة العالميّة ليمثّل المذهب !؟ أويتصدّر باسم أهله من لم يأخذ من علمه بنصيب ؟ .

إنّ قيام هؤلاء بمثل هذا العمل ـ الذي لا ينتفع منه مشاهدوه ـ إنّما هو لأغراض مبيّتة من قبل :

منها : الإعلان عن وجود الشقاق والفُرقة بين المسلمين، لأنّ تلك الحوارات تجرّ ـ كما حصل في كثير منها ـ إلى الكشف عن مساوئ الأطراف، فمثلا يُعلن فيها عن مساوئ الخلفاء الذين يقدّسهم السلفيّ من العامّة، وكذلك يؤدّي الجدال إلى التعدّي على كرامة الأئمّة المعصومين من آل محمّد (عليهم السلام) الذين يوالونهم الشيعة، وبالتالي يتبرّأ المتحاورون بعضهم عن بعض .

وبما أنّ هذا يحصل على الساحة العالميّة وشاشة القناة الفضائيّة المفتوحة على العالم، فإنّ ذلك يؤدّي إلى إشاعة التنافر بين أتباع المذهبين، وإشاعة العداوة والبغضاء والتنازع بين الأُمّة، فتذهب ريحُها وقوّتهُا وشوكتُها وهيبتُها، أمام أعدائهم من اليهود والنصارى والملحدين والعلمانيين، الذين يترصّدون لأُمّة الإسلام، ويكشّرون الأنياب للقضاء على دينهم ودُنياهم .

وهذا هو الذي حصل ـ فعلا ـ نتيجة لتلك المناقشات على قناة «المستقلّة» وعلى ساحات النقاش الانترنيتية منذ سنوات عجاف، حيث مهّدت للأمريكان وحلفائهم أن تغزو أفغانستان الإسلاميّة، ويهتكوا أعراض المسلمين، ويهلكوا الحرث والنسل .

ويقف المسلمون متفرّجين !

وأن تهاجم الحركات الإسلاميّة والمنظّمات والمؤسّسات التابعة للمسلمين في كلّ أنحاء أوروبا وأمريكا، وتصادر أموالهم باسم «الإرهاب» .

ويقف المسلمون ساكتين صامتين ! باعتبار الدعاية المضلّلة أنّ أُولئك إرهابيّون خارجون عن الدين !

وكذلك مهّدت النقاشات تلك للأمريكان والانكليز بالهجوم على العراق وسحق إمكاناته وقتل شعبه .

ويقف العرب والمسلمون مكتوفي الأيدي متفرّجين ؟! باعتبار أنّ الشعب العراقي يكوّن أكثريته الشيعة .

وهذه هي حصيلة تلك المناقشات الهزيلة، التي لم تستند إلى أساس رصين من علم، ولكنّها أدّت إلى هذه النتائج المخزية الخطيرة !

إنّ علم الجرح والتعديل ـ بعد أن كان وسيلةً شريفةً للتأكّد من الحديث وتمييز الصحيح منه، ورفض الدخيل والمدسوس ـ أصبح لدى هؤلاء السلفيّة هدفاً لضرب الحديث وإسقاطه، وكسر شوكة المسلمين وهدر قواهم، وبالتالي تحقيق أهداف أعداء الإسلام من المستعمرين للتسلّل والسيطرة على بلاد المسلمين .

وبعد هذه الكلمة التي كان لابدّ أن تقال، نُحاول أن نقدّم إلى العلماء الأفاضل أعمالا في مجال «الجرح والتعديل» مؤلّفةً على أساس العلم والدقّة، ومكتوبةً بغرض التفاهم والتوحيد والأُلفة، وبأدب في الحوار ونزاهة في التعبير، وبهدف جمع الكلمة على التقوى، وبأقلام علماء قديرين في العلم، ضليعين في الفنّ، معترف بهم لدى الأُمّة، لتكون أمثلةً لما يجب أن يقع على مثله البحث في مثل هذا الموضوع المهمّ .

و هي عيّنات واقعة لما قام به العلماء المخلصون المجاهدون في بداية القرن الماضي، منذ أن أخذت طلائع الغزو الصليبيّ الصهيونيّ تهدّد الأُمّة الإسلاميّة، وبدأت تهدم كيان وحدة الأُمّة، بضرب الحديث الشريف والهجوم عليه وإهانته، وعلى أيدي عملائهم الذين أرادوا السوء بالإسلام والمسلمين بإثارة النعرات الطائفيّة البشعة .

فهبّ أُولئك الغيارى للدفع في نحورهم .

ومثل هذه العيّنات والأمثلة تُبيّن زيف ما يقوم به هؤلاء المرتزقة ـ اليوم، وعلى القنوات والساحات ـ في كلٍّ من :

جانب العلم والمعرفة بعلوم الحديث وأُصول البحث العلمي، والتزام أدب الحوار والجدل والمناقشة .

وجانب العمل من أجل تحقيق وحدة المسلمين، وتجميع القوى، وتوحيد الصفّ الإسلامي المرصوص، لصدّ الهجمات الصليبيّة والصهيونيّة والعلمانيّة الملحدة، هذه الهجمات الشرسة والوقحة على ديننا الإسلاميّ الحنيف، وعلى بلداننا وأوطاننا الحبيبة، وعلى شعوبنا وأُمّتنا المظلومة .

والله هو المستعان على ما يصفون .

 

وكتب السيد محمد رضا الحسيني الجلالي

ميزان الجرح والتعديل

تأليف: الشيخ جمال الدين القاسمي

محمّد بن سعيد بن قاسم الدمشقي

(1283 ـ 1332هـ )

 

هذا بحث جليل ، ومطلب خطير ، طالما جال في النفس التفرّغ لكتابة شيء فيه يكون لُباب اللباب ، في هذا الباب ، الذي اختلف فيه الناس ، لما غلب التعصّب على النفوس ، ونبذوا مشرب كبار المحدّثين رواة السنّة ، وهداة الأُمّة ، حتّى سنحت لي فرصة كتبت فيها ترجمةً حافلةً للإمام البخاري جعلتها مفصّلةً بتراجم منوّعة كان منها (تخريج البخاري عمّن رُمِيَ بالابتداع) وهم الذين أُسمّيهم «المُبَدَّعين»[5]ذكرتُ ثمّة ما يناسب تأليف الترجمة .

ثمّ رأيتُ أنّ المقام يستدعي زيادة بسط وإسهاب ، وَدرأ شبه واحتمالات أوردها بعض الفقهاء خالف فيها الحقيقة ، فخشيتُ أن يطول بإيرادها ـ في ترجمة البخاري ـ الكلامُ ، ويشبه الخروج عن الموضوع ، فأفردتُ تتمّة هذا البحث في مقالة خاصّة تحيط به من أطرافه ، وتردّه على أنحائه .

وهذا البحث من جملة المباحث العلمية التي نسيها الخلفُ أو أضاعوها ، ولا غروَ أن يذهل عن الغايات مَن يقصّر في البدايات ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله .

(منشأ النبز بالابتداع) :

من المعروف في سنن الاجتماع أنّ كلّ طائفة قوي شأنها وكثر سوادها لابدّ أن يوجد فيها الأصيل والدخيل والمعتدل والمتطرّف والغالي والمتسامح ، وقد وجدب الاستقراء أنّ صوت الغالي أقوى صدىً ، وأعظم استجابةً; لأنّ التوسّط منزلة الاعتدال ، ومن يحرص عليه قليل في كلّ عصر ومصر ، وأمّا الغلوّ فمشرب الأكثر ، ورغيبة السواد الأعظم ، وعليه درجت طوائف الفرق والنحل ، فحاولت الاستئثار بالذكرى ، والتفرّد بالدعوى ، ولم تجد سبيلا لاستتباع الناس لها إلاّ الغلوّ بنفسها ، وذلك بالحطّ من غيرها ، والإيقاع بسواها ، حسب ما تسنح لها الفرص ، وتساعدها الأقدار ، إن كان بالسنان ، أو اللسان .

وأوّل مَن فتح هذا الباب ـ باب الغلوّ في إطالة اللسان بالمخالفين ـ الخوارج ، فأتى قادتهم عامّتهم من باب التكفير ، لتستحكم النفرة من غيرهم ، وتقوى رابطة عامّتهم بهم ، ثمّ سرى هذا الداء إلى غيرهم ، وأصبحت غلاة كلّ فرقة تكفّر غيرها وتفسّقه ، أو تبدّعه أو تضلّله ، لذاك المعنى نفسه ، حتّى قيّض الله تعالى من الأئمّة مَن قام في وجه أُولئك الغلاة ، وزيّف رأيهم ، وعرّف لخيار كلّ فرقة قدرهم ، وأقام لكلّ منهم ميزان أمثالهم .

 (من شهر الرواية عن المبدَّعين ، وقاعدة المحقّقين في ذلك) :

كان من أعظم من صدع بالرواية عنهم الإمام البخاري (رضي الله عنه) وجزاه عن الإسلام والمسلمين أحسن الجزاء ، فخرّج عن كلّ عالم صدوق ثبت من أي فرقة كان ، حتّى ولو كان داعيةً; كعمران بن حطّان ، وداود بن الحصين .

وملأ مسلم صحيحه من الرواة الشيعة[6] .

فكان الشيخان عليهما الرحمة والرضوان بعملهما هذا قدوةَ الإنصاف ، وأُسوة الحقّ الذي يجب الجري عليه; لأنّ مجتهدي كلّ فرقة من فرق الإسلام مأجورون أصابوا أو أخطأوا بنصّ الحديث النبويّ .

ثمّ تبع الشيخين على هذا المحقّقون من بعدهما ، حتّى قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر في شرح النخبة : التحقيق أنّه لا يردّ كلّ مكفَّر بِبِدعة ، لأنّ كلّ طائفة تدّعي أنّ مخالفيها مبتدعةٌ ، وقد تبالغ فتكفّر مخالفها ، فلو أخذ ذلك على الإطلاق لاستلزم تكفير جميع الطوائف .

قال : فالمعتمد أنّ الذي تردّ روايته مَن أنكر أمراً متواتراً من الشرع معلوماً من الدين بالضرورة ، وكذا مَن اعتقد عكسه .

فأمّا من لم يكن بهذه الصفة ، وانضمّ إلى ذلك ضبطه لما يرويه ـ مع ورعه وتقواه ـ فلا مانع من قبوله . انتهى[7] .

 (آفات الجرح إلاّ بقاطع) :

قال الإمام ابن دقيق العيد : أعراض المسلمين حفرةٌ من حفر النار ، وقف على شفيرها طائفتان من الناس : المحدّثون ، والحكّام[8] .

وقال الإمام النووي في (التقريب) وشارحه السيوطي : أخطأ غير واحد من الأئمّة بجرحهم لبعض الثقات بما لا يجرح ، كما جرح النسائيُّ أحمدَ بن صالح المصري ، بقوله : «غير ثقة ولا مأمون» وهو ثقة إمام حافظ احتجّ به البخاري ووثّقه الأكثرون ، قال ابن الصلاح : وذلك لأنّ عين السخط تبدي مساوئ ، لها في الباطن مخارجُ صحيحة ، تعمى عنها بحجاب السخط ، لا أنّ ذلك يقع منهم تعمّداً للقدح مع العلم ببطلانه . انتهى[9] .

وقال الإمام ابن دقيق العيد : والوجوه التي تدخل الآفة منها خمسة :

(أحدها) الهوى والغرض ، وهو شرّها ، وهو في تاريخ المتأخّرين كثيرٌ .

(الثاني) المخالفة في العقائد .

(الثالث) الاختلاف بين المتصوّفة وأهل علم الظاهر .

(الرابع) الكلام بسبب الجهل بمراتب العلوم ، وأكثر ذلك في المتأخّرين ، لاشتغالهم بعلوم الأوائل ، وفيها الحقّ والباطل .

(الخامس) الأخذ بالتوهّم مع عدم الورع[10] .

وقد عقد ابن عبدالرؤوف باباً لكلام الأقران المتعاصرين بعضهم في بعض ، ورأى أنّ أهل العلم لا يُقبل جرحهم إلاّ ببيان واضح[11] .

(الوجوه التي يعرف بها ثقة الراوي) :

قال السيوطي : قال في الاقتراح[12] : تعرف ثقة الراوي بالتنصيص عليه من رواية ، أو ذكره في تاريخ الثقات ، أو تخريج أحد الشيخين له في الصحيح ، وإن تكلّم في بعض مَن خرّج له فلا يلتفت إليه ، أو تخريج من اشترط الصحّة له ، أو من خرّج على كتب الشيخين . انتهى[13] .فتمّت النعمة بتعديل رجال الصحيحين ، ونبذ كلّ وهم سواه ، وبذلك عرف للرجال فضلهم ، ولأُولي العلم قدرهم ، وسنّ للناس طرح التعصّب والتحزّب ، والتصافح على الأُخوّة الإيمانيّة ، وتبادل الآراء والأفكار ، واستماع الحكم ومدارك الاستنباط والاجتهاد من ذويها .

على هذا جرى أئمّة الحديث ، وقادة الروايات ، الذين جمعوا ما جمعوا لدلالة الأُمّة على هدي نبيّها وسنّة رسولها (صلى الله عليه وسلم)في أقواله وأفعاله ، حتّى أصبحت مرجع الفروع والأحكام ، ومعوَّل الأئمّة الأعلام .

 (زيادة إيضاح في حكمة التخريج عن المبدَّعين وفوائد ذلك) :

إنّ تخريج أئمّة السنّة ، وحفّاظ الهدي النبويّ ، حديث مَن نُبِزوا بالابتداع على طبقاتهم ، فيه حكمة بليغة ، وفائدة عظيمة ، ألا وهي النهم بالعلم ، والسعي وراءه والجدّ في طلبه ، والتنبّه لحفظه من الضياع ، وسنّ نبذ التعصّب والتشيّع والتحزّب ، والتقاط الحكمة من أيّ قائل .

قال حافظ المغرب الإمام ابن عبدالبَرّ في كتاب «جامع العلم وفضله» في (باب جامع في الحال التي تنال بها العلم) ما مثاله : وروّينا عن عليّ (رحمه الله) أنّه قال في كلام له : العلم ضالّة المؤمن ، فخذوه ولو من أيدي المشركين ، ولا يأنف أحدكم أن يأخذ الحكمة ممّن سمعها منه[14] .

وعنه أيضاً أنّه قال : الحكمة ضالّة المؤمن يطلبها ولو في أيدي الشرط .اهـ[15] .

فأئمّة الحديث رأوا أنّ السنّة من الحكمة بل هي الحكمة في تفسير الإمام الشافعي ، كما أوضح ذلك في رسالته الشهيرة[16] في (باب بيان ما فرض الله من اتّباع سنّة نبيّه(صلى الله عليه وسلم)) .

فلذا عمدوا إلى تلقّيها من كلّ ذي علم ، واشترطوا للعناية بها أن تكون من مسلم عدل صدوق ثبت في روايته ، ولم يبالوا بما غمز أو نبز أو رمي به ، علماً بأنّ المسائل النظريّة ، أو التي دخل على أُصولها تأويل بنظر المأوِّل هي من المجتَهد فيها ، والمجتهد مأجور أصاب أو أخطأ .

فعلامَ يترك الأخذ عن المأجور؟ وقد يكون رأيه هو الحقّ ؟ ومذهبه هو الأدقّ؟ ما دام الأمر فيه احتمالٌ ولا قاطعَ ، أو اعترض النصّ ما رَجَّحه ظاهراً ، كما يعلمه من أعار نظر الإنصاف مآخذ الأئمّة ومداركهم .

وقد أوضح جملا من ذلك الإمام تقي الدين ابن تيمية في كتابه : (رفع الملام ، عن الأئمّة الأعلام)[17] .

فكأنّ أئمّة الحديث بهذا ـ أعني التلقّي عن كلّ عالم ثبت ـ مثال الإنصاف وكبر العقل ، وقدوة كلّ من يلتمس الحكمة ، ويتطلّب العلم ، فجزاهم الله أحسن الجزاء .

 (عقوق الخلف بهجر مذهب السلف) :

سبق أنّي قلت في هذا المعنى كلمة في كتابي (نقد النصائح الكافية)[18] بعد أن سَبَرْتُ رجال من خرّج لهم من الشيخين أو أحدهما في صحيحيهما ـ ممّن نبز بالابتداع ـ وهي قولي : فترى من هذا أنّ التنابز بالألقاب والتباغض لأجلها الذي أحدثه المتأخّرون بين الأُمّة عقّوا به أئمّتهم وسلفهم ـ أمثال البخاري ومسلم والإمام أحمد بن حنبل ، ومن ماثلهم من الرواة الأبرار ، وقطعوا به رحم الأُخوّة الإيمانية الذي عقده تعالى في كتابه العزيز ، وجمع تحت لوائه كلّ من آمن بالله ورسوله ، ولم يفرّق بين أحد من رسله ، فإذن كلّ من ذهب إلى رأي محتجّاً عليه ، ومبرهناً بما غلب على ظنّه ، بعد بذل قصارى جهده ، وصلاح نيّته ، في توخّي الحقّ ، فلا ملام عليه ولا تثريب; لأنّه مأجور على أي حال ، ولمن قام عنده دليل على خلافه ، واتّضحت له المحجّة في غيره ، أن يجادله بالتي هي أحسن ، ويهديه إلى سبيل الرشاد ، مع حفظ الأُخوّة ، والتظافر على المودّة والفتوّة .

هذا ما قلته ثمّة ، ممّا يبيّن أنّه لو كانت الفرق التي رميت بالابتداع تهجر لمذاهبها ، وتعادى لأجلها ، لما أخرج البخاري ومسلم وأمثالهما لأمثالهم .

نعم إنّ هؤلاء المبدَّعين وأمثالهم لم يكونوا معصومين من الخطأ حتّى يعدوهم الانتقاد ، ولكن لا يستطيع أحد أن يقول : إنّهم تعمّدوا الانحراف عن الحقّ ، ومكافحة الصواب عن سوء نيّة ، وفساد طوية ، وغاية ما يقال في الانتقاد في بعض آرائهم :

إنّهم اجتهدوا فيه فأخطأوا ، وبهذا كان ينتقد على كثير من الأعلام سلفاً وخلفاً; لأنّ الخطأ من شأن غير المعصوم ، وقد قالوا : المجتهد يخطئ ويصيب ، فلا غضاضة ولا عار على المجتهد إن أخطأ في قول أو رأي ، وإنّما الملام على من ينحرف عن الجادّة عامداً متعمّداً ، ولا يتصوّر ذلك في مجتهد ظهر فضله ، وزخر علمه .

(ردّ القول بمعاداة المبدَّعين) :

قدّمنا أنّ رواية الشيخين وغيرهما عن المبدَّعين تنادي بواجب التآلف والتعارف ، ونبذ التناكر والتخالف ، وطرح الشنآن والمحادّة ، والمعاداة والمضارّة ، لأنّ ذلك إنّما يكون في المحاربين المحادّين ، لا في طوائف تجمعها كلمة الدين .

ومن الأسف أن يغفل عن هذا الحقّ من غفل ، ويدهش لسماعه المتعصّبون والجامدون ، ويحقّ لهم أن يذعروا لهذا الحقّ الذي فجأهم ، لأنّه مات منذ قضى عصر الرواية والرواة ، وانقضى زمن المحدّثين والحفّاظ ، ودال الأمر بعد الأخبار النبوية للآراء والأقوال ، وصار الحقّ ـ بعد أن كانت الرجال تعرف به ـ يعرف بالرجال ، وأصبح مشرب أمثال البخاري وغيره نسياً منسيّاً ، ونشر لواء التعادي والتباغض في الأُمّة وكان مطويّاً ، وسبّب على الأُمّة من التفرّق والانقسام ، ما أورثها الضعف والانفصام .

فبعد أن كان التسامح في التلقّي عن الحكماء والفضلاء ـ من أي طبقة ـ ركناً ركيناً في حضارة الإسلام ، خلفه التخاذل والتدابر والتعصّب والملام ، ولم يكف ذاك حتّى ادّعي أنّه من الدين ، مع أنّ الدين يأمر بالتآخي ونبذ التفرّق في محكم كتابه المبين .

(ومن العجب) أن يقول قائل : لا يلزم من الرواية عنهم عدم معاداتهم ، أي يجوز أن نروي عن راو ، مع التديّن بمعاداتنا له ، وبغضنا إيّاه !

(فنجيب عنه) : بأنّا لا نعرف من قال ذلك من السلف ، ولا من ذهب إليه من الأئمّة ، والرواية يراد بها هنا تلقّي أقوال النبي (صلى الله عليه وسلم)وسنّته وهديه وتشريعه وأقضيته ، وفتاويه وشمائله ، لنتّخذهُ ديناً يدان الله به ، وشريعة يقضى بها في التنازع ، ومرجعاً تحلّ به المشكلات ، فهل يتلقّى ذلك عمّن يجب علينا معاداته في الدين ؟

وكيف يتصوّر أن نأخذ الدين عمّن نرى أنّه عدوٌ للدين ؟؟

سبحان الله ما هذا التناقض؟

إنّ من يأمرك الدين بأن تعاديه لا يبيح لك أن تأخذ دينك وشريعتك وعقيدتك عنه ، ومن المسلّم أنّ هذا الراوي أدّاه اجتهاده إلى ما رأى ، ومن أدّاه اجتهاده إلى ما رأى كيف يعادى؟ وقد بذل قصارى جهده ، وليس قصده إلاّ الحقّ ، والتقرّب إلى الله سبحانه وتعالى؟

وكيف يعادى من أثبت له الشارع الأجر ولو كان مخطئاً؟

وإنّما يعادى الآثم لا المأجور .

(ردّ القول بتفسيق المبدَّعين) :

أغرب من ذلك قول البعض بتفسيق من يبدّعه ، وإن بلغ ذروة الاجتهاد ، وأصبح معذوراً لا ملام عليه عند الله والملائكة والنبيين ، لا بل قد تفضّل عليه الشارع بالأجر .

ومتى عهد تفسيق مجتهد إذا أخطأ في المسائل الاجتهادية ؟

وهل يمكن لمثل البخاري ـ وهو ما هو في نقد الرجال ـ أن يضمّ إلى صحيحه من مجتهدي الفرق من كان فاسقاً ليصبح جانب من كتابه مروياً للفسقة وقد جمعه ليجعله حجّة بينه وبين ربّه ؟

وهل يعقل أن يجعل رواية الفاسق حجّة عند المولى ؟

هذا ما يلزم من تفسيق من يفسّق من الرواة ، فليُحكم المتعصّب النظر ، وليتدبّر في المآل ، قبل أن يأخذ في المقال .

نعم ذهبت طائفة إلى تفسيق من خالفهم في شيء من مسائل الاعتقاد ، كما نقله الإمام ابن حزم في كتابه «الفِصَل» .

إلاّ أنّه قول مردود; ولذا قال الإمام ابن حزم(رضي الله عنه) : وذهبت طائفة إلى أنّه لا يكفّر ولا يفسّق مسلم بقول قاله في اعتقاد أو فتيا ، وأنَّ كلَّ من اجتهد في شيء من ذلك فدان بما رأى أنّه الحقّ فإنّه مأجور على كلّ حال ، إن أصاب الحقّ فأجران ، وإن أخطأ فأجر واحد .

قال : وهذا قول ابن أبي ليلى ، وأبي حنيفة ، والشافعي ، وسفيان الثوري ، وداود بن عليّ رضي الله عن جميعهم ، وهو قول كلّ من عرفنا له قولا في هذه المسألة من الصحابة رضي الله عنهم ، لا نعلم منهم في ذلك خلافاً أصلا .اهـ كلامه[19] .

فأين هذا من التسرّع في التفسيق؟ وتقليد من قاله من المتأخّرين المقلّدين؟ الذين ليسوا بأئمّة متبوعين ، ولا قولهم حجّة في الدين ، ولا استندوا إلى دليل أو برهان ( قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ) .

 (خطر النبز بالفسق ، ومعنى الفسق) :

إنّ النبز بالفسق ليس بالأمر السهل ، لأنّ الفسق كثيراً مّا جاء في القرآن الكريم مقابلا للإيمان ، كآية : ( أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً) وأمثالها ، ولذا قيل بأنّ عطف قوله تعالى «والفسوق» على قوله «والكفر» عطف تفسير ـ في آية :

( وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ) وإن احتمل أن يكون غيرهُ ، إشارة إلى نوع آخر ، إلاّ أنّ النظائر والأشباه في موارده في التنزيل ، تدلّ على أنّه عطف تفسير ، وهب أنّه كان غير الكفر فهو شيء قريب منه ، ونوع أنزل منه بدرجة ، وناهيك به .

وإليك ما قاله فيه أئمّة اللغة وفلاسفتها :

قال الجوهري في (الصحاح) : فسق الرجل فجر ، وفسق عن أمر ربّه : أي خرج[20] .

وفي المصباح : فسق فسوقاً : خرج عن الطاعة ، والاسم الفِسْقُ ، ويقال : أصله خروج الشيء من الشيء على وجه الفساد ، يقال : فسقت الرُّطبة : إذا خرجت من قشرها[21] .

وفي القاموس : الفسق الترك لأمر الله ، والعصيان ، والخروج عن طريق الحقّ ، أو الفجور ، كالفسوق[22] .وقال الإمام الراغب الأصفهاني في مفرداته : فسق فلان : خرج عن حَجْر الشرع ، وذلك من قولهم : فسق الرطب : إذا خرج عن قشره ، وهو أعمّ من الكفر .

قال : والفسق يقع بالقليل من الذنوب وبالكثير ، لكن تعورف فيما كان كثيراً ، وأكثر ما يقال : «الفاسق» لمن التزم حكم الشرع وأقرّ به ، ثمّ أخلّ بجميع أحكامه أو ببعضه .

وإذا قيل للكافر الأصلي : «فاسق» فلأنّه أخلّ بحكم ما ألزمه العقل واقتضته الفطرة .

إلى أن قال : فالفاسق أعمّ من الكافر اهـ[23] .

وقال الإمام محمّد بن مرتضى اليماني في كتابه (إيثار الحقّ) في (فصل في الفسق) ما نصّه : وأمّا العرف المتأخّر : فالفسق يختصّ بالكبيرة من المعاصي ممّا ليس بكفر ، والفاسق يختصّ بمرتكبها . اهـ [24] .

فأنت ترى من هذا كلّه أنّ الفسق مدلوله الكبائر والمعاصي العظائم ، لأنّه دائر بين الكفر وما يقرب منه ، وإذا كان هذا مدلوله الشرعي ، ومعناه العرفي ، فكيف يجوز أن يوصف به عالمٌ ثبتٌ ثقةٌ من ذوي الألباب وأُولي الاجتهاد؟ لمجرّد أنّه أدّاه اجتهاده إلى رأي يخالف غيره؟ مع أنّه لم يقصد إلاّ الحقّ ، ولم يتوخّ إلاّ ما رآه الأوفق ، إذ لم يأل جهداً في اهتمامه بما يراه الصواب ، وإن كان في نظر غيره على خلاف ذلك ، إذ هذا من لوازم المسائل النظريّة ؟ ومتى عهد أن يُفسَّق المخالف فيها أو يضلّل؟ .

لا جرم أنّه بدعةٌ قبيحةٌ ، وجنايةٌ في الدين كبيرةٌ .

وقد قال كثيرٌ من أئمّة التفسير في قوله تعالى : ( وَلاَ تَنَابَزُوا بِالاَْلْقَابِ) : هو قول الرجل للرجل : «يافاسق» . رواه ابن جرير عن مجاهد وعكرمة[25] .

وقال قتادة : يقول تعالى : لا تقل لأخيك المسلم : «ذاك فاسق ، ذاك منافق» نهى الله المسلم عن ذلك ، وقدّم فيه .

وقال ابن زيد : هو تسميته بالأعمال السيّئة ـ بعد الإسلام ـ : زان ، فاسقٌ .

ثمّ قال ابن جرير : والتنابز بالألقاب هو دعاء المرء صاحبه بما يكرهه من اسم أو صفة ، وعمّ الله بنهيه ذلك ، ولم يخصّص به بعض الألقاب دون بعض ، فغير جائز لأحد المسلمين أن ينبز أخاه باسم يكرهه ، أو صفة يكرهها .

ثمّ قال : وقوله تعالى : ( وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ) :

أي ومن لم يتب من نبزه أخاه بما نهى الله عن نبزه من الألقاب ، أو لمزه إيّاه أو سخريته منه ، فأُولئك هم الذين ظلموا أنفسهم فأكسبوها عقاب الله بركوبهم ما نهاهم عنه [26] .

ولمّا لم يكن عند من يرمي أخاه بالفسق إلاّ الظنّ; جاء النهي عن سوء الظنّ إثْرَ تلك الآية في قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) .

ولمّا كان الرمي بالفسق مدعاة لتفرّق القلوب وإثارة الشحناء ، على عكس حكمة الله تعالى في خلقة الخلق للتعارف والتآلف ، جاء ذلك على أثر ما تقدّم بقوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَر وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) .

فليتدبّر المتّقي هذه الآيات الكريمة وليقف عند أوامرها وزواجرها ، وليعتبر وليستعبر .

قال السيّد الطباطبائي[27] في المفاتيح[28] : الفسق إنّما يتحقّق بفعل المعصية المخصوصة مع العلم بكونها معصية ، أمّا مع عدمه ، بل مع اعتقاد أنّه طاعة ، بل من أُمّهات الطاعات; فلا .

والأمر في المخالف للحقّ كذلك ، لأنّه لا يعتقد المعصية ، بل يزعم أنّ اعتقاده من أهمّ الطاعات; سواء كان اعتقاده صادراً عن نظر أو تقليد ، ومع ذلك لا يتحقّق الفسق ، وإنّما يتّفق ذلك ممّن يعاند الحقّ مع علمه به ، وهذا لا يكاد يتّفق ، وإن توهّمه من لا علم له . اهـ[29] .

فترى من العجب بعد ما ذكرناه أن يوسم بالفسق من لا يحلّ وسمه به ، لأنّ معناه لا ينطبق عليه بوجه مّا .

على أنّه ورد تسمية رواة الحديث : «خلفاء» فيما رواه الطبراني والخطيب وابن النجّار وغيرهم عن عليّ مرفوعاً : «اللهمّ ارحم خلفائي الذين يأتون من بعدي ، يروون أحاديثي وسنّتي ، ويعلّمونها الناس» [30] .

إذا علمت هذا; فماذا يقال في هؤلاء المفسِّقين ؟

أجهلوا المعنى العرفي للفسق أم تجاهلوا ؟

أم اجتهدوا فأدّاهم اجتهادهم أم قلّدوا ؟

لا غرو أنّهم جهلوا وقلّدوا ، وياليتهم قلّدوا إماماً متبوعاً ، بل قلّدوا أواخر المقلّدة الجامدة المتعصّبة .

ولو نظروا في تراجم الرجال ، وتدبّروا سيرة كثير من أُولئك المبدَّعين الأبطال ، لعلموا أنّ رميهم بالفسق يكاد أن يهتزّ له العرش .

. . أنّ العدالة تتحقّق في جميع أهل الملل مع قيامهم بمقتضاها يجب اعتقادهم ، ويحتاج في إخراج بعض الأفراد إلى الدليل خذ لك مثلا من شيوخ المعتزلة عمرو بن عبيد ، وانظر في ترجمته إلى زهده وتقواه .

قال الذهبي في الميزان : وقد كان المنصور ـ الخليفة العبّاسي الشهير ـ يخضع لزهد عمرو وعبادته ويقول :

(كلّكم يطلب صيدْ            غير عمرو بن عبيدْ)[31]

 وذكر ابن قتيبة في (المعارف) أنّ المنصور رثى عمرو بن عبيد ، فقال :

صلّى الإله عليك من متوسّد            قبراً مررت به على مُرّان

قبراً تضمّن مؤمناً متحنّفاً                 صدق الإلهَ ودان بالقرآن

لو أنّ هذا الدهر أبقى صالحاً            أبقى لنا حقّاً أبا عثمان[32]

 هذا هو التوثيق ـ أعني توثيق الملوك ـ لأنّ كلام الملوك ملوك الكلام .

وما غُمِزَ به; فكلّه ـ إن أنصفت ـ من عصبيّة التمذهب ، والجمود في التعصّب .

نحن لا نقول هذا تحزّباً للمعتزلة أو لغيرهم ، معاذَ الله ، فإنّا في الرأي مستقلّون ، ولسنا بمقلّدين ولا متحزّبين ، ولكن هو الحقّ والإنصاف .

وما قولك في قوم يرون مرتكب الكبيرة كافراً أو مخلّداً في النار ؟

أليس في هذا نهاية التعظيم للدين ، وغاية الابتعاد عن المعاصي ، والإشعار بامتلاء القلب من خشية الله بما يزع عن الكذب والافتراء ؟

بلى ! وألف بلى !

فأنّى يستجيز عاقلٌ بعد ذلك تفسيقهم ، وهم على ما رأيت من التمسّك بدين الله ، والتصلّب في المحافظة على حدوده؟!!

فتدبّر ، وأنصف .

على أنّ خبر الفاسق مرغوب عنه في نظر العقل ، ساقط الاحتجاج به في أُصول الشرع ، لذا أمرنا بأن نتبيّنه ، ولا نلوي عليه بادئ بدء ، فكيف يُحكَّم صاحبه في السنّة والأحكام ؟

قال الإمام الحجّة مسلم ، في مقدّمة صحيحه ، في (باب وجوب الرواية عن الثقات وترك الكذّابين ، والتحذير من الكذب على رسول الله(صلى الله عليه وسلم))[33] ـ ما مثاله :

اعلم وفّقك الله أنّ الواجب على كلّ أحد عرف التمييزَ بين صحيح الروايات وسقيمها ، وثقات الناقلين لها من المتّهمين ، أن لا يروي منها إلاّ ما عرف صحّة مخارجه ، والستارة في ناقليه ، وأن يتّقي منها ما كان عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع[34] .

قال : والدليل على أنّ الذي قلنا من هذا هو اللازم ، دون ما خالفه : قولُ الله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَة فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) .

وقال ( وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْل مِنْكُمْ)

قال : فدلّ بما ذكرنا من هذه الآي أنّ خبر الفاسق ساقطٌ غير مقبول ، وأنّ شهادة غير العدل مردودةٌ .

والخبر وإن فارق معناه معنى الشهادة في بعض الوجوه ، فقد يجتمعان في أعظم معانيهما; إذ كان خبر الفاسق غير مقبول عند أهل العلم ، كما أنّ شهادته مردودةٌ عند جميعهم .

ثمّ روى عن سلام قال : بلغ أيّوب أنّي آتي عَمْراً[35] فأقبل عليَّ يوماً فقال :

أرأيتَ رجلا لا تأمنه على دينه ، فكيف تأمنه على الحديث؟ .

فدلّ ذلك على أنّ من ائتمنه الشيخان على الحديث ، فقد ائتمنوه على الدين ، ومن ائتمن على الدين فليس فاسقاً ولا مبتدعاً .

ثمّ قال الإمام مسلم : وإنّما ألزموا ـ يعني العلماء ـ أنفسهم الكشف عن معايب رواة الحديث وناقلي الأخبار ، وأفتوا بذلك حين سُئلوا؟ لِما فيه من عظيم الخطر; إذ الأخبار في أمر الدين ، إنّما تأتي بتحليل أو تحريم ، و أمر أو نهي ، أو ترغيب أو ترهيب ، فإذا كان الراوي لها ليس بمعدن للصدق والأمانة ، ثمّ أقدم على الرواية عنه مَنْ قد عرفه ، ولم يبيّن ما فيه لغيره ممّن جهل معرفته; كان آثماً بفعله ذلك ، غاشّاً لعوام المسلمين ، إذْ لا يُؤمن على بعض مَنْ سمع تلك الأخبار أن يستعملها ، أو يستعمل بعضها ، ولعلّهاأو أكثرها أكاذيبُ لا أصلَ لها ، مع أنّ الأخبار الصحاح من رواية الثقات وأهل القناعة أكثر من أن يضطرّ إلى نقل مَنْ ليس بثقة ولا مقنع .اهـ[36] .

فهل بعد هذا يجوز غمز بعض من روى لهم الشيخان من أُولئك الأعلام المبدَّعين؟

لا جرم أنّه لأمرمّا عني البخاري ومسلم بالتخريج عنهم ، وأخذ السنّة منهم ، وتبليغها للأُمّة ، وجعلها حجّةً بينه وبين ربّه ، وما ذاك إلاّ إجلالا لفضلهم ،وإنصافاً لقدرهم .

انظر كيف يتحمّل مثل البخاري عن أعلام الشيعة ، والمعتزلة ، والمرجئة ، والخوارج ، ويجعل حديثهم حجّةً ، ومرويّهم سنّةً ، ويفخر بذكر أسمائهم في أسانيده ، ويخلد لهم أجمل الذكر ، في أشرف مصنّف ؟ .

أُنظر هذا؟ وقابل بينه وبين جمود المتأخّرين! ورميهم علماء الفرق بالفسق والابتداع والضلال! وهجرهم لعلومهم! وصدّ الناس عنهم! حتّى فات الناس ـ وا أسفاً ـ علمٌ جمٌّ ، وخيرٌ كثيرٌ .

ولئن دوّن ما دوّن من معارفهم ، فما بقي من فوائدهم في خزائن صدورهم ـ ممّا كان يستثار بالأخذ عنهم ، وينال بمجالسهم ـ أوسع وأوفر .

أفليس في جمود هؤلاء على ما ذكر عقوقٌ لسلفهم الصالح ؟

بلى ! .

(  وما يضرّون إلاّ أنفسهم لو كانوا يشعرون) .

بما ذكرناه استبان لك الخطأ في نبز رواة الصحيح بالفسق والابتداع ، وأنّه تعصّبٌ يجب التنبُّه له ، والحذر منه .

نحن إنمّا نصدع بهذا; تفقّهاً من مشرب البخاري ومذهبه ، وموافقة له في رأيه الذي لا نشكّ في أنّه الصواب الذي تدعو إليه الأُخوّة الإيمانية ، والإنصاف مع كلّ راو مجتهد من هذه الأُمّة لا يروم إلاّ الحقّ ، ولا يسعى إلاّ إليه ، ولا يتحمّل الأذى والاضطهاد إلاّ لأجله ، إذ لم يصب من رأيه وما دعا إليه لا دنياً ولا جاهاً ، ولا ملكاً ، فأيّ دليل أدلّ على حسن نيّته من هذا؟

وبالجملة فتسمية المتفقّهة بعضَ الرواة فسقةً ، جهلٌ بما قاله الأُصوليون من أنّ الفاسق مردود الشهادة والرواية[37] .

ومَن قَبِلَ الشيخان وغيرهما خبرَه وحكّموه في السنّة ، وأخذوا عنه ، فهل يكون فاسقاً ؟ .

على أنّ إجماعهم على تلقّي الصحيحين بالقبول موجبٌ لتعديل رواتهما جميعاً; لأنّ التلقّي بالقبول فرع صحّة الحديث ، وهو إنّما يكون من صحّة سنده ، وهو من عدالة رجاله وتوثيقهم .

ولذا قالوا في من خرّج له الشيخان : «جازَ القنطرة[38]  بمعنى أنّه لا يُلتفت إلى ما غمز به .

وبالجملة ، فمشرب المحدّثين في التسامح ، ونبذ التعصّب ، هو الذي تقتضيه الأُصول ، وتقبله العقول .

وما أُحدث من النبز بالفسوق للبعض فلا سندَ له; لأنّ دعوى فسق الإنسان إنّما يكون بإتيانه ما فسّقه الشارع به ، ونصّ عليه كتابٌ أو سنّةٌ نصّاً قاطعاً لايحتمل تأويل ، وأمّا مسائل الاجتهاد فلا يصحّ ذلك فيها بوجه من الوجوه .

والحاصلُ أن لا تفسيق ولا تضليل مع الاجتهاد والتأويل ، وإن كان ليس كلّ اجتهاد صواباً ، ولا كلّ تأويل مقبولا ، ولكن كلامنا في ذات المجتهد والمأوِّل .

فمَن لم يألُ جهداً فلا ملامَ عليه ولا كلام ، لا بل يتحمّلُ منه الدين ، ويتلقّى عنه الهدي النبويّ ، ويحكّم في السنّة ، على هذا جرى البخاري ومسلم وغيرهما من أقطاب الحديث والأثر ، وهو الصواب ، بلا ارتياب .

وقد نقل الغزالي في المستصفى [39] عن الشافعيّ أنّه قال : تقبل شهادة أهل الأهواء إلاّ الخطّابيّة[40] من الرافضة; لأنّهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم في المذهب.

ثمّ قال : ويدلّ على مذهب الشافعي قبول الصحابة قول الخوارج في الأخبار والشهادة ، وكانوا فسقةً متأوّلين ، وعلى قبول ذلك درج التابعون; لأنّهم متورّعون عن الكذب ، جاهلون بالفسق . اهـ  .

فترى من هذا أنّ الصحابة قبلوا خبرهم ، وما ضرّهم تسمية الفقهاء لهم بالفسقة; لأنّه فسقٌ بمعنى مخالفة غيرهم ، وهذا الإطلاق اصطلاح للفقهاء .

وربما رجع الخلاف ـ في تسمية أُولئك فسّاقاً ـ لفظياً ، وإلاّ فيستحيل إرادة الفسق الحقيقي المانع للشهادة والرواية ـ كما قدّمنا ـ .

ومعلوم أنّه لا يكون مذهبٌ حجّةً على مذهب ، ولا عُرْفٌ برهاناً على عرف ، وإنّما الحجّة والبرهان قواطع الكتاب والسنّة .

ولمّا كان البحث المذكور في غاية من الدقّة ، ترى الكلام في مطوّلات الأُصول مضطرباً متشعّب الأقوال ، حتّى اختلفوا لذلك في ماهيّة العدالة .

ويقرب لمذهب المحدّثين فيها قول بعض أهل العراق : العدالةُ عبارةٌ عن إظهار الإسلام فقط ، مع سلامته عن فسق ظاهر . اهـ[41] .

 (جواب شبهة) :

ربّ قائل يقول : كيف لا يُفسّق هؤلاء ، وقد خالفوا بتأويلهم النصوص من الكتاب والسنّة ؟ .

فنقول : قدّمنا ما يمنع تسميتهم فسقةً شرعاً ولغةً ، ولذا جاء في «مسلّم الثبوت» من كتب الأُصول ، ما مثاله : لك أن تمنع كون المتديّن من أهل القبلة فاسقاً بالعرف المتقدّم الذي عليه القرآن الكريم ، وهو شموله للكافر والمؤمن المرتكب الكبيرة .

اهـ [42] .

وقال حجّة الإسلام الغزالي في «الإحياء» : مهما اعترضت على القدريّ في قوله :

«الشرّ ليس من الله» اعترض عليك القدريّ ـ أيضاً ـ في قولك : «الشرّ من الله» وكذلك في قولك : «إنّ الله يرى» وفي سائر المسائل; إذ المبتدع محقّ عند نفسه ، والمحقّ مبتدعٌ عند المبتدع ، وكلٌّ يدّعي أنّه محقٌّ وينكر كونه مبتدعاً .اهـ[43]

.وبالجملة فهم مخالفون بنظر غيرهم ، وأمّا عند أنفسهم فغيرُهم هو المخالفُ وهم الموافقون .

وحاشا لمؤمن عالم أن يخالف كتاباً أو سنّة عامداً متعمّداً .

فهم مجتهدون مثابون; إذْ لم يألوا جهداً في ما ذهبوا إليه ، وإن كنتَ لا تقول به وترى الحجّة في ما أنتَ عليه .

على أنّ ما تسمّيه أنتَ نصّاً; هم يرونه ظاهراً; إذْ دعوى نصّية الشيء ليست بالأمر اليسير; لأنّ النصّ هو القاطع في معناه ، المفيد لليقين في فحواه ، وهذا إنّما يكون في محكمات الدين وأُصوله التي لم يختلف فيها الفرق كلّها ، وأمّا ما عداه فكلّها ظواهر ، وقد يراها البعض باجتهاده نصّاً ، وليس اجتهاد مجتهد بقاض على اجتهاد آخر .

وعلى من يريد تحقيق هذا أن يراجع مطوّلات الخلاف ، ويطالع مآخذ المجتهدين ، ومن أنفع ما ألّف في هذا الباب كتاب «رفع الملام ، عن الأئمّة الأعلام» لشيخ الإسلام تقيّ الدين ابن تيميّة (رحمه الله) فإنّه جديرٌ لو كان في الصين أن يُرحل إليه ، وأن يعضّ بالنواجذ عليه .

فرحم الله من أقام المعاذير للأئمّة ، وعلم أنّ سعيهم إنّما هو إلى الحقّ والهدى ـ كما أسلفنا ـ وبالله التوفيق .

(جواب شبهة أُخرى) :

يزعم بعضهم بأنّه : يحتمل أن يكون الراوي تحمّل عن المبدَّع قبل تمذهبه بذلك المذهب .

وهذا جهل بمذاهب الرواة ، ومشارب الرجال ، فإنّ كلّ من ألّف في نقد الرجال لم يذكر في المشاهير منهم أنّه كان على مذهب كذا ، أو أنّ الحافظ الفلاني تحمّل عن فلان قبل تمذهبه بمذهب كذا ، ومثل هذا إنّما يؤخذ عن النقلة الأثبات كالمصنّفين في أحوال الرجال ، ولا يمكن الاجتهاد فيه بحال من الأحوال ، ولذا تراهم يقولون في ترجمة الراوي : كان خارجياً . ونحو ذلك قولا واحداً .

وحبّذا أن يكون ما ذكره مأثوراً عن إمام مؤرِّخ مشهور .

وأمّا القول بالاحتمال; فإذا فتح أورث الاضمحلال ، لكلّ ما يُعَّول عليه في الاستدلال .

ومثل ذلك ما يقال : يحتمل أن يكون روى عنه وهو غير عالم بما هو عليه من فساد العقيدة ! . فهذا يزيد عمّا قدّمنا من الجهل بمذاهب الرواة تجهيل أئمّة الحديث ، ووصمهم بما هم براء منه من الغباوة والبلاهة ، وأنّهم يتحمّلون عمّن لا يعرفون مذهبه ولا مشربه ، وأنّهم كحاطب ليل ، نعوذ بالله من ذلك .

وأيّ عاقل يجرؤ على مثل ذلك في البخاري صاحب التاريخ في الرجال ؟

بل مَن دونه من أرباب السنن وغيرهم ممّن تكلّم في الجرح والتعديل ، وميّز بين صحيح الحديث وضعيفه ، لثقة رجاله أو ضعفهم؟ .

وهل يعقل في صحاح ، وسنن ، ومسانيد ، وموطآت ، عليها مدار أدلّة الأحكام ، وحجج الفروع ، صنّفت على الأسانيد المنوّعة والمكرّرة بالأسماء والكنى والألقاب : أن يكون جامعوها لا يدرون مشرب رجالها ولا ما يتحمّلونه؟

مع أنّ العامّي والأُمّي نراه إذا خدم عالماً لا يخفى عليه مشربه ومذهبه ورأيه وفكره! .

فكيف بعالم مؤلّف ، لا بل بإمام مجتهد يستنبط الأحكام من الأحاديث ويترجم عليها ، ويزاحم مَن تقدّمه من الأئمّة في التخريج والردّ والاستدراك والتفريع والتأصيل ؟

ألا يدري مذهب رجال أسناده ونحلتهم ، وهم عمدته في الاستدلال ، وركنه في الاحتجاج ؟؟

بلى ! ثمّ بلى !

وهو أجلى من أن يبرهن عليه ، أو يردّ على من كابر فيه .

ولقد كان علم الجرح والتعديل ، ومعرفة طبقات الرجال وتراجمهم من أوائل ما يدريه طلاّب الحديث ومريدو التحمّل عن الحفاظ .

ولكن من أين يدري أبناء هذا الجيل ؟ ما كان عليه السلف من فنون التحصيل ، وقد اندرست تلك العلوم ، ولم يبق منها ولا الرسوم ؟ فإنّا لله وإنّا إليه راجعون .

وأمّا قول بعضهم : فكيف يستدلّ بإخراج الشيخين على عدم جواز المعاداة ، مع قيام هذه الاحتمالات ؟

وكيف يسوغ للإنسان أن يتمسّك بالمحتمل الذي لا تقوم به حجّة ؟

فقد علمت سقوط هذه الاحتمالات ، وأنّها أشبه بالأوهام والخيالات ، والتلاعب في الحقائق الواضحات .

والمحتمل الذي تقوم به حجّة هو الذي يتطرّق إليه احتمال معقول ، أو تأويل مقبول ، جار على قوانين التأويلات ، والأوجه المعروفة في نظائره .

وأمّا احتمال في مقابلة حقيقة ثابتة ، وأمر واضح ، فلا يقال له «احتمال» وإنّما هو تلاعبٌ وهوس خيال .

يقول أئمّة الجرح والتعديل في كتبهم عن راو ـ ممّن خَرَّج له الشيخان أو أحدهما ـ :

إنّه شيعيّ ، أو خارجي ، أو قدري ، أو مرجئ .

ثمّ يأتي من يريد أن ينقض هذا بالاحتمال ، وهو لم يضرب في هذا الفنّ بسهم ، ولا يمكن أن يرجع إليه في رأي ولا علم .

كيف لا؟ وقد اجتمعوا على الرجوع إلى أئمّة الفنّ في هذا الباب ، لأنّه أمر لم يبق فيه مجالٌ ولا نظرٌ ولا احتمالٌ .

وهذا من البديهيات الغنيّة عن الحجّة والبرهان .

(رفع وهم في عبارة للبخاري) :

وأمّا زعم أنّ قول البخاري في جزء «رفع اليدين» : «كان زائدة لا يحدّث إلاّ أهل السنّة اقتداءً بالسلف[44] يخالف ما استنبطناه .

فعجيب جدّاً; لأنّه لا شاهد فيه ، ولا يناسب بحثنا حتّى يخالفه ، لأنّ زائدة(رحمه الله)كان يمتنع عن تحديث غير أهل السنّة ، أي إسماعهم الحديث وإقرائهم إيّاه ، وذلك في التلاميذ منهم والمبتدئين في طلب الحديث الذين يبغون التلقّي والسماع ، وقد انتموا إلى غير مذهب أهل السنّة ، فكان زائدة يتجافى تحديثهم اقتداءً بمن رآه من سلفه كذلك ، ولا منازعة في لوجدانيات ، ولا يكلّف المرء ما لا يطيقه ، فمن كانت نفسه لا تحبّ إسماع من كان كذلك ، فله الخيرة ولا جناح عليه في ترك الإسماع ، لا سيّما لتلاميذ لم يتأهّلوا ـ بعدُ ـ للنظر والوقوف على التحقيق ، فمثلهم إنّما يكون مقلّداً لا مجتهداً .

وأمّا حفاظٌ شيوخٌ ، ذوو علم ورسوخ ، أُوتوا من العلم والفضل ما أهّلهم للتحمّل عنهم ، والاستفادة من علمهم ، بحيث طارت شهرتهم ، وتفوّقوا على غيرهم ، فلا دخل لكلام زائدة فيهم ، ولا يشملهم مشربه .

وهكذا نحن نقول : لا ينبغي لأُستاذ أن يشرح صدره لتلاميذ أغرار ، انتحلوا غير ما يراه الحقّ بدون نظر أو فكر ، بل تقليداً أو اتّباعاً لكلّ ناعق .

وأمّا من بلغ مرتبة الرسوخ والإفادة ، وكان على جانب عظيم من العلم ، وانتحل ما انتحل عن اجتهاد ونظر ، فلا يرتاب أحد في العناية بالأخذ عنه ، والتلقّي منه ، كما فعل الأئمّة أمثال البخاري وأشياخه .

فكلام زائدة من واد ، وما نقوله من واد آخر .

وهكذا يقال في من حكى عنهم من المرجئة من أهل بلخ .

وأمّا قوله : ولقد رأينا غير واحد من أهل العلم يستتيبون أهل الخلاف ، وإلاّ أخرجوهم من مجالسهم .

فهو يعني به من ذكرناه من التلاميذ لقوله : «وإلاّ أخرجوهم» وهل يخرج إلاّ المتعلّم الضعيف في العلم والفهم ، المتطفّل على ما ليس له بأهل ؟

وشتّان بين من يُخرج من مجلس الحديث من أهل الخلاف ، وبين من يُرحل إليه ويُتحمّل

عنه منهم ، كرجال الشيخين وغيرهما من هؤلاء ، ولو اطّرد الابتعاد عن هؤلاء أو إبعادهم لما تلقّى عنهم أمثال الشيخين ، وخلّد]وا][45] أسماءهم ومرويّهم في أصحّ الكتب بعد التنزيل الكريم .

وقد يكون مراد البخاري بأهل الخلاف «أهل الرأي» جموداً وتقليداً المؤثرين آراء الفقهاء على صحيح السنّة .

لأنّ كتابه المذكور وهو «جزء رفع اليدين» في مناقشة أهل الرأي وحجّهم بصحيح السنّة على رأيهم .

وقد تجافى أرباب الصحاح الرواية عن أهل الرأي[46] فلا تكاد تجد اسماً لهم في سند من كتب الصحاح أو المسانيد أو السنن ، وإن كنت أعدّ ذلك في البعض تعصّباً ، إذ يرى المنصف عند هذا البعض من العلم والفقه ما يجدر أن يتحمّل عنه ، ويستفاد من عقله وعلمه .

ولكن لكلّ دولة من دول العلم سلطة وعصبة ذات عصبيّة تسعى في القضاء على من لا يوافقها ولا يقلّدها في جميع مآتيها ، وتستعمل في سبيل ذلك كلّ ما قُدِّر لها من مُستطاعها ، كما عرف ذلك من سبر طبقات دول العلم ، ومظاهر ما أُوتيته من سلطان وقوّة .

ولقد وجد لبعض المحدّثين تراجم لأئمّة أهل الرأي يخجل المرء من قرائتها فضلا عن تدوينها .

وما السبب إلاّ تَخالُف المشرب على توهّم التخالُف ، ورفض النظر في المآخذ ولعمري لم ينصفوهما وهما البحران الزاخران ، وآثارهما تشهد بسعة علمهما وتبحّرهما ، بل بتقدّمهما على كثير من الحفّاظ ، وناهيك كتاب «الخراج» لأبي يوسف و«موطأ» الإمام محمّد .

نعم كان ولع جامعي السنّة بمن طوّف البلاد ، واشتهر بالحفظ ، والتخصّص بعلم السنّة وجمعها ، وعلماء الرأي لم يشتهروا بذلك ، لا سيّما وقد أُشيع عنهم أنّهم يحكّمون الرأي في الأثر ، وإن كان لهم مرويّات مسندة معروفة ، رضي الله عن الجميع ، وحشرنا وإيّاهم مع الذين أنعم الله عليهم (منه) .

والمدارك التي قد يكون معهم الحقّ في الذهاب إليها ، فإنّ الحقّ يستحيل أن يكونوقفاً على فئة معيّنة دون غيرها ، والمنصف من دقّق في المدارك غاية التدقيق ثمّ حكم بَعْدُ .

وممّا نعدّه تعصّباً ما حكاه الإمام البخاري في «جزء رفع اليدين» المذكور[47]من إخراج أهل الخلاف من مجالس الحديث حتّى يستتابوا ، وحمل قاضي مكّة سليمان بن حرب على الحجر على بعض علماء الرأي من الفتوى .

وما ذلك إلاّ من سلطة دولة الأثريّين وقتئذ ، وقيامهم بالتشديد ضدّ غيرهم ، ونبذ التسامح الذي كان عليه الصحابة والتابعون في أن يفتي كلّ بما يراه بعد بذل جهده في المسألة دون تعنيف أو اضطهاد[48] .

لا جرم أنّ سنّة كلّ قوم ـ آنسوا من أنفسهم قوّةً وسلطاناً ـ أن يستعملوا لبثّ مذهبهم ونشره هيمنة الحاكم وسيطرته ، ولا سيّما إذا كان منهم وعلى شاكلتهم وهو مستبدّ في علمه وما يمضيه فحدّث هناك ولا حرجَ .

انظر إلى القدرية لمّا دالت لهم دولة العلم أيّام المأمون ماذا جرى منهم مع من لم يقل بمشربهم ولم يستجب لدعوتهم، فقد ضربت أئمّة وأُهينوا وسجنوا الأعوام وأُوذوا ممّا دوَّنه التاريخ وأحصاه على هؤلاء المتعصّبين ، وكان نقطة سوداء في تاريخ حياتهم[49] .

وإن كانوا يزعمون مقاومة الحشو والجمود ، وتنوير الأذهان بعلوم الأوائل ممّا أخذوا بتعريبه ، وجهدوا في نشره .

إلاّ أنّ الغلو كان رائدهم ، والبطش قائدهم ، ولكن هي السكرة ، التي يذهب معها صحيح الفكرة; أعني سكرة الدولة والغلبة ، والسلطة والقوّة .

فما من دولة إلاّ ونقم عليها شيء من ذلك ، كما يدريه من سبر أخبار الدول وفلسفة حياتهم ، ومظهر آرائهم وآمالهم .

وكذلك قُلْ عن الفتنة التي فرّ من أجلها إمام الحرمين من العراق إلى الحجاز ، حينما دالت دولة الحنفيّة ، وثارت عصبيّتهم على الشافعية والأشعرية .

قال التاج السبكي في طبقاته[50] في ترجمة الإمام أبي سهل الشافعي : إنّه لمّا بلغ من سمو المقام أن أرسل إليه السلطان الخِلَع وظهر له القبول عند الخاصّ والعام ، حسده الأكابر وخاصموه ، فكان يخصمهم ويتسلّط عليهم .

قال : فبدا له خصوم واستظهروا بالسلطان عليه وعلى أصحابه .

قال : وصارت الأشعريّة مقصودين بالإهانة والمنع عن الوعظ والتدريس ، وعزلوا من خطابة المجامع .

قال : وتبع من الحنفيّة طائفة أشربوا في قلوبهم الاعتزال والتشيّع ، فخيّلوا إلى أُولي الأمر الإزراء بمذهب الشافعي عموماً ، وبالأشعريّة خصوصاً .

قال : وهذه هي الفتنة التي طار شررها ، وطال ضررها ، وعظم خطبها ، وقام في سبّ أهل السنّة خطيبها ، فإنّ هذا الأمر أدّى إلى التصريح بلعن أهل السنّة في الجُمَع ، وتوظيف سبّهم على المنابر ، وصار لأبي الحسن الأشعري بها أُسوة بعليّ ابن أبي طالب (رضي الله عنه) واستعلى أُولئك في المجامع .

فقام أبو سهل في نصر السنّة قياماً مؤزراً ، وتردّد إلى المعسكر في ذلك ولم يفد ، وجاء الأمر من قبل السلطان (طغرل بك) بالقبض على الرئيس الفراتي ، والأُستاذ أبي القاسم القشيري ، وإمام الحرمين ، وأبي سهل ابن الموفّق ، ونفيهم ومنعهم عن المحافل .وكان أبو سهل غائباً في بعض النواحي ، فلمّا قرأ الكتاب بنفيهم أغرى بهم الغاغة والأوباش ، فأخذوا بالأُستاذ أبي القاسم القشيري والفراتي يجرونهما ويستخفّون بهما ، وحبساً بالقَهَنْدَر[51] وبقيا في السجن متفرّقين أكثر من شهر ، وأمّا إمام الحرمين فإنّه كان أحسّ بالأمر فاختفى وخرج على طريق كرمان إلى الحجاز .

وفي شرح الإقناع[52] قال ابن عقيل : رأيت الناس لا يعصمهم من الظلم إلاّ العجز ، ولا أقول : العوام ، بل العلماء .

كانت أيدي الحنابلة مبسوطة في أيّام ابن يونس ، فكانوا يستطيلون بالبغي على أصحاب الشافعي في الفروع ، حتّى ما يمكّنوهم من الجهر بالبسملة والقنوت ـ وهي مسألة اجتهادية ـ فلمّا جاءت أيّام النظام ، ومات ابن يونس وزالت شوكة الحنابلة ، استطال عليهم أصحاب الشافعي استطالة السلاطين الظلمة ، فاستعدوا بالسجن ، وآذوا العوامّ بالسعايات ، والفقهاء بالنبذ بالتجسيم .

قال : فتدبّرت أمر الفريقين ، فإذا بهم لم تعمل فيهم آداب العلم ، وهل هذه إلاّ أفعال الأجناد يصولون في دولتهم ، ويلزمون المساجد في بطالتهم ، اهـ .

ولدينا من القصص في عجائب ما روى التاريخ من التعصّب ما لا يسعنا إلاّ إمساك القلم عن نشره إبقاءً على هذه البقيّة الباقية ، وفي الإشارة ما يغني عن الكلم ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله .

وكلّ ذلك من التفرّق الذي نهى عنه الدين ، لما يستتبعه من الأرزاء التي تعمل في أساسه المتين ، ويكفي ما جنت وتجني الأُمّة من ويلاته إلى هذا الحين ، حتّى فشلت وذهب ريحها أمام أعدائها الكافرين ، والمستعان بالله .

(درء وهم واشتباه) :

يقول بعضهم : إنّ مسلماً روى عن ابن عبّاس أنّه قال في نجدة الحروري : لولا أن أردّه عن نتن يقع فيه; ما كتبت إليه ولا نعمة عين .

قال النووي : كان ابن عبّاس يكرهه لبدعته وهي كونه من الخوارج .

والجواب : أنّه لا يلزم من كراهة الفرد كراهة المجموع ، وإلاّ لما خرّج لثقاتهم وعلمائهم الشيخان وغيرهما ، وهل يؤخذ الجمع بجريرة الفرد ؟

على أنّ نجدة ليس من رجال الرواية عند المحدّثين ، فقد ضعّفه الذهبي في ميزان الاعتدال ، وقال عنه : ذكر في الضعفاء للجوزجاني[53] .

على أنّ الحال وصل إليه في قومه أن يختلفوا عليه وينبزوه بالكفر; كما تراه في كتاب «الفرق»[54] للإمام أبي منصور البغدادي ، و«الملل والنحل»[55] للشهرستاني ، وغيرهما .

فلا نعمة عين له ، كما قال ابن عبّاس .

ولو كان يكره كلّ خارجي لبدعته لما أخرج لأثباتهم أئمّة السنّة في الصحاح والمسانيد .

ويكفي أنّ الإمام مالكاً (رضي الله عنه) عُدّ ممّن يرى رأيهم ، كما رواه الإمام المبرّد في كامله[56] .

ومن عزا لك ما يأثره ، وأراك مصدره ، فقد أوقفك من المسالك على الصراط المستقيم .

ومن الغريب أن يستدلّ بعضهم على معاداة المبدَّعين بأمر النبيّ (صلى الله عليه وسلم)بهجر الثلاثة الذين خلّفوا ، ورفض تكليمهم حتّى تيب عليهم .

مع أنّه لا تناسُبَ بين دليله والدعوى بوجه مّا ، لأنّ البحث في الرواة المجتهدين الثقات المتقنين الذين ما نَبَذَ السلفُ مرويّهم لرأي رأوه ، أو مذهب انتحلوه ، فهل كان المخلّفون كذلك ؟

وما المناسبة بين قوم هجرهم النبيّ (صلى الله عليه وسلم)لذنب محقّق اعترفوا به حتّى تيب عليهم ، وقوم لا يرون ما هم عليه إلاّ طاعةً وعقداً صحيحاً يُدان الله به ، وتُنال النجاة والزُلفى بسببه؟ .

فالإنصافَ ـ ياأُولي الألباب ـ الإنصافَ ، وحذارِ من الجري وراءَ التعصّب والاعتساف .

غريبٌ أمر المتعصّبين ، والغلاة الجافّين ، تراهم سراعاً إلى التكفير والتضليل ، والتفسيق والتبديع ، وإن كان عند التحقيق لا أثر لشيء من ذلك إلاّ ما دعا إليه الحَسَد ، أو حمل عليه الجمود ، وضعف العلم[57] ، وجهل مشرب البخاري ومسلم ، وأصحاب المسانيد والسنن هداة الأُمّة ، ولا قوّة إلاّ بالله .

 

(ثمرة الرفق بالمخالفين) :

قال بعض علماء الاجتماع : يختلف فكرٌ عن آخر ، باختلاف المنشأ والعادة والعلم والغاية .

وهذا الاختلاف طبيعيٌّ في الناس ، وما كانوا قطّ متّفقين في مسائل الدين والدنيا .

ومن عادة صاحب كلّ فكر أن يحبّ تكثير سواد القائلين بفكره ، ويعتقد أنّه يعمل صالحاً ، ويسدي معروفاً ، وينقذ من جهالة ، ويزع عن ضلالة .

ومن العدل أن لا يكون الاختلاف داعياً للتنافر ما دام صاحب الفكر يعتقد ما يدعو إليه ، ولو كان على خطأ في غيره ، لأنّ الاعتقاد في شيء أثر الإخلاص ، والمخلص في فكرمّا إذا أخلص فيه يناقش بالحسنى ، ليتغلّب عليه بالبرهان ، لابالطعن وإغلاظ القول وهُجر الكلام .

وما ضرّ صاحب الفكر لو رفق بمن لا يوافقه على فكره ريثما يهتدي إلى ما يراه صواباً ، ويراه غيره خطأً ، أو يقرب منه .

وفي ذلك من امتثال الأوامر الربّانية ، والفوائد الاجتماعية ، ما لا يحصى .

فإنّ أهل الوطن الواحد لا يحيون حياةً طيّبةً إلاّ إذا قلّ تعاديهم ، واتّفقت على الخير كلمتهم ، وتناصفوا وتعاطفوا .

فكيف تريد منّي أن أكون شريكك ، ولا تعاملني معاملة الكفؤ على قدم المساواة؟ .

دع مخالفك ـ إن كنتَ تحبّ الحقّ ـ يصرّحُ بما يعتقدُ ، فإمّا أن يقنعك ، وإمّا أن تقنعه ، ولا تعامله بالقسر ، فما قطّ انتشر فكرٌ بالعنف ، أو تفاهم قومٌ بالطيش والرعونة .

من خرج في معاملة مخالفه عن حدّ (  التي هي أحسن) يحرجه ، فيخرجه عن الأدب ويحوجه إليه ، لأنّ ذلك من طبع البشر مهما تثقّفت أخلاقهم ، وعلت في الآداب مراتبهم .

وبعدُ; فإنّ اختلاف الآراء من سنن هذا الكون ، وهو من أهمّ العوامل في رقيّ البشر ، والأدب مع من يقول فكره باللطف قاعدةٌ لا يجب التخلّف عنها في كلّ مجتمع .

والتعادي على المنازع الدينية وغيرها من شأن الجاهلين لاالعالمين ، والمهوسين لاالمعتدلين . انتهى مع تلخيص وزيادة[58] .

ولا يخفى أنّ الأصل في هذا الباب قوله تعالى : ( وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) .

وقوله سبحانه : ( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) .

وقوله جلّ ذكره : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْم عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاء عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالاَْلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الاِْيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) .

ولا تنس ما أسلفنا عن السلف في تفسيرها .

حملة الأعلام المحقّقين على المتفقّهة المكفِّرين :

لمّا استفحل الرمي بالتكفير والتضليل لخيار العلماء في منتصف قرون الألف الأُولى[59] من الهجرة; ضجّت عقلاء الفقهاء ، وصوّبت سهام الردود في وجوه زاعمي ذلك .

حتّى قالت الحنفيّة (عليهم الرحمة) ما معناه : لو أمكن أن يكفّر المرء في أمر من تسعة وتسعين وجهاً ، ومن وجه واحد لايكفّر; يرجّح عدم التكفير على التكفير لخطره في الدين .

ولم يشتدّ الرمي بالتكفير والإرهاق لأجله ، والإرجاف به ، في عصر من العصور مثل القرن الثامن للهجرة .

ومن سبر تاريخ الحافظ ابن حجر المسمّى (بالدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة) أخذه من ذلك المُقيم المُقعد ، إذ يرى أنّ العالم الجليل الذي هو زينة عصره ، وتاج دهره ، كان لا يأمن على نفسه من الإفك عليه ، والسعاية به ، فيما يكفِّره ويحلّ دمه ، حتّى صار يخشى على نفسه من أخذت منه السنّ ، وأقعده الهرم ، وأفلجته الشيخوخة ، ولا من راحم أو منصف ، كما نقرأ ذلك في ترجمة علاء الدين العطّار تلميذ الإمام النووي ، وأنّه مع زمانته ، وكونه صار حلس بيته ، يتأبّط دائماً وثيقة أحد القضاة بصحّة إيمانه وبراءته من كلّ ما يكفِّره[60] .

ولقد أُريقت دماء محرّمة ، وعذّبت أبرياء بالسجون والنفي والإهانات باسم الدين ، وروّعت شيوخ وشبّان أعواماً وسنين ، حتّى عجّ لسان حالها وقالها بالدعاء إلى فاطر الأرض والسموات ، بكشف هذه الغمم والظلمات .

ولم يزل سبحانه يملي لها ويستدرجها في غيّها ، ولم تحسب للأيّام ما خبّئ لها في يّها ، إلى أن امتلأ إناؤها ، وحان حصدها وإفناؤها ، فأخذها الله وهي ظالمة جائرة ، ودارت على دولتها الدائرة ، ومحق الله بفضله تلك الدولة المجنونة الجاهلة ، وأورثها للدولة الصالحة العاقلة ، فأمنت الناس على أنفسها ودمائها ، وذهبت عصبة الجمود بزَبَدِها وغثائها[61] .

سيقول بعض الناس ممّن تغرُّه القشور ، ولم تقف مداركه على لباب روح العصور : إنّ تلك الدماء المراقة ، والأرواح المهدرة ، لم يحكم عليها إلاّ بالبيّنة والشهود ، التي بمثلها تقام الحدود!وهل بعد ذلك من ملام أو جحود؟ .

يقول ، ويجهل أو يتجاهل أن التعصّب يحمل على الأخذ بالظنّة ، أو الإيقاع بالشبهة ، وأنّ المتطوّعة بالشهادة قد يحملهم على اختلاقها ظنّ الأجر بنصرة الدين ، بقتل هؤلاء المساكين ، لا سيّما إذا دفعوا بتشويق المتصولحين [62](1)والحشوية البكّائين ، احتيالا وقنصاً للمغفّلين .

ولقد استفيض عن كثير من هؤلاء الضالّين المضلّين ، الإغراء بقتل الداعين إلى الكتاب والسنّة والمجاهدين في الإصلاح العاملين .

على أنّ قاعدة المحققين هي عدم البتّ في أمر تاريخيّ إلاّ بعد تعرّفه من أطرافه ، ومراجعة عدّة أسفار للوقوف على كنهه وحقيقته ، والإشراف على غثّه وسمينه ، ووزنه بميزان العقول السليمة ، والقواعد الاجتماعية المعقولة ، كما أشار إليه الإمام ابن خلدون في «مقدّمته» .

نحن لم نصم أعمال أُولئك بالظلم والجور والبغي إلاّ لما فضح نبذاً منها الإمام زين الدين ابن الوردي الشهير صاحب البهجة ، واللاميّة ، والديوان ، والمقامات ، فقد شفى بالحقيقة الأوام ، وأوضح عن مكر أُولئك بالتمويه والإيهام ، في مقالة بديعة أنشأها في القاضي الرباحي [63] سمّاها (الحرقة للخرقة) ولا بأس بنقل جمل منها تأييداً لما قلناه :

قال(رضي الله عنه) : «أمّا بعد حمد الله الذي لا يُحمد على المكاره سواه ، والصلاة والسلام على نبيّه محمّد الذي خاف مقام ربّه وعُصِمَ من اتّباع هواه ، وعلى آله وصحبه الذين بذل كلّ منهم في صون الأُمّة قواه ، وسلمت صدورهم من فساد النيّات ، وإنّما لكلّ امرئ ما نواه; فإنّ نصيحة أُولي الأمر تلزم ، والتنبيه على مصالح العباد قبل حلول الفساد أحزم ، والمتكلّم لله تعالى مأجور ، والظالم ممقوت مهجور ، وتحسين الكلام لدفع الضرر عن الإسلام عبادة ، والنثر والنظم للذبّ عن أهل الإسلام من باب الحسنى وزيادة ، وجَرْحَة الحاكم الأعراضَ بالأغراض صعبة ، إذ نصّ الحديث النبويّ :

«أنّ حرمة المسلم أعظم من حرمة الكعبة» ، ومخرق خرقته مذموم ، ولحم العلماء مسموم .

«وهذه رسالة» أخلصتُ فيها النيّة ، وقصدتُ بها النصيحة للرعاة والرعيّة ، أودعتُها من جوهر فكري كلّ ثمين ، وناديتُ بها على هزيل ظلم أبناء جنسي مناداة اللحم السمين ، لكن جنّبتها فحش القول إذ لستُ من أهله ، وخلّدتُها في ديوان الدهر شاهدة على المسيء بفعله ، ورجوتُ بها الثواب ، نصرة للمظلوم ، وغيرة على حَمَلة العلوم ، وسمّيتها : (الحرقة للخرقة) فقلت :

اعلموا ياوُلاة الأمر ، ويا ذوي الكرم الغمر ، أبقاكم الله بمصر[64] للأُمّة ، ووفّقكم لدفع الإصر وبراءة الذمّة ، أنّ حلب قد نزعت للزبدة ، ووقعت من ولاية التاجر الرباحي في خسر وشدّة ، قاض سلب الهجوع ، وسكب الدموع ، وأخاف السِّرْب ، وكدَّر الشِّرْب ، بجرأته التي طَمَت وطَمَّت ، وعامّيته التي عمّت[65]وغمّت ، وفتنته التي بلغت الفراقد ، وأسهرت ألف راقد ، ووقاحته التي أدهشت الألباب ، وأخافت النُّطَف في الأصلاب ، فكم لطّخ من زاهد ، وكم أسقط من شاهد ، وكم رعب بريئا ، وكم قرّب جريئاً ، وكم سعى في تكفير سليم ، وكم عاقب بعذاب أليم ، وكم قلب ذائب ، بنائبة توسّط بها عند النائب ، فامتنعت الأُمراء عن الشفاعة ، وظنّوا هم والنائب أنّ هذا امتثال لأمر الشرع وطاعة ،

ياحاملَ النائب في حكمه            أن يقتل النفس التي حُرِّمتْ

غششتَه والله في دينه            بُشراك بالنار التي أضرمتْ

إلى أن قال الزين ابن الوردي : ثمّ أنّه فسّق مفتياً في الدين ، وفضح خطيباً على رؤوس المسلمين .

ثمّ قال : يحبّ إثبات الردّة والكفر ، كحبّ الدنانير الصفر ،

حاكم يصدر منهُ            خَلْف كلّ الناس حَفْرُ

يتمنّى كفر شخص            والرضا بالكفر كفرُ

 

ثمّ قال : إذا وقع عنده عالمٌ; فقد وقع بين مخالب الأُسود ، وأنياب الأفاعي السود :

أَدرِكوا العلم وصونوا أهله            من جهول حاد عن تبجيلهِ

إنّما يعرف قدرَ العلمِ مَن            سَهِرتْ عيناه في تحصيلهِ

 ثمّ قال : ما أقدره على السفير ، وما أسهل عليه التفسيق والتكفير ، كم دعى إلى بابلة فما ارتاح إلى الباب ، ونراه حيران لعدم الرقّة ، فإذا قيل له : «فلان قد كفر» طاب ، يحبس على الردّة بمجرد الدعوى ، ويقوّي شوكته على أهل التقوى ، قد ذلّل الفقهاء والأخيار ، وجرّأ عليهم السفهاء والأغيار .

يحبس في الردّة من            شاء بغير شاهد

لا كان من قاض حكى الـ            ـفقاع جدَّ[66] بارد

أراح الله من تعرّضه ، وصان عراض الأعراض عن تعرُّضه ، يقصد بذلك أهل الدين ، والقرّاء المجوِّدين ، جرحت الأبرياء فأنت قاض            على الأعراض بالأغراض ضارِ

                   ألم تعلمْ بأنّ الله عدلٌ                  (  ويعلم ما جرحتم بالنهارِ)

 

هذا بعض ما جاء في رسالة الإمام ابن الوردي التي هي أشبه بمقامة بديعية ، وكلّها حقائق صادقة ناطقة بما كان عليه تعصّب قضاة ذاك الوقت ، ولا سيّما المالكيّة منهم .

ولقد كان قضاة المذاهب يُحيلون الأمر في التعزير والتأديب إلى القاضي المالكيّ ، لما اشتهر في الفقه المالكيّ من مضاعفة النكال ، وشدّة التأديب في باب التعزير ، إذ بسط للقاضي يده فيه بسطاً لم يوجد في مذهب غيره ، فلذا كان محبّو الانتقام والتشفّي ، يعمدون إلى إحالة القضيّة إلى القاضي المالكي لما يعلمون ما وراء قضائه ، ممّا فصّل بعضه الإمام ابن الوردي كما قرأت .

على أنّ الأمر في التعصّب لم يقف عند القاضي المالكيّ وحده ، لنتعصّب ضدّه ، وإنّما كان هو الأقوى تعصّباً ، والأشدّ تصلّباً .

وإلاّ ; فإنّ مظهر ذاك العصر كان التعصّب لجميعهم ، فقد حكى الشيخ الشعراني رحمه الله تعالى في مقدّمة طبقاته الكبرى المسمّاة بـ «لواقح الأنوار» ما مثاله :

وقد أخبرني شيخنا الشيخ أمين الدين إمام جامع الغمري بمصر المحروسة : أنّ شخصاً وقع

في عبارة موهمة للتكفير ، فأفتى علماء مصر بتكفيره ، فلمّا أرادوا قتله قال السلطان چقمق : هل بقي أحدٌ من العلماء لم يحضر ؟ فقالوا : نعم الشيخ جلال الدين المحلّي شارح المنهاج ، فأرسل وراءه فحضر ، فوجد الرجل في الحديد بين يدي السلطان . فقال الشيخ : ما لهذا ؟ قالوا : كفر .

فقال : ما مستند من أفتى بتكفيره؟ .

فبادر الشيخ صالح البلقيني من مشاهير الشافعيّة ، وقال : قد أفتى والدي شيخ الإسلام الشيخ سراج الدين في مثل ذلك بالتكفير .

فقال الشيخ جلال الدين (رضي الله عنه) : ياولدي ، أتريد أن تقتل رجلا مسلماً موحّداً يحبّ الله ورسوله ، بفتوى أبيك ؟

حلّوا عنه الحديد ، فجرّدوه ، وأخذه الشيخ جلال الدين بيده ، وخرج والسلطان ينظر ، فما تجرّأ أحد يتبعه رضي الله تعالى عنه[67] .

وقد عدّ الشعراني من الأعلام الذين أكفرهم الجامدون المتعصّبون ما يقرب من الثلاثين :

(فمنهم) القاضي عياض ، اتّهموه بأنّه يهوديّ ، لملازمته بيته للتأليف نهار السبت ، وذكر أنّ المهدي قتله .

(ومنهم) الإمام الغزالي ، كفّره قضاة المغرب ، وأحرقوا كتبه[68] .

(ومنهم) التاج السبكي ، رموه بالكفر مراراً ، وسجن أربعة [69] .

وكلّ هذا إنّما كان بزعم المتعصّبين بشهادات وأقضية وفتاوي ، ولكن سرعان ما فضحهم التاريخ ، وكشف عوارهم ، كما حكاه الشعرانيّ وغيره ، والحمد لله الذي جعل الباطل زهوقاً .

وهكذا يمرّ بتواريخ تلك القرون ما لا يحصى من حوادث من أُقيمت عليهم الفتن ، واتّهموا بما اتّهموا به .

مع أنّ «الحدود تُدرأُ بالشُبُهات» ونعني بالحدود ما نصّ عليه في الكتاب العزيز والسنّة الغرّاء .

فإذا كانت في تلك المكانة ، وقد شرع فيها محاولة درئها بالشبهات .

فكيف بحدود لا سند لها إلاّ بالاجتهاد؟ وليس لها أصلٌ قاطعٌ ، ولا نصٌّ محكمٌ؟ .

فلا ريب أنّها أولى بالدرء ، وأجدر بالدفع .

ولا يدري المرء ما الذي حملهم على نسيان هذه الموعظة؟ حتّى عكسوا القضيّة ، وأصبحوا يكبّرون الصغير ، ويعظّمون الحقير ، ويهوّلون الأُمور ، ويدعون بالويل والثبور ، ممّا لا يقومون بعشره للمنكرات المجمع عليها ، والكبائر التي يجاهر بها ، فلا حول ولا قوّة إلاّ بالله .

ولمّا تشدّدت القضاة المالكيّة في هذا الباب ، أصبحوا هدفاً لأُولي الألباب ، حتّى قال الإمام ابن الوردي في ذاك القاضي المتقدّم الرباحي : أنّ المالكيّة بدمشق كتبوا إليه : «يامغلوب ، لقد بغّضتَ مذهبَ مالك إلى القلوب ، وقطعت المذاهب الأربعة عليه بالخطأ ، وزالتْ بهجته عند الناس وانكشف الغطا[70]  الخ .

والسبب في ذلك ما ابتدعه الملك الظاهر برقوق من توظيف قضاة أربعة على المذاهب الأربعة ، ممّا لم يعهد قبله في دولة من الدول ، حتّى نشأ من ذلك ما نقمه عليه الأعلام ، وعدّوه من التفرقة في الإسلام .

قال التاج السبكي في «طبقاته» [71] في ترجمة قاضي القضاة بالديار المصريّة تاج الدين عبدالوهاب ابن بنت الأعزّ الشافعي المتوفّى سنة 665هـ ما مثاله : وفي أيّامه جدّد الملك الظاهر القضاة الثلاثة في القاهرة ، ثمّ تبعتها دمشق ، وكان الأمر متمحّضاً للشافعيّة ، فلا يعرف أنّ غيرهم حكم في الديار المصريّة منذ وليها أبو زرعة محمّد بن عثمان الدمشقي في سنة 284 إلى زمان الظاهر ، إلاّ أن يكون نائبٌ يستنيبه بعض قضاة الشافعيّة في جزئيّة خاصّة .

وكذا دمشق لم يلها بعد أبي زرعة المشار إليه إلاّ شافعيّ غير التلاشاعوني التركي ، الذي وليها يويمات ، وأراد أن يجدّد في جامع بني أُميّة إماماً حنفيّاً ، فأغلق أهلُ دمشق الجامعَ ، وعزل القاضي[72] .

قال السبكي : واستمرّ جامع بني أُميّة في يد الشافعيّة ، كما كان في زمن الشافعيّ (رضي الله عنه) .

قال : ولم يكن يلي قضاء الشام والخطابة والإمامة بجامع بني أُميّة إلاّ من يكون على مذهب الأوزاعيّ ، إلى أن انتشر مذهب الشافعيّ ، فصار لا يلي ذلك إلاّ الشافعيّة .

ثمّ قال السبكي : وقد حكي : أنّ الملك الظاهر رؤي في النوم ; فقيل : ما فعل الله بك ، قال : عذّبني عذاباً شديداً بجعل القضاة أربعة ، وقال : «فرّقت كلمة المسلمين» اهـ[73] .

ولا يخفى على ذي بصيرة ما حصل من تفرّق الكلمة ، وتعدّد الأُمراء ، واضطراب الآراء .

وقد قال أبو شامة ـ لمّا حكى ضمّ القضاة ـ : إنّه ما يعتقد أنّ هذا وقع قطّ : قال السبكي وصدق ، فلم يقع هذا في وقت من الأوقات .

قال : وبه حصلت تعصّبات المذاهب ، والفتن بين الفقهاء .

فإنّه يؤيّد ما قدّمناه من اتّخاذ هذه آلةً للفتن والتشفّي من المخالفين ، حتّى أدال الله من تلك الدولة للسلطان سليم خان فنسخ كلّ ذلك ، وقصر الأمر على قاض حنفيٍّ واحد .

ولا ريب أنّ هذا كان من النعم الكبيرة ، إذ قمعتْ به فتنٌ خطيرةٌ ، وحسمتْ به شرورٌ وفيرةٌ .

نعم ، لم يزل في الأمر حاجة إلى الكمال ، وهو سعي أُولي الحلّ والعقد بعقد مؤتمر علميّ من كبار فقهاء المذاهب المعروفة ، وتأليف مجلّة تستمدّ من فقه سائر الأئمّة الأربعة وغيرهم ممّا فيه رحمةٌ ويسرٌ ومشيٌ مع المصالح والمنافع ، ودفع المضارّ في أبواب المعاملات ، فبذلك تظهر محاسن الدين في الأقضية والأحكام ، ويعرف أنّه دين المدنيّة في كلّ زمان ومكان إلى قيام الساعة وساعة القيام .

وأنّ اليوم الذي تتحقّق فيه هذه الأُمنية لهو أسعد الأيّام ، والمستعان بالله ذي الجلال والإكرام اهـ[74] .


 

[1] الرسالة للشافعيّ (ص398) .

[2] الحجرات (49 / الآية 6) .

[3] الكافي (ج : 1 ص : 63 ـ 64) بَابُ اخْتِلافِ الْحَدِيثِ

[4] تحدّثنا عن «التعليقة النحوية» في بحث نشر في مجلّة (حوزه أصفهان) العدد (10)

التي تصدّرها الحوزة العلمية في أصفهان ـ إيران .

[5] بتشديد الدال المفتوحة أي المنسوبين إلى البدعة، وإنّما آثرنا هذا على تسمية الأكثرين لهم بالمبتدعين، لأنّي لا أرى أنّهم تعمّدوا البدعة; لأنّهم مجتهدون يبحثون عن الحقّ، فلو أخطأوه - بعد بذل الجهد - كانوا مأجورين غير ملومين، فلا يليق تسميتهم مبتدعةً بل مبدَّعة، كما سيمرّ بك البرهان عليه .

[6] راجع شرح تقريب النووي صفحة 119 .

[7] نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر ، تحقيق نور الدين عِتِر ط دار الخير الطبعة

الثانية ، 1414هـ .

[8] الاقتراح لابن دقيق العيد (ص344) طبعة الإرشاد ـ بغداد 1403هـ . تحقيق الدوري .

 

[9] مقدمة ابن الصلاح تحقيق عائشة بنت الشاطي ، ص657 .

[10] الاقتراح : 331 ـ 342 .

[11] تدريب السيوطي صفحة 262 .

[12] كتاب في أُصول الحديث للشيخ تقي الدين بن دقيق العيد (كشف الظنون) (منه) .

[13] الاقتراح : 325 ـ 328 وقد اختصر السيوطي عبارة الاقتراح اختصاراً شديداً .

[14] جامع بيان العلم وفضله : 1/412 .

[15] جامع بيان العلم وفضله : 1/422 .

[16] مطبوعة مرّتين (منه) . الرسالة تحقيق شاكر : 73 .

[17] مطبوع مرّتين في الهند ومصر (منه) . أنظر الصفحات : 26 و28 و31 .

[18] مطبوع بدمشق (منه) .

[19] الفِصَل ، لابن حزم ، جزء 3 صفحة 247 (منه) .

[20] الصحاح 4/307 ، مادّة فسق . دار الكتب العلمية ، بيروت .

[21] المصباح المنير ، ص473 ، اوفسيت دار الهجرة ، قم .

[22] القاموس المحيط ، للفيروز آبادي ، 3/399 ط دار إحياء التراث العربي ، بيروت .

[23] مفردات ألفاظ القرآن الكريم : 380 ، ط مكتبة البابي الحلبي مصر سنة (1381)هـ .

[24] إثيار الحق .

[25] مجمع البيان للطبرسي 13/133 .

[26] تفسير الطبري ، 13/133 .

[27] نقله الطباطبائي في «المفاتيح» في باب «بيان أنّ الإسلام شرط في الراوي» (ص360).

[28] في النقل عن هذا السيّد الإمامي الكبير (رحمه الله) حجّة على متعصّبة الإمامية في تفسيقهم مخالفهم أيضاً (منه) . لكن ما ذكره هذا السيّد هو منقول عن الفقيه العظيم الشهيد الثاني (المقتول عام 965هـ ) بل هو موافق لرأي القدماء الذين وثّقوا كثيراً من المخالفين الذين لم يرد فيهم قدحٌ ، وسمّوا حديثهم بـ «الموثّق» .

[29] مفاتيح الأصول (ص360) وهذا الكلام منقول عن الشهيد الثاني في كتاب «مسالك الأفهام شرح شرائع الإسلام للمحقّق الحلّي» . (14/16) . طبع مؤسسة المعارف الإسلامية ـ قم 1416هـ ، وأضاف عليه قوله : والعامّة ـ مع اشتراطهم العدالة في الشاهد ـ يقبلون شهادة المخالف لهم في الأصول ، ما لم يبلغ خلافه حدّ الكفر ، أو يخالف اعتقاده دليلا قطعيّاً .

[30] المعجم الأوسط : 6/77 ح5846 ط دار الحرمين بالقاهرة . 1415هـ . شرف أصحاب الحديث للخطيب : 1/1436 ـ الجامع الصغير : 96 ح1544 ط دار الكتب العلميّة بيروت . الطبعة الأولى ، 1410هـ .

[31] ميزان الاعتدال : 3/279 ـ وانظر تاريخ بغداد : 2/169 .

[32] المعارف ، ص483 ، الطبعة السادسة تحقيق ثروت عكاشة .

[33] صحيح مسلم ، 1/8 ، تحقيق فؤاد عبدالباقي .

[34] من هنا يعلم أنّ رواة الصحيحين المتكلّم فيهم لا يوصفون بالابتداع ، لأنّ مسلماً(رحمه الله) أوجب أن لا يروي عن مبتدع ، فبالأولى البخاري; لأنّ شرطه أدقّ ، ولذلك قلت في عنوان المقالة : (المبدَّعون) إعلاماً بأنّ خصومهم لقّبوهم بالمبتدِعة ، وإلاّ فهم مجتهدون ـ والمجتهد وإن أخطأ ـ لا يوصف بالابتداع ، كما أسلفناه ، ونبسطه الآن (منه) .

[35] هو عمرو بن عبيد المتقدّم ، وكلام أيّوب فيه من كلام المعاصرين بعضهم في بعض ،

وهو مطروح ، كما نبّه عليه ابن عبدالبرّ في كتاب «جامع العلم» (منه) .

[36] صحيح مسلم : 1/28 .

[37] المستصفى جزء (1) صفحة (158) (منه) .

[38] الاقتراح : 327 .

[39] جزء (1) صفحة (160) (منه) .

[40] كلاّ ، بل هم الخطابيّة من أهل السنّة ، الحشويّة ، المجسّمة المنتمين إلى أحمد بن حنبل ، كما صرّح بذلك السُبكي في «قاعدة في الجرح» (ص48 ـ 50) وممّا قال : وقد تزايد الحال بالخطابيّة . . وبلغني أنّ كبيرهم استفتي في شافعيّ :

أيُشهد عليه بالكذب؟ قال : ألستَ تعتقدُ أنّ دمه حلال؟ قال : نعم . قال : فما دون ذلك دون دَمِهِ ، فاشهد . . وادفع فساده عن المسلمين .

قال السبكي : فهذه عقيدتهم . وانظر مقالنا : «الحشويّة نشأة وتاريخاً» المنشور في العدد السابع من هذه المجلّة (ص55 ـ 56) .

[41] وهذا هو المنسوب إلى ابن حبّان صاحب «الثِقات» وهو ما التزمه قدماء المحدّثين ، ومن أجل ذلك احتاجوا إلى وضع كتب «الضعفاء» ليُميّزوا المجروحين عن غيرهم ، فمن كان على ظاهر الإسلام ، ولم يرد فيه جرحٌ ، فهو «ثقةٌ» عندهم من غير حاجة إلى التنصيص على وثاقته من أحد .

[42] مُسَلّم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت : 2/142 .

[43] إحياء علوم الدين ، للغزالي .

[44] جزء رفع اليدين في الصلاة للبخاري مع تخريجه جلاء العين لبديع الدين شاه الراشدي السندي : 90 ـ 91 ، ط مؤسسة الكتاب الثقافية ـ بيروت . الطبعة الأولى ، 1409هـ .

[45] كذا في الطبعة المصريّة من كتاب «ميزان الجرح» .

[46] كالإمام أبي يوسف والإمام محمّد بن الحسن ، فقد ليّنهما أهل الحديث ، كما ترى في «ميزان الاعتدال» .

[47] جزء رفع اليدين في الصلاة : 91 ـ 92 .

[48] كما هو طريقة السلفيين المتحكّمين على أزمّة الأمور الدينيّة في الحجاز ، حيث يكفرون ضيوف الرحمن ويفسّقونهم ، بل يؤذونهم بالضرب والإهانة ، بل قد جرّوا الويلات على الإسلام والمسلمين في العالم كلّه بتصرّفاتهم الإرهابيّة .

[49] وقد فعل الحشوية في ظلّ سلطانهم المتوكّل ما هو أشنع وأبشع ، حتّى هدموا قبر الإمام الحسين السبط الشهيد(عليه السلام) ، وجرى ذيولهم الوهّابية في عصرنا الحاضر ، فهدموا أبنية أئمّة البقيع (عليهم لسلام)وقبور الصحابة والتابعين وقتلوا حجّاج بيت الله في الشهر الحرام ، وفي مكّة البلد الحرام عام 1406هـ .

[50] في ترجمة محمّد بن هبة الله بن محمّد بن الحسين الإمام الكبير أبو سهل جزء (3) صفحة 85 و86(منه) وفي طبعة أخرى : 4 / 209 ـ 210 .

[51] القهندر في الأصل إسم الحصن أو القلعة في وسط المدينة ، وهو في مواضع كثيرة ، بسمرقند وبخارى وبلخ ومرو ونيسابور ، معجم البلدان : 4/210 .

[52] صفحة 1309 من مطولات كتب الحنابلة في الفروع (منه) .

[53] ميزان الاعتدال : 4/245 .

[54] الفرق بين الفرق لعبد القاهر البغدادي : 93 ، ط دار المعرفة بيروت ، الطبعة الأولى ، 1415هـ تحقيق إبراهيم رمضان .

[55] الملل والنحل للشهرستاني : 1/122 ، افسيت دار المعرفة ، بيروت ، تحقيق محمّد سيد گيلاني .

[56] جزء2 (منه) . الكامل للمبرّد : 3/1137 .

[57] أو العمالة ، وخدمة الاستعمار والكفار من النصارى الصليبيين ، واليهود الصهاينة ، لاستيلائهم على خيرات البلاد ، ومصير العباد ، بوسيلة هؤلاء الذين يحققون لهم شعار : «فَرِّقْ; تَسُدّ» .

[58] لم نعثر على مصدره .

[59] وقد عادَ بأشدّ من ذلك في آخر القرن الفائت وما مضى من هذا القرن الخامس عشر الذي نعيش فيه ، على أيدي المدّعين للإسلام والسلفيّة ، وعلى عقلاء المسلمين أنْ يردّوهم ، ويفضحوا أهدافهم المساعدة للنصارى واليهود ، ممّن يكيد الإسلام والمسلمين!

[60] الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة : 3/74 .

[61] كما حصل لدولة النواصب التكارتة في العراق الحبيب في عصرنا الحاضر .

[62] المتمفقر كالمتمسكن مدّعي الفقر أي التصوّف وليس من أهله (منه).

[63] راجعها في ص190 من المجموعة الأدبية التي طبعت في مطبعة الجوائب عام 1300 ، مشتملة على لامية العرب وشرحها ، وشرح المقصورة الدريدية ، وديوان ابن الوردي ، وديوان الخشّاب ورسائله(منه) .

[64] كانت مصر في عهد المؤلّف وهو القرن الثامن عاصمة دولة المماليك (منه) .

[65] وفي المصرية عَمَت . ولعلّه بالتخفيف أصوب .

[66] في الطبعة المصريّة : حدّ .

[67] الطبقات الكبرى المسمّاة بلواقح الأنوار وطبقات الأخيار 1/13 .

[68] الطبقات الكبرى 1/17 .

[69] ذكر السبكي محنته هذه في آخر منظومة له في الفقه ، عندي الكرّاسة الأخيرة منها

(منه) .

[70] المجموعة الأدبيّة ، مطبعة الحوائب ، 1300هـ في رسالة : الحرقة للخرقة .

[71] جزء (5) صفحة (134) (منه) . وفي طبعة حديثة : 8/319 باختلاف .

[72] تأمّل هذا التعصّب واسترجع وحوقل ، أين غاب عنهم فضل سائر الأئمّة المتبوعين الأربعة وغيرهم ؟ وكيف نسوا أنّ الناس عيال عليهم تستمدّ من بركة فقههم واستنباطهم وتأصيلهم وتفريعهم ؟ ما أجمد قوماً يزعمون أنّهم تعبّدوا بمذهب واحد أو اتّباع إمام واحد! أو ما علموا أنّ كلّهم من رسول الله ملتمسٌ؟ وأنّ الله تعالى إنّما تعبّد الناس بتنزيله الكريم ، وهدي نبيّه المعصوم؟ (منه) .

[73] طبقات الشافعيّة الكبرى للسبكي (8/319 و312) .

[74] اعتمدنا في طبع هذا الكتاب على الطبعة الأولى بمطبعة مجلة المنار بمصر سنة 1330 هـق ـ و 1279هـش ، وجاء على الصفحة الأولى : ( نشر في مجلّة المنار وجمع منها) .

وما فيه من الهوامش بعنوان (منه) فهو من المطبوع ، وقد علّقنا عليه بما لزم .

والمراد بالمصرية : طبعة محمّد عبدالحكيم القاضي ، بدار الحديث بالقاهرة .  

التحرير

 


 

 
امتیاز دهی
 
 

 
خانه | بازگشت | حريم خصوصي كاربران |
Guest (PortalGuest)

دبيرخانه كنفرانس‌هاي بين‌المللي
مجری سایت : شرکت سیگما