عضويت در مرسلات     
 

›أخبار

›المكتبة

›البرامج

›بطاقات بريدية

›احاديث

›منشورات وأنشطة

›ارسال المقالة

›مقالات

›الصور

›منتديات

›الأسئلة و الأجوبة

›الروابط

›مرسلات في 120 ثانية

›اتصل بنا

›موبايل

›الفائزون

›تشاور

›صوت و فيلم

›خارطة الموقع

›بيت الاطفال و الشباب

›من نحن


القائمة
اعلان
اعلان
القرآن
رذ
الخميس, صفر 02, 1432 العلم ..مفتاح الإعجاز بقلم: د. عدنان محمد فقيه


يختلف الإعجاز العلمي في القرآن الكريم عنغيره من أنواع الإعجاز القرآني، ولا يصدر هذا الاختلاف من كون هذا النوع من الإعجازأكثر أهمية من غيره - كما يُروَّج لذلك أحياناً - إذ إن القرآن معجز من كل وجه وفيكل جانب من جوانبه، ويشهد بذلك جموع المسلمين الذين دخلوا - ولازالوا يدخلون - هذاالدين على مَرِّ العصور انجذاباً إلى الجوانب الروحية والإنسانية التي يزخر بهاالقرآن الكريم.

لكن الذي يميز الإعجاز العلمي عن غيره من أنواع الإعجاز هومصداقية العلم التي تكاد أن تكون مطلقة في نظر البعض، مقارنة مع غيره من مجالاتالمعرفة البشرية، فقد حظي العلم بمرتبة متميزة في عصرنا هذا وضعته في قمة الهرمالمعرفي، وأسبغت عليه ثوب المرجعية فيما هو صحيح وما هو خطأ. ومن هنا فإن موضوعالإعجاز العلمي يتميز عن غيره من مواضيع الإعجاز القرآني في كونه مضطراً إلىالتعامل مع هذه المرجعية التي أصبحت جزءً واقعياً ملموساً في حياة المسلمين وغيرهمشئنا ذلك أم أبيناه. وفي مقابل ذلك فإن أنواع الإعجاز القرآني الأخرى مثل الإعجازالبياني أو التشريعي في القرآن الكريم لا تواجه مثل هذه المرجعية نظراً لأن مسألةتذوق البلاغة القرآنية مثلاً يتفاوت في إدراكها الناس. فكما أننا لا يمكن أن نتوقعمن جميع الناس إدراك الإعجاز البياني للقرآن الكريم نظراً لتفاوت قدراتهم اللغوية،فإنه لا يمكن لأحد أيضاً أن ينكر وجود هذا الإعجاز ثم يكون إنكاره هذا أكثر من رأيشخصي للمنكر، ويرتبط هذا الأمر بطبيعة موضوع الإعجاز هنا، وهو البلاغة أو التشريع،وهما موضوعان لا توجد لهما مرجعية إنسانية مطلقة تحكم بما هو صواب وما هو خطأ، بلهما محل اختلاف الناس من قديم؛ بسبب الأذواق والأفهام والتي إما أن تكون نقية سليمةفتقود صاحبها إلى الإيمان، وإما أن تهيمن عليها الأهواء فتحيد بصاحبها عن الفطرةالسوية وتحجبه عن قبول الحق.

أما الإعجاز العلمي للقرآن الكريم فيختلف عنغيره من أنواع الإعجاز القرآني من حيث المرجعية "المطلقة والموثوقة" التي يحظى بهاالعلم، وخصوصاً في العالم الغربي كما أشرنا إلى ذلك آنفا. ولقد حاول البعض منالمتدينين والمطلعين على الثقافة العلمية الحديثة - بعد أن لمسوا الإشارات القرآنيةالكثيرة للأمور الكونية - الاستفادة من "مرجعية" العلم وانبهار الناس به مسلمهموكافرهم لإثبات صدق الرسالة المحمدية على صاحبها أزكى الصلاة وأتم التسليم. لكنهمفي سعيهم لهذا الإثبات استخدموا سلاحاً ذا حدين، إذ إنهم كرسوا مرجعية العلم وأقروابها دون مراجعة أو تدقيق، فجعلوا النصوص الشرعية – وعلى غير قصد منهم- في موقفالمتهم حتى يثبت العلم براءتها! فظهرت تأويلات غير ضرورية لنصوص شرعية ثابتة؛ بحجةأنها تخالف الحقائق العلمية المقررة والأمر أبعد ما يكون عن ذلك!

ومن أجلهذا المزلق الخطير كان لابد من وقفة متأنية لدراسة هذه الظاهرة - ظاهرة الاستدلالبالمعرفة العلمية لإثبات صدق النصوص الشرعية متمثلة في الكتاب والسنة - ومعالجتهامن الناحية العلمية والناحية الشرعية على حد سواء. ولا أزعم أن مثل هذه المقالةيمكنها أن تفي بجميع جوانب الموضوع، ولكن حسبنا أن نشير فيها إلى بعض الإشارت علىطريق المعالجة الموضوعية المنشودة، وذلك بالحديث عن شيء من طبيعة المعرفة العلميةومكانتها بين الظن واليقين، وكيفية توظيف هذه المعرفة في مسألة الإعجاز العلميآملين أن يسهم هذا المقال في إعادة نظر المهتمين بقضية الإعجاز العلمي في نواحيهاالمختلفة وتقويم مسيرتها حتى تؤتي ثمارها المرجوة بإذن الله تعالى.

ماهوالعلم؟

لعله مما لا يستغرب عدم وجود تعريفٍ دقيقٍ مجمعٍ عليه للعلم وللمعرفةالتي يقدمها، فبالرغم من تميز المعرفة العلمية بالدقة والتحديد على وجه العموم إلاأن دراسة طبيعة هذه المعرفة ليس مما يشتغل به العلماء الكونييون، بل هو من تخصصفلاسفة العلوم، والذين تتفاوت آراؤهم تفاوتاً كبيراً تبعاً للمدرسة التي ينتمونإليها في التفكير، ويشرح لنا غريغوري ديري [[1]] في كتابه " ما هو العلم وكيف يعمل" صعوبة تعريف العلم لكنه يشير إلى أن أي تعريف للعلم لا بد وأن يتضمن شيئاً عن "الطريقة العلمية" أي الطريقة التي يتم التوصل بها إلى المعلومة العلمية والتي منعناصرها الفرضية العلمية، والتجربة، والاستنتاج المبني على المشاهدة، وقابليةالحصول على نفس النتيجة عند إعادة إجراء التجربة تحت الظروف المتشابهة، ومن جانبآخر فإن أي تعريف للعلم - والكلام لا يزال لديري- لابد وأن يتضمن أيضاً مجموعالمعارف العلمية التي توصل إليها العلم عبر مسيرته الطويلة فالقوانين، والنظريات،والمباديء العلمية كلها تدخل فيما يسمى علماً. وكأن ديري يريد أن يقول إن قصرالتعريف على المنهج العملي يجعله غير معبر عن المكانة التي يحتلها العلم بشكل صحيحفهذه المكانة التي احتلتها كلمة "علم" في قاموس اللغة إنما جاءت من تلك المعارفالهائلة التي تنسب إليه، وليس من مجرد الطريقة العلمية التي يتوصل بها إلى استنتاجالمعرفة العلمية. ومما يؤيد ذلك ما ذهب إليه الفيزيائي الكبير ريتشارد فاينمان منإدخاله المنجزات العلمية بما فيها التكنولوجيا تحت مسمى العلم أيضاً [[2]]. ومنناحية أخرى فإن المنهج العلمي للوصول إلى المعرفة العلمية ليس منهجاً واضح المعالمكما قد يتصور لأول وهلة، فالفرضية العلمية لا تسبق دائماً التجربة التي تُجرىلإثباتها، كما أن الاستنتاج قد يسبق التجربة المطلوبة لإثباته، وفي تاريخ العلمالكثير من الأمثلة التي تشهد بذلك. ويمكننا إذا أردنا الجمع بين الطريقة العلميةوالمنجزات المعرفية للعلم في محاولة تعريفنا له أن نقول: "إن العلم هو مجموعةالمعارف التي تم التوصل إليها عن طريق "استخدام المنهج العلمي" والذي يُعرَّفبدوره - على أنه ذلك المنهج المؤسس على التجربة، والذي تحكمه الاستنتاجات المبنيةعلى المنطق العقلي أوالنماذج الرياضية أوالطرق الإحصائية". وفي حين أن هذا التعريفيعتريه ما يعتري غيره من المحاولات الأخرى لتعريف العلم من نقص وغموض، إلا أنهيحتوي - في المجمل - على عناصر التعريفات المختلفة في كثير من المصادر التي تعنىبهذه القضية، مع ملاحظة أن الكثير من هذه المصادر تحاول أن تتحاشى تقديم تعريف محددللعلم نظراً لصعوبة هذا الأمر.

هل يعبرالعلم عن الواقع؟

يميل أكثرالمشتغلين بنقد المعرفة العلمية إلى المذهب الأداتي البرغماتي (النفعي) والذي يعدالمعرفة العلمية مجرد أداة برغماتية للاستنباط والتنبؤ وليس خبراً عن الواقع [[3]]. ومما شجع هذا التيار على النمو والازدهار ما نتج من تناقضات منطقية في التجارب التيتختص بالعالم الذري والذي تحكمه الميكانيكا الكمومية؛ فقد اضطر العلماء إلى القبولبتصورات ومفارقات لا يوجد نظير لها في العالم الذي نشهده ونتعامل معه، مما حدابفريق كبير منهم إلى اعتناق المذهب الأداتي الذي نتحدث عنه للخروج من مأزق التناقضالمنطقي الذي تقترحه نتائج التجربة لو كانت تعبر بالفعل عن حقيقةالعالم.

فعلى سبيل المثال يعتقد الأداتيون بأن "الكائنات" الدون ذرية مثلالإلكترونات والبروتنات والنيوترنات وما دونها لا تعبر بالضرورة عن وجود حقيقيمستقل بالشكل الذي نعهده عندما نتكلم عن وجود كرات البلياردو مثلاً، فنحن لم نر هذه "الكائنات" أصلاً، بل استنتجنا وجودها من عدد من التجارب التي أَمْلَتْ طبيعةً "جُسيميَّةً" لها، ثم أَملتْ تجاربُ أخرى أُجريت على هذه "الكائنات" - والتي أطلقناعليها اسم جُسيمات - أملت هذه التجارب الأخرى طبيعة "موجيةً" لها. فكيف يكون الشيءجسيماً وموجةً في نفس الوقت؟ وما معنى وجود موجة من دون وجود وَسَط تتموَّج فيه؟ هليمكننا أن نتصور وجود موجة البحر مثلاً دون وجود البحر نفسه؟ لكن العلم يُصرُّ علىأن الكائنات الدون ذرية هي كائنات جسيمية وموجية فتارة تتصرف على أنها موجة وتارةتتصرف على أنها جسيم، والأغرب من ذلك أن كل جسيم من هذه الجسيمات لا يسمح لنا منالتحقق من طبيعته الازدواجية (الموجية-الجسيمية) بشكل انفرادي ، فسرعان ما يتخلى عنطبيعته الموجية إذا ما حاولنا "الاقتراب" منه للتحقق منها. وبالرغم من كل هذهالتناقضات التي تنطوي عليها الميكانيكا الكمومية فإنها قد أثبتت نجاحاً مذهلاً فيالتعامل مع العالم الدون ذري، ونشأ عن هذا النجاح كل ما نراه اليوم من تقدم تقنيوتكنولوجي من صناعة الحاسب الآلي إلى غزو الفضاء.

وهذه المفارقة بين نجاحالميكانيكا الكمومية في توصيف تصرف الكائنات الدون ذرية من جهة، وبين التناقضاتالمنطقية التي تثيرها والتي لا تتفق مع فهمنا اليومي للعالم الذي نعيش فيه من جهةأخرى، قد أدت الى انقسام العلماء إزاءها إلى فريقين: فريق عزا هذه التناقضات إلىنقص في النظرية الكمومية مع إقراره بنجاحها منقطع النظير، ومن هؤلاء ألبرت أينشتين،ولويس دي بروي وديفد بوم، وفريق أنكر وجود حقيقة موضوعية أصلاً واعتبر أن العالميوجد فقط عندما نتعامل معه وعُرِف هذه الاتجاه فيما بعد بـ"مدرسة كوبنهاغن"، والتيكان على رأسها نيلز بور وفيرنر هايزنبرغ. ولكن من الواضح أن موقف مدرسة كوبنهاغنموقف ميتافيزيقي، لا يدخل في نطاق البحث العلمي والذي ينحصر في العالم المادي،وبالتالي فإنه - وبالتعريف - لا يمكن لأتباع مدرسة كوبنهاغن أن يزعموا أن نتائجالتجارب العلمية تقتضي موقفهم ذلك، ثم يزعموا "علميّة" هذا الموقف. والشيء الذييجمع عليه الفريقان هو أن الميكانيكا الكمومية لا تعبر عما يحدث فعلاً إما لإنهاناقصة (رأي أينشتين ورفاقه) وإما لأنه لا يوجد شيء يحدث فعلاً في الخارج قبل عمليةالقياس التي نجريها (رأي مدرسة كوبنهاغن)، ومن هنا يبرز دور المدرسة الأداتية التينتحدث عنها، إذ تمثل القدر المتفق عليه بين كلا الفريقين فالميكانيكا الكمومية بماتشتمل عليه من مصطلحات وتعبيرات هي عبارة عن أداة للتعامل مع الواقع فحسب، وربماكان هذا القدر المتفق عليه بين المدرستين سبباً في انتشار المذهب الأداتي فيالمعرفة العلمية، فاجتذب تأييد غالبية العلماء الكونيين وفلاسفة العلم على اختلافاتبينهم في تفصيلات المذهب لا محل لذكرها في هذا المقام.

ويمكننا تشبيهالقيمة الأداتية للعلم والخطأ الذي ينتج عن عدم فهمها، بما يحدث عندما ينظر أحدناإلى شكل توضيحي يبين الدورة الدموية في الجسم، تأخذ الأوردة اللون الأزرق في هذاالشكل، بينما تأخذ الشرايين اللون الأحمر، فلو حاول أحدنا أن يأخذ الشكل التوضيحيعلى أنه يصوِّر الحقيقة فعلاً فسيظن أن لون الأوردة أزرق بالفعل، أو أن لون الدمالذي يجري فيها أزرق بالفعل... وهكذا يمكن أن نخطئ حينما نأخذ بعض التقريراتالعلمية على أنها تصوير للواقع بينما تكون هي مجرد تمثيل له.

العلم بينظاهر الأمور وحقائقها

الواقع أو الحقيقة من القضايا الميتافيزيقية، والتيلا تدخل تحت نطاق العلم أصلاً، وقد حذر الفيلسوف الفرنسي الوضعي أوجست كونت منذالقرن التاسع عشر من تعرض العلم لمحاولة إدراك حقيقة الأشياء فقال "إن أي نظريةعلمية تدَّعي أن بإمكانها معرفة حقيقة الظاهرة تصبح قولا ميتافيزيقياً ينبغي رفضهتماما، لأن العلم لا يبحث في ماهية الأشياء، وإنما يكتفي بالوقوف عند حد الوصفالخارجي للظاهرة فما يهم العلم هو كيفية حدوث الظاهرة" [[4]].

فلا بد لنا أنندرك حين نتحدث عن المعارف العلمية أنها إنما تتعلق بـ "ظواهر" الأشياء دونحقائقها، وهو أمر يُقرِّه كافة العلماء الكونين، فالبحث العلمي يسعى دائماً إلىواحد من أمرين:

1.
وصف الظواهر الطبيعية، كما في علم الجغرافيا والتشريحمثلاً، فإن هذين الفرعين من المعرفة يهدفان إلى توصيف ما عليه الحال دون الدخول فيكثير من الاستنتاجات، وقصارى ما يسهم العلم التجريبي في مجالهما هو إمدادهمابالأدوات العلمية المتطورة والتي تساعد في دقة الوصف وصحة التصنيف.

2.
تفسير "الظواهر" الطبيعية، وذلك عن طريق إيجاد صيغ تفسيرية (مثل التصورات والمفاهيمالعلمية كمفهوم الجاذبية والإلكترون مثلاً) أو قوانين رياضية للمشاهدات التييلاحظها الباحث، ويندرج تحت هذا النوع علم الفيزياء والكيمياء وغيرهما، وقصارى مايصبو إليه هذا النوع من العلوم هو إيجاد الصيغ التي تتفق مع المشاهدات وتتمكن منالتنبؤ بمشاهدات أخرى عند تغير الظروف. أما الانشغال بالتأكد من مدى مطابقة هذهالصيغ التفسيرية للواقع والحقيقة من حيث هي لا من حيث نتائج المشاهدات التياقترحتها في المقام الأول، فليس ذلك كله مما يعني العلم التجريبي من قريب ولا منبعيد.

فيمكننا أن نخلص مما سبق إلى أن هذين الصنفين من العلوم (ويشتركمعهما في ذلك العلوم التي تجمع بين الوصف والتفسير كعلم الإحياء والعلوم الطبيةمثلاً) لايُعنيان بدراسة "الحقائق" وإنما يعنيان فقط بدراسة "الظواهر"، ولعل ممايشير إلى أن العلم البشري - الذي يكتسبه الخلق بمعزل عن الوحي - إنما يتعلق بظواهرالأشياء لا بحقائقها هو قول الله تعالى : ".. ولكن أكثر الناس لا يعلمون، يعلمونظاهراً من الحياة الدنيا".

وعلى ذلك فلا ينبغي إذاً أن نلهث وراء كل كشفعلمي جديد، محاولين أن نثبت أن القرآن الكريم قد أشار إليه، كما لا ينبغي أن ننـزعجمن عدم قدرتنا على ربط معلومة علمية - مهما بدت أهميتها في ميزان العلم - بآية أوأكثر من آيات القرآن الكريم، لأننا إن فعلنا ذلك نكون قد ألبسنا العلم ثوباً أوسعمنه، وأعطينا معارفه المحدودة المتعلقة بظواهر الأمور فوق ما تستحق، فشتان بينالظاهرة المحدودة التي يعبر عنها العلم، والحقيقية المطلقة التي يقدمها القرآن.

وبالرغم مما ذكرنا فإنه لا ينبغي للمسلم أن ينكر أن يكون في هذا الكتابالعزيز إشارة إلى كل حقيقة أو ظاهرة في هذا الكون صغرت أم كبرت، علم ذلك من علمهوجهله من جهله، فإن النفي أصعب كثيراً من الإثبات، إذ يتطلب النفي الإحاطة الشاملةبجميع التفاصيل والمعاني المباشرة وغير المباشرة حتى يتمكن النافي من القول بأنالقضية المذكورة لا توجد إشارة لها في القرآن الكريم ، ولا يجرؤ مسلم عاقل علىالقول بإحاطة عقله المحدود بكلام الله تعالى عز وجل فإن المحدود لا يحيط بغيرالمحدود "والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولواالألباب". وعلى ذلك يجب على المسلم الاحتياط والتأدب مع قوله تعالى : "ونزلنا عليكالكتاب تبياناً لكل شيء "، كما يجب عليه عدم التسرع في إنكار ما يُعزى إلى القرآنالكريم من إشارت لبعض الأمور الكونية، إذ ما أدراه أنها ليست بإشارة... وإنما الذييسوغ إنكاره من قبل أهل العلم والاختصاص هو وجه الاستدلال على أن آية ما تشير إلىظاهرة بعينها وتتحدث عنها، وذلك من حيث دلالات اللغة ومعطيات العلم الحديث وخصوصاًحينما تُستخدم هذه الآية في إطار الإعجاز العلمي للقرآن الكريم.

هل "الحقائق" العلمية قطعية ونهائية؟

لقد تعمدنا استخدام لفظ "حقائق" في عنوانهذه الفقرة بدلا من لفظ "نظريات" كما لم لم نلجأ إلى أي عبارة أخرى أقل تحديداًوأكثر حذراً مثل: "هل المحتوى المعرفي للنشاط العلمي قطعي ونهائي؟"، وذلك لهيمنةفكرة "المصداقية العلمية" على تفكير إنسان القرن الحادي والعشرين بشكل عام، مماأشاع عبارة "حقيقة علمية" في استخدامات الخاصة والعامة منا للتعبير عن أي معلومةتنسب إلى العلم، حتى لا تكاد عبارت مثل "نظرية علمية" أو "تفسير علمي" تُذكر إلانادراً. ومن جانب آخر فإن قولنا "حقيقة" علمية يعني أنها كذلك في نظر العلم، ولايعني بالضرورة أنها تمثل واقعاً حقيقاً موضوعياً يصف العالمَ، كما شرحنا ذلك عندالحديث عن المذهب الأداتي في تصور طبيعة المعرفة العلمية.

وفي عرضها لكتاب "ماوراء العلم" للفيزيائي الإنجليزي المرموق جون بولكين هورن تلخص د. يمنى الخوليوجهة نظره في المنجزات العلمية بأنها بالضرورة مؤقته وأن العلم " لا يُحرز حقائقيقينية قاطعة وقصارى ما يدعيه هو رجحان الصدق" [[5]]، وليس هذا النص بغريب، بل تكادتجد أمثاله في كل كتابة جدِّية عن طبيعة المعرفة العملية، سواء كان كاتبها منفلاسفة العلم، أو من العلماء الكونيين في شتى التخصصات العلمية. ومع ذلك نجد أنه منالشائع لدى عامة الناس أن هناك حقائق علمية قطعية لن يتراجع عنها العلم أبداً، ومنالأمثلة الشائعة جداً، والتي يُستدل بها على هذا النوع من الحقائق: مسألة كرويةالأرض، فكثيراً ما يعترض عليك المعترضون حين تتحدث عن عدم قطعية المعرفة العلميةبقولهم لقد أثبت العلم كروية الأرض فهل تعتقد أنه سيتراجع يوماً ما عن هذه "الحقيقةالعلمية"؟

الحقائق العلمية بين الشهود والاستنتاج

والجواب عن ذلك أنهناك نوعان من الحقائق العلمية حقيقة علمية "مشهودة" وحقيقة علمية "مستنتجة". فالحقيقة العلمية المشهودة هي تلك التي رأيناها أو استشعرناها بحواسنا بشكل "مباشر" وذلك بمساعدة الوسائل العلمية الحديثة. ومثال ذلك تصنيف مراحل تطور الجنين الذيأثبته العلم الحديث من خلال تحديد شكل الجنين في مراحله الأولى والتي أطلق عليهاالقرآن الكريم أسماء: العلقة والمضغة، فكل هذه المراحل تمت رؤيتها بالعين المجردة،كما تم تصويرها وتوثيقها وتوصيفها في عصرنا هذا، بالاستعانة بالأدوات العلميةالحديثة. ومن أمثلة ذلك أيضاً ما نراه من صور التُقطت للكوكب الأرضي من زوايامختلفة بواسطة الأقمار الصناعية، حيث تمثل الحقيقة العلمية المشهودة هنا كون الأرضكروية الشكل.

وربما أمكننا أن نتجاوز قيد "المباشرة" في تعريف الحقيقةالعلمية المشهودة لندخل فيه ما أمكن رؤيته أو استشعاره بالحواس بشكل غير مباشرأيضاً أي بواسطة أدوات القياس العلمية الحديثة. وندرج تحت هذا الإطار جميع عملياتالقياس العلمية وما يترتب عليها من مقارنات.

ونلاحظ من تعريفنا هذا للحقيقةالعلمية المشهودة أن مصداقية هذه الحقيقة إنما تصدر من "شهودها" بواسطة حواسنا إمابشكل مباشر أو بشكل غير مباشر، لا من "شهادة" العلم لها، وإنما يكمن دور العلم فقطفي المساندة والمساعدة في الوصول إلى هذا الشهود. وهذا النوع من الحقائق العلميةقطعي لا يقبل التراجع عنه. وعلى ذلك فحقيقة "كروية الأرض" لا تستند في صحتها اليومإلى أن العلم قد قال بها ولكن إلى شهودها بواسطة الصور والكاميرات الفضائية، فهي لاتصلح أن تستخدم مثالاً للتدليل على أن حقائق العلم قطعية بشكل عام.

أماالنوع الآخر من الحقائق العلمية فهو الحقيقة العلمية المستنتجة، وهذا النوع خاضعوقابل للتغير في أي لحظة، إذ هو مجرد استنتاج يفسر نتائج التجربة، ولا ضمان على أنهنهائي لا يوجد استناج غيره أكمل وأدق منه، يمكن أن يظهر لنا في يوم من الأيام، كماأن هذا النوع من الحقائق العلمية قابل للانهيار في أي وقت تُظهر فيه التجربة نتيجةواحدة فقط لا يمكن تفسيرها بواسطته. وحيث إن الوقائع غير محصورة، فلا سبيل إلىالتحقق من هذا النوع من الحقائق العلمية بشكل نهائي. وعلى ذلك تظل الحقيقة العلميةالمستنتجة عرضة للنقض، مهما كثرت شواهدها وقل احتمال خطئها، ومن هنا فينبغي الحذرمن استعمال هذا النوع من الحقائق العلمية في معرض التدليل على الإعجاز العلمي فيالقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وإن كان من الممكن الاستئناس به في فهمهماولكن دون مبالغة أو شطط.

ومثال الحقيقة العلمية المستنتجة مفهوم الجاذبيةوالذي يقول بأن الأجسام يجذب بعضها البعض، فهذا المفهوم ظل قرابة 3 قرون منذ أناقترحه العالم الإنجليزي الشهير إسحق نيوتن وإلى أوائل القرن العشرين، ظل هذاالمفهوم مع ما يصاحبه من قوانين فيزيائة، في محل تقديس من قبل العلم التجريبيوالمشتغلين به، وفي منأىً عن أي شك أو ريبة، حتى سمي القانون المصاحب له بقانونالجاذبية ، إلى أن جاءت النظرية النسبية على يد ألبرت آينشتين لتستغني عن مفهومالجاذبية وتصحح القوانين المصاحبة له بقوانين أخرى ومفهوم جديد (هو مفهوم انحناءالزمكان) ، في هزة عنيفة للوسط العلمي لم تكن تخطر على بال أحد، فكيف يمكن بعد ذلكاعتبار هذا النوع من "الحقيقة" العلمية قطعياً وكيف يمكن الاستدلال به في مسألةالإعجاز العلمي! علماً بأن مصطلح الجاذبية وقانونها لا يزالا يدرسان في مدراسوجامعات العالم على أنهما من حقائق العلم وذلك نظراً لسهولة استخدامهما مقارنة معالنظرية النسبية العامة.

ومن الأمثلة الأخرى التي يشاع أنها من الحقائقالعلمية الثابتة - حتى لا يكاد أحد أن يجرؤ على إنكارها - مسألة دوران الأرض حولالشمس والتي بدأ بها عصر النهضة العلمية - كما يُسمّى - على يد كوبرنيكس في عام 1543 م، فهل تمثل هذه المقولة حقيقة تصف الواقع؟ أم أنها مجرد نموذج رياضي يسهِّلالعمليات الحسابية التي نتمكن بها من رصد حركة الأجرام السماوية؟

هل تدورالأرض حول الشمس فعلاً؟

يجب أن نقرر أولاً أن مسألة دوران الأرضحول الشمس مما اتفق عليه العلماء الكونيين منذ قرون مضت غير أن هذا الاتفاق لا يعودإلى حقيقة مشاهدة أو واقع ملموس بل يرجع إلى دقة الحسابات الناشئة من افتراض أنالأرض تدور حول الشمس وليس العكس. يقول الفيزيائي المعاصر بول ديفس:"واليوم لا يشكعالم في كون الشمس مركز المجموعة الشمسية وأن الأرض هي التي تدور وليس السماء" [[6]] ، ولكنه يستدرك قائلاً أنه لن نتمكن أبداً من التأكد من صحة هذا التصور مهمابدا دقيقاً "فليس لنا أن نستبعد كلياً أن صورة أكثر دقة قد تُكتشف في المستقبل" [[7]]، والحقيقة أننا لا نحتاج أن ننتظر اكتشاف تصور آخر لحركة النظام الشمسي حتىنتمكن من القول أن النظام الحالي والذي يفترض مركزية الشمس ودوران الأرض حولها هومجرد افتراض رياضي لا يصور الحقيقة، بل إن العلم يذهب إلى أبعد من ذلك فيقول إنالسؤال عمّا إذا كان هذا التصور حقيقاً أو غير ذلك ليس بذي معنى في لغة العلم. فالحركة - والتي هي أساس المسألة التي نتحدث عنها - كمية نسبية. فإن قلت أن الأرضتتحرك فلا بد أن تنسبها إلى شيء ما حتى يصبح قولك معقولاً، فلو تصورنا كوناً فارغاًلا حدود له، ولا يوجد به سوى جرم واحد، فلن نستطيع حينئذ أن نقول أن هذا الجرم ساكنأو متحرك، إذ لا بد أن ننسبه إلى مرجع لكي نقول إنه متحرك بسرعة كذا بالنسبة إلىهذا المرجع، أو إنه ساكن بالنسبة له. ومنذ أن ألغت النسبية الخاصة فكرة الأثيروالذي كان يمثل الوسط الساكن والمطلق الذي تتحرك فيه الأجرام السماوية أصبح قولناإن الأرض تدور حول الشمس مجرد افتراض وجدنا أنه يفيدنا من الناحية العملية أكثر منالافتراض المعاكس، بل إنه حتى في زمن كوبيرنيكس نفسه "فقد دافع مناصروه عنه أمامالكنيسة بأن النموذج الذي قدمه كان مجرد تحسين رياضي مفيد لتحديد أماكن الكواكب فيالمجموعة الشمسية وليس تمثيلاً حقيقيا لواقع العالم" [[8]]. لكن الإضافة التي جاءتبها النسبية هي أنها جعلت من قضية مركزية الشمس أو مركزية الأرض مسألة اعتباريةبالضرورة، إذ إن كل شيء في هذا الكون يتحرك بالنسبة لكل شيء فيه ولا يوجد سكون مطلقأو حركة مطلقة كما أوضح ذلك الرياضي والفيلسوف الإنجليزي الشهير برتراند رسل [[9]]. وخلاصة القول كما يعبر عنه الفيلسوف الإنجليزي-الأمريكي والتر ستيس إنه "ليس منالأصوب أن تقول أن الشمس تظل ساكنة وأن الأرض تدور من حولها من أن تقول العكس. غيرأن كوبرنكس برهن على أنه من الأبسط رياضياً أن نقول أن الشمس هي المركز ... ومن ثمفلو أراد شخص في يومنا الراهن أن يكون "شاذاً" ويقول إنه لا يزال يؤمن بأن الشمستدور حول أرض ساكنة فلن يكون هناك من يستطيع أن يثبت أنه على خطأ" [[10]].

هل الأرض مركز الكون؟

ومادام الحديثمتعلقاً بحركة الأجرام السماوية فيحسن بنا أن نتناول مسألة علمية أخرى تعد مثالاًصارخاً عن تحيز الموقف "العلمي" ضد الرؤية الإيمانية، في تفسيره لنتائج التجربة. ولندع أشهر علماء الفلك النظريين في عصرنا الحاضر وأعلاهم صيتاً البرفيسور ستيفنهوكنج يحدثنا عن هذه المسألة!

بعد سرده للمشاهدات التجريبية، التي استنتجالعلماء منها أن المجرات في هذا الكون الفسيح تبتعد عنا مسرعة من جميع النواحي يشرحهوكنج [[11]] في كتابه "موجز في تاريخ الزمن" كيف أن الفيزيائي والرياضي الروسيألكسندر فريدمان قد وضع فرضيتين بسيطتين حول الكون بغرض شرح النسبية العامةلأينشتين وينصّان على:

1.
أن مظهر الكون يبدو واحداً من أي اتجاه نظرناإليه.

2.
أن هذا الأمر لا يختص بكوكبنا الأرضي بل هو صحيح أيضاً لو كنا فيأي موقع آخر في هذا الكون.

ثم يستطرد في شرح كيف أن الأدلة قد تضافرت علىتأييد الفرضية الأولى، ومن ثم أصبح من المقبول علمياً أن نعتقد صحتها، ثميقول:"وللوهلة الأولى فإن هذه الأدلة والتي تبين أن الكون يبدو متشابها بغض النظرعن الاتجاه الذي ننظر منه، قد توحي بأن هناك شيئاً خاصاً حول مكاننا من هذا الكون،والذي نعنيه بالذات أننا إذا كنا نشاهد جميع المجرات الأخرى وهي تتجه مبتعدة عنا منجميع الاتجاهات فلابد إذا أن نكون في مركز هذا الكون". لكنه يستطرد قائلاً إن هناكبديلاً آخر لهذا الاستنتاج، وهو أن الأمر سيبدو كذلك أيضاً لو كنا في أي موقع آخرفي هذا الكون، مشيراً بذلك إلى فرضية فريدمان الثانية والتي ذكرناها آنفاً. ولكنإذا كان هناك من الأدلة العلمية التجريبية ما يؤيد فرضية فريدمان الأولى، مما جعلنانتقبلها، ونتساءل بناء على قبولنا إياها: هل الأرض مركز الكون؟ فهل هناك من دليلعلمي على فرضيته الثانية؟ يجيب هوكنج قائلاً: " إننا لا نملك دليلاً علميا يؤيد أويناقض هذه الفرضية ولكننا نؤمن بها بدافع التواضع" ويعني بذلك أننا مضطرين لقبولالفرضية الثانية لأن عدم قبولها يعني أن لنا أهمية خاصة في هذا الكون تجعلنا فيمركزه مع امتداده الشاسع من جميع الاتجاهات، ولهذا السبب وحده يتجه العلماء إلىقبول فرضية فريدمان الثانية! ولا يخفى ما في هذا التفكير من تأثر بالمذهب المادي،الذي ينظر إلى الإنسان على أنه وليد الصدفة المحضة لا شيء يميزه عن غيره منالكائنات، بما في ذلك موقعه من هذا الكون العظيم. فانظر كيف يقترح المنهج العلمياستنتاجاً مباشرا، ثم انظر كيف يحيد "العلماء" عن هذا الاستنتاج - استناداً إلىفرضية لادليل عليها - لمجرد أنه يوحي بخصوصية الإنسان، وما يتبع ذلك بالطبع من وجودخالق لهذا الكون. ومن الجدير بالذكر أنه قلّما يُشار في الكتب العلمية إلى احتماليةكون الأرض مركزاً للكون، فضلاً عن أن يقال إن هذا هو الاستنتاج الطبيعي للمشاهداتالكونية، بل عادة ما تقدم النظرية الأخرى على أنها الاستنتاج العلمي المعتبر؛ لمجردأن بديلتها توحي بوجود إرادة تدبر هذا الكون، وغاية من وراء وجود الإنسان فيه.

وكل في فلك يسبحون

تبين لنا مما سبق أن قول العلم بمركزية الشمس فيالنظام الشمسي ودوران الأرض حولها هو مجرد تعبير رياضي، لا يمكن الحديث عنه على أنهيصور الواقع، حيث إن الأجرام السماوية تتحرك بالنسبة لبعضها البعض في نظام يصح لناأن نُثبِّتَ أي نقطة فيه لتكون المركز ثم نعيد حساباتنا على هذا الأساس، ويعني هذاالأمر أنه علينا إعادة كتابة علم الفلك الحديث؛ لو أردنا أن نعود مرة أخرى إلى فكرةمركزية الأرض بدلاً من الشمس، وهو الأمر الذي يجعل التفكير في ذلك مستبعداً فيالأوساط العلمية. ولكن يجدر بنا قبل مغادرة هذه الفقرة أن نشير إلى أن القرآنالكريم على كثرة إشاراته للشمس والقمر، وحركتيهما، وفائدة هاتين الحركتين للإنسان،لم يذكر صراحة كون هذين الجرمين يدوران حول الأرض أو كون الأرض تدور حول الشمس،وإنما جاء في ذلك قول الحق تعالى "وكل في فلك يسبحون"، وهو تقرير لحركة هذه الأجراموحسب، وهذا ما شاهده الناس على مرِّ العصور وقرره العلم الحديث، فانظر إلى هذهالعبارة الموجزة التي استغرقت من البشرية آلاف السنين لتستوعبها منذ عهد بطليموسوأنموذجه الذي يجعل الشمس تدور حول الأرض إلى عهد كوبيرنكس الذي قال بالعكس، ثموصولاً إلى أينشتين الذي قررت نسبيته أنه لا محل للنزاع فالمسألة مجرد اصطلاحرياضي.. وصدق الله إذ يقول "ولوكان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا". وفي مقابل "اختلاف" العلم الكثير هذا تأبى العبارة القرآنية أن تتعرض صراحة لمسألة "من يدور حول من؟"، وإنما تقرر فقط أن الجميع يسبح في فلك خاص به "لا الشمس ينبغيلها أن تدرك القمر ولا اليل سابق النهار"، ثم تترك بعد ذلك المسائل الاصطلاحية التيتتغير وتتبدل بحسب المنفعة لاجتهاد البشر، ليظهر لنا الفرق جلياً بين العبارةالقرآنية القطعية، والحقيقة العلمية الظنية.

وعموماً فإنه لا يخفى أن منمقتضيات الإيمان أن يعلم المسلم أنه ما من آية في كتاب الله تحدثت عن أمر من أمورالدنيا أو الآخرة إلا وقد استوعبت وصف هذا الأمر بأحسن عبارة وأدقها وأروعها، ممالايطيق مثله البشر، فإذا كان الأمر الذي تعرض له القرآن مما يدخل في نطاق البحثالعلمي فلا شك أن دقة العبارة القرآنية سوف تستوعب ما بلغه العلم من وصف، إذا كانذلك الوصف العلمي حقيقة ثابتة. وكيف لا والمتكلم بهذا القرآن هو الحق سبحانهوتعالى، الخبير بكل ما خفي ودق، والعليم بالسر وما هو أخفى من السر، والذي يعلم أنهسوف يأتي على الناس زمان يتحدثون فيه عن هذه الاية أو تلك وعن وجه الإعجاز فيها.

العلم مفتاح للإعجاز

ويمكننا في ضوء ما سبق أن نقول أن دور العلم فيقضية الإعجاز القرآني هو أنه ييسر شهود هذا الإعجاز، وذلك بواسطة الحقائق المشهودةوالتي ظهرت للناس في هذا الأيام بعد سلوكهم المنهج العلمي في البحث والاستدلال. وهناك فرق كبير بين أن ننسب هذه الحقائق القطعية إلى العلم فنسبغ عليه – بناء علىذلك - ثوب المرجعية ، وبين أن نقبل بهذه الحقائق كما نقبل بغيرها من المحسوساتوالموجودات، مع تقديرنا لدور العلم في الدلالة عليها. وبعبارة أخرى يمكننا القول أنالمعرفة العلمية (سواء سميت نظرية أو حقيقة أو غير ذلك) تبقى منسوبة إلى العلم إلىأن يثبت صدقها فتصبح حقيقة مشهودة مستقلة عنه وتخرج عن التصنيف العلمي إلى التصنيفالواقعي الشهودي. ومن هنا كان التراجع عن مثل هذه الحقائق غير ممكن لا لكونها علميةالمصدر بل لكونها خرجت من السمة الظنية للعلم إلى السمة القطعية للحس. ويمكنناالتمثيل لدور العلم في الوصول إلى هذا الشهود بصحيفة تورد الأخبار اليومية، يكونفيها الصحيح، والصحيح نسبياً والكاذب. فلو أن هذه الصحيفة أوردت خبراً بوقوع صدامبين قطارين في مكان ما، ثم تحققنا بأنفسنا من صدق هذا الخبر، كأن وقفنا على مكانالحادث، ورأينا القطارين الذين ورد ذكرهما في الصحيفة، فإن الخبر يصبح حقيقة مشهودةلا تقبل التراجع عنها، ولا يمكننا تصور أو قبول أن الصحيفة سوف تنشر تكذيباً للخبرفي اليوم التالي، ومصدر هذه الثقة لدينا ليس صدق العاملين في الصحيفة أو دقة تحريهمللأخبار، ولكنه شهودنا للقطارين المصطدمين في مكان الحادث. ثم إن شهودنا لهذهالحادثة وتيقننا من وقوعها لن يجعلنا نغير رأينا في أخبار الصحيفة بشكل عام من حيثكونها قابلة للتكذيب والنفي في أي وقت لاحق. وكذلك شأن العلم فإن دوره في كشف بعضالحقائق المشهودة لا ينبغي أن يجعلنا ننسب هذا الشهود له أو أن نعتقد بمطلقيةمعارفه، كما أن إسهامه في الكشف عن هذه اليقينيات لا ينبغي أن ينسينا أن هذا الكشفإنما جاء عرضاً ضمن معارف العلم الكثيرة والتي تمثل جسراً بين الإنسان والواقعيُقصد به من الاستفادة المادية من هذا الوقع – في المقام الأول- لا معرفة كنههوحقيقته. وخير شاهد على ذلك هو تحول البحث العلمي في عصرنا الراهن إلى مؤسساتمدعومة لإنجاز أغراض تطبيقية معينة، حتى يكاد يندر أن نجد مؤسسة علمية بحثية علىمستوى راقٍ لا تحصل على دعمها من شركات ربحية، أو إلى حكومات تهدف إلى إنجاز مشاريعذات صبغة تطبيقية. وهذا الأمر يعكس ما أوضحناه في أول المقال من أن دافعية العلمإنما يحدوها الاهتمام النفعي البرغماتي، وليس الاهتمام الأنطولوجي الفلسفي، ولذلكفقد نجح العلم - والذي تمثل التكنولوجيا مثالاً واضحاً له في هذا المجال - في خدمةالرغبات البشرية، بينما أخفق – في المقابل - في الإجابة عن أكثر الأسئلة أساسية فيضمير الإنسان والتي تدور حول مهمته ودوره في هذا الوجود. ومن هنا كان دور العلم فيقضية الإعجاز القرآني يتمثل في كونه مفتاحاً للوصول إلى بعض الحقائق التي يمكنالتحقق منها بالحس والمشاهدة، وبالتالي يمكن رؤية الإعجاز القرآني من خلالها.

الإعجاز العلمي: تثبيت لا إثبات

إن قضية البحث في المواءمة بينالعلم والدين - على أهميتها في هذا العصر وحاجة المسلمين إليها - تحتاج إلى كثير منالحيطة والحذر. فلا ينبغي أبداً أن نجعل من العلم حَكَماً على الدين، نستدل به علىصحة نصوصه، ونثبت به صدق رسالته. وربما كان كثير من المتحمسين لقضية الإعجاز العلميلا يدركون بأنهم بمجرد حرصهم على إثبات صدق القرآن الكريم أو السنة النبوية بواسطةالحقائق العلمية فإنهم - من حيث لا يشعرون - يضعون العلم في مرتبة أعلى منهما. ولايعني ذلك أن نتوقف عن ربط العلم بالدين والاستفادة مما توصل إليه من معارف في فهمنالنصوصه المقدسة، ولكن يجب أن يكون ذلك من باب تثبيت حقائق الإيمان في قلب المؤمن لامن باب إثباتها، وشتان بين التثبيت والإثبات. كما أن التثبيت نفسه لا يكون إلا بقدرالحاجة، فالإكثار من ربط آيات الكتاب الكريم بالعلم، واتخاذ ذلك ديدناً، ربما أورثتعلقاً بمعطيات العلم، وحجب صاحبه عن التأمل فيما وراء الظواهر العلمية من أسرارالقرآن ومكنوناته، بل يُخشى أن يقود ذلك إلى إبعاد صاحبه عن منهج التسليم بالنصالقرآني، فيستمرئ عرض كل ما أشكل عليه فهمه منه على معطيات العلم الحديث، فيفقدبذلك شيئاً من "سكينة" الإيمان بـ"الغيب" والتصديق به، ويبقى في نهم دائم إلى تأويلما لايدركه من ذلك بما يبصره في عالم "الشهادة"، وليس ذلك مما يزكي الإيمان فيشيء.

أما فيما يخص استخدام العلم في إثبات أن هذا القرآن منزل من عند الحقسبحانه وتعالى وليس من صنع البشر، فلا يكون بنسبة آية منه إلى مقررات العلم القابلةللتغيير والتبديل، بل إلى الحقائق المشهودة التي أشرنا إليها سابقاً والتي أصبحتجسماً منفصلاً عن العلم بعد أن ثبت شهودها لعامة الناس. إن مناشدة تعلق الجماهيرالمسلمة وانبهارها بالعلم ومنجزاته في محاولة لإثبات الدين أمر يضر أكثر مما ينفع،إذ إن فيه تسليم لهم بموقع العلم ومكانته - المبالغ فيها - في أذهانهم ، كما أن فيهترسيخ لهيمنة العلم على الدين وغلبته عليه. كما لا يكون إثبات أن هذا القرآن من عندالله بأخذ آية منه ثم البحث عن وجه الإعجاز فيها، إذ لن يعدم الجاحد صاحب الهوى، أوالحائر المتردد من أن يجد تأويلاً ما، أو أن يقول ربما كان ذلك من قبيل الصدفةوالاتفاق، لكن معالجة هذا الأمر إنما تأتي بسلوك ما دعا إليه القرآن الكريم في قولهتعالى " أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا".. ليظهر بذلك صدقه عند كل مريد للحق. وإن كتاباً تحدث قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام،وفي ما يزيد عن ألف فقرة (آية) منه عن أمور تتعلق بخلق الإنسان، وتَكوُّن السحاب،وحركة الرياح، وخصائص الأرض، ووظيفة الجبال، وغير ذلك من الظواهر الطبيعيةالمختلفة، إن كتاباً تحدث عن هذا كله ثم لم يصطدم في أي عبارة من عباراته مع حقائقالعلم الحديث - والذي تُعدُّ دراسة الظواهر الطبيعية من صلب وظيفته - لجدير بأن يقفأمامه المنصفون منبهرين عاجزين! فليس الأمر يتعلق بآية واحدة أو بضع آيات تشير إلىحقيقة علمية يمكن للمتأول المشكك أن ينسب إشاراتها تلك إلى الصدفة المحضة، ولكنالأمر يتعلق بهذا الكم الحاشد من الآيات التي يزيد عددها عن الألف كيف تنتقل منموضوع إلى آخر، ومن ظاهرة إلى أخرى تصف، وتشرح، وتشير، وترمز، دون أن يستطيع العلمالحديث بسلطانه الممتد، وهيلمانه الطاغي، أن يرد شيئاً من تلك الإشارات، أو أنيعترض على بعض من تلك العبارات.. وأنى للعلم أن يعترض! وخالق هذا الكون هو منزل هذاالكتاب، وصدق إذ يقول "لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدونوكفى بالله شهيدا".. ونحن ياربنا نشهد بذلك.. فاكتبنا اللهم من الشاهدين.

--------------------------------------------------------------------------------

[1] Gregory M. Derry, 1999, “What Science Is And How It Works”, Princeton University Press, New Jersey.

[2] Richard Feynman,1998, “ The Meaning Of It All”, Allen Lane The Penguin Press, London.

[3]
جون بولكين هورن، 2000م ، " ماوراء العلم : السياق الإنساني الأرحب" ، عرض د. يمنى طريف الخولي، المكتبةالأكاديمية ، القاهرة.

[4]
ماهر عبدالقادر علي، 1985، " نظرية المعرفةالعلمية"، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت.

[5]
جون بولكين هورن، 2000م ، " ما وراء العلم : السياق الإنساني الأرحب" ، عرض د. يمنى طريف الخولي،المكتبة الأكاديمية ، القاهرة.

[6]
بول ديفس وجون جريبين، 1998، " أسطورةالمادة: صورة المادة في الفيزياء الحديثة"، ترجمة علي يوسف علي، سلسلة الألف كتايالثاني (299)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.

[7]
المرجعالسابق.

[8] B. Carroll and D. Ostlie, 1996, “An Introduction To Modern Astrophysics”, Addison –Wesley, Reading. USA.

[9] Bertrand Russell, 2000, “ ABC Of Relativity: Understanding Einstein”, Orion Audio Books, London.

[10]
والتر ستيس، 1998، الدين والعقل الحديث، ترجمة إمام عبد الفتاحإمام، مكتبة مدبولي، القاهرة.

[11] Stephen Hawking, 1996, “ The Illustrated A Brief History Of Time”.
 
 
امتیاز دهی
 
 

المزيد
Guest (PortalGuest)

دفتر تبلیغات اسلامی حوزه علمیه قم (شعبه اصفهان)
Powered By : Sigma ITID