عضويت در مرسلات     
 

›أخبار

›المكتبة

›البرامج

›بطاقات بريدية

›احاديث

›منشورات وأنشطة

›ارسال المقالة

›مقالات

›الصور

›منتديات

›الأسئلة و الأجوبة

›الروابط

›مرسلات في 120 ثانية

›اتصل بنا

›موبايل

›الفائزون

›تشاور

›صوت و فيلم

›خارطة الموقع

›بيت الاطفال و الشباب

›من نحن


القائمة
اعلان
اعلان
الفلسفة و العرفان
414
الخميس, صفر 16, 1432 التصنيف السياسي الفلسفي لدى المسلمين عبد الكريم مطيع الحمداوي

تمهيــــــــــــــــــــــــــد
بدأ تدوين الفقه السياسي متأخرا جدا عن تدوين كثير منالعلوم، كالحديث والتاريخ والتفسير والفقه والأدب . وامتدت فترة التمهيد له مدةطويلة، من أواخر الخلافة الراشدة إلى عصر المأمون العباسي . كما ساهم في تكوينبنيته الفكرية كل العناصر الثقافية المحلية والوافدة جاهلية وإسلاما .
ونظرا لكون الأمة العربية كانت قبل البعثة وصدرالإسلام، شفوية الثقافة، فقد ظل التفكير السياسي لديها شفويا تتداوله الألسن شعراوحكمة وأخبارا . ولم تكن الحاجة ماسة إلى تدوينه في فجر الإسلام مثلما كانت بالنسبةللعلوم المتصلة اتصالا واضحا مباشرا بالعقيدة والعبادة . لذلك تأخر التدوين السياسيإلى أوائل القرن الهجري الثاني، حيث ظهر ضمن مصنفات أدبية وأخبارية على هيئة مواعظونصائح وأساطير مقتبسة من تجارب الإنسان وتقاليد الأمم . ومن ثم انتقل إلى مرحلةثانية هي مرحلة المصنفات المستقلة الخاصة به ؛ ولكن على غير يد الفقهاء ومن مرجعيةغير إسلامية . فقد ظهر أول المصنفات فيه ترديدا للفلسفة الإشراقية ، هندية وصينيةوبابلية وآشورية وفـارسية ويونانية . وكان ذلك على يد الفـارابي (260 - 339 هـ / 874 - 950 م ) ، المتأثر بالآراء السياسية لأفلاطون وأرسطو ؛ حيث تناول الفلسفةالسياسية في عدة مؤلفات منها : " رسالة تحصيل السعادة " ، " السياسة المدنية "، "رسالة السياسة " ، " الفصول المدنية " ، " آراء أهل المدينة الفاضلة " .
وفي منتصف القرن الهجري الرابع ـ العاشر الميلادي 373) هـ / 983 م ) ، ظهرت الكتابات السياسية لجماعة " إخوان الصفا وخلان الوفا " ،متأثرة بنفس المؤثرات . وكانت السياسة لديها تمثل علما مستقلا بذاته، له خمسة أقسام : السياسة النبوية ، والسياسة الملوكية، والسياسة العامية، والسياسة الخاصية،والسياسةالذاتية. وفي بداية القرن الهجري الخامس ـ الحادي عشر الميلادي ـ ، ظهرتالمرحلة الثالثة بأول الكتابات السياسية المستقلة عن الفكر الفلسفي، المتأثرةبالفقه والشريعة، على يد الماوردي ( 364 - 450 هـ / 975 – 1058 م ) ومن نهج نهجهونحا نحوه . ولقد سار الفقهاء والمتكلمون في هذه المرحلة ، على نهج تشريعي لماينبغي وما يجب وما يجوز وما لا يجوز في نظام الخلافة وتدبير أمر الدولة . واستوفتأبحاثهم نظم الملك والوزارة والإدارة والقضاء، والحسبة والأموال وتنظيم الجيوشوالعلاقات مع داري الحرب والمهادنة . كما بذلوا جهودا جبارة من أجل تبرير تصرفاتالملوك وإضفاء الشرعية عليها، وإرشادهم إلى ما يحفظ عروشهم ويحببهم إلى الرعية .
ثم تدهور التصنيف في هذه المرحلة إلى مستوى من الإسفافوالمداهنة الخانعة ، بأسلوب متودد يحاول حفظ ماء وجه الفقهاء ، ولا يزعج الحكام أويضايقهم، من خلال الإعراض عن ذكر الأحكام الشرعية الخاصة بتصرفات الخليفة،والاقتصار على تقديم النصائح ذات الطابع الأخلاقي والتعليمي التي من شأنها أن تحفظالعروش أطول مدة ممكنة، والتذكير بوصايا من تراث الأمم ، ومأثورات الطرائفوالأساطير ومختارات الشعر والنثر والحكم والأمثال، وآيات القرآن الكريم والأحاديثالنبوية ما صح منها وما لم يصح ، مثلما هو حال كتاب " سير الملوك " لنظام الملك ( 408 - 485 هـ / 1018 – 1092 م ) ، و"سلوان المطاع في عدوان الأتباع " لمحمد بن ظفرالصقلي المكي ( 497 - 565هـ / 1104 - 1169 م )، و"النهج المسلوك " لابن نصر الشيزري)ت 589 هـ( .
ثم بعد ذلك ظل التصنيف السياسي لدى المسلمين متأرجحابين هذه المراحل، لا يغادرها ولا يتطور لما هو خير منها ، إلى عصر النهضة الحديثةالتي حاول استنهاض الهمم فيها كل من الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده ومن جاء بعدهم . ولكن محاولاتهم ظلت حبيسة ازدواجية عقيمة ، تتخذ مرجعية في فقه الماوردي من جهة ،وتحاول تطويرا بالديموقراطية الغربية من جهة أخرى ؛ لذلك لم تثمر تأصيلا حقيقيالنظام حكم إسلامي متميز في الكتاب والسنة .
ولئن كان من الصواب البدء بدراسة التصنيف الفلسفي نظرالأسبقية ظهوره ؛ فإن بعضا من الإسلاميين قد لا يوافق على إقحام الآراء السياسيةلفلاسفة المسلمين الأوائل في هذه الدراسة ، لأسباب عقدية تتعلق بتصورهم الإيماني،أو مبررات أصولية لها علاقة بطرق استنباطهم التي لا تمت إلى منهجية الاستنباطالشرعي بصلة، أو مسوغات فقهية خاصة بمرجعيتهم غير الإسلامية استنادا واستدلالا . إلا أن ذلك لا ينفي وجوب التزام الموضوعية في دراسة نظم الحكم عند المسلمين بكلاتجاهاتهم، وكشف مختلف المؤثرات والعوامل التي ساهمت في تكوين فكرهم السياسي ؛ كيتتضح رؤيتنا لمسار الدولة الإسلامية نظرا وتطبيقا على مدار التاريخ ، ولأوضاعناالمعاصرة بكل مساربها ومتاهاتها ، ونقائصها ونواقضها، وذبذباتها المتأرجحة بينعوامل الداخل والخارج، الأصيل والدخيل، سلبا وإيجابا .
ولنتبين مدى قرب الفكر السياسي الحديث لدى المسلمين أوابتعاده من التشريع الإسلامي في الكتاب والسنة ، ونستبين أوجه الانحراف وسبلالتقويم، إذ التعلم باكتشاف الخطأ أبلغ في النفس وأشد تأثيرا . ولا ريب أن منهجناالذي نلتزم به ونسير على هديه ، مرتكز على قاعدة أساسية متينة ، هي أن النظامالسياسي الإسلامي ما كان منبثقا من مرجعية الكتاب والسنة ، عقيدة وأصولا وفروعا . وما عدا ذلك يُحتمل أن يكون متأثرا بالإسلام أو ملتقيا به في بعض جزئياته أوكلياته؛ إلا أنه لا يمثل النظام السياسي الإسلامي الحق تمثيلا صادقا. ذلك لأن بوصلةالتوجه إلى أي هدف هي التصور الإيماني السليم الواضح . وكل غبش يشاغب على هذاالتصور ينعكس سلبا على التصرفات، عقلية كانت أو سلوكية . وهذا يفرض علينا ألا نغفلملاحظة اهتزاز عقيدة هؤلاء الفلاسفة، واضطراب مرجعيتهم الفكرية ؛ وإن التقت في بعضجزئياتها بالعقيدة الإسلامية ، التقاءً عفويا بسبب انتمائهم إلى المجتمع الإسلاميوثقافته ، أو التقاء إراديا بقصد التمويه على انحرافهم الديني باعتناقهم آراء وثنيةلفلاسفة من الفرس والهند واليونان، في نظرتهم إلى عالمي الغيب والشهود ، وبدعوتهمإلى نظم للحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية منبثقة عنها .
ولعلنا لا نحيد عن الصواب إن ركزنا في بحثنا هذا علىالمرجعية الفكرية والفلسفية والدينية التي اتخذها هؤلاء الفلاسفة مستندا ومتكأ . ثمعلى تصورهم السياسي المنبثق من عقيدتهم وموقفهم الإيماني؛ وأعرضنا مطلقا عما رُموابه من قبل العامة والخاصة ، من انتماء باطني أو صابئي أو أصول يهودية ، مما لايُدفع عنهم بشغب سوفسطائي يثيره أنصار لهم ، لأهواء مشتركة أو جذور متقاربة أونزعات طاغية . علما بأن فكرهم السياسي لم يتبلور قط إلى مستوى صياغة نظام للحكممتكامل ، بمنهجه ونظمه للإدارة والمال والتدبير العام؛ وإنما كان مبثوثا في كتبهمالفلسفية التي التزموا فيها بالنهج الأفلاطوني شكلا ومضمونا، فوردت أفكارهم ضمنرسائل حول قضايا الغيب والشهود، والمادة والروح والطبيعة وما وراءها، والاجتماعالبشري والسعادة والشقاوة؛ مثلما هو حال رسائل إخوان الصفا والفارابي، وما صنفه ابنسينا في القضاء والقدر والفيض الإلهي والمبدأ والمعاد والأخلاق والحكمة . أماالتصنيف السياسي المباشر فقد ظهرت أولى بواكيره على شكل رسائل مستقلة تبحث موضوع " السياسة " بمفهومها الذي هو حسن التدبير والحكمة في التسيير ، وكان من أول مؤلفيهاتحت عنوان " رسالة في السياسة " كل من الفارابي وأبو القاسم المغربي وابن سينا .
ولئن اختلفت بعض مضامين هذه الرسائل التي تطابقتعناوينها فإنها اتفقت كلها في ثلاث هن :
1 ـ أن السياسة حاجة ملحة لكل البشر رفيعهم ووضيعهم ،ولكن الملوك ثم أعوانهم أشد حاجة إليها . 2 ـ لم يعتمدوا في تصانيفهم على الكتابوالسنة مرجعا أو استشهادا . 3 ـ كانت منطلقاتهم الفكرية والفلسفية معتمدة اعتمادامطلقا على الفكر اليوناني .
ثم بعد ذلك أخذت تظهر مصنفات فلسفية موجهة للملوك فقط، ترشدهم إلى ما ينبغي عمله وإقامته في سياستهم ، مثل كتاب " سلوك المالك في تدبيرالممالك " لابن أبي الربيع .
المرجعية الفكرية لدى فلاسفةالمسلمين
يذهب البعض إلى أن الفلسفة اليونانية عند أفلاطونوسقراط وأرسطوطاليس وغيرهم هي الأساس الذي بُني عليه تفكير فلاسفة المفكرينالمسلمين الأوائل . إلا أن في هذه الدعوى تجاوزا كبيرا للحقيقة ؛ لأن الفلسفةاليونانية نفسها ليست إلا امتدادا وخلاصة للأوهام الميتافيزيقية التي كانت منبتالأديان القارة الآسيوية؛ وذلك ما نُقل إلى الثقافة العربية في صدر دولة بني العباسوكان مرجعا لأول حركة فلسفية في الإسلام .
إن الإنسان عندما نسي المنهج الرباني الذي أنزل مع آدمعليه السلام، وفقد الصلة بالله ، وارتكس في حمأة الجاهلية والبدائية، ملأت الهواجسوالأوهام قلبه وعقله واستبد به الخوف من الظواهر الطبيعية برقا ورعدا وخسفا وزلازلوعواصف، وأخذ به الرعب والرهبة من الموت والمصير والمجهول كل مأخذ ، فأقبل على نفسهينسج لها استجلابا للطمأنينة ، خيالات وتصورات وأساطير وخرافات ، عما لا يفهمه ومايرجوه أو ما يرهبه ويخافه . فتراكم بذلك لدى البشرية على مر السنين ، تراث ضخم منالمعتقدات الضالة المضطربة، التي اتخذت فيما بعد مادة للتفكير والاستقراء، والبحثعن الذات أصلا ومآلا، وعن الكون والطبيعة ماضيا واستقبالا . ثم تحول هذا التراث إلىقاعدة للفكر الديني الوضعي المفضي إلى عبادة الأوثان والطواطم والنجوم والكواكب ،واتخاذها آلهة وأربابا . ثم بعد ذلك اتُخذت هذه المعتقدات الدينية منطلقا ومادةللتفكير الفلسفي الآسيوي الذي نُقل إلى اليونان وتطور فيه . وظل مجردا من أهمأداتين للفهم هما : المعرفة المادية الصحيحة لحقائق الطبيعة بسبب التخلف العلميآنئذ ، والمعرفة الغيبية اليقينية التي لا مصدر لها إلا الوحي . ولعل الأسطورة التيرواها أفلاطون عن منشأ الفكر السياسي في محاورة "بروتاجوراس" ، تقدم لنا خير مثالعلى ما نذهب إليه من أن الفكر البشري عامة والسياسي خاصة منبثق من الخرافةوالأساطير والأوهام.
لقد زعم أفلاطون أن الآلهة عندما شكلوا المخلوقاتالفانية، أخذوا يوزعون عليها صفاتها الخاصة بها والمحتاجة إليها، فكان من المخلوقاتما سلحوها بوسائل الدفاع، ومنها ما تركوها عزلاء وزودوها بأساليب للمحافظة علىالبقاء . ولكنهم اكتشفوا في نهاية الأمر أنهم وزعوا جميع الصفات والقدرات علىالحيوانات، ونسوا الإنسان الذي تُرك عاري الجسم لا يملك مأوى ولا أسلحة للدفاع . فعمد "برومثيوس" إلى سرقة الفنون الآلية والنار مع طريقة استخدامهما ـ وهما خاصتانبالآلهة ـ ، من معبد أثينا، وسلمهما للإنسان . وكان ذلك سبب حصوله على قسط منالصفات الإلهية التي علمته الحكمة .
على هذه الأسس نشأ الفكر الفلسفي وتطور ، مادة بحثهخيالات البشر وأساطير الخرافة وأوهام سدنة الأوثان وعبادها ؛ مفتقدا أهم وسائلالاستقراء والدراسة والفهم عاجزا عن تحقيق هدفه في كشف حقيقة الكون وطرق السعادة . إن هذه المعتقدات هي المنشأ الأول والمبدأ الأساس لكل فلسفات البشر الوضعية في ماقبل اليونان:
ـ في بلاد ما بين النهرين، آشور وبابل ومعتقداتهماالخاصة بعبادة الشمس والنور، وأبناء الطبقة الحاكمة الذين هم " أبناءالشمس ".
ـ وفي الصين حيث الكونفوشيوسية ، وعقيدة إحياء وميضالأنوار في الإنسان عن طريق المعرفة ، والإنسان الكامل الذي هو الملك أو النبي أوالقائد ، الذي يجمع في ذاته سائر القوى المادية والروحانية، وعلى قدر كماله تكونسعادة عصره، وهو بمثابة الإمام عند الباطنية أو القطب عند الصوفية .
ـ وفي الهند لدى البراهمة، وعقيدة اتصال النفس بالمبدأالروحاني " براهمان "، الذي يحل في جميع مظاهر الوجود . وعقيدة شرائع " مينو " التيتقسم الناس إلى أربع طبقات :
طبقة البراهمة، رجال الدين والنخبة السياسية، الذينخلقوا حسب زعمهم من رأس الإله، وهم أعلى الناس وخلاصة الجنس البشري . وطبقة الجند ،حماة البلاد الذين خلقوا من منكبي "براهما " ويديه، ويحق لهم بعد البراهمة قراءةالكتب المقدسة . وطبقة التجار والزراع المكلفة بالإنتاج والنشاط الاقتصادي والفلاحي، وخلقوا من ركبتي " براهما " . وطبقة الخدم والأسرى المخلوقين من قدمي " براهما "،وليس لهم إلا خدمة الطبقات التي فوقهم .
ـ وفي بلاد فارس حيث ظهرت الهرمسية والزرادشتيةوالصابئة والكلدانيون عبدة النجوم، ممن يؤمن بفناء الجسد وخلود النفس في النعيم أوالشقاء ، وبالقائد البشري الكامل الذي يعرف حقيقة الوجود .
ـ وفي الفكر المصري الفرعوني ومدرسة الإسكندرية التيالتقت فيها تيارات أوروبا وآسيا وإفريقيا، ونشأت بها طقوس نظمت مفهوم الألوهيةوعلاقتها بالبشر، ووضعت قواعد الثواب والعقاب، وأنشأت عقيدة ثنائية التركيب البشريوخلود النفس، وأبوة الشمس والنجوم لبعض النخب السياسية . هذه المعتقدات الهلاميةوالتصورات الضالة هي التي ورثها اليونان وظهرت فيما كان لديهم من علوم وفنون وآدابوفلسفة . ظهرت لدى الفيتاغوريين عقيدة تؤمن بثنائية التركيب البشري ، وضرورة تطهيرالنفس بالعلوم الطبيعية والعملية كالموسيقى والرياضيات وما وراء الطبيعة ، كي تتمكنمن الصعود إلى عالم الأفلاك، حيث سعادتها الأبدية واتحادها بواجب الوجود . ولدىالأفلوطينيين في عقيدة الآلهة المتعددة من النجوم والكواكب التي ترى وتسمع وتدبرالكون، وعقيدة المعرفة الحدسية التي يختص بها قادة الشعوب أنبياء وملوكا وفلاسفة،والمعرفة العقلية الجدلية التي هي الطريق العادي لاكتساب العلوم.
على هدي هذه المعتقدات الدينية المتفلسفة والتصوراتالمضطربة الوثنية ، سار الفكر السياسي وعلى أركانها تأسس :
من مفاهيم الدولة والعدل والحياة السعيدة لدىالبابليين والفراعنة والصينيين والهنود، إلى ما طوره من نفس المفاهيم كل من اليونانوالرومان ، إلى ما نقل إلى اللغة العربية في القرنين الهجريين ، الثالث والرابع ؛وعمل فلاسفة المسلمين على إعادة صياغته في صباغ إسلامي لم يستطع أن يخفي أصلهالوثني . ومن أفكار كونفوشيوس في" التعليم الأكبر" و"عقيدة الوسط"و" الأغاني" حولفساد الحكم ، ومهام الحكومة وواجبها في توفير حاجات الناس أمنا وطعاما، وشروطالكفاءة في الحاكم وممارساته السياسية والتدبيرية ؛ إلى تصورات الحكماء السبعة فيأثينا لنظام الدولة وتشريعاتها الخاصة بقواعد الإدارة وأساليب تحقيق السعادة؛ إلىنظريات فيتاغورس في العدالة والمساواة، وما يرى الأبيقوريون من وجوب الخضوع للدولةولو كانت استبدادية ما دامت تحقق الأمن والنظام ، وما ذهب إليه أفلاطون في مدينتهالفاضلة التي اتخذت مظهرا خياليا قوامه اعتبار السلطة عملا معجزا لا يستطيع القيامبه إلا أفراد ملهمون ، لهم على بني جنسهم تميز خاص يصلهم بالعقل الفعال ويجعلهمقادرين على تحقيق السعادة لشعوبهم .
إلى ما تطور إليه الفكر السياسي الأرسطي باستحداثهفكرة الدولة الدستورية، التي تبنى علاقات شعبها بالحاكم على أساس الحرية والمساواةوالمواطنة المشتركة بين أحرار ؛ مما جعل الدولة مجرد اتحاد أفراد في مجتمع واحد تحتحاكمية القانون الذي حل محل الملك أو الفيلسوف أو النبي . وما سار عليه الفكرالسياسي الروماني الذي ميّز بين الدولة والفرد ، وجعل لكل منهما حقوقا وواجبات،وبلور فكرة سيادة الدولة ونظرية العقد الحكومي ، ونظرية القانون الطبيعي التي وضعها " شيشرون " على أساس أن للكون خالقا واحدا ، وأن للدولة قانونا واحدا يجب أن يطبقعلى الجميع . إلى ما عربه المسلمون في دار الحكمة التي أسسها المأمون العباسي،وجعلوه أساسا لفكرهم السياسي والفلسفي .
إلا أن مما يثير الاستغراب أن العرب لم يقتبسوا من هذاالتراث السياسي الذي عكفوا على تعريبه، إلا ما تعلق منه بالاتجاه الاستبدادي ؛ وهوالفكر الأفلاطوني الخاص بالقائد الملهم ، المتصل بالعقل الفعال المحتكر للمعرفة ،القادر وحده على إسعاد الشعب . أما النظرية الأرسطية الخاصة بفكرة الدستور ، الذييضمن العدالة والمساواة والمواطنة الحرة المشتركة ، ويلغي حاكمية الفرد لصالححاكمية القانون ، وما ورد في الفكر الروماني عن نظرية العقد الحكومي وسيادة القانونوحقوق الدولة والفرد وواجباتهما ، فإن النقل العربي قد أهمله وأغفله، ولم نجد لهأثرا في فكرهم وتراثهم . ولعل ذلك راجع إلى أسباب سياسية متعلقة بكون حركة التعريبوالترجمة ، تمت على يد المؤسسة الرسمية الحاكمة وبإشرافها . وكانت هذه المؤسسة ذاتنمط في الحكم فردي استبدادي، لا يوافق على نقل التراث الأرسطي والروماني أو نشرهوالتبشير به.
هذه خلاصة المرجعية الفكرية والسياسية التي نُقلت إلىاللغة العربية ، وصادفت ظروفا بيئية مناسبة للغراس فنمت وأثمرت . ولقد التقى العربالمسلمون قبل هذه الفترة بهذه المعتقدات الدينية والفلسفية عدة مرات فاستعلوا عليهاولم تؤثر فيهم . التقوا بها وهم رسل للنبوة الخاتمة بدعوة الحق لدى ملوك الفرسوالروم والقبط، يملأ قلوبهم نور العقيدة واستعلاء الإيمان ، والحرص الصادق الأمينعلى إخراج الناس من عبادة العباد إلى رحابة عبادة رب العباد ، فاحتقروا تلكالمعتقدات وترفعوا حتى عن اعتبارها فكرا أو فلسفة أو مجرد عقل سوي .
ثم التقوا بها بعد أن استعصى أهلها على الرشد، مجاهدينوغزاة وفاتحين ، فحطموا الأوثان ونشروا رسالة التوحيد والإيمان . والتقوا بها مرةأخرى حين وقع الانقلاب على الخلافة الراشدة ، وتحول أمر المسلمين إلى الاستبداد ،وفر الصادقون من الأمة مضطهدين ومهاجرين شرقا وغربا؛ فنشروا دين الحق وقوضوا أركانالشرك والكفر . ثم لما كان عهد بني العباس ذو النـزعة الأعجمية فرسا وتركا، وانفرطعقد الوحدة العقدية بتمزق الأمة مللا ونحلا ومذاهب، وضعف الالتزام بالدين بينالحاكمين والمحكومين ، وتمكن العسف والاضطهاد والاستبداد من رقاب العباد؛ أُرسلتعاصفة المترجمات الفلسفية اليونانية والسريانية والقبطية والفارسية ، فتلقفتهاالنخبة المقربة من أصحاب النفوذ، وأصبحت الرطانة بمصطلحات اليونان والإغريق ميزةالصفوة وبدعة ذوي المقامات .
وإذ أخذ الفقهاء والعلماء الصادقون يضجون من موجةالانحراف هذه، ويوضحون خطرها على الأمة وعظا وكتابة وحوارا وجدلا، أُثيرت للتغطيةوالتمويه وصرف الأنظار ، معركة كلامية حول ما دُعي علاقة بين العقل والنقل، تقديماوتأخيرا ، حاكما ومحكوما . وبذلك أسبغت على الصراع بين الإسلام وبين الوثنياتالفلسفية صفة الجدل العلمي الرصين ، على رغم ما في ذلك من خلط وتلبيس وتدليس . ذلكأن هذه التيارات التي زعمت أنها تحكم العقل في النص ليس لها ما يؤيد دعواها ؛ لأنالعقل السليم المجرد السوي، المتحرر من الخرافة والأوهام، المدجج بالمعارف الماديةالصحيحة والتصورات الغيبية اليقينية ذات المصدر الرباني، ليس له إلا أن يسخر من هذهالفلسفات ذات الجذور الخرافية الأسطورية . إن هذه التيارات التي تزعم تحكيم العقلفي النص ، لم تحكم في واقع الأمر إلا عقلا وثنيا مضللا، لأقوام عبدوا الأصناموالكواكب والنجوم والأشباح، واتخذوا لعباداتهم هذه أرضية من أوهام سموها فلسفة . وإذْ صارت هذه التصورات الفاسدة هي المتحكمة في النص فلا بد من الضلال .
التصـور السيـاســــيلنظــــــــام الحكـم لــــدى فلاسفة المسلمين
التصور الإيماني والموقف من قضايا الغيب والألوهيةوالربوبية هو أساس الأفكار والتصرفات لدى الإنسان ؛ لذلك فالنظرية السياسية لفلاسفةالمسلمين منبثقة من تصورهم لهذه القضايا وموقفهم منها . ولئن كان التوحيد الإسلاميالحق ينبني على ثلاث قواعد هي : توحيد الربوبية ، وتوحيد الألوهية ، وتوحيد الأسماءوالصفات ؛ فإن نظرية هؤلاء الفلاسفة لا تنبني على أي قاعدة من هذه القواعد . فهميسمون الله تعالى " واجب الوجود " ، ويتصورون علاقته بالكون والخلق على غيرحقيقتها؛ ولا أصل في الإسلام لهذا الإسم ولا لهذا التصور . وعقيدتهم التي انبثقمنها فكرهم السياسي هي ما ابتدعه فلاسفة اليونان وأطلقوا عليه مصطلح "الفيض" . فماهي هذه العقيدة ؟ وما جذورها ؟ وكيف انبثق منها تصورهم السياسي ؟
ينبغي أولا أن نبين أن مصطلح "الفيض " هذا ، لا يخفيخلفه أي معنى معقد أو فكرة راقية أو تصور مثير؛ فالفيض لغة من "فاض" ، ويدل علىجريان شيء سائل بسهولة ويسر ، ومنه : فاض الإناء بعد أن امتلأ ، وفاض الدمع منالعين إذا خرج ، وفاضت الروح من الجسد : إذا غادرته ، وفاض السر من صدر المرء : إذاعجز عن كتمه، فباح به.
والفيض عند الفلاسفة يعنون به أن الله تعالى ـ واجبالوجود كما يسمونه ـ لا يخلق الموجودات ، ولكنها تفيض عنه وتنبثق منه بدون إرادته ،أي تصدر منه وتتولد عنه بطريق الفيض بدون وعي منه أو إرادة . وهذا الفيض أو الصدورأو الخروج ، في عقيدتهم ، دائم وضروري وواجب . وكما تخرج الشجرة الثمرة ليس لها إلاذلك والدجاجة البيض ليس لها إلا ذلك ، كذلك يصدر الوجود عن الله ـ تعالى الله عنذلك علوا كبيرا ـ . تُنسب هذه العقيدة إلى أفلوطين (205 - 270 م ) ؛ ولكنها فيأصلها مزيج وتلفيق لهلوسات أفلوطين وفيلون والمعتقدات الوثنية والمجوسية . وعندهمأن الموجود الأول ـ الذي يعنون به الله تعالى ـ واحد، ولذلك لا يفيض عنه إلا واحدهو العقل الكلي، أو العقل الأول، أو العقل الفعال ، تختلف التسميات والمقصود واحد . ومن هذا العقل الكلي تفيض النفس الكلية، وعن النفس الكلية تفيض الأشياء المادية . وكلما فاض شيء من شيء تعلق الفائض بمصدره وامتلأ منه نورا . فالعقل تعلق بالموجودالأول وتلقى منه النور، والنفس تعلقت بالعقل وتلقت منه النور، والموجودات الماديةكذلك تعلقت بالنفس . والإنسان الذي يتلقى الفلسفة، يتحول إلى عقل متصل بالموجودالأول، يتلقى منه النور والحقيقة، ولذلك له حق التحكم فيمن سواه من البشر ؛ لأنه هوالوحيد الذي يستطيع أن يبلغهم إلى السعادة، وهو الملْهَمُ القادر، نبيا كان أوفيلسوفا أو ملكا .
ولئن كانت هذه المعتقدات قد ظهرت لدى الكندي بصورةخافتة، بأن جعل الحركة مفعولة لله، ولكنها تخضع مباشرة للفلك الأقصى الحيّ العاقلالمميز الفاعل، الذي هو أول فائض عن واجب الوجود ومنفعل به ، وهو نائبه في تحريكالكون وتسييره ؛ فإن هذه التصورات الضالة قد ظهرت بعد ذلك بصورة صارخة لدى الفارابيوابن سينا ومن سار على نهجهما . يرى الفارابي أن العقل الأول صدر عن الله فيضاواجبا لا دخل للإرادة والوعي فيه ؛ ومن هذا العقل الأول صدر عقل ثان وفلك أعلى،واستمر الفيض والصدور على هذه الوتيرة ، من كل عقل عقلٌ وفلك إلى تتمة عشرة عقول،آخرها العقل الفعال الذي فاضت عنه النفس ، ومن النفس فاضت المادة بعناصرها الأربعة، النار والهواء والماء والتراب . فبالفيض في نظره صدرت الموجودات تباعا عن واجبالوجود حتما ولزوما ، دون تعقل منه أو إرادة، إلى أن ظهر الإنسان . وكل فائض يتلقىالنور والسعادة بالتعلق بمصدره والشوق إليه . كذلك الإنسان سعادته القصوى أن يشتاقإلى مصدره الأول " الموجود الأول " ، ويتلقى منه النور ويتحد به . وطريقه إلى ذلكالسعي إلى الكمال وتحصيل الخيرات والفضائل؛ وهذا سبيل السعادة التي لا يمكن الوصولإليها إلا بالفضائل النظريةوالفضائل الفكرية والفضائل الخلقية والصناعات العملية .
وبما أن كل موجود ـ في عقيدتهم ـ تكوَّن ليبلغ كمالهالأقصى الذي له أن يبلغه بحسب رتبته في الوجود ، فإن سعادة الإنسان القصوى هيالاتحاد بالموجود الأول . إلا أن هذه الرتبة ليست لأي إنسان، فالفضائل العظمى نظريةكانت أو فكرية أو خلقية أو عملية تُجعل فيمن أُعِدَّ لها بطبيعته . ومَنْ أُعد لهابالطبع، وبأعلى الدرجات هو القادر على إيجادها في الأمم والمدن . والملوك تبعا لذلكليسوا ملوكا بالإرادة فحسب؛ ولكنهم ملوك بالطبيعة أيضا لأنهم خُلقوا ملوكا . ولاينقص من قدرهم أنهم يصلون إلى الحكم أو لا يصلون . والملك أو الفيلسوف أو النبي أوالإمام عند الفارابي هو الوحيد القادر على تأديب الأمم وتعليمها، مثلما هو حال ربالمنـزل في تأديبه أهل بيته، أو القيِّم على الصبيان والأحداث . والنبي واضعالنواميس والملك والفيلسوف والإمام والرئيس الأول عندالـفارابي بمعنى واحد يدل علىالاقتدار والتسلط المطلق على من تحت يده . واقتداره ليس بقوة خارجة عنه فقط، بل بمايكون في ذاته من عظم المقدرة . كل هذه الألفاظ تعني الشخص الذي اجتمعت فيه صفاتالقدرة المطلقة لصلته بالعقل الفعال ، سواء انتفع به غيره أم لم ينتفع ؛ إذ ليس عدمالانتفاع به من قِبل ذاته ، ولكن من جهة مَنْ لا يصغي إليه . وسواء وُجد مَن يقبلمنه أو لم يوجد فهو دائما الفيلسوف والنبي والملك والرئيس الأول والإمام . وكما أنالطبيب طبيب بمهنته وقدرته على علاج المرضى وجد مرضى أم لم يجد، وجد آلة يستعملهافي فعله أم لم يجد، كان ذا يسار أو فقر، إذ ليس يزيل طبه ألا يكون له شيء من ذلك . كذلك لا يزيل إمامة الإمام والفيلسوف والملك والنبي ألا تكون له آلات يستعملها فيأفعاله ، ولا ناس يستخدمهم في بلوغ هدفه . وأهل المدينة الفاضلة الذين يؤدبهم الملكطبقتان خاصة وعامة، والخاصة هم الذين لهم رئاسة ما، مدنية أو صناعية، يرصدون بهالرئاسة ما مدنية . ولا يقتصرون في معلوماتهم على ما يوجبه بادي الرأي المشترك . أماالعامة فمن ليس hلهم رئاسة ما، مدنية أو صناعية ، يرشحون بها لرئاسة ما مدنية؛ويقتصرون في علمهم على ما يوجبه بادي الرأي المشترك . هكذا وظف الفارابي الفلسفةاليونانية سياسيا ليبشر بفكرة الإمام الغائب المنتظر، أو الإمـام الموجود الذي لايستمع له الناس ولا يقبلون منه ، أو الإمـام المتمكن المستبد الذي يفعل ما يشاء ولهالعصمة من الخطأ، لأنه على اتصال بالموجود الأول. وما ذهب إليه ابن سينا يكاد يكوننفس ما لدى الفارابي، ولا غرابة في ذلك فمرجع الرجلين واحد، هو كتاب " أتولوجيا " المقتبس من " تاسوعات" أفلوطين التي جمعها الإسكندر الأفروديسي. وذلك لأن عقيدةالفيض عند ابن سينا تستند إلى ثلاثة مبادئ هي :
1 - القول بأن الوجود ينقسم إلى واجب بذاته هو اللهتعالى ، وإلى ممكن ، أي واجب بغيره هو العالم .
2 - الزعم بأن الواحد من حيث هو واحد لا يصدر عنه إلاواحد ، والله واحد فيجب ألا يصدر عنه إلا واحد ـ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ـ .
3 - الزعم بأن تعقل الموجود الأول هو علة للوجود علىما يعقله؛ فإذا عقل شيئا وُجد ذلك الشيء على الصورة التي عقله بها .
ثم سار ابن سينا بعد ذلك على نهج رواد الفلسفةالإشراقية ، بالتشريع والتنظير لنظم الاستبداد السياسي في شخص الرئيس الأول ، الذيهو الفيلسوف والنبي والملك والإمام الذي يحتكر المعرفة ، ويفعل في شعبه ما يشاء ،ويختص بالاتصال بالله تعالى . ثم تدثرت هذه المعتقدات لديه من أجل تقريبها إلىالعامة ، بفكرة الإمام المعصوم أو الغائب المنتظر . نفس المسار العقدي والفكريتقريبا سارت عليه جماعة "إخوان الصفا وخلان الوفا" ؛ ومحور فكرهم السياسي أن العقلخليفة الله الباطن ورئيس الفضلاء . والإمام عندهم هو وحده المتصل بالفلك الأقصى أوالعقل الفعال أو واجب الوجود، وهو صورة الصور وخليفة الله الظاهر في الأرض،والمتحكم في الجن والإنس والحيوان والنبات والمعادن والخيرات ، وهو المعصوم منالخطأ ، كلامه وحي وأعماله سنة ، وله أن يفسر النصوص قرءاناً وسنةً ؛ فيخصص عامهاويقيد مطلقها ويؤول معانيها وينسخ بعض أحكامها، ويضيف إلى شريعتها . كما أن منمعتقداتهم الباطنية التي لا يبوحون بها لغيرهم أن الإمام بمنزلة العقل الفعال أوالموجود الأول، في حالة عدم وجود الناطق الذي هو النبي، لأنه يحل محله في رتبته . وفي حالة وجود النبي يحمل الإمام عندهم مرتبة النفس الزكية؛ وهو لديهم في عالمالدين والصنعة النبوية الرئيس الروحي الأعلى ، ووجوده ضروري في كل زمان، ليكون حجةالله في أرضه والضامن لعباده التسرمد والخلود .
هكذا نشأت في صدر الدولة العباسية فكرة الحكم المطلقلدى فلاسفة المسلمين كافة ؛ ولئن كان الحكم الفردي المطلق قائما قبل ذلك منذ سقوطالخلافة الراشدة؛ فإنهم قد سبقوا إلى تبريره فكريا وفلسفيا والتشريع له عقدياودينيا . وكانوا يستطيعون أن يلتزموا الموضوعية والتوازن فلا يكتفوا بعرض آراءمدرسة الاستبداد الأفلاطوني ، بل يعرضون بجانبها آراء المدرستين الأرسطية الدستوريةوالرومانية القانونية . ولو فعلوا لكسروا على الأقل الحلقة المفرغة التي حاصرتالمسلمين بين نظامين استبداديين، نظام الملكية الوراثية الجبرية عند أهل السنة ،ونظام الإمامة الاستبدادية الوراثية عند الشيعة والباطنية؛ ولاقتربوا بذلك شيئا ما، من المفهوم الإسلامي للحكم الذي يرى أن المجتمع مجموعة أفراد أحرار متساوين فيالحقوق والواجبات ، تحكمهم شريعة واضحة في الكتاب والسنة ، بمنهج شوروي عام شامل ،يتيح لهم التسلط على أمرهم كله، قرارا وتنفيذا ومراقبة ومحاسبة .
من هذا العرض المختصر، يمكن أن نوجز التصور السياسيالعقدي، للرعيل الأول من فلاسفة المسلمين عامة، في سبعة أسس قام عليها هي :
1 - استنادهم إلى نظرية الفيض وهي كفر صريح .
2 - الفلك الأقصى حيّ عاقل مميز، يسير الموجوداتويحركها نيابة عن الله، وهذا أيضا تصور لا علاقة له بالإسلام .
3 - الحاكم والفيلسوف والملك والنبي والإمام والرئيسالأول ألفاظ مترادفة، تعني الاتصال المباشر بواجب الوجود، والعصمة التامة، والقدرةالمطلقة على إصلاح الخلائق الذين هم مجرد أدوات لأفعالهم . وهذا التصور أيضا بعيدكل البعد عن العقيدة الإسلامية .
4 - الحاكم والفيلسوف والملك والنبي والإمام، يستمدالنور من العقل الفعال الذي يستمد بدوره النور من الموجود الأول، ولذلك لا يصدر منهإلا الحسن . وهذا أساس الفكر السياسي لدى المعتزلة، ورئيسهم إبراهيم بن سيار النظامصاحب نظرية "الأصلح" ، بمعنى أن الله تعالى لا يفعل إلا الصلاح وليس له إلا ذلك،لأنه لا يستطيع إلا فعل الخير، فهو جواد كريم كالنبع الذي لا يصدر عنه جفاف، والشمسالتي لا يصدر عنها ظلام ، وفعل الخير واجب عليه . وهذه النظرية بلا شك تعبير مراوغعن نظرية "الفيض" الوثنية .
5 - الحاكم أو الفيلسوف أو الملك أو النبي أو الإمام،لا يلتزم بالفضائل لأنها أوامر إلهية نزل بها الوحي قرءانا وسنة، ولكن لأنه مجبولعلى ذلك بالفطرة بسبب اتصاله بمصدر النور ، فهو المعصوم ومرتبته فوق الخاصة والعامة .
6 - السعادة القصوى في الدنيا هي بلوغ كل فرد قمةكماله المـؤهـل لـه بالفطرة، إنْ ملكا أو خاصة أو عامة . أما الحياة الأخروية فقدجحدها كل هؤلاء الفلاسفة؛ إذ أنكروا المعاد الجسماني والبعث، وأولوا ما ورد فيالشرع من نصوص حول اليوم الآخر والبعث والنشور والعرض والحساب والثواب والعقابوالجنة والنار، بأنه مجرد تمثيل بالمحسوسات لتقريب المعاني إلى أذهان العامة؛ وأنالتسليم بالمعاد الجسماني وحياة الآخرة مجرد وسيلة للمحافظة على الأخلاق .
7 - البشر ثلاث طبقات، الأرفعون والخاصة والأوضعون،ولكل طبقة سماتها وفطرتها ودورها . وهم تبعا لذلك ثلاثة أصناف، حكام وأدوات حكمومحكومون. وجذور هذه العقيدة تجد تربتها لدى البراهمة . هذه زبدة التصور السياسيالفلسفي، وهو كما يتضح بجلاء يتعارض تعارضا مطلقا مع التصور الإسلامي، عقيدة وسلوكاونظام حكم واجتماع.
ولئن حاولوا التمويه على هذا التعارض بتأويل بعضالنصوص الإسلامية تأويلا يخدم هدفهم، وتأويل بعض الآراء اليونانية الوثنية بما يجعلبينها وبين الإسلام شبهة علاقة ووشيجة، فإن مثل هذه المحاولات البائسة ليست بجديدةفي هذا الميدان . لقد سبقهم إليها فيلون الإسكندري (ت 50 م )، فحاول تأويل الشريعةالموسوية بما يقربها من المعتقدات اليونانية ؛ ومن الكنيسة المسيحية حاول ذلكأوريجنس (ت 254 م)، والراهب أوغستينوس (ت430 م)، ثم تداولها بعد ذلك من المسلمين،الكندي (185-250 هـ / 801 - 871 م) الذي رأى في رسائله، أن صدق المعارف الدينيةيُعرف بالمقاييس العقلية معرفة لا ينكرها إلا جاهل؛ ثم تبعه في ذلك من تلاه ممن سارعلى نهجه .
 
 
 
امتیاز دهی
 
 

المزيد
Guest (PortalGuest)

دفتر تبلیغات اسلامی حوزه علمیه قم (شعبه اصفهان)
Powered By : Sigma ITID