عضويت در مرسلات     
 

›أخبار

›المكتبة

›البرامج

›بطاقات بريدية

›احاديث

›منشورات وأنشطة

›ارسال المقالة

›مقالات

›الصور

›منتديات

›الأسئلة و الأجوبة

›الروابط

›مرسلات في 120 ثانية

›اتصل بنا

›موبايل

›الفائزون

›تشاور

›صوت و فيلم

›خارطة الموقع

›بيت الاطفال و الشباب

›من نحن


القائمة
اعلان
اعلان
الفلسفة و العرفان
uio78i
الخميس, صفر 16, 1432 الموقع الفكري لابن رشد بين الغرب والإسلام محمد عمارة

                                          

كان ابن رشد -أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد -(520-594ﻫ/1126-1198م)- فيلسوفا حكيما، ومتكلما مسلما، وقاضيا للقضاة، وطبيبا مرموقا، وأدبيا ولغويا، ابدع في ميادين هذه الفنون والعلوم آثارا خالدة تشهد على "التخصص العميق" مع "الموسوعة" التي أحاطت بكل هذه الميادين.
فله في علم الكلام مناهج الأدلة في عقائد الملة، وفي المنهج فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، وفي الفقه بداية المجتهد ونهاية المقتصد، وفي اللغة والأدب والنحو تلخيص كتاب الشعر والضروري في النحو و كلام على الكلمة والاسم المشتق. وله في الطب أكثر من عشرين كتابا أشهرها كتاب الكليات. أما في الفلسفة التي صارت أشهر ميادين إبداعه، فله من الشروح والتآليف ما يزيد عن تسعين كتابا.
وإذا كانت الشهرة بالفلسفة قد غلبت على ابن رشد، فإن مرجع ذلك لم يكن فقط إمامته لهذا الفن في عصره، وإنما لغلبة ملكة التفلسف عليه في كل فن أو علم كتب فيه، فهو قد فلسف علم الكلام الإسلامي، فارتفع ببراهينه عن جدل المتكلمين الذي غلب على الاحتجاج فيه، وفلسف علم الفقه عندما جعل كتابه "بداية المجتهد" موسوعة في فلسفة اختلاف الفقهاء فيما اختلفوا فيه. وكذلك كان "فصل المقال" و "تهافت التهافت" كتابين في فلسفة المنهج، وحكمة الاختلاف بين الفلاسفة والمتكلمين.
تلك حقائق لا يختلف فيها العارفون بأبي الوليد. وإذا كان "ابن الأبار" (595-658ﻫ/1199–1260م) قد أجاد في تصوير مكانة ابن رشد بين علماء عصره، وفي سياق العالم الإسلامي والعالمي، عندما تحدث عنه فقال: "كانت الدراية أغلب عليه من الرواية، درس الفقه والأصول وعلم الكلام وغير ذلك. ولم ينشأ بالأندلس مثله كمالا وعلما وفضلا. كان، على شرفه، أشد الناس تواضعا وأخفضهم جناحا. عني بالعلم من صغره إلى كبره، حتى حكي عنه أنه لم يدع النظر ولا القراءة منذ عقل إلا ليلة وفاة أبيه وليلة بنائه على أهله، وأنه سوّد في ما صنف وقيد وألف واختصر، نحوا من عشرة آلاف ورقة. ومال إلى علوم الأوائل، فكانت له فيها الإمامة دون أهل عصره. وكان يفزع إلى فتواه في الطب كما يفزع إلى فتواه في الفقه، مع الحظ الوافر من الإعراب والآداب، حتى حكى عنه أبو القاسم بن الطيلسان أنه كان يحفظ شِعرَي حبيب والمتنبي ويكثر التمثيل بهما في مجلسه، ويورد ذلك أحسن إيراد"1، إذا كان أبن الأبار قد أجاد في وصفه هذا، فإن أهمية هذا الوصف تتعدى تصوير "الموسوعة المتخصصة" لابن رشد، إلى الإشارة إلى كماله العلمي، وفضله الخلقي، والتواضع الذي زان شرف مكانته الاجتماعية والعلمية، فجعله جامعا إلى العلم، العدالة الجامعة التي اشترطها الإسلام وحضارته في العلماء قبل الأمراء!.
فابن رشد، الذي كانت حياته الفكرية تجسيدا للصراع الفكري بين تيارات الفلاسفة وفرق المتكلمين، هو الذي يضع ضوابط العدالة لهذا الصراع فيقول: "إن العالم، بما هو عالم، إنما قصده طلب الحق، لا إيقاع الشكوك وتحيُّز العقول"2... وهو الداعي إلى أن تكون حياة العالم تجسيدا لفكره، وذلك حتى يجد فكره طريقا ممهدة إلى القلوب والعقول. وفي هذا يقول ابن رشد": فإنما تكون الأقاويل اتي يُحَثُ بها على السنن مقنعة إذا كان المشيرون بها ذوي صلاح وحسن فعل، حتى تكون هذه الأشياء المذكورة هاهنا معلومة لنا وموجودة فينا، فإنه إذا وجد فيها الخلق الذي نحث عليه كان قولنا في الحث عليه أشد إقناعاً."
أما العدالة الجامعة بين إنصاف "الآخرين" والاعتصام بالحق الذي نؤمن به بوصفنا مسلمين، فإن ابن رشد يحدد مناهجها فيقول: " فقد يجب علينا، إن ألفينا لمن تقدم من الأمم السالفة نظرا في الموجودات، واعتباراً لها بحسب ما اقتضته شرائط البرهان، أن ننظر في الذي قالوه من ذلك، وماأثبتوه في كتبهم، فما كان غير موافق للحق قبلناه منهم، وسررنا به، وشكرناهم عليه. وما كان منهم غير موافق للحق، نبهنا عليه، وحذرنا منه وعذرناهم" . وإذا كانت الأرض ممهدة لدارسي ابن رشد الفيسلوف، أو ابن رشد الفقيه، أو ابن رشد الطبيب، فإنها ليست كذلك بالنسبة لدارسيه مفكراً، أي لدارسي موقعه الفكري بين تيارات الفكر ومذاهب النظر والخيارات المطروحة على الأمم في التقدم والنهوض ...ففي هذا الميدان احتدم الخلاف حول موقع ابن رشد، منذ عصره، وحتى كتابة هذه الصفحات .
ولم يكن "سوء الظن" أو الاختلاف في موقع ابن رشد من مذاهب النظر وألوان الفكر ومذاهب التقدم نابعا من غموض في منهاج فيلسوفنا، أو نقص في وضوح فكره، بقدر ما كان نابعاﹰمن "الهوى" حينا، ومن النظرة الجزئية وحيدة الجانب إلى قطاع من فكره معزول عن بقية القطاعات، في أغلب الأحيان. والذين رأوه شارحا لأرسطو (384–322ق.م) قد حمَّلوه أحمال فيلسوف اليونان، والذين رأوه ناقدا لفرق المتكلمين الإسلاميين حَمَلوه على الفلسفة بالمعنى اليوناني، وعلى "لعقلانية" التي لا "نقل" فيها، فخلت هذه النظرات الجزئية لقطاعات مبتورة من أعمال أبي الوليد من المنهاج الذي حدده الرجل للناظرين في مذاهب النظر وتيارات الفكر، وهو المنهاج الذي لم يبتدعه، وإنما استخلصه من معيار النظر الإسلامي الذي هو: عرض "الحكمة" التي هي "الإصابة في غير النبوة" – أي الصواب الذي يصل إليه لعقل البشري، يصرف لنظر عن دين صاحبه واتجاه مذهبه– على "الحكمة" التي نـزل بها الكتاب العزيز، أي الإصابة التي جاءت بها الرسالة السماوية الخاتمة. فما اتفقا فيه –أي العقل والنقل– كان هو الحكمة بإطلاق، لأنهما هدايتان من الخالق الواحد – الذي أنـزل الكتاب والحكمة– لهداية خليفته الإنسان .
فإذا كان الرسول ، صلى الله عليه وسلم، قد بعث إلى الناس ليعلمهم الكتاب والحكمة ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (البقرة:129)، وإذا كانت "الحكمة" –كما عرفها الحديث النبوي– هي " الإصابة في غير النبوة" ، فإن النظر العقلي فريضة إلهية، والإصابة العقلية التي يثمرها هذا النظر ضرورة دعت إليها آيات الوحي والتنـزيل، ليتزامل الكتاب والحكمة في هداية الإنسان. فالحكمة عند ابن رشد، هي النظر في الأشياء بحسب ما تقتضيه طبيعة البرهان ، والبرهان هو "النظر بالعقل في الموجودات" ، وإن هذا النظر في الموجودات بالعقل هو السبيل الإسلامي لمعرفة الصانع الواحد لهذه الموجودات-وفي ذلك جوهر الدين وأولى فرائضه – لأن ذلك هو سبيل "الاعتبار في الموجودات، ودلالة الصنعة فيها، فإن من لا يعرف الصنعة لا يعرف الصانع."
ولذلك جاء الكتاب بإيجاب هذه الحكمة–النظر العقلي والبرهاني في الموجودات– فلقد "أوجبه الشرع: ﴿فَاعْتِبُروا يَا أُولي الأَبْصَار﴾ ( الحشر: 2)، ﴿أَوَ لَمْ يَنْظُروُا في مَلَكُوتِ السَّمَواتِ وَ الأَرضِ وما خَلقَ اللهُ مِنْ شَيِء﴾ ( الأعراف: 185)، ﴿أفَلا يَنْظُرُونَ إِلى الإِبْلِ كيَفَ خُلِقَتْ، وً إلى السَّماءِ كْيفَ رُفِعَتْ﴾ (الغاشية: 17-18)، ﴿ويَتَكَّرُوَنَ فِي خَلْقِ السَّمَواتِ و الأرْضَِ﴾ (آل عمران: 191).
فالنظر العقلي والفحص في الموجودات بالبرهان "حكمة إسلامية" أوجبها الشرع، لأنها هي طريق الوصول إلى جوهر الدين والتدين– معرفة الذات الإلهية. ومن هنا تأتي علاقة المؤاخاة بين هذه الحكمة والشريعة في المنهاج الإسلامي، الذي صاغه ابن رشد، ويأتي ضبطه الذي يميز إسلامية الحكمة، إذا هي التزمت العدالة الإسلامية في النظر، والفضيلة والخلق الإسلاميين في صناعة البرهان. "فمن كان أهلا للنظر جمع"، حسب ابن رشد، بين أمرين:
أحدهما: ذكاء الفطرة.
والثاني: العدالة الشرعية ، والفضيلة العلمية والخلقية.
لكن مع كل هذا الوضوح والتحديد في المنهاج الرشدي للنظر العقلي – الذي بلور فيه منهاج الإسلام – في جعل الحكمة العقلية فريضة إلهية، والأخت الرضيعة للشريعة السماوية – وهو المنهاج الذي شهدت إبداعاته الفكرية لدقة تطبيقه له وشدة إلتزامه به – قد اختلف الناس في الموقع الفكري لابن رشد اختلافا شديدا... فوقف به بعضهم عند "ذكاء الفطرة" دون العدالة الشرعية، عندما رأوا في "حكمته" الفلسفة التي لا تلتزم بالشريعة، ولا تعرض "إصابة العقل " على "إصابة النبوة"… بل اشتط بعضهم فرآه داعية لإقامة الفلسفة – اللاإسلامية – على أنقاض الدين؟‍.
ففرح انطوان ( 1874 – 1922 هـ) _ وهو علماني ماروني يقول: " إن فلسفة ابن رشد عبارة عن مذهب مادي قاعدته العلم" . والقس يوحنا قمر يقول: "إن ابن رشد هو أبعد فلاسفة العرب، بعد المعري، عن الإسلام." ومراد وهبة – وهو ماركسي من أقباط مصر وأستاذ للفلسفة الغربية – يقول: " إن ابن رشد يخضع الدين للعقل…وداعية لفصل الدين عن الدولة… ومؤسس للتنوير الغربي والعلمانية الغربية" . وسبب هذه الأحكام ، مع افتراض حسن النية وسلامة الطوية، هو أن هؤلاء الباحثين قد انطلقوا في الحكم على ابن رشد من دراستهم لتيار"الرشديين اللاتين"، الذي صارع الكنيسة الكاثوليكية في أوربة إبان بدايات النهضة الأوربية - وهو تيار كان له إسهام ملحوظ في التأسيس للتنوير والعلمانية – فحسبوا مقالات "الرشديين اللاتين" على فيلسوف قرطبة المسلم، غير ناظرين إلى الدراسات الجادة الكثيرة التي قومت فلسفة ابن رشد، وحددت موقعه الفكري انطلاقا من إبداعاته الفكرية وإضافاته وانتقاداته المبثوثة في شروحه على أرسطو وفي ضوء مقارنة هذه الإبداعات بمقولات "الرشديين اللاتين"، وهي الدراسات الني جعلت أرنست رينان 1823- 1892 م – وهو أبرز دارسي ابن رشد بين فلاسفة الغرب المحدثين – يقول: "إن القدر قد جرى بأن يكون ابن رشد ذريعة لانطلاق أشد الأحقاد اختلافا، وأشد ضروب الصراع العقلي عنفا، كما جرى بأن يكون اسمه علما يخفق على تلك الآراء التي لم يفكر فيها مطلقاﹰ على وجه التأكيد" .
وجعلت آسين بلاثيوس (1871–1944) – وهو من أبرز المستشرقين الغربيين، وأخبرهم بتراث الإسلام وأعدلهم أحكاماً – يقول: " إن من الواجب أن نشير إلى تلك الفكرة الوهيمة التي كان جميع المؤرخين ضحية لها، وهي أنهم وجدوا جماعة من المدرسين الذين يطلق عليهم في العصور الوسطى وفي عصر النهضة اسم "الرشديين"، فإنهم لا يترددون أن يلقوا على رأس ابن رشد كل النظريات التي تميز هذه الجماعة" . كما جعلت الإمام محمد عبده ( 1295- 1323 هـ / 1849 – 1905م) – وهو من أفقه الناس بإبداعات ابن رشد- يقول، في ختام نقده لآراء فرح انطوان وبعد عرض فلسفي لمذهب ابن رشد: "فهل بعد هذا يعد الفيلسوف مادياً، ومذهبه مذهبا ماديا قاعدته العلم؟‍ ‍‍‍‍ لا ، بل إلهي، ومذهبه مذهب إلهي قاعدته العلم، قائل بخلود النفس، وسعادتها وشقائها وعذابها ونعيمها" .
لقد أرادت النهضة الغربية الحديثة، بالوضعية والعلمانية وعقلانية التنوير اللادينية، إقامة قطيعة معرفية مع اللاهوت النصراني، وحذف "جملته المعترضة" من سياق تطورها الحضاري، لتأسيس نهضتها الحديثة على التراث الإغريقي، فقدمت ، لذلك، نظرية الحقيقتين:
أ. الحقيقة العقلية العلمية الوضعية التي تؤسسة عليها النهضة.
ب.والحقيقة الدينية التي لا تخضع لمناهج العلم، ولا ترقى إلى مستوى الحقيقة العلمية .
ولقد نسبوا القول بالحقيقتين إلى ابن رشد ... وسمى فريق من رواد هذه الدعوة أنفسهم "بالرشديين". ولقد كانوا، في الحقيقة، منطلقين من الأرسطية – كما رأوها في شروح ابن رشد لأرسطو – وليس من الرشدية التي قدمها ابن رشد إبداعه الخاص. ومن هنا جاءت جناية النظرة الجزئية، وحيدة الجانب، لهؤلاء الذين لم يروا من ابن رشد سوى الشروح على أعمال فيلسوف اليونان ...
وإذا كان فرح انطوان –وهو طليعة العرب الذين نقلوا هذه النظرة المغلوطة إلى اللغة العربية– إنما صنع ذلك وهو يؤسس –مع مجموعة المثقفين الموارنة الذين سعوا– تحت مظلة السلطة الاستعمارية في بلادنا – إلى إحلال النموذج الغربي في النهضة والتقدم – أي النموذج الوضعي العلماني – محل النموذج الإسلامي الجامع، بشمولية منهاجه، بين الدين وسائر ميادين العمران الدنيوي، إذا كان فرح انطوان في فعله ذاك قد سعى إلى الاحتماء بفيلسوف مسلم، وهو يقدم الخيار الحضاري اللاإسلامي إلى الأمة المسلمة، فإن خلفاء فرح انطوان قد تجاوزوا "وضعيتة المنطقية" التي جاورت بين "الدين" و "العلم"، مع الفصل بينهما إلى "الوضعية المادية" التي تتجاوز الدين فتخضعه للعلم والعقل إخضاع إلغاء، وليس وقوفا عند الفحص والنظر والفقه .
إن هؤلاء الخلفاء يصنعون اليوم – في مواجهة تعاظم ظاهرة الإحياء الإسلامي – الصنيع ذاته مع ابن رشد ... صنيع الاستدعاء القسري لفيلسوف قرطبة لجعله "الساتر" الذي يتحصنون به، وهم يحاولون إقامة قطيعة معرفية مع الإسلام، وذلك بإحلال التنوير الغربي الوضعي والعلمانية الغربية اللادينية محل الوحي والغيب والشريعة، عزلا للسماء عن الأرض، وإحلالاً "للدين الطبيعي" محل الدين السماوي، واستبدالا عاما كاملا للمطلق بالنسبي، وللعقل بالنقل، وللسيادة الشرعية بالسلطة البشرية، حسبانا منهم أن هذه الثنائيات في الإسلام، كما هي في الفكر الغربي، من "المتقابلات... المتناقضات".
ولقد سلكوا إلى ذلك ابواب عدة: في مقدمتها، ومن أهمها، باب التزييف لمذهب ابن رشد في التأويل، حتى لقد صوروا دعوتهم إلى إحياء فلسفة ابن رشد: دعوة إلى تبني الخيار الغربي العلماني في التقدم والنهوض، دون مواربة أو تأويل!‌‍... الأمر الذي جعلنا نختار – في الحديث عن ابن رشد المفكر – تحديد موقعه الفكري بين خياري النهضة: الغربي والإسلامي، وتحرير مذهبه في التأويل، تبيانا لحقيقة مكانه من مذاهب الحكمة وتيارات الإصلاح...
الدعوى
يقول أصحاب هذه الدعوى – الجديدة القديمة – التي تربط ابن رشد بمقولات "الرشديين اللاتين" وبتأسيس التنوير الغربي والعلمانية الغربية، إن الاتهامات التي أصدرها أسقف باريس، في مارس 1277م، حَرَّمت ثلاث عشرة قضية فكرية للرشديين اللاتين، منها:
1. إنكارهم علم الله للجزئيات الحادثة .
2. إنكار العناية الإلهية فيما يخص الأفعال الإنسانية .
3. قولهم بقدم العالم.
4. تقديم الفلسفة على الشريعة.
5. إنكارهم الخوارق والمعجزات .
6. قولهم بحقيقتين، فلسفية ودينية، مختلفتين وصادقتين معا.
يقولون إن هذه القضايا هي أفكار ومقولات رشدية، وإن أهمّها نظرية "الحقيقة المزدوجة" التي مفادها: إمكان صدق نتيجتين متناقضتين في آن واحد، أي إحداهما صادقة في مجال العقل والفلسفة، والأخرى صادقة في مجال الإيمان الديني. وإن فلسفة ابن رشد هذه قد أفرزت تيارا رشديا في أوروبة أسهم في الإصلاح الديني وفي التنوير" . بل لقد تجاوزوا هذه الحدود لهذه الدعوى– التي سبقهم إليها فرح انطوان – إلى ادعاء أن ابن رشد "قد اخضع الدين للعقل بالتأويل ". وهو إدعاء يفضي إلى أن ابن رشد قد تجاوز الحقيقة الدينية وألغاها عندما اعتمد – بالتأويل – حقيقة واحدة، هي الحقيقة العقلية، ورأوا أنهم قد اكتشفوا ما لم يكتشفه فرح انطوان. فلقد "اتجه فرح انطوان إلى ضرورة الفصل بين العلم والدين، وحجته في ذلك أن العلم يوضع في دائرة العقل لأن، قواعده مبنية على المشاهدة والتجربة؛ أما الدين فيوضع في دائرة القلب، لأن قواعده مبنية على التسليم بما ورد في الكتب من غير فحص في أصولها. ومعنى ذلك أن لكل منهما دائرة يتحرك فيها بحرية كما يشاء دون أن يكون أحدهما تابعاً للآخر".
ويضيف الدكتور مراد وهبه – متجاوزاً دعوى فرح انطوان – فيقول: "وفي رأيي إن هذا الاتجاه مخالف لما يذهب إليه ابن رشد، إذ إن ابن رشد يخضع الدين للعقل بفضل ما لدى العقل من قدرة على التأويل من أجل الكشف عن المعنى الباطن للنص الديني الذي يتفق ومقتضيات العقل. واعتقد أن هذا المفهوم عن التأويل لابن رشد هو الذي أصبح مقبولا في أوروبا ، بل أصبح أساسا لما يسمى بـ "الهرمنيوطيقا"، أي علم التأويل" .
ونحن لن نقف – مكتفين – في رد دعوى تأسيس ابن رشد لعلم التأويل بمعناه الوضعي الغربي الذي يعني تجاوز الدين وإخضاعه للعقل، لن نقف عند تناقض هذه الدعوى مع ما قاله صاحبها من أن التأويل الغربي قديم قدم الفلسفة اليونانية." فالهرمنيوطيقا Hermeneutics لها علاقة بهرمسHermes والهرمنيوطيقا واحد من مؤلفات أرسطو – عن الهرمنيوطيقا – Peri Hemeneius- " . وإنما سنعمد إلى الإبداع الفكري لابن رشد عارضين مقولات "الرشديين اللاتين" على هذا الإبداع، لنرى إن كان هناك أيُّ نسب حقيقي لهذه المقولات مع فكر أبي الوليد. ولنتبين حقيقة الموقع الفكري لفيلسوف قرطبة من مذاهب النظر وتيارات الفكر ومذاهب الأمم في التقدم والنهوض.
العلم الإلهي بالجزئيات
لقد كان إنكار "الرشديين اللاتين" علم الله، سبحانه وتعالى، للجزئيات الحادثة، هو فهمهم لمقتضى التصور الأرسطي لنطاق فعل الذات الإلهية. فالله، في ذلك التصور، قد خلق العالم وحركة، ثم أصبح لا يدري من أمر تدبيره شيئا. فهو كصانع الساعة الذي انتهت علاقته بها بعد صنعه إياها، ومن ثم فهو لا يعلم ما يحدث في هذا العالم من جزئيات. وليس هكذا التصور الإسلامي لنطاق فعل الذات الإلهية وتدبيرها ورعايتها لكل الموجودات. فالله ليس مجرد خالق للعالم، وإنما هو أيضاً مدبر الكون المادي والاجتماع البشري. والقرآن يقدم هذا التصور: ﴿أَلا لًهُ الْخَلْقُ وَالأمْر، تَبَارَكَ الله ربّث الْعَالَمين﴾ (الأعراف: 54)، ﴿قالَ فَمَنْ رَّبُكُمَا يَا مُوسَى، قَالَ رَبُّنَا الذّي أَعطضى كَلُّّ شَيْء خَلْقَهُ ثثمَّ هَدَى﴾ (طه: 49-50)، في مقابل التصور الوثني الجاهلي – المماثل للتصور الأرسطي: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَواتِ والأرََْ وَ سَخّضرً الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ الله﴾ ( العنكبوت: 63)، وهو التصور الذي جعلهم يرجعون بما وراء الخلق من التدبير والعلم بالجزئيات الحادثة إلى الطواغيت والأوثان : الخلق لله، والتدبير لغير الله ( فَقَاُلوا هَذَا لله بِزَعْمِهِمْ وهَذَا لِشُرِكَائِنا) ( الأنعا: 136) ولقد كان فكر ابن رشد في هذه القضية إسلاميا خالصا: فالله، سبحانه وتعالى، عنده عالم الجزئيات ، كما هو عالم بالكليات لكن هذا العلم الإلهي مفارق لعلمنا الإنساني، لأن علمنا الإنساني صادر عن الموجودات – ومسبّب عنها – ومتغير بتغيرها، ومعلول لها، بينما العلم الإلهي سبب في وجود هذه الموجودات فالمغايرة ليست بين الكلي والجزئي في العلم الإلهي، وإنما بين كل العلم الإلهي وعلم الإنسان.
وفي هذا يقول أبو الوليد: "إن علمنا معلول للمعلوم به، فهو مُحْدَث بحدوثه، ومتغير بتغييره، وعلم الله سبحانه، بالوجود على مقابل هذا، فإنه علة للمعلوم الذي هو الموجود، فمن شبه العلمين أحدهما بالآخر فقد جعل ذوات المتقابلات وخواصها واحدة، وذلك غاية الجهل . وكيف يُتَوهَّم على المشائين أن يقولوا إنه، سبحانه، لا يعلم بالعلم القديم الجزئيات، وهم يرون أن الرؤيا الصادقة تتضمن الإنذارات بالجزئيات الحادثة في الزمان المستقبل، وأن ذلك العلم المنذر يحصل للإنسان في النوم من قبل العلم الأزلي المدبر للكل، والمستولي عليه" . فالعلم القديم إنما يتعلق بالموجودات على صفة غير الصفة التي يتعلق بها العلم المحدث، لأنه غير متعلق أصلا .
إذا كانت التصورات الأرسطية والوثنية – وكذلك التصور النصراني – لنطاق فعل الذات الإلهية، الذي تراه مجرد خالق للعالم، غير مدبر له، فتدع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، هي المنطلقات التي اعتمدها التصور العلماني، الذي يحرر العالم من حاكميه الشريعة الإلهية، فإن قطع ابن رشد بأن "الله، تبارك وتعالى، هو الفاعل للكل، وموجده، والحافظ له، وهو المدبر للكل، والمستولي عليه . كل ذلك يجعله على النقيض من التصور العلماني لنطاق فعل الذات الإلهية وتدبيرها. ومن ثم ينفي علاقة فكره بتأسيس العلمانية الغربية، كما ينفي علاقة هذا الفكر الرشدي بمقالة الرشديين اللاتين في نفي العلم الإلهي بالجزئيات.
علاقة العناية الإلهية بالأفعال الإنسانية
وإذا كان "الرشديون اللاتين" قد أسسوا تنويرا وضعيا وماديا يقف بالإنسان عند حدود هذا العالم، منكرا العناية الإلهية فيما يخص تدبير الإنسان وأفعاله الإنسانية، فإن ابن رشد الذي رفض أدلة المتكلمين – التي استدلوا بها على وجود الذات الإلهية– قد حصر هذه الأدلة في دليلين اثنين:
أولهما: دليل العناية الإلهية بالإنسان، وخلق جميع الموجودات من أجل العناية به.
ثانيهما: اختراع الله، سبحانه وتعالى، جوهر الأشياء والموجودات.
وقد قال عن هذين الدليلين– "العناية" و "الاختراع"-: "إنه إذا استقرئ الكتاب العزيز، وجدت الطريقة الشرعية– التي نبه الكتاب العزيز عليها، واعتمدتها الصحابة– للإقرار بوجود البارئ سبحانه، تنحصر في جنسين:
أحدهما: طريق الوقوف على العناية بالإنسان، وخلق جميع الموجودات من أجله، ولنسم هذه: دليل العناية.
والطريقة الثانية: ما يظهر من اختراع الأشياء والموجودات، مثل اختراع الحياة في الجماد والإداركات الحسية ولنسم هذه: دليل الاختراع."
وفي علاقة العناية الإلهية، والتقدير والقضاء الإلهيين بالأفعال الإنسانية، لا يدع ابن رشد مجالا لأي شبه لمذهبه الإسلامي بالمذاهب الوضعية للتنوير الغربي، فهو يقطع بأن الإرادة الإنسانية، في الفعل والترك، إنما يتدخل في إيجادها وفي تحديد نطاق فعلها العوامل والظروف والأسباب والملابسات التي خلقها الله خارج الإنسان ومن حوله، بل وفي داخله، مما لا دخل للإنسان الفاعل فيه. "فالإرادة والفعل الإنسانيان محكومان بخلق الله وعنايته وقضائه وقدره". فالله، تبارك وتعالى، قد خلق لنا قوى نقدر بها أن نكتسب أشياء هي أضداد. لكن لما كان الاكتساب لتلك الأشياء ليس يتم لنا إلا بمواتاه الأسباب التي سخرها الله لنا من خارج وزوال العوائق عنها، كانت الأفعال المنسوبة إلينا تتم بالأمرين جميعا: بإرادتنا، وموافقة الأسباب التي من خارجها، و هي المعبر عنها بقدر الله. وهذه الأسباب التي سخرها الله من خارج ليست هي متممة للأفعال التي نروم فعلها أو عائقة عنها فقط، بل هي السبب في أن نريد أحد المتقابلين. فإن الإرادة إنما هي شوق يحدث لنا عن تخيل ما، أو تصديق بشيء وهذا التصديق ليس هو لاختيارنا، بل هو شيء يعرض لنا من الأمور التي من خارج. ولما كانت الأسباب التي من خارج تجري على نظام محدود، وترتيب منضود، لا يخل في ذلك بحسب ما قدرها بارئها عليه، وكانت إرادتنا وأفعالنا لا تتم، ولا توجد بالجملة، إلا بموافقة الأسباب التي من خارج، فواجب أن تكون أفعالنا تجري على نظام محدود، أعني أنها توجد في أوقات محدودة، ومقدار محدود، وإنما كان ذلك واجبا لأن أفعالنا تكون مُسَبّبَةعن تلك الأسباب التي من خارج، وكل مُسَّبب يكون عن أسباب محدودة مقدرة فهو، ضرورة، محدود مقدر. وليس يُلغْى هذا الارتباط بين أفعالنا والأسباب التي من خارج فقط ، بل وبينها وبين الأسباب التي خلقها الله تعالى في داخل أبداننا. والنظام المحدود الذي في الأسباب الداخلة و الخارجة، أعني التي لا تخل هو القضاء والقدر الذي كتبه الله تعالى على عباده، وهو اللوح المحفوظ .
هكذا جعل ابن رشد العناية الإلهية محيطة بالإنسان، ترعاه، وتدبره، وتسهم في تحديد فعله وتركه، بل وتسهم في صنع إرادة الفعل والترك لدى الإنسان. فأين، من هذا المذهب الرشدي و "الرشدية الإسلامية"، إنكار "العناية الإلهية" عند "الرشديين اللاتين"‍! وفي ضوء هذا الربط الرشدي بين الأفعال الإنسانية الإرادية والعناية الإلهية، نرى مذهب ابن رشد في السببية. فعلى حين اجتمعت مذاهب التنوير الغربي على "اكتفاء الطبيعة بذاتها"، واستغنائها –في إفراز المسببات– بالأسباب الذاتية، الموجودة في ظواهرها وقواها، عن أية أسباب فوق الطبيعة ووراءها، نجد لابن رشد، في السببية، مذهبا إسلامياً، يرد كل الأسباب الطبيعية إلى مُسبب الأسباب وموجدها، الله سبحانه وتعالى. فهو ينبه، في تقرير العلاقة بين الأسباب والمسببات، على أن رفع هذه العلاقة – علاقة السببية- وإنكارها يوقعنا في مذهب "الصدفة" و "المادية"،فيقول: ؛إنه متى رفعنا الأسباب والمسببات لم يكن هنا شيء يُردُّ به على القائلين بالاتفاق، أعني الذين يقولون: لا صانع ههنا، وإنما جميع ما حدث في هذا العالم إنما هو عن الأسباب المادية . فالقول بعلاقة الأسباب بالمسببات –في رأي ابن رشد– لازم لكل مؤمن بوجود فاعل وموجد للوجود، وهذا نقيض المذاهب المادية. ولكن قيام علاقة السببية بين الأسباب والمسببات لا يعني، عند ابن رشد، إنكار الفعل الإلهي، المسبب لجميع الأسباب، والقائم عليها وفوقها. وبهذا يجمع ابن رشد بين فعل الأسباب وسلطان خالقها عليها – ومن ثم على المسّببات – وهو ما غفل عنه الباطينة وبعض المتكلمين.
وفي صياغة هذا المذهب – الذي ينهي الخلاف المفتعل حول السببية في الفكر الإسلامي– يقول ابن رشد: "وإنما الذي قاد المتكلمين من الأشعرية إلى هذا القول (نفي علاقة الضرورة بين الأسباب والمسببات) الهروب من القول بفعل الطبيعة التي ركبها الله في الموجودات التي ههنا، كما ركب فيها النفوس وغير ذلك من الأسباب المؤثرة. فهربوا من القول بالأسباب لئلا يدخل عليهم القول بأن ههنا أسبابا فاعلة غير الله".
ثم يقدم ابن رشد الحل لهذا الذي أشكل على بعض المتكلمين، فيقول: "وهيهات ، لا فاعل ههنا إلا الله، إذ كان مخترع الأسباب، وكونها أسبابا مؤثرة هو بإذنه وحفظه لوجودها. وأيضاً، فإنهم خافوا أن يدخل عليم من القول بالأسباب الطبيعية أن يكون العالم صادرا عن سبب طبيعي. ولو علموا أن الطبيعة مصنوعة، وأنه لا شيء أدل على الصانع من وجود موجود بهذه الصفة في الإحكام، لعلموا أن القائل بنفي الطبيعة قد أسقط جزءاً عظيما من موجودات الاستدلال على وجود الصانع العالم، بجحده جزءاً من موجودات الله، وذلك أن من جحد جنسا من المخلوقات الموجودات فقد جحد فعلا من أفعال الخالق سبحانه، ويقرب هذا جحد صفة من صفاته. إن من جحد كون الأسباب مؤثرة بإذن الله في مُسبباتها، فإنه قد أبطل الحكمة وأبطل العلم، وذلك أن العلم هو معرفة الأشياء بأسبابها، والحكمة هي المعرفة بالأسباب الغائبة، والقول بإنكار الأسباب جملة هو قول غريب جدا عن طباع الناس" .
وبهذا المذهب في العناية الإلهية وفي السببية – التي وضعها في إطار العناية الإلهية – يقف ابن رشد على النقيض من مذهب "الرشديين اللاتين"، الذين أنكروا العناية الإلهية لأفعال الإنسان، كما يقف على الضد من فلسفة التنوير الغربي- المادية والوضعية – التي قررت "اكتفاء الطبيعة بذاتها" نافية التأثير فيها والتدبير لها من فوقها وورائها.
قدم العالم
أما دعوى قدم العالم، التي قال بها "الرشديون اللاتين" – ومن بعدهم كل المدارس الوضعية والمادية في فلسفة التنوير الغربي –،فإن ابن رشد يقدم فيها مذهبا يخرجها من هذا الاستقطاب الذي قام إزاءها بين الفلاسفة القدماء من ناحية والمتكلمين الإسلاميين من ناحية ثانية ، فيقول: "وأما مسألة قدم العالم وحدوثه، فإن الاختلاف فيها بين المتكلمين من الأشعرية وبين الحكماء المتقديمن يكاد أن يكون راجعا للاختلاف في التسمية، بخاصة عند بعض القدماء. وذلك أنهم اتفقوا على أن هاهنا ثلاثة أصناف من الموجودات، طرفان وواسطة بين الطرفين . فاتفقوا في تسمية الطرفين، واختلفوا في الواسطة. فأما الطرف، فهو موجود وُجد من شيء غيره، وعن شيء ، أعني عن سبب فاعل، ومن مادة، والزمان متقدم عليه، أعني على وجوده. وهذه هي حال الأجسام التي يُدرك تكونها بالحس، مثل تكون الماء والهواء والأرض والحيوان والنبات، وغير ذلك. فهذا الصنف من الموجودات اتفق الجميع، من القدماء والأشعريين ، على تسميتها محدثة.
وأما الطرف المقابل لهذا، فهو موجود لم يكن من شيء ولا عن شيء ولا تقدمه زمان. ولكنه موجود عن شيء، أعني عن فاعل، وهذا هو العالم بأسره. فهذا الموجود قد أخذ شبها من الوجود الكائن الحقيقي، ومن الوجود القديم، فمن غلّب عليه ما فيه من شَبَه القديم على ما فيه من شبه المحدث، سماه قديما، ومن غلب عليه ما فيه من شبه المُحْدث، أسماه محدثا. وهو في الحقيقة ليس محدثا حقيقياﹰ ولا قديما حقيقيا، فإن المحدث الحقيقي فاسد ضرورة، والقديم الحقيقي ليس له علة" . فابن رشد، هنا يقدم – في الخلاف حول العالم وحدوثه– مذهبا ثالثا، فيه حل للخلاف الذي أحدث استقطابا بين الفلاسفة والمتكلمين، وليس قائلاً بالقدم الحقيقي للعالم، وهو مذهب يجعله على النقيض من مذاهب التنويريين، الماديين والوضعيين، ذلك أنه ينتصر، بهذا المذهب، للفكر الإلهي الذي جعل العالم وسائر الموجودات مخلوقة للخالق الواحد القديم. فليس من الأمانة ولا من الموضوعية حشره في إطار التنوير الوضعي والمادي والعلماني، فضلاً عن جعله المؤسسة لهذا التنوير!
علاقة الفلسفة بالشريعة
لقد جعل التنوير الغربي شعاره: "أن لا سلطان على العقل إلا العقل"، ولم يكن ذلك لمجرد الانتصار للعقل في مواجهة اللاهوت الكنسي، وإنما كان ذلك لأن فلسفة هذا التنويركانت"وضعية ومادية"، تقف عند معارف عالم الشهادة وحقائقه وحده، المعارف والحقائق التي رأت العقل قادرا على أن يستقل بإدراكها دون عون من الوحي والدين. ولأن هذا التنوير كان وضعيا في كل الحالات وماديا في بعض الحالات، فهولم يستغن – مجرد استغناء- عن معارف عالم الغيب وحقائقه، إنما أنكر أن تكون هذه المعارف جديرة بما هو ضروري للمعارف من الصدق والوثوق. فهي، عنده، طور الطفولة للعقل البشري، التي تجاوزها إلى الميتافيزقيا، وقد جاء التنوير ليأخذ بيد هذا العقل من مرحلة الميتافيزقيا إلى المرحلة الوضعية التي تحصر المعارف الحقة في العالم والواقع، وتقف بسبل هذه المعارف عند العقل والتجربة. فلا غيب في مصادر المعرفة ولا وحي ولا وجدان في سبل اكتسابها.
ولهذه المنطلقات والمواقف الثابتة في فلسفة التنوير الغربي، كان تقديم الفلسفة – وهي ثمرة عقلية – على الشريعة الدينية، بل ، إذا شئنا الدقة، إحلال الفلسفة محل الشريعة واتخاذها "شريعة عقلية" بدلا من الشريعة السماوية والاستغناء عن الشريعة مصدرا للقانون، برد القانون إل أصول "فيريقية" وتاريخية!. كذلك أنكر هذا التنوير الخوارق والمعجزات، انطلاقا من مبدأ اكتفاء الطبيعة بذاتها وإنكار موجود غير مادي، مفارق للطبيعة، قادر على تبديل القوانين الطبيعية والأسباب الذاتية بالخوارق والمعجزات. هذا هو موقف التنوير الغربي من العقل، ومن علاقة الفلسفة العقلية بمبادئ الشريعة الدينية وبالخوارق والمعجزات. فهل كانت فلسفة ابن رشد – عبر "الرشديين اللاتين" – مؤسسة لهذا التنوير كما يدعي "التنويريون الجدد" في واقعنا الثقافي هذه الأيان؟.
إن مفهوم العقل، عند ابن رشد، مخالف لمفهومه عند فلاسفة التنوير الغربي. فعلى حين يقول: "دولباك" ( 1723– 1789م):" إن الفكر وظيفة الدماغ". ويقول "كابانيس" (1757-1808م): "إن الدماغ يفرز الفكر كما تفرز الكبد الصفراء"، نجد ابن رشد ملتزما بالرؤية الإسلامية التي رأت العقل "ملكة" و "لطيفة ربانية" وليس عضوا في جسد الإنسان. "فالعقل ليس هو شيئا أكثر من إدراكه الموجودات بأسبابها، وبه يفترق من سائر القوى المدركة. إن العقل ليس ينسب إلى عضو مخصوص من الإنسان، وليس يكون قولنا في الإنسان إنه عالم كقولنا إنه بصير، فهو يبصر بعضو مخصوص. وأما إذا لم يكن للعقل عضو يخصه فتبين أن قولنا فيه: عالم، ليس من قبيل أن جزء منه عالم. وذلك انه ليس يظهر أن ههنا عضوا خاصا من الأعضاء، كالحال في قوة التخييل والفكر والذكر، وذلك أن مواضع هذه معلومة من الدماغ" . فالعقل ليس "الدماغ"، الذي يفرز الفكر كما تفرز الكبد الصفراء. وإنما هو – كما عند ابن رشد وعلى عكس التصور المادي الفلسفي التنوير الغربي – "ملكة إدراك الموجودات بأسبابها.. وكما عند الشريف الجرجاني ( 743–861ﻫ / 1340–1313م): "جوهر مجرد عن المادة في ذاته، مقارن لها في فعلة."
وإذا كان الغرب قد عاد ويعود – بسبب الفيزياء المعاصرة التي نأت بالعلم عما كان يتسم به من اتجاه مادي في القرن التاسع عشر- إلى تبني النظرة الإسلامية لمفهوم العقل حيث يقول بعض علمائه: "فيا له من أمر مثير أن نكتشف أن العالم يستطيع، بدروه، أن يؤمن عن حق بوجود الروح، وإذا كان العقل والإرادة غير ماديين، فلا شك أن هاتين الملكتين لا تخضعان بالموت للتحلل الذي يطرأ على الجسم والدماغ كليهما." فهل نعود نحن- بالإدعاءات – إلى صب ابن رشد في القوالب الوضعية والمادية، التي يراجعها ويتراجع عنها اليوم الكثير من الفلاسفة والعلماء الغربيين؟‍‍. وكذلك الحال عند مقارنة الموقف الرشدي من علاقة الفلسفة بالشريعة بنظيره التنويري الغربي. فابن رشد لا يحل الفلسفة العقلية محل الشريعة الإلهية – كما يصنع الماديون الغربيون-، ولا يجعلهما متجاورتين ومنفصلتين انفصال الغرف المعزولة – كما يرى الوضعيون -، وإنما يؤسس الفكر عليهما معا، بعد التوفيق والمؤاخاة بينهما.
ولهذا المقصد عقد ابن رشد كتابه المنهجي فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال. وفيه قدم هذا الموقف الذي لا يحل الفلسفة محل الشريعة، ولا الشريعة محل الفلسفة، ولا يفصلهما عن بعضهما، وإنما ينطلق من النظرة القرآنية التي علمتنا أن الله هو الذي أنـزل "الكتاب" و "الحكمة"، أي جعل للإصابة مصدرا جاء به الوحي إلى الأنبياء والرسل، ومصدرا يستقل به العقل الإنساني. فهما – الإصابة في النبوة والإصابة في غير النبوة – هدايتان من الخالق الواحد للإنسان المسْتَخْلف في إقامة العمران. فهما أختان رضيعتان، ليس بينهما تناقض أو شقاق. وفي ذلك يقول أبو الوليد:"إن الحكمة هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة... وهما المصطحبتان بالطبع، المتحابتان بالجوهر والغريزة." فهل يجوز أو يسوغ حشر هذا الموقف الرشدي في قوالب التنوير الغربي المادي والوضعي والادعاء بأن "ابن رشد يخضع الدين للعقل بفضل ما لدى العقل من قدرة على التأويل" .
الموقف من الخوارق والمعجزات
وإذا كان التنوير الغربي– لوضعيته وماديته – قد أنكر الخوارق والمعجزات، فإنه قد اتخذ هذا الموقف لأنه قد رآها خارجة عن الإدراك العقلي، وهو قد نفى صفات المعرفة والحقيقة والصدق والعلم عن كل ما لا يدرك بالعقل والتجربة الحسية. وجعل شعاره: "لا سلطان على العقل إلا للعقل". أما موقف ابن رشد من هذه القضية، فهو على النقيض من موقف التنويريين الغربيين. إنه يعلن صراحة وفي الكثير من النصوص والعديد من الكتب، أن هناك أمورا إلهية تفوق العقول الإنسانية، مثل مبادئ الشريعة، وأن واجب الكافة، عامة وخاصة، جمهورا ومتكلمين وحكماء، التسليم بها والتقليد فيها، والاعتراف بها مع جهل أسابابها. ومن لا يسلم بهذه المبادئ الشرعية والمعجزات فهو كافر زنديق!.
نعم... يسوق ابن رشد الموقف الإسلامي– المناقض لفلسفة التنوير الوضعية والمادية – في نصوص واضحة الدلالة فيقول: "فالخطأ في الشرع على ضربين: إما خطأ يعذر فيه من هو أهل النظر في ذلك الشيء الذي وقع فيه الخطأ، كما يعذر الطبيب الماهر إذا أخطأ في صناعة الطب، والحاكم في الحكم ، ولا يعذر فيه من ليس من أهل هذا الشيء. وإما خطأ ليس يعذر فيه أحد من الناس، بل إن وقع في مبادئ الشريعة فهو كفر، وإن وقع فيما بعد المبادئ فهو بدعة. وهذا الخطأ يكون في الأشياء التي تفضي جميع أصناف طرق الدلائل إلى معرفتها. فتكون معرفة ذلك الشيء بهذه الجهة ممكنة للجميع، وهذا مثل الإقرار بالله تبارك وتعالى، وبالنبوات، وبالسعادة الأخروية والشقاء الأخروي، وذلك أن هذه الأصول الثلاثة تؤدي إليها أصناف الدلائل الثلاثة. التي لا يَعْرَى أحد من الناس عن وقوع التصديق له من قبلها بالذي كلف معرفته، أعني، الدلائل الخطابية، والجدلية، والبرهانية، فالجاحد لمثل هذه الأشياء، إذ كانت أصلا من أصول الشرع، كافر، معاند بلسانه دون قلبه، أو بغفلته عن التعرض إلى معرفة دليلها، لأنه إن كان من أهل البرهان فقد جُعل له سبيلٌ إلى التصديق بها بالبرهان، وان كان من أهل الجدل فبالجدل، وإن كان من أهل الموعظة فبالموعظة. ولذك قال عليه السلام: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي" يريد: بأي طريق اتفق لهم من طرق الإيمان الثلاثة" .
فالجحد لمبادئ الشريعةكفر، لا عذر لصاحبه، من الخاصة كان أو من الجمهور... وجزاؤه – عند ابن رشد – القتل. فهل هذا المذهب الرشدي تأسيس للتنوير الغربي، الذي استبدل الدين الطبيعي بالدين الإلهي؟‍ فالمعجزات التي أنكرها التنويريون، لأن العقل لم يدرك أسبابها، يراها ابن رشد – كمبادئ الشريعة – مما لا يعذر الإنسان في عدم التصديق به، وجاحدها ، عنده، زنديق يجب قتله. وفي ذلك يقول: "أما الكلام في المعجزات، فقدماء الفلاسفة يرون أنها مبادئ الشرائع، والفاحص عنها والمشكك فيها يحتاج إلى عقوبة عندهم، مثل من يفحص عن مبادئ الشرائع العامة، مثل هل الله موجود؟ وهل السعادة موجودة؟ وهل الفضائل موجودة؟... (وعندهم) أنه لا يُشَكُّ في وجودها، وأن كيفية وجودها هو أمر معجز عن إدراك العقول الإنسانية، والعلة في ذلك أن هذه هي مبادئ الأعمال التي يكون بها الإنسان فاضلا، ولا سبيل إلى حصول العلم إلا بعد حصول الفضيلة، فوجب أن لا يتعرض للفحص عن المبادئ التي توجب الفضيلة قبل حصول الفضيلة. والذي يقول القدماء في أمر الوحي والرؤيا إنما هو الله تعالى بتوسط موجود روحاني ليس بجسم، وهو واهب العقل الإنساني عندهم، وهو الذي يسميه الحذاق منهم العقل الفعال ويسمى في الشريعة ملكا" .
فعلى حين أسس التنوير الغربي العلم على الواقع، المُدْرك بالعقل والتجربة، مع إنكار معارف الغيب وطرق المعرفة الشرعية، تحدث ابن رشد عن تسليم الفلاسفة القدماء بمبادئ الشريعة – في الألوهية والنبوة والسعادة والشقاء الأخرويين– وبالمعجزات التي تعجز العقول الإنسانية عن الاستقلال بإدراك كيفية وجودها، ولذلك فهي تحتاج في إدارك ذلك إلى الوحي الذي سلم به الفلاسفة القدماء، بل رأوه واهب العقل الإنساني ... ولأن هذا موقف الفلاسفة الإلهيين القدماء، من مبادئ الشريعة، ومن المعجزات، قال: "وأما ما نسبه –(الغزالي إلى الفلاسفة)– من الاعتراض على معجزة المعجزات إبراهيم عليه السلام –(تحول النار عندما ألقي فيها إلى برد وسلام)– فشيء لم يقله إلا الزنادقة من أهل الإسلام، فإن الحكماء من الفلاسفة لا يجوز عندهم التكلم ولا الجدل في مبادئ الشريعة، وفاعل ذلك عندهم محتاج إلى الأدب الشديد، وذلك أنه لما كانت صناعة لها مبادىء وواجب على الناظر في تلك الصناعة أن يسلم بمبادئها، ولا يعترض لها بنفي أو إبطال، كانت الصناعة العلمية الشرعية أخرى بذلك، لأن المشي على الفضائل الشرعية هو ضروري عندهم، ليس في وجود الإنسان بما هو إنسان، بل وبما هو إنسان عالم. ولذلك يجب على كل إنسان أن يسلم بمبادئ الشريعة وأن يقلد فيها، فإن جحدها والمناظرة فيها مبطلان لوجود الإنسان، ولذلك وجب قتل الزنادقة. فالذي يجب ان يقال فيها: إن مبادئها أمور إلهية تفوق العقول الإنسانية، فلا بد أن يعترف بها مع جهل أسبابها. ولذلك لا تجد أحداً من القدماء تكلم في المعجزات، مع انتشارها وظهورها في العالم، لأنها مبادئ تثبيت الشرائع، والشرائع مبادئ الفضائل، ولا فيما يقال بعد الموت. فإذا نشأ الإنسان على الفضائل الشرعية كان فاضلا بإطلاق، فإن تمادى به الزمان والسعادة إلى أن يكون من العلماء الراسخين في العلم، فعرض له التأويل في مبدأ من مبادئها، فيجب عليه أن لا يصرح بذلك التأويل، و أن يقول فيه كما قال تعالى ﴿وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعلْم يَقُولُونَ آمَنَّا بِه﴾ (آل عمران: 7) " .
فمبادئ الشريعة والمعجزات "أمور إلهية تفوق العقول الإنسانية"، وواجب العلماء الراسخين في العلم – الذين عقلوا وجود الخالق للأسباب، والقادر على إحلال أسباب أخرى غير معتادة تؤدي إلى معجزات وخوارق ومُسببات أخرى غير معتادة – أن يعترفوا ويسلموا ويقلدوا في هذه الأمور التي لا تستقل العقول الإنسانية بإدراك "كيفية وجودها". وحتى إذا عرض للراسخين في العلم تأويل في شيء من ذلك فواجب أن لا يصرحوا بذلك التأويل، فليس فرضا على العقول الفحص فيما لا قبل لها بإداركه، وإنما فرضها أن تقول كما قال الله تعالـى ﴿وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعلْم يَقُولُونَ آمَنَّا بِه﴾ (آل عمران: 7). فهل هناك حد أدنى من الفقه والصدق والعدالة العلمية لدى الذين يضعون هذا الفكر الرشدي في سلسلة التنوير الغربي الوضعي والمادي!
التأويل العربي الإسلامي والتأويل الغربي
ليس هناك مذهب إسلامي لم يقل إعلامه بالتأويل، على نحو من الأنحاء، وفي عدد من النصوص والمشكلات. وبعبارة الإمام الغزالي الذي بلغ في التعقيد للتأويل والتفصيل في مراتبه ما لم يبلغ ابن رشد بحيث كان ابن رشد مقتديا به في هذا الفن، فإنه "ما من فريق من أهل الإسلام إلا وهو مضطر إلى التأويل. فالحنبلي مضطر إليه وقائل به وكذلك الأشعري والمعتزلي مع تفاوت بينهم في الاقتصاد والوسط والتوغل في مواضعه. ومع اتفاق "الفرق على الدرجات الخمس في التأويل: الوجود الذاتي، والوجود الحسي، والوجود الخيالي، والوجود العقلي، والوجود الشبهي"واتفاقهم" أيضاً على أن جواز ذلك التأويل موقوف على قيام البرهان على استحالة الظاهر" . وعلى مذهب الغزالي هذا الذي جعل التأويل جائزا عند قيام البرهان على استحالة الظاهر- أي في بعض المواضع، لا في كل الأمور – سار ابن رشد فاستشهد على أنه "لا يقطع بكفر من خرق الإجماع في التأويل"، وإذا كان الإجماع ظنياً، بآراء الغزالي وإمام الحرمين الجويني (419 – 478 هـ 1028- 1085م)، وأشار إلى سبق الغزالي إلى تحديد مراتب التأويل، ونبه على أن للتأويل في اللغة العربية ضوابط حددتها هذه اللغة، فهو لا يجوز إلا في المواطن التي تتوفر فيها للنص هذه الضوابط اللغوية، وذلك عندما قال: "ومعنى التأويل: هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، من غير أن يخل ذلك بعادة لسان العرب في التجاوز من تسمية الشيء بشبيهه أو بسببه أو لاحقه أو مقارنه، أو غير ذلك من الأشياء التي عُددت في تعريف أصناف الكلام المجازي" . كما نبه ابن رشد على الإجماع الإسلامي على أن التأويل جائز في بعض نصوص الشرع، حيث قال: "أجمع المسلمون على أنه ليس يجب أن تحمل ألفاظ الشرع كلها على ظاهرها، ولا أن تخرج كلها عن ظاهرها بالتأويل"، فما ثبت فيه "الإجماع بطريق يقيني لم يصح" فيه التأويل .
كما نبه على وجود شواهد في النصوص تعيّن مواطن التأويل ومواضعه، فكان "ظاهر الشرع" هو سبيل من سبل التحديد لمواطن "التأويل"، لأنه ما من منطوق به في الشرع، مخالف بظاهره لما أدى إليه البرهان إلا إذا اعتبر وتُصُفّحَت سائر أجزائه، وجد في ألفاظ الشرع ما يشهد بظاهره لذلك التأويل، أو يقارب أن يشهد" . ومن ثم خلص إلى أن المقصد من التأويل القائم على قانون التأويل في اللغة العربية هو "الجمع بين المعقول والمنقول"، وليس إحلال المعقول محل المنقول هكذا أعلن ابن رشد التزامه بالمذهب الإسلامي في التأويل:
أ . التأويل جائز.
ب. في المواطن التي يقوم فيها البرهان على استحالة الظاهر.
ج. وبشرط تحقق شروط اللغة العربية في المجاز الذي تخرج فيه دلالات الألفاظ من حقيقتها إلى مجازها.
د. وفيما لم يثبت فيه إجماع يقيني على أن المراد هو ظاهر الألفاظ.
هـ. وبترشيح دلالات ظواهر بعض النصوص على مواطن التأويل في بعضها.
و. من أجل الجمع بين المعقول والمنقول، لا المقابلة بينهما، والانحياز لأحدهما، تجاوزا للآخر أو نفيا له.
ومع كل هذه الضوابط التي أحاط بها ابن رشد قضية التأويل رأيناه يؤكد على أن هذا التأويل هو حق للخاصة من الراسخين في العلم، لا يصرح به للعامة، ولا يثبت في الكتب الموجهة للجمهور، حتى ولو كان تأويلا صحيحا، مستجمعا لشروط التأويل وضوابطه: "فهذا التأويل ليس ينبغي أن يصرح به لأهل الجدل، فضلا عن الجمهور، ومن صرح بشيء من هذه التأويلات لمن هو من غير أهلها، أفضى ذلك بالمصرّح له والمصرّح إلى الكفر، فليس يجب أن تثبت التأويلات الصحيحة في الكتب الجمهورية فضلا عن الفاسدة، وأما المصرح بهذه التأويلات لغير أهلها فكافر" . إذن فإقامة الثقافة العامة، والفكر الجمهوري، وتأسيس النهضة الحضارية على التأويل – كما حدث في التنوير الأوروبي، والنهضة الغربية – كل ذلك، في رأي ابن رشد، كفر من المتأولين أصابوا به من أشاعوا فيهم هذا التأويل!
وفيما يتعلق بعالم الغيب ومبادئ الشريعة، وكل ما لا يستطيع العقل الاستقلال بإدارك كنهه، أوجب ابن رشد أخذه على ظاهره، دون تأويل، لأن هذه المواطن، عنده، مما تعلم بنفسها، بالطرق الثلاث للتصديق: الخطابية، والجدلية، والبرهانية. ولذلك "لم نحتج أن نضرب له أمثالا، وكان على ظاهره لا يتطرق إليه تأويل. وهذا النحو من الظاهر إن كان في الأصول فالمتأول له كافر، مثل من يعتقد أنه لا سعادة أخروية ها هنا ولا شقاء، وأنه قصد بهذا القول أن يشمل الناس بعضهم من بعض في أبدانهم وحواسهم، وأنها حيلة، وأنه لا غاية للإنسان إلا وجوده المحسوس فقط. إن ها هنا ظاهرا من الشرع لا يجوز تأويله، فإن كان تأويله في المبادئ فهوكفر، و إن كان فيما بعد المبادئ فهو بدعة" . ففي هذا النص يقطع ابن رشد بكفر تأويل الذين قالوا "بالدين الطبيعي": الذي يهدف إلى أن"يسلم الناس بعضهم من بعض في أبدانهم وحواسهم"، لأن غاية الإنسان عندهم "وجوده المحسوس فقط". وهذا هو عين التأويل عند فلاسفة التنوير الغربيين!
ولقد حدثنا ابن رشد عن أن تشدده هذا في ضرورة "الاقتصاد في التأويل" وفي جعله "موقف ذهنيا خاصا لا يصرح به المتأول"، إن كان مذهب الصدر الأول للإسلام والمسلمين، وأن التخلي عنه قد أصبح بدعة أدت إلى اضطراب أمر الأمة، وإشاعة الفرقة والتكفير في صفوفها، فقال: "إن الصدر الأول إنما صار إلى الفضيلة الكاملة والتقوى باستعمال هذه الأقاويل – (التي ثبتت في الكتاب العزيز)- دون تأويلات فيها، ومن كان منهم على التأويل لم ير أن يصرح به. وأما من أتى بعدهم فإنهم لما استعملوا التأويل قلّ تقواهم، وكثر اختلافهم، وارتفعت محبتهم وتفرقوا فرقا. فيجب على من أراد أن يرفع هذه البدعة عن الشريعة، أن يعمد إلى الكتاب العزيز، فيلتقط منه الاستدلالات الموجودة في شيء مما كلفنا اعتقاده، ويجتهد في نظره إلى ظاهرها ما أمكنه من غير أن يتأول من ذلك شيئاً، إلا إذا كان التأويل ظاهرا بنفسه، أعني ظهورا مشتركا للجميع". ذلك أنه لما تسلط على التأويل في هذه الشريعة من لم تتميز له هذه المواضع، ولا تميز له الصنف من الناس الذين يجوز التأويل في حقهم، اضطرب الأمر فيها، وحدث فيهم فرق متباينة يكفر بعضهم بعضا، وهذا كله جهل بمقصد الشرع، وتعد عليه." ذلك هو مذهب ابن رشد في التأويل، وهو مذهب أكثر محافظة من مذهب الغزالي فيه، على عكس ما يظن كثيرون من الذين يقابلون بين الرجلين دون فقه لمجمل إبداعهما في هذا الموضوع" .
ولقد أدرك هذا المذهب الرشدي – في التأويل – الدكتور زكي نجيب محمود، فقال: "إن ابن رشد يريد أن يضيق حدود التأويل بحيث لا نلجأ إليه فيما لا حيلة لنا أمامه إلا أن نؤول ظاهر الشريعة فيه. وحتى في هذه المجالات الضرورية سنجد في ظاهر الشريعة مواضع أخرى تؤيد تأويلنا" . لكن الذين أرادوا "التستر" بابن رشد لإيهام أمة الإسلام المسلمة بأن تأويل فيلسوفها المسلم هو ذاته تأويل فلاسفة التنوير الغربي، فقد قفزوا على حقائق هذا المذهب الرشدي وضوابطه، فادّعى فرح أنطون "أن التأويل الذي لجأ إليه ابن رشد باب واسع يسع كل الآراء والتعاليم". وانتقد مراد وهبه رأي زكي نجيب محمود قائلاً: "إنه يطمس ملامح التفرقة بين المعنى الظاهر والمعنى الباطن، فيقضي على مقولة التأويل"، وادعى ما ترفضه نصوص ابن رشد التي سبق أن أوردنا طرفا منها، ادعى أن ابن رشد – على عكس الغزالي – قد "أوجب التأويل في كل الأمور." وهكذا وقف مراد وهبه وفرح انطون بعيدا عن فقه آراء ابن رشد والغزالي في التأويل، لأنهما قد انطلقا من تراث "الشرديين اللاتين" لا من إبداعات الغزالي وابن رشد‍.
ويشهد على تلك الحقيقة – حقيقة رؤية الرشديين اللاتين بحسبانهم امتدادا لابن رشد – تلك الأخطاء التي وقع فيها أستاذ الفلسفة مراد وهبه – وهي آراء يستغرب وقوعها من طالب فلسفة ناهيك عن أستاذ فيها – من مثل قوله: إن الغزالي يدخل من بين العوامل الأساسية في تفسير محنة ابن رشد المتجسدة في محاكمته ونفيه وحرق مؤلفاته. فابن رشد لم يحاكم، ومحنته كانت لأسباب سياسية، غلفت بأغلفة فكرية. ثم كيف يكون الغزالي من عوامل محنة ابن رشد وإحراق مؤلفاته، وهو – أي الغزالي – كان مضطهدا في المغرب والأندلس –حيث عاش ابن رشد وامتحن –، وكتبه قد أحرقت هناك وظل فكره ممنوعا لسنوات أطول بكثير جدا من سنوات محنة أبي الوليد؟ وإذا كان ابن رشد قد أفرد كتابه المنهجي فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال لإثبات المؤاخاة بين العقل والنقل، وبين الفلسفة والشرع، اعتمادا على التأويل الذي سار فيه على القواعد التي أرساها الغزالي، فمن أين أتى مراد وهبه بمقولة إن فصل المقال كتاب "كرسه ابن رشد "للرد على الغزالي"، مثل تهافت التهافت؟ ، وهذا مما يوحي بغربة الرجل عن هذا التراث الذي يشير إلى عناوينه دون فقه مضامنيه!
إن الرجل – عندما كتب قصة الفلسفة – قد اختزل إبداع أمتنا، في سياق التراث الفلسفي الإنساني، بأقل من سطرين!‍. وهو فيما كتبه أخيرا عن ابن رشد كانت عينه على مقولة يريد أن يروج لها، وهي "أن مفهوم ابن رشد عن التأويل قد أحدث تأثيرا في بزوغ حركتين فلسفيتين في أوروبا، هما الهرمنيوطيقا (علم التأويل) والتنوير"، وذلك ليجعل من تأويل ابن رشد التأويل التنويري الوضعي الذي ينصب على وجود الله وعالم الغيب، والنبوات، ومبادئ الشريعة، والذي يهدف إلى إحلال "الدين الطبيعي" محل " الدين الإلهي، والذي يلغي "المنقول" لحساب "المعقول"، وصولا إلى إحلال النموذج الغربي في التقدم والنهوض محل النموذج الإسلامي في النهضة والإصلاح. وهي مقاصد تقطع الطريق عليها إبداعات ابن رشد، التي أشرنا إلى طرف منها في هذه الصفحات.
حقيقة واحدة أم حقيقتان؟
صحيح أن أسقف باريس أتين نامبيه قد حرم – فيما حرم – في (مارس 1277م) من القضايا الفكرية للرشديين اللاتين" قولهم بحقيقتين مختلفتين، وفي ذات الوقت صادقتين، إحداهما دينية إيمانية والأخرى فلسفية عقلية". وصحيح كذلك أن القول بالحقيقتين – وليس بوحدة الحق والحقيقة – هو التعبير عن منهاج الفلسفة الوضعية من الدين، وعلاقته بالعلم، فهي ترى أن المعارف الدينية قلبية وجدانية، لها دورها النفعي بالنسبة للعامة من الناس الذين لا تضبطهم الفلسفات العقلية، بينما المعارف العلمية عقلية برهانية، تخضع للفحص والاختبار اللذين لا تحتملهما المعارف الدينية القلبية الوجدانية، وأن من النافع وجود الحقيقتين، متجاورتين، تجاور الغرفتين المستقلتين، لكل منهما نظامها ومعاييرها وجمهورها. فالحقيقة الدينية اللاعقلية واللاعلمية صادقة بالنسبة لجمهورها، والحقيقة العقلية الفلسفية صادقة بالنسبة للخاصة المدركة لها. تلك هي الفلسفة الوضعية الغربية، في الحقيقتين، التي بشر بها الرشديون اللاتين، في مواجهة احتكار اللاهوت الكنسي لحقائق عالم الشهادة وعالم الغيب جميعا، وهي التي ورد النص عليها في مراسيم التحريم الكنسية لفكر الرشديين اللاتين.
لكن الزعم بأن ابن رشد من القائلين بثنائية الحقيقة، لا بوحدة الحق، هو ادعاء تنقضه وتفنده الإبداعات الفكرية لهذا الفيلسوف. فالتأويل عند ابن رشد –كما سبق وأوردنا نصوصه فيه– هو السبيل إلى وحدة الحقيقة، وليس إلى تعددها، لأنه موقف من تعدد طرق الناس ومستوياتهم في التصديق بالحقيقة الواحدة، وليس سبيلاﹰ لإثبات ثنائية الحق والحقيقة، وله في ذلك عشرات النصوص التي لا لبس فيها ولا غموض. فهو يؤكد على وحدة الحقيقة في الذات الإلهية وفي الشريعة الإلهية، وفي المخلوقات، مع تعدد طرق التصديق بالحقيقة الواحدة، تبعا لتعدد جبلات الناس وطبائعهم، جمهورا وحكماء ومتوسطين بين القبيلين – فيقول: "إنا نعتقد، معشر المسلمين، أن شريعتنا هذه الإلهية حق، وأنها التي نبهت على هذه السعادة، ودعت إليها، التي هي بالله عز وجل، وبمخلوقاته، فإن ذلك متقرر عند كل مسلم من الطريق الذي اقتضته جبلته وطبيعته من التصديق، وذلك أن طباع الناس متفاضلة في التصديق: فمنهم من يصدق بالبرهان، ومنهم من يصدق بالأقاويل الجدلية تصديق صاحب البرهان بالبرهان، إذ ليس في طباعه أكثر من ذلك، ومنهم من يصدق بالأقاويل الخطابية تصديق صاحب البرهان بالأقاويل البرهانية. وشريعتنا قد دعت الناس من هذه الطرق الثلاث ولذلك خص عليه الصلاة والسلام بالبعث إلى الأحمر والأسود، أعني لتضمن شريعته طرق الدعاء إلى الله تعالى وذلك صريح في قوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ (النحل:125).
فالحق واحد، والتعدد هو في طرق التصديق بهذا الحق الواحد. ولأن الحق واحد في ذاته، والمعاني واحدة في نفسها، ضربت للجمهور مثالات ليدرك هذا الحق الواحد وهذه المعاني الواحدة، دون تعدد للحق أو المعنى. فالمثالات سبل لإدارك الحقيقة الواحدة، التي يدركها البرهانيون دون مثالات: "وأنت إذا تأملت الشرع وجدته، مع أنه ضرب للجمهور في هذه المعاني المثالات التي لم يكن تصورهم إياها دونها ،قد نبه العلماء على تلك المعاني أنفسها التي ضربت مثالاتها." فالمعاني واحدة، والحق واحد، والمثالات طرق وسبل للتصديق بالمعاني نفسها، التي يدركها الراسخون في العلم ويصدقون بها ذاتها دون مثالات.
والتمايز بين الناس –حكماء وجمهورا ومتوسطين بينهم– ليس في تمايز الحقائق والمعاني التي يدركها فريق من ذات الحقيقة دون الآخر، وإنما هو في "القدر والنصيب" الذي يستطيع إدراكه كلُّ فريق من الحقيقة الواحدة: "فالطريقة الشرعية التي دعا الشرع منها جميع الناس، على اختلاف فطرهم، إلى الإقرار بوجود الباري سبحانه، والتي نبه الكتاب العزيز عليها واعتمدتها الصحابة، تنحصر في جنسين: دليل العناية، ودليل الاختراع. ولقد تبين أن هاتين الطريقتين هما بأعيانهما طريقة الخواص وأعني بالخواص العلماء، وطريقة الجمهور. وإنما الاختلاف على ما هو مدرك بالمعرفة الأولى المبينة على علم الحس، وأما العلماء فيزيدون على ما يدرك من هذه الأشياء بالحس ما يدرك بالبرهان، أعني من العناية والاختراع، حتى لقد قال بعض العلماء: إن الذي أدرك العلماء من معرفة أعضاء الإنسان والحيوان هو قريب من كذا وكذا آلاف منفعة.
والعلماء ليس يفضلون الجهور في هذين الاستدلالين من قبل الكثرة فقط، بل ومن التعمق في معرفة الشيء الواحد نفسه. فإن مثال الجمهور في النظر إلى الموجودات مثالهم في النظر إلى المصنوعات التي ليس عندهم علم بصنعتها، فإنهم إنما يعرفون من أمرها أنها مصنوعات فقط، وأن لها صانعا موجودا. ومثال العلماء في ذلك مثال من نظر إلى المصنوعات التي عندهم علم ببعض صنعتها وبوجه الحكمة فيها. أما مثال الدهرية في هذا، الذين جحدوا الصانع سبحانه، فمثاله من أحسن مصنوعات فلم يعترف أنها مصنوعات، بل ينسب ما رأى فيها من الصنعة إلى الاتفاق والأمر الذي يحدث من ذاته" . فالحقيقة في طرق معرفة الذات الإلهية واحدة بالنسبة للجميع، جمهورا وعلماء، والتفاوت إنما هو في تفاصيل معارف كل فريق من الحقيقة الواحدة – دليلي العناية والاختراع. كما أن حقيقة أعضاء جسم الإنسان والحيوان واحدة، والتفاضل بين مستويات العارفين بها هو في كثرة أو قلة ما يدرك كل فريق من هذه الحقيقة الواحدة. ففي الكثرة والتعمق يكون التفاوت والتمايز إلى الفرقاء "في معرفة الشيء الواحد نفسه"، بعبارة أبي الوليد القاطعة بوحدة الحقيقة مع تفاوت طرق إدراكها، والنسب المدركة منها، وعمق الإدارك لها.
وابن رشد عندما مايز في تآليفه بين الكتب التي توجه إلى الجمهور – مثل مناهج الأدلة – وتلك التي وجهها إلى الحكماء – مثل فصل المقال – لم يصنع ذلك لتعدد الحقيقة واختلافها باختلاف المخاطبين بهذه الكتب كما فهم الكثيرون من عباراته، وإنما أراد – في مناهج الأدلة – مخاطبة الجمهور، المعتقد خطأ، مخالفة الحكمة للشريعة، فعرض لهذا الجمهور أصول الشريعة، وذلك لإثبات أنها لا تخالف الحكمة، كما أراد في – فصل المقال – مخاطبة المنتسبين إلى الحكمة المعتقدين خطأ مخالفة الحكمة للشريعة، فعرض لهم أصول الحكمة، وذلك لإثبات أنها لا تخالف الشريعة. فاختصاص كل كتاب بالتوجه إلى فريق من الفرقاء، والبدء معه بعرض الأصول التي ينحاز إليها، نابع من تحيز كل فريق، أحدهما لأصول الشريعة والثاني لأصول الحكمة، مع توهم التعارض بينهما، وذلك وصول بالفريقين، كلا من نقطة انحيازه، إلى إثبات الحقيقة الواحدة وهي تآخي الحكمة والشريعة دائما وابداً.
وفي نص حاسم لهذه المسألة التي لعبت دورا كبيرا في شيوع قول ابن رشد بتعدد الحقيقة باختلاف الجمهور، وتميز الكتب التي يخاطب بها كل فريق، يقول أبو الوليد "فالصواب أن تعلم الفرقة من الجمهور التي ترى، أن الشريعة مخالفة للحكمة أنها ليست مخالفة لها. وذلك بأن يُعرﹶّف كل واحد من الفريقين أنه لم يقف على كنههما بالحقيقة، أعني لا على كنه الشريعة ولا على كنه الحكمة، وأن الرأي في الشريعة الذي اعتقد أنه مخالف للحكمة هو رأي إما مبتدع في الشريعة لا من أصلها وإما رأي خطأ في الحكمة، أعني تأويل خطأ عليها. و لهذا المعنى اضطررنا نحن في هذا الكتاب ( أي مناهج الأدلة) أن نعرّف أصول الشريعة، فإن أصولها إذا تؤملت وجدت أشبه مطابقة للحكمة مما أُوّل فيها. وكذلك الرأي الذي ظن في الحكمة أنه مخالف للشريعة يعرف أن السبب في ذلك أنه لم يحط علما بالحكمة ولا بالشريعة. ولذلك اضطررنا نحن إلى وضع قول، أعني فصل المقال في موافقة الحكمة للشريعة" .
فمعنى أن كتاب مناهج الأدلة موجه إلى الجمهور، هو أنه رد على شبهات الجمهور المعتقد مخالفة الشريعة للحكمة، يعرض أصول الشريعة، ليثبت أنها لا تخالف الحكمة. ومعنى أن كتاب فصل المقال موجه إلى المنتسبين إلى الحكمة، أنه رد على شبهاتهم التي حسبوا بسببها مخالفة الحكمة للشريعة، وذلك بعرض أصول الحكمة وإثبات أنها غير مخالفة للشريعة. والحقيقة واحدة. والحق لا يتعدد في كل الحالات، وعلى اختلاف أصناف فطر المخاطبين. فالقصد من "التأويل"، عند ابن رشد، هو"الجمع بين المعقول والمنقول" لأن الحقيقة في المعقول والمنقول واحدة . والسبب في ورود الشرع فيه الظاهر والباطن هو اختلاف فطر الناس وتباين قرائحهم في التصديق، والسبب في ورود الظواهر المتعارضة فيه هو تنبيه الراسخين في العلم على التأويل الجامع بينها. فالظاهر والباطن لاختلاف الفطر في طرق التصديق بالحقيقة الواحدة، وليس لتعدد الحقيقة، والتأويل جامع بين الفطر وليس معددا للحقيقة.
و"إن مبادئ الشريعة، مثل الإقرار بالله، وبالنبوات، والسعادة الأخروية والشقاء الأخروي، تفضي جميع أصناف طرق الدلائل –الخطابية والجدلية، والبرهانية- إلى معرفتها ، فتكون ممكنة للجميع" . ولا يجوز التأويل في مبادئ الشريعة" لأن التأويل هو عمل العقل في الانتقال بدلالة اللفظ من الحقيقة إلى المجاز – وفق قوانينه –، وهذه "المبادئ أمور إلهية تفوق العقول الإنسانية، وواجب كل إنسان أن يسلم بها ويقلد فيها" فحقائقها لا تتعدد ـ لإدراكها بجميع أصناف طرق الدلائل، ولعجز العقول عن أن تدرك "كيفية وجودها لأن هذا الوجود أمر معجز عن إدراك العقول الإنسانية"، لا تستطيع أن تدرك فيه غير ما يدركه الجميع "بأصناف طرق الدلائل . تلك هي حقيقة "الرشدية الإسلامية، التي عبرت عنها إبداعات ابن رشد الفكرية إذا نحن قارناها "بالرشدية اللاتينية"، التي ألصقت مقولاتها، زورا وبهتانا بفسلوفنا الإسلامي، إبان الصراع الذي خاضته الكنيسة الأوربية ضد "الرشديين اللاتين".
وإذا كان التزوير، الذي استظل باسم ابن رشد – في القرن الثالث عشر الميلادي– لينسب إليه نقيض فلسفته، إنما يعد اغتيالا لإسلامية فيلسوفنا، فإن هذا التزوير يعود اليوم على أيدي دعاة التنوير – الوضعي والمادي الغربي– محاولا اغتيال إسلامية فلسفة ابن رشد مرة أخرى، وذلك عندما يزعمون أن "الرشدية اللاتينية" هي حقيقة فلسفة ابن رشد، وأنه هو المؤسس للتنوير الوضعي العلماني اللاديني، الذي تبلور في الغرب خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، فهم يتوسلون "بالتزوير" لنبتلع طعم "التنوير الغربي"، الذي يريدون إحلاله محل الخيار الإسلامي في التقدم والنهوض!. وإذا كانت هذه الصفحات قد أبرزت تناقض "الرشدية الإسلامية" مع مقولات "الرشديين اللاتين"، فلعل في الإشارة إلى معالم المقولات التنوير الوضعي والمادي الغربي، التي استخلصناها من كتابات فلاسفته كما عرضها دعاته، ما يشهد على زيف دعواهم تأسيس أبن رشد لهذا التنوير .
إن من أبرز مقولات التنوير الغربي:
1. إن الإنسان حيوان طبيعي –اجتماعي-، فهو جزء من الطبيعة وهي التي تزوده ، فهو أقرب إلى الحيوان منه الى الله. فليس خليفة الله، خلقه وكرّﹶمه بأن نفخ فيه من روحه، وفضله على سائر المخلوقات. وسعادة هذا الإنسان دنيوية محضة، يجدها في العاطفة والشهوة وحدهما.
2. حصر الاهتمامات الإنسانية بقضايا العالم الراهنة، والطبيعة المحسوسة لا العالم الآخر، أو ما وراء الطبيعة.
3. الوقوف، في الدين، عند "الدين الطبيعي"، الذي هو إفراز بشري من صنع العقل لا "الدين السماوي" المتجاوز للطبيعة، واعتبار الشعور الديني مزيجا من الخوف الخرافي والرغبة في تغيير ظروفه المؤلمة .
4. تحرير العقل من سلطان الدين، وإعمال العقل دون سند من الوحي، وجعل السلطان المطلق للعقل، بحيث لا يكون هناك سلطان على العقل إلا العقل وحده.
5. إحلال العلم محل الميتافيزيقا، وعدم تجاوز الملاحظة والتجربة إلى ما وراءهما من سبل المعرفة "النقلية" و "الوجدانية".
6. النظر إلى الفكر على أساس أنه وظيفة الدماغ، فالدماغ يفرز الفكر، كما تفرز الكبد الصفراء ، و ليس هناك نفس في الإنسان .
7. إثارة الشكوك في مشروعية المطلق، فلإنسان هو مقياس المطلق .
8. استنباط الأخلاق من الطبيعة. وحصر علاقتها بالسعادة واللذة، لا بالفضيلة والاحتياجات الروحية. مع جعل الأولوية للإحساسات الفيزيقية (المادية) على المفاهيم الخلقية والعقلية، فالأخلاق من صنعنا، ومن ثمرات خبرتنا وهي مستندة إلى الحالة الفزيقية.
9. إحلال "الاجتماعية" محل "الدينية" سبيلا لتحقيق السعادةة الدنيوية- بالعاطفة والشهوة – فالطبيعة هي التي أوجدت الإنسان، وهو المسؤول عن سعادته.
10. رد القوانين إلى أصول فيزيقية وتاريخية، وتحرير التاريخ من السنن الإلهية، وتفسيره بمفاهيم طبيعية أو خلقية نابعة من الطبيعة الإنسانية .
تلك هي "الوصايا العشر" للتنوير الغربي، الوضعي العلماني، كما صاغها فلاسفته، وعرضها دعاته، الذين يجددون اليوم محاولات أسلافهم اغتيال إسلامية الفلسفة الرشدية ليتسللوا بهذا "التنوير اللاديني" إلى عقول الأمة المسلمة، تحت ستار اسم الفيسلوف المسلم، المتكلم الفقيه، والقاضي، والطبيب أبي الوليد ابن رشد . فهل من علاقة حقيقية يدركها عقل نـزيه بين فكر أبي الوليد، الذي وفق بين الحكمة- الإصابة- في غير النبوة – والشريعة – الإصابة في النبوة، انطلاقا من أن الله سبحانه وتعالى هو مصدر الكتاب والحكمة جميعا ؟ والذي فلسف علم الكلام الإسلامي، وبرهن بالنظر العقلي على صدق الإيمان الإسلامي؟ كما فلسف –بوصفه فقيها مالكيا- اختلاف اجتهادات الفقهاء المسلمين؟ وقاضي القضاة، الذي عاش حياته يقضي بين الناس بشريعة الإسلام ؟‍.
هل من علاقة حقيقية، أو حتى متخيلة، يمكن أن تقوم بين فكر أبي الوليد والخيار الحضاري الغربي، المؤسس على التنوير الوضعي العلماني؟
أم أن الموقع الفكري لفيسلوف قرطبة هو كما رآه بحق الإمام محمد عبده: "فيسلوف إلهي، مذهبه إلهي، قاعدته العلم"؟ نأمل أن تكون هذه الصفحات قد حملت الإجابة الشافية والموضوعية عن هذا السؤال. وأن تكون المكانة الفكرية البارزة والراسخة لابن رشد في النسق الفكري الإسلامي قد نفضت عنها غبار المتغرّبين وشبهات أصحاب الشهوات!. والله من وراء القصد، منه نستمد العون والتوفيق.


 
امتیاز دهی
 
 

المزيد
Guest (PortalGuest)

دفتر تبلیغات اسلامی حوزه علمیه قم (شعبه اصفهان)
Powered By : Sigma ITID