الأمانات:
«تمهيد مفيد» اعلم إن كل إنسان وقع في يده مال غيره فاما إن يكون استيلاؤه عليه بإذن المالك، أو بإذن الشارع، أو بدون اذن واحد منهما، و الأوّل اما إن يكون لمصلحة المالك فقط أو لمصلحة القابض أو لمصلحتهما، و من الأوّل الامانة بالمعني الأخص و هي الوديعة الّتي هي القيام بحفظ مال الغير باذنه بغير جعل و لا فائدة، و من الثاني العارية الّتي هي إباحة للانتفاع أو تمليك للمنفعة بغير عوض، و من الثالث الإجارة فإنها لمنفعة المالك من حيث أخذ الأجرة و لمنفعة المستأجر من حيث استيفاء المنفعة و كل هذه تعد من الأمانات و لكن بالمعني الخاص و هي أعم منالوديعة الّتي هي أمانة بالمعني الأخص، و كلها أيضا أمانات مالكية لأنها اجمع بإذن المالك، اما القسم الثاني و هو ما كان بإذن الشارع فقط فمنه اللقطة و مجهول المالك كالذي أطارته الريح إلي دار إنسان و ما دخل إلي ملك الغير من طائر أو حيوان و ما أشبه ذلك، و كل هذه الأنواع تعد أيضا من الأمانات و لكنها بالمعني الأعم و هي أمانات شرعية.
و جميع الأمانات تشترك في حكم و ينفك بعضها عن بعض في حكم دون آخر، و الحكم العام المشترك بين جميع الأمانات أمران- عدم الضمان إلا بالتعدي و التفريط. و وجوب الرد إلي المالك- و تفترق الشرعية عن المالكية بوجوب طلب المالك و المبادرة إلي رد ماله اليه و لو من غير طلب منه بخلاف المالكية فان الواجب دفع ماله اليه عند طلبه و لا يجب أن يتطلبه كما في الأولي.
و هناك أحكام اخري يمتاز بها بعض الأمانات عن بعض تذكر في مواضعها، أما القسم الثالث و هو الاستيلاء علي مال الغير من دون اذن المالك و لا الشارع فأظهر افراده المال المغصوب بجميع أنواعه و أسبابه من سرقة أو نهب أو خيانة أو تدليس أو نظائر ذلك، و يمتاز هذا عن القسمين السابقين بأنه مضمون مطلقاً حتي مع التلف بغير تعد و لا تفريط، و يقابله الأمانة بالمعني الأعم الشاملة للاستيلاء علي مال الغير بإذنه أو بإذن الشارع.
و حيث عرفت أنواع الأمانات يتضح لك أن (المجلة) ذكرت من أنواع الأمانات هنا خصوص الأمانة بالمعني الأخص و هو الوديعة و العاريةأعني ما كان لمصلحة المالك فقط أو لمصلحة القابض فقط و ما عدا ذلك من الأنواع فهي مذكورة في خلال أبواب المعاملات بالمعني الأعم و عبرت عن الامانة كما في مادة (762) بأنها هي الشيء ألذي يوجد عند من يتخذ أميناً، و هذا التعريف لا يخلو من فكاهة فإن ألذي يتخذ أميناً عنده أشياء كثيرة فهل كلها امانة؟ و يهون هذا بناء هذه التعاريف علي التساهل، و التعريف القريب للأمانة بالمعني الخاص هو انها المال ألذي صار في يد غير مالكه، بإذنه أو اذن الشارع، و الأمانة بالمعني الأخص- اي الوديعة- هو المال ألذي دفعه مالكه لغيره لينوب عنه في حفظه، و المعروف في تعريفها عندنا استنابة في الحفظ و إليها أشارت (المجلة) بقولها: سواء كان امانة بعقد الاستحفاظ كالوديعة!! و الاستحفاظ تارة يكون تمام المقصود من العقد كما في الوديعة. و اخري يكون لازم العقد و المقصود بالعقد أصالة غيره كالإجارة و العارية و غيرهما. فالاستحفاظ ملحوظ في الجميع اما أصالة أو تبعاً و باللازم. فان كان المراد من الاستحفاظ ما هو من النوع الأوّل فلا وجه لكاف التشبيه فان العقد ألذي لا يقصد منه الا الاستحفاظ ليس إلا الوديعة و إن كان ما يعمه و النوع الثاني لم يتجه قولها: أو كان امانة ضمن عقد كالمأجور و المستعار، بل حقه أن تقول: كالوديعة و كالمأجور و المستعار أو دخل بطريق الأمانة بيد شخص بدون عقد و لا قصد كما لو القت الريح في دار أحد مال جاره فحيث كان بدون عقد لا يكون وديعة بل أمانة فقط.
و بهذا ظهر إن الوديعة أخص و الأمانة أعم فإن المأجور و المستعار و ألذي ألفته الريح كلها أمانة لا وديعة، غايته أن الأولين أمانة مالكية و الأخير أمانة شرعية، و منه ظهر مادة (763)