الخميس, رمضان 18, 1445  
 
اجتهاد في الشريعة بين السنة والشيعة

  اجتهاد في الشريعة بين السنة و الشيعة

من أهم الموضوعات الحية التي تتصل بالفقه الإسلامي اتصالا عملياً موضوع الاجتهاد وإنما كان هذا الموضوع من أهم الموضوعات، لأن عليه يترتب أهم وصف يوصف به الفقه الاسلامي، من حيث صلاحيته لكفالة الحياة السعيدة للعاملين به المنظمين شئونهم علي أساسه، فمن المقرر أن شريعة الإسلام صالحة لكل زمان ومكان، وأن لله في كل واقعة حكما حتي أرش الخدش، وما من عمل من أعمال المكلفين من حركة أو سكون الا ولله فيه حكم من الأحكام الخمسة: الوجوب، والحرمة، والندب، والكراهة، والاباحة، وما من معاملة علي مال أو عقد نكاح ونحوهما الا وللشرع فيها حكم صحة أو فساد.

ولما كانت الأعمال غير محدودة، ووجوه التصرفات غير منحصرة، وإنما هي متجددة بتجدد الازمان والأمكنة والأحوال، وقد يوجد في عصر لاحق ما لم يوجد في عصر سابق، فإما أن يقف الناس أمام تلك الامور حائرين مشدوهين، لا يجدون من يفتيهم فيها بحكم الله، ويبين لهم ما عليهم أن يفعلوه،

 

وما عليهم أن يتركوه، فتكون دعوي الصلاحية لكل زمان ومكان في موضع الشك والتزلزل عند عامة الناس وخاصتهم، ويلتمس الناس لأنفسهم فقهاً وضعياً ملائماً لهم، قادراً علي تلبية حاجاتهم، وإما أن يستقبل العلماء كل حادثة تجدّ، وكل قضية تعرض، بما كان يستقبل به الفقهاء الأولون حوداثهم، ووجوه التصرفات والمعاملات في زمانهم، فيستنبطوا حكم الله، ويبينوا للناس ما نزل اليهم، ويدخلوا بهذا الفقه كل مجال، ويطرقوا به كل باب، ويحملوا أمتهم وحكامهم ونوابهم عليه حملاً، لا بالقوة ولا بالثورة، ولكن بالاقناع والتوجيه وإبراز محاسنة، والتخلص من الجمود والتعصب، والضيق والتبرم، وحينئذ تصدق دعوي الصلاحية لجميع الأزمان والأمكنة علماً وواقعاً، ويتجلي للناس فضل الفقه الاسلامي، وسعة أفقه وطواعيته، وحسن تقبله لكل ما يفيد الأمة، ولا يخرج عن الأصول المحكمة التي هي أساس الشريعة.

وليس الذي يدعو إلي الاجتهاد هو حاجة الناس إليه فحسب، وإنما هو أمر تقضي به طبيعة الشريعة نفسها، ويؤذن به أن الله ختم بها النبوات، وجعلها آخر الرسالات، وأنه تعالي تكفل بحفظ كتابه الكريم إلي يوم الدين عزيزاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولم يكن الخلود والعصمة لمجرد أن يتعبد الناس بتلاوته، وليست العزة لكتاب ما في مجرد تبرك الناس به، وإنما كان هذا وذاك عن حكمة اسمي، ورحمة أعم وأشمل، ذلك أن يظل الناس أبد الدهر منتفعين بكتاب ربهم في جميع شئونهم وأحوالهم، وأن تبقي الحجة به قائمة علي صدق الرسول، وحقية الشريعة، فما دام في المسلمين عقول تفكر، وقلوب تفقه، فلابد لهم من النظر في كتاب ربهم، وإلا كانوا منتسبين إلي القرآن بالاسم والميراث دون أن يكون منهم فرقة متفقهة في الدين، ينفرون إليه بعقولهم وقلوبهم وأجسامهم قائمين وراحلين فحصا وعلما ودرساً ونظراً وتبيينا وعرفاناً واستنباطاً لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون.

ثم إن الله جلت حكمته قد أودع نبيه جميع أحكامه وأسراره وعرّفها له

 

بالوحي والالهام. فكانت سنته عليه الصلاة والسلام هي الركن الثاني بعد القرآن، وهي البيان له والتفصيل والكشف.

وقد كان أصحاب رسول الله (صلي الله عليه وسلم) يختلفون في فهم نصوص الكتاب والسنة حسب اختلاف مراتب أفهاهم وقرائحهم (أنزل من السماء ماء فسألت أودية بقدرها).

ولكن تأخذ الأذهان منه ****** علي قدر القرائح والفهوم

وقد يسمع الصحابي من النبي في واقعة حكماً، ويسمع الاخر في مثلها خلافه وتكون هناك خصوصية في أحدهما اقتضت تغاير الحكمين، وغفل أحدهما عن الخصوصية أو التفت إليها وغفل عن نقلها مع الحديث، فيحصل التعارض في الاحاديث ظاهراً، ولا تنافي واقعاً، ومن هذه الأسباب وأضعاف أمثالها احتاج الاصحاب أنفسهم، وهم الذين فازوا بشرف الحضور، احتاجوا في معرفة الأحكام إلي الاجتهاد والنظر في الحديث، وضم بعضه إلي بعض، والالتفات إلي القرائن الحالية، فقد يكون للكلام ظاهر، ومراد النبي خلافه اعتماداً علي قرينة كانت في المقام، والحديث نُقل، والقرينة لم تنقل، وكل واحد من الصحابة ممن كان من أهل الرأي والرواية ـ إذ ليس كلهم كذلك بالضرورة ـ تارة يروي نفس الفاظ الحديث السامع من بعيد أو قريب، فهو في هذه الحال راوٍ ومحدث وتارة يذكر الحكم الذي استفاده من الرواية أو الروايات حسب نظره واجتهاده، فهو في هذه الحال مفتٍ وصاحب رأي، وأهل هذه المَلَكَة مجتهدون، وسائر المسلمين الذي لم يبلغوا تلك المرتبة إذا أخذوا برأيه فهم مقلدون، وكل ذلك قد جري في زمن صاحب الرسالة، صلوات الله وسلامه عليه، وبمرأي منه ومسمع.

وإذا أنعمت النظر في هذا اتضح لك أن الاجتهاد كان مفتوح الباب في زمن النبوة وبين الاصحاب فضلاً عن غيرهم وفضلاً عن سائر الازمنة التي بعد ذلك، غاية الامر أن الاجتهاد يومئذ كان خفيف المؤنة جداً، لقرب العهد، وتوافر

 

القرائن، وإمكان السؤال المفيد للعلم القاطع، ثم كلما بعد العهد من زمن الرسالة وتكثرت الآراء، واختلطت الاعارب بالأعاجم، وتغير اللحن، وصعب الفهم للكلام العربي علي حاق معناه، وتكثرت الأحاديث والروايات، وربما دخل فيها الدس والوضع، وتوافرت دواعي الكذب علي النبي (صلي الله عليه وسلم) أخذ الاجتهاد ومعرفة الحكم الشرعي يصعب ويحتاج إلي مزيد مؤنة واستفراغ وسع، وجمع بين الأحاديث، وتمييز الصحيح من السقيم، وترجيح بعضها علي بعض، ولكما بعد العهد وانتشر الإسلام وتكثرت العلماء والرواة، ازداد الأمر صعوبة ولكن مهما يكن من شئ فباب الاجتهاد كان في زمن النبي (صلي الله عليه وسلم) مفتوحاً، بل كان أمراً ضرورياً عند من يتدبر.

ومن مفاخر الشيعة الإمامية: أن باب الاجتهاد ما يزال عندهم مفتوحاً، ولن يزال إن شاء الله حتي تقوم الساعة، بخلاف المشهور عند جمهور المسلمين من أنه قد سد وأغلق علي ذوي الالباب، وما ادري في أي زمان وبأي دليل وبأي نحو كان ذلك الانسداد ؟

وقد بين كثير من حذاق العلماء في مذاهب أهل السنة أن هذا زعم باطل، وتضييق لا دليل عليه، وأن هذا إنما كان يقال به في عصور الضعف الفقهي، والتعصب المذهبي، وبعض القائلين به إنما يريدون أنه لم يعد بين المسلمين من يصلح لهذا المنصب، لقصور الباع، وقلة المتاع، لا لأن باباً قد أقفل، أو واسعاً قد حُجِّر، والأمر علي هذه الصورة قريب، ومدي الخلاف في شأنه ليس بعيداً، فمن المتفق عليه: أن المجتهد هو من زاول الأدلة ومارسها واستفرغ وسعه فيها، حتي حصلت له ملكة وقوة يقتدر بها علي استنباط الحكم الشرعي من تلك الادلة، وهذا أيضاً لا يكفي في جواز تقليده، بل هناك شروط أُخر، أهمها: (العدالة) وهي ملكة يستطيع معها الكف عن المعاصي، والقيام بالواجب كما يستطيع من له ملكة الشجاعة اقتحام الحرب بسهولة بخلاف الجبان، وقصاراها أنها حالة من خوف الله ومراقبته تلازم الإنسان في جميع أحواله، ولم تضق رحمة

 

الله ونعمته حتي تحجر علي عصر دون عصر، أو تفرض علي قوم دون قوم، أو تضوع لها السدود والأقفال من الأزمان والحساب.

ولقد حملت إلي مجلة رسالة الإسلام في عددها الأول بشري من أعز البشريات، عن حضرة صاحب الفضيلة أخي في الله العالم الجليل الشيخ عبد المجيد سليم رئيس لجنة الفتوي بالأزهر، وكبير فقهاء أهل السنة في هذا العصر، تلك هي قوله في بيانه للمسلمين: ولقد أدركنا في الأزهر علي أيام طلبنا العلم عهد الانقسام والتعصب للمذاهب، ولكن الله اراد أن نحيي حتي نشهد زوال هذا العهد، وتطهر الأزهر من أوبائه وأوضاره، فأصبحنا نري الحنفي والشافعي والمالكي والحنبلي إخواناً متصافين وجهتهم الحق، وشرعتهم الدليل، بل أصبحنا نري بين العلماء من يخالف مذهبه الذي درج عليه في أحكامه، لقيام الدليل عنده علي خلافه، وقد جريت طول مدة قيامي بالافتاء في الحكومة والازهر ـ وهي أكثر من عشرين عاما ـ علي تلقي المذاهب الإسلامية ـ ولو من غير الاربعة المشهورة ـ بالقبول ما دام دليلها عندي واضحاً، وبرهانها لدي راجحاً مع انني حنفي المذهب، كما جريت وجري غيري من العلماء علي مثل ذلك فيما اشتركنا في وضعه أو الافتاء فيه من قوانين الاحوال الشخصية في مصر، مع أن المذهب الرسمي فيها هو المذهب الحنفي وعلي هذه الطريقة نفسها تسير لجنة الفتوي بالازهر التي اتشرف برياستها، وهي تضم طائفة من علماء المذاهب الاربعة .

ألا إن هذا لهو الفتح المبين لما زعمه الزاعمون مغلقاً، والفسح والبسط لما حسبوه ضيقا.

ولقد كنت أعرف ذلك في فضيلة الأستاذ الجليل، وفي فريق صالح من إخوانه العلماء الأزهريين، ولكن نشوة من الفرح والأمل يجب أن تغمر كل مسلم لإعلان هذا بلسان هذا العالم الكبير المسئول، ولذلك لا يسعني الا أن أعلنه في الناس مرة أخري، وأن أوجه إلي الشيخ وأصحابه ـ مع شديد الاعجاب ـ اكرم التحيات، والحمد لله رب العالمين.

 لينك به پايگاه مجلات تخصصي

 
امتیاز دهی
 
 

 
Guest (PortalGuest)

دبيرخانه كنفرانس‌هاي بين‌المللي
Powered By : Sigma ITID