ايام علي درب مسالك الأفهام


                                             قاسم الخفاجي

تمنحنا الحياة فرصا، ويتحنن علينا القدر بمنن لا ندرك السرّ من وراءها إلاّ بعد حين، وهنالك محطات في الحياة تُشعرنا بأنّ يد الغيب تأخذ بنا إلى دروب نكتشف فيها معنىً ما، ونكون معها على موعد مع حقائق قد نذهل عنها ونحن نخوض في تفاصيل اليومي وانشغالاته وهمومه.

قُدّر لي في عملي الذي أزاوله منذ سنوات، أن أعمل على مطابقة نسخة من كتاب "مسالك الأفهام في شرح شرائع الإسلام" للشهيد الثاني..فأحسست أنّي مقبل على عمل مختلف، ولعلّ مرجع ذلك لوقع اسم "الشهيد"؛ وهو اسم شهرته الذي طغى وغطى على اسمه؛ وأثره الكبيرعلى نفسي.

وأنا أتامل الإسم وأتحسس اختلاجاته في نفسي وجدتني أتساءل لماذا فٍعلُ القتل بسبب فكرة أو معتقد أوموقف أو دور يمنع من الإمحاء والإنهاء والإلغاء من التاريخ؟ بل نجده يُعاكس أهداف القتلة والطغاة، فيتخلد القتيل من خلال مفهوم الشهادة الطافح بمعاني البقاء والحضور المتوهج..ينتهي الطغاة إلى مصائرهم المخزية ويظل حضور الشهيد..وكيف - لعمري- يتصرّم وجودٌ أو مصيرٌ والله من اختاره (ويتخذ منكم شهداء).

ها أنذا أمام هذا السٍّفر العظيم..أمام واحد من آثاره العلمية الكبيرة والمعروف اختصارا بـ"المسالك"، والعنوان وحده يختزل الهمّ المعرفي الذي عاش الشهيد الثاني حياته القصيرة كلّها وهو يشيد صروحه، الفهم ومسلكه المؤدي إليه، ولأنّ الفهم متعدد فها هي مسالك يعبّدها ذهن الشهيد الخلاق، للوصول إلى أفهام كما هي الحقيقة كامنة في أكثر من ركن.

كان شغفي بالكتاب كبيرا، كنت كمن يغوص في عوالم من الفقاهة في بحر مُلئ قاعه باللالئ، حتى أني كنت أشعر بضياع الخيط منّي وأنا انتشي بتلك الاستدلالات والشروحات والمناقشات للآراء، فأشعر أني أمام عملاق يتواضع، وكأن هذا الغوص يمدنّي بأنفاس فأواصل من دون كلل أو إحساس بالضيق والاختناق.

وأنا في رحلتي مع الكتاب، لم يفارقني إحساس القداسة، فكنت أقبل عليه في احترام وتأدب، ويتردد في وجداني( فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى) فاخلع عنّي هموما ومشاغل حتى تصفو نفسي وتنظر إلى هذه الصفحات من صفاء.

استئنست بالكتاب وأحسست أنه أنس بي أيضا، وبدا لي وأنا أطابق النسخ مع بعضها أنّ قلبي ينسج من الظلال والأحاسيس التي يقتبسها كلما شرعت في عملي على الكتاب؛ ملامح صورةٍ عن الشهيد. وسرعان ما تحوّل نسيج القلب إلى رغبة واعية..وسألت نفسي هل يمكن أن نرى الأشخاص من خلال كتبهم؟

هل هي مجرد كلمات وأسطر وفصول في طياتها العلم، و تترشح عنها الحقائق ؟ أين الروح وظلالها؟ أين الأنفاس؟ أين أثر العيون التي قرّحها السهاد؟ أين الوجع الذي يسكن الأنفس الحرّى؟ أين إرادة الخير في الأحلام والتطلعات والتي نمت واستقت من مقاصد الشارع و ما اختاره لعباده؟

أردت أن أصل إلى صورته..وفي كلّ حين كنت أشرد بين السطور فأتخيل الشهيد منكبّا على الكتابة والتأليف، دون أن أتخيل له ملامح محدّدة..فقد تركت لقلبي أن ينسج ذلك من خيط محبّته لهذا العظيم في علمه والمتألق في موته.

ومع تتالي الأيام وفي لحظات الصفاء الروحي، وفي الموارد التي يذهب بي الغوص فيها بعيدا إلى أعماق أكبر، كنت ألامس ذلك التجلّي، وأشعر به كبؤرة النّور ينقطع معها كلّ إحساس آخر لي؛ غير إحساسي في كوني اقترب أكثر فأكثر.

كففت عن تخيّل مشهد الشهيد الثاني وهو يكتب..لأنّ ما جمّعه قلبي من شذرات صورته كان يغنني عن ذلك، لكنّه لم يردع حرصي ورغبتي في أن أراه..وكنت استحث القلب ان يسرع وينهي نسجه..خفت أن تسبق مطابقة النسخ عمل القلب ونسجه.

أردت أن أنهي عملي وصورةٌ الشهيد الثاني قد تجلّت لي، ذلك هو الظفر من رحلتي مع الكتاب، ولا شيء يرجع بي عن هذه الرغبة في أن أراه..خاصة وأنّ إحساسي ينبؤني أنّي على مسافة قصيرة من ذلك.

بدأت أكلمه همسا..وتملكني إحساس بالخسارة الفادحة، فكيف لقوم يقتلون رجلا كهذا، وأن يكون السبب في ذلك هو علمه ونبوغه؟

وفي لحظات التفجّع هذه والتي كانت تشلني عن مواصلة السير مع الشهيد في شروحاته وفيوضاته العلمية، كان نسيج القلب يتسارع، وشذرات الصورة تخرج عن حدّ الإبهام إلى ما يشبه انعكاس الظل، لكنّها سرعان ما كانت تتبدد قبل أن تعود لتتشكل كظلّ أكبر وأقرب.

أصبح ظل الشهيد الصاعد من نسج القلب يتبدى هذه المرة على صفحات الكتاب، لم يكن صورة  بملامح كما كنت أتصور، كان مجرد ظل، لكنّه ظلّ كلّه حياة يهدّئ من شغف الروح، كان تجلّ روحاني له هيبة ويبعث على السكينة.

سكنت نفسي وأحسست أني أراه..واقترب منه، وقرّت عيني لذلك، وحين أراجع وصف ابن العودي التلميذ لأستاذه الشهيد..ابتسم وأقول: هي أوصافٌ قد يذهب فيها الخيال مسالك، وأما نسجُ القلب فهو يجلّي، وما أجلاهُ القلب فلا تحييّر فيه الأفهام.  

------

«مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام‏» للشهيد الثاني (المستشهد سنة 965هـ).

 

 

 

 

 
امتیاز دهی
 
 

خانه | بازگشت | حريم خصوصي كاربران |
Guest (PortalGuest)

كنگره بين المللي شهيدين
مجری سایت : شرکت سیگما