بعض الابتكارات الأصولية للشهيد الثاني

بعض الابتكارات الأصولية للشهيد الثاني

                                                                                             محمد رحماني

 

امتاز الفقه الشيعي علي سائر المذاهب والاتجاهات الفقهية في العالم بعدة امتيازات، يمكن أن نعدّ منها: انفتاح باب الاجتهاد.

وهذا الانفتاح لم يساعد مذهب الشيعة علي صيانة الفقه من عوامل الخطر فحسب، بل أفاض عليه من البركات الكثيرة، منها: إعانته علي التطور والتوسّع علي الصعيدين: الكمي والكيفي، والمواكبة لحاجات ومتطلبات العصور المتعاقبة.

ولا شكّ في أنّ علم الأصول باعتباره وسيلة وآلة تعين الفقيه في ممارسة عمله الاجتهادي، قد شمله التطوّر والتقدّم هو الآخر، واحتلّ موقعاً رفيعاً علي هذا الصعيد، نظراً للترابط الحاصل بين هذين العلمين.

وهذا لم يكن ليحصل لولا وجود علماء باحثين وعاملين؛ ضحّوا بالغالي والنفيس من أجل حفظ وتطوير هذا الإرث العلمي الكبير، وصيانته من عوامل الهدم أو التحريف.

ومن بين هؤلاء يبرز اسم ألمعيّ كان له حظور ملفت في عرصة الفقه والأصول، وهو الشيخ البارع زين الدين العاملي، المشهور بالشهيد الثاني.

 

مكانة الشهيد الثاني في علم الأصول

لم يصل علم الأصول الشيعي إلى هذا التطور الذي هو عليه الآن فجأة، بل مرّ بسلسلة تحولات متعددة حتّي‌ بلغ المستوى هذا المستوى.

وقد قسّم بعض مؤرّخي هذا العلم مراحل تطوّره إلي ثلاثة مراحل،  وأسماها دورات وقيّدها بالخاصة:

الأولي: عبارة عن اهتمامات علماء الشيعة بالموقف الفكري لأهل السنّة، فكان التلاقح العلمي قائماً بين علماء‌ المدرستين، فمن جهة ثمّة نقد لبعض البحثوت الأصولية لأهل السنّة كبحث القياس مثلاً، ومن جهة أخري تأثّر من قبل بعض فقهاء الشيعة كابن جنيد مثلاً.

الثانية: وهذه الدورة عبارة عن الصدامات العلمية بين الأصوليين وعلماء الأخبار (الأخباريين) الذين تزعم تيارهم  آنذاك الملاّ أحمد أمين الاسترآبادي، وكاد يغلب هذا التيار الحركة الأصولية لولا ظهور جملة من فحول الأصول البارعين أمثال: الوحيد البهبهاني والمحقق القمّي والشيخ الأنصاري الذين انتصروا للفكر الأصولي.

الثالثة: وهو العصر الحاضر وما يشهده من تطور نوعي في علم الأصول.

لكن ثمّة علماء يقسّمون تاريخ أصول الفقه إلي أربع مراحل، وأطلق علي كلّ مرحلة مدرسة معينّة، فخلص إلي إربع مدارس:

أولها: مدرسة‌ ما قبل التدوين، وقد كان روّادها تلامذة الإمامين الصادقين عليهما السلام.

وثانيهما: وتبدأ من أوائل عصر التدوين، وكان أبرز روّادها ابن أبي عقيل وابن الجنيد.

وثالثها: مرحلة النموّ وتبتدئ بعصر الشيخ الطوسي.

ورابعها: مرحلة التكامل، وتبتدئ بعصر الوحيد البهبهاني واستمرت حتّي عصرنا الحاضر.

كما وثمّة تقسيمات أخري بلغت إلي ثماني دورات، يذكرها أحد المتتبعين المعاصرين[1].

ورغم هذا الاختلاف إلا أنّها تشترك جميعاً في التأكيد علي أنّ هنالك ثلاثة مراحل أساسية، وهي عبارة عن: مرحلة التأسيس، مرحلة التوسّع، مرحلة التكامل. ولعلّ الاتفاق جارٍ بأنّ الأخيرة تبتدئ من القرن السابع؛ نظراً لما شهدته هذه المرحلة من تدوين كتب تخصصية في الأصول تشتمل علي مباحث معمّقة وقواعد متفرعة وأخري متصيّدة، دوّنت بأدبيات وقوالب مبتكرة لم تشهدها المراحل السابقة.

وقد برز إبّان هذه المرحلة جملة من الشخصيات الفقهية والأصولية اللامعة كالشيخ البهائي والشيخ حسن المعروف بصاحب المعالم، مازالت أسماؤهم متلألئة في سماء الحوزات العلمية والدينية. ولعلّ من أشهرها شخصية الشهيد الثاني الذي وبفضل ابتكاراته والامتيازات التي أكسبت هذا العلم رونقاً باهراً، أضحي أشهر من يُعرّف.

إنّ إلقاء نظرة عامة علي محتوي كتابه النفيس «تمهيد القواعد» وما ضمّ من مباحث أصولية، يجرّ الباحث علي الاعتقاد بأنّه قائم علي منهجية مبتكرة خاصة به، نذكر شطراً منها:

1. الاستفادة من المنهج التطبيقي:

 ففي مورد القاعدة (96) وعند الحديث عن حجية الاستصحاب يقول: «إنّ الأصل في كل حادث تقديره في أقرب زمان» يشرع بتوضيح القاعدة وبيان أقسامها، ثم يأتي بعشرين ونيّف من المصاديق علي هذه القاعدة.

وكذلك الأمر بالنسبة إلي القاعدة (98) في مجال التعارض بين أصلين، فهو يذكر قرابة الأربعين مورداً مصداقاً لها.

وينحسب ذلك أيضاً عند ذكر القاعدة (99) بصدد تعارض الأصل والظاهر ويأتي بخمسين مثالاً علي ذلك.

إنّ هذا الابتكار ليس بالأمر السهل، وليس باستطاعة أيّ فقيه وأصولي تقديم شواهد غزيرة علي قاعدة واحدة إن لم يكن يتملك تسلّطاً واسعاً وتتبعاً عظيماً علي الموارد الفقهية والحياتية.

2. عرض الأقوال والآراء المختلفة:

 حيث يطرح في كتابه ألوان الآراء الواردة في المسألة من دون ملل أو كلل. فمثلاً حينما يأتي علي القاعدة (31) وهي حول مفهوم الأمر الأعم من صيغة الأمر أو الفعل المضارع المحلّي بالألف واللام أو اسم الفاعل، فإنّه يذكر أربعة عشر قولاً ورأياً في هذه المسألة تحديداً! وهو ما يشير إلي عمق نظرته وشموليتها.

3. الاهتمام بجوانب البحوث والمواضيع الجوهرية:

 فإذا طرح موضوعاً‌ لم يكتف بذكره بشكل عاجر، من دون ذكر مقدمة ممهّدة له، ثمّ تبيين حقيقة المسألة وأقسامها وأركانها، ثمّ لم ينته حتّي يرد توضيحات مبهماتها حتّي يخلص إلي ثمرتها.

4. الاستفادة من المطالب العربية في البحوث الفقهية:

 وهذا امتياز آخر يضاف إلي مؤلّفات هذا الفقيه البارع، ممّا يشير إلي اهتمامه بضرورة تكامل البحوث الواردة علي صعيد الفقه، والتشويق إلي تكميلها وأن لا تكون سطحية وعابرة. وهذا ما جعله يعقد قسماً خاصاً أسماه «القسم الثاني: تقرير المطالب العربية وما يتفرع عليها من الأحكام الشرعية»، يذكر تحت هذا القسم ما يقارب المائة قاعدة مصطبغة بصبغة أصولية، ونافعة في طريق الاستنباط، إضافة إلي متفرعات كلّ قاعدة.

وهذا الابتكار ـ ولا شكّ ـ لم يسبقه أحد فيه، ويصلح أن يكون منهجاً متبعاً حتّي في عصرنا الحاضر.

5. الاستفادة من منهج القواعد:

فبالرغم من أنّ هذا المنهج قد سلكه من سبق الشهيد الثاني، سواء من الشيعة أو السنّة، إلا أنّ في مؤلفات هذا الفقيه البارع طعماً ونكهةً خاصة مختلفة عن الآخرين، ولاسيما قواعد الشهيد الأول.

 

امتيازات منهج الشهيد الثاني علي الأول

ولتوضيح أسلوب الشهيد الثاني، والنكهة التي تتميّز بها مؤلّفاته، يجدر بنا مقارنته بأسلوب فحل آخر من فحول هذا العلم، وهو الشهيد الأول الذي كان له باع في مجال القواعد، ولعلّ كتابه النفيس «القواعد والفوائد» أشهر من أن يعرّف. وعند مقارنة تمهيد القواعد بهذا الكتاب، نشهد فرقاً واضحاً بين منهج هذين الرجلين علي هذا الصعيد، نذكر بعضاً منه:

1. أنّ القواعد يشتمل ـ إضافة إلي القواعد الأصولية ـ علي قواعد علمية أخري من قبيل القواعد الفقهية والأدبية، بينما الشهيد الثاني في تمهيد القواعد خصّه بالقواعد الأصولية، وحتّى عندما ذكر القواعد الأدبية العربية فعل ذلك في مناخ حاجة علم الأصول لمثل هذه القواعد، وأدخلها في هذا الإطار.

2. إنّ كتاب الشهيد الأول لم يراع ترتيباً خاصاً في الموضوع، علي خلاف كتاب الشهيد الثاني الذي دوّنه علي أساس مميّز وخاص، وبترتيب معتبر.

3. أنّ منهج الشهيد الأول في كتابه قد طرح جميع مباحث علم الأصول، بينما منهج الشهيد الثاني يمكن القول بأنّه طرح جميع المباحث أيضاً إلاّ قليلاً.

4. في كتاب الشهيد الثاني سلك مسلكاً علمياً، حيث من أوّل الكتاب إلي آخره يطرح هدفاً ويسعي إلي البحث عنه وإثباته. ولقد نجح في هذا الأمر. فهو علي أساس تصديه لبلوغ الهدف الذي أعلنه في أول الكتاب حيث يقول: «ليكون ذاك عوناً لطالب التفقّه في تحصيل ملكة استنباط الأحكام في الموارد...»؛ يقدّم خدمة للفقه من جهة‌ ولطلابه من جهة أخري، علي خلاف الشهيد الأول الذي لم يعلن عن هكذا هدف، بل أنّ كتابه قد ألّفه في هذا المجال فحسب، لذا تراه مفعماً بالبحوث غير الأصولية.

5. كانت غاية الشهيد الأول من تأليفه للقواعد هو إعانة الطلاب علي كيفية تفريع واستخراج الفروع من الأصل، لكن من دون مراعاة‌ للأدلّة، يقول في مقدمة كتاب: «وفرّعنا المسائل الفقهية علي نفس القاعدة من غير مراعاة الدليل المذكور، إلا ما شذّ».

أمّا غاية الشهيد الثاني فهي ـ إضافة إلي التفريع ـ التطبيق، فهو أحياناً كثيرة يشير إلي المنهج الاستدلالي لتفريعه، ثم يسعي إلي تطبيقه.

6. اهتمام الشهيد الثاني بالفروق اللغوية للمصطلحات والألفاظ الفقهية، وبيان أوجة‌ الفرق بينها، من جملتها بحث الخبر والإنشاء في كتابه «التمهيد»، بينما الشهيد الأوّل لم يبد اهتماماً كما أبداه الثاني رحمه الله.

7. لم يسع الشهيد الأول إلي تفكيك القواعد الأصولية عن القواعد الأدبية، بخلاف الشهيد الثاني الذي فرّق بينهما، فجعل القسم الأول يتصدّي للقواعد الأصولية، والقسم الآخر يتعرّض للقواعد الأدبية.

8. مراعاة‌ الشهيد الثاني لمسألة تقرير محل النزاع أولاً قبل الشروع في البحث، كما في القاعدة (52) حيث أطنب في تقريره، بينما لم يبد الشهيد الأول اهتماماً بهذا الشأن.

 

بعض من أفكاره في أصول الفقه

1. الحد الأقلّ والأكثر من الدين:

من البحوث المهمّة التي يطرحها الشهيد الثاني (ضمن القاعدة 87) كون جميع أفعال النبي صلّى الله عليه وآله حجة، إلا ما ثبت بالدليل على خلاف ذلك.

لكنّه في هامش هذا البحث يتعرّض إلي مسألة مبتكرة وهي أنّه إذا كانت كلّ أفعال النبي صلّى الله عليه وآله إنّما هي في مقام بيان الأحكام الشرعية فتحمل علي العبادة، وهو الهدف من بعثة الأنبياء، وكذلك يمكن حملها علي‌ الفعل العادي من باب أنّ الأصل عدم التشريع، فعند الشكّ أيّهما يقدّم؟ يقول: في‌ المسألة خلاف.

ثم إنّه يفرّع علي هذه المسألة جملة مسائل، منها:

أ. حكم جلسة الاستراحة في الصلاة، واجبة أم لا؟

ب. دخول مكة من طريق كذا والخروج من طريق كذا، فواجب أم لا؟

ج. نزول النبي صلّى الله عليه وآله في حجة الوداع في منطقة «محصّب» هل هو واجب علي‌الآخرين أم لا؟

ثم يقول مضيفاً ومجيباً: «وعندنا ذلك كلّه محمول علي الشرعي، لعموم أدلّة التأسّي».

وهذه القاعدة وما ترتّب عليها من فروع تعدّ اليوم من البحوث الفقهية الرائجة، وتحت عنوان: هل الدين الحدّ الأقلّ أم الأكثر.

2. دوران الحكم بين الحكومة والأصل الأوّلي؛

يذكر في آخر شرحه للقاعدة (89) أنّ فعل النبي صلّى الله عليه وآله أو قوله هو أحياناً من موقع تبليغ الأحكام الشرعية، بحيث يقع موقع الفتوي، من مقام الإمامة ولوازمها، مثل حكم الجهاد والتصرّف في بيت المال، وأحياناً من موقع القضاء ولوازمه. ثم يضيف بعد ذلك متسائلاً: في حال الشكّ ما العمل؟ وثمرة هذا البحث تظهر في مثل قوله صلّى الله عليه وآله: «من أحيي أرضاً ميتاً فهي له» فلو كان في مقام التبليغ فلا يلزم إذن الإمام في عصر الحضور أو نائبه (ولي الفقيه) في عصر الغيبة، ولو كان غير ذلك فالإذن لازم في المقام.

ومن هنا ففي موارد الشكّ يجب الحمل علي ما في حيثية الصدور، من باب ترجيح الغالب علي النادر.

3. دوران الفعل بين الوجول والندب:

لو ثبت فعل من أفعال النبي الأكرم صلّى الله عليه وآله بقصد القربة، لكن شكّ في أنّه واجب أم مستحب، فهل يحمل علي الوجوب أم الندب؟

يذكر الشهيد الثاني هذه المسألة في ذيل القاعدة (89)، ويعقّب أنّ لها ثمرات فقهية، منها: رعاية‌ التأسي برسول الله في تحصيل الطهارة من غير الغسل، الموالاة في الطواف، تقديم خطبة الجمعة أو العيد إذا اجتمعا، المبيت في المشعر الحرام... وغير ذلك.

ومن هنا فمن الضروري مطالعة تاريخ وسيرة المعصومين عليهم السلام، حيث أنّ مصاديق هذه المسألة وما يماثلها تكثر في سيرتهم عليهم السلام.

4. تعارض الأصل والظاهر:

من البحوث التي انفرد بطرحها الشهيد الثاني هو بحث تعارض الأصل مع الظاهر الذي يطرحه مفصّلاً في القاعدة (99)، حيث يبحثه في أربعة أقسام:

أولها: الموارد التي يعمل بظاهرها، والأصل الترك فأتي بما يقارب أحد عشر مصداقاً فقهياً لها.

ثانيها: الموارد التي يعمل بالأصل لا الظاهر من باب أنّه دليل شرعي فأتي بسبعة مصاديق.

ثالثها: الموارد التي يعمل بالظاهر، وترك العمل بالأصل، ليس من باب أنّه دليل شرعي، وإنّما هو من باب تقديم الظاهر علي الأصل. وأتي بستة عشر مصداقاً لها.

رابعها: في موارد الشك، أيّهما يقدّم: الظاهر أم الأصل؟ وقد أورد سبعة مصاديق عليها. وبهذا يكون المجموع ما يقارب الخمسين فرعاً فقهياً كمصاديق وأمثلة للقاعدة المذكورة.

5. الضابط في دلالة الأمر علي الوجوب:

ثمّة موارد يتحرك المكلّف نحو امتثال المأمور به، بصيغة الأمر لكن بصرف النظر عنه، فالدلالة في مثل هكذا موارد ليس علي نحو الوجوب، لأنّ الغاية من وجوب المأمور به هو البعث والتحريك للمكلّف لتحقيق أمر أو فرض.

يقول (رحمه الله) في القاعدة (33): « إذا أمر بشيء يتعلّق بالمأمور، وكان عند المأمور دافع يحمله علي الإتيان به، فلا يحمل ذلك الأمر علي الوجوب لأنّ المقصود في الإيجاب إنّما هو الحثّ علي طلب الفعل».

إنّ هذه الالتفاتة من الشهيد الثاني تعدّ إحدي اهتمامات هذا الفقيه علي نحو الدقّة في تشخيص المطالب، وإحدي الخصائص التي تميّز بها عن غيره من الفقهاء.

6. أقسام متعلّق الواجب:

يذكر الشهيد الثاني في القاعدة (12) مورداً ظريفاً يتعلّق بالحكم الإسلامي وما يصدق عليه من أمور، مثل المسح علي الرأس في الوضوء، والأضحية في الحج، يذكر ستة ثمرات فقهية مترتبة علي هذه المسألة.

منها: لو صدق بشدة مسمّي المسح، فهل يحكم عليه بالوجوب أم الاستحباب؟ أقوال، أحدها التفصيل بين أن يكون المسح دفعة واحدة أو دفعات أو بالتدريج. ففي الأول يصدق الواجب، والثاني، بمقدار مسمّي الواجب والباقي مستحب.

ولا يخفي أنّ لهذه القاعدة مصاديق كثيرة، من جملتها: الزيادة علي التسبيح الواحد في الركوع والسجود، والزيادة في مقدار الحلق أو التقصير. فهو يذكر خمسة ثمرات فقهية مترتبة علي هذا التفريع.

7. مدلول النهي بعد الوجوب؛

من جملة‌ البحوث التي طرحها الشهيد الثاني هو البحث في أنّ النهي الوارد بعد الوجوب دالّ علي الحرمة أم لا؟ فهو يعتقد أنّ البحث في دلالة الأمر علي ‌الوجوب كما هو مهم ورائج بين المحقّقين، كذلك هذا البحث وهو دلالة النهي على الحرمة، فيقول في القاعدة (41): «من قال: إنّ الأمر بعد التحريم للوجوب، قال: إنّ النهي بعد الوجوب للتحريم أيضاً».

8. تقديم الاستصحاب علي قاعدة اليد:

المشهور بين الأصوليين في موارد تعارض الأصل مع الأمارة، تقدّم الأمارة، فعند تعارض قاعدة اليد وهي أمارة علي الملكية مع استصحاب عدم الملكية لغير ذي اليد، فتقدّم القاعدة هنا. لكن الشهيد الثاني يقدّم استصحاب عدم الملكية في المقام، يقول في القاعدة (96): «لو تعارض الملك القديم واليد الحادثة ففي ترجيح أيهما قولان.. والأوّل مقدّم».

9. حجية قياس منصوص العلّة:

أنّ الشهيد بعد تقسيمه للقياس إلي منطقي وفقهي كتب يقول: إنّ قياس منصوص العلّة أو النصّ الدالّ علي العلّة قطعي أم الظاهر والظنّي؟ الأول هو الحجة، وقد ترتب عليه فروعات كثيرة.

 

بعض من أفكاره في القواعد الأدبية

ذكر جملة من القواعد الأدبية التي تدخل في مجال الأصول، ولها علاقة بعملية الاستنباط، منها:

1. صدق الكلام علي الكتابة دون غيرها:

وقع بين أصحاب النظر بحث مبني علي أنّ إطلاق الكلام علي الكتابة هو من باب المجاز أم هو من باب الاشتراك اللفظي والحقيقي؟ يطرح الشهيد هذا البحث في القاعدة (103) وذكر له ثمرات فقهية مترتبة عليه، مثل: رجل له زوجتان وقال: إحداهما طالق! وأشار إليها. ففي صورة صدق الكلام علي الإشارة مجازي، فالطلاق غير واقع، وإذا كان الإطلاق من باب الاشتراك اللفظي فالطلاق واقع.

2. مفهوم اسم الفاعل والمفعول:

برأي علماء‌ الصرف والنحو أنّ اسم الفاعل والمفعول إذا أُطلق فيشمل حقيقة الماضي والحال والمستقبل. أمّا الأصوليون فقد اتفقوا علي أنّ معناه يشمل الحال والمستقبل، واختلفوا في الماضي، فقال الأشاعرة بأنّ الإطلاق مجازي، بينما ذهب الإمامية والمعتزلة إلي أنّه حقيقي.

يذكر الشهيد الثاني هذا البحث الأدبي ضمن القاعدة (115) مع ذكر بضع ثمرات فقهية، مثل: قول القائل: وقفت داري علي حفّاظ القرآن. فلو أنّ شخصاً كان حافظاً للقرآن لكنّه الآن نسي، فعلي مذهب الأشاعرة لايصدق عليه، والإمامية تري أنّه يصدق عليه.

3. الترخيم:

وهو عبارة عن حذف آخر الاسم في النداء وغيره... ومن ثمرات هذا البحث الأدبي في مورد أنّ الزوج لو قال لزوجته: «أنت طالِ» بحذف القاف هل تقع صيغة الطلاق أم لا؟ يتعرض الشهيد الثاني للمسألة في القاعدة (200) مع ذكر جملة ثمرات لها، ويري أنّ الطلاق لم يقع بسبب أنّ صيغة الطلاق توقيفية من وجهة نظر الشرع، وعليه يجب أن يتحقّق بشكله الخاصّ به.

4. تبديل الحاء‌ بالهاء، والقاف وبالكاف:

من البحوث المطروحة جواز أو عدم جواز تبديل هذه الحروف وإن لم تكن شائعة، لكنّها تشتمل علي ثمرات فقهية، مثل: من يلفظ «الحمد» و«الرحمن» و«الرحيم» بالهاء، فهل صلاته صحيحة؟ يذكر الشهيد في القاعدة (200) أصل المسألة، وأنّها مبتنية علي أنّ القراءة الواجبة يجب أن تكون مطابقة لإحدي القراءات المتواترة. ثم قال: هذه القراءة لو أمكن تصحيحها فهي باطلة، وإن لم يمكن فهي أشبه بمن يلثغ، أي لا يستطيع علي تلفّظها صحيحة.

5. معني الفعل المضارع:

ينقل الشهيد الثاني ضمن القاعدة (141) أقوالاً مختلفة حول معني‌ المضارع:

أ. مشترك بين الحال والمستقبل.

ب. حقيقي في الحال ومجازي في الاستقبال.

ج. عكس الثانية.

د. حقيقي في الحال ولا يستعمل في الاستقبال، لا حقيقةً ولا مجازاً.

هـ. عكس الصورة السابقة.

ويرتّب الشهيد بعض الثمرات الفقهية علي هذه الأقوال، مثل: إذا أقسم أحدهم وقال: «والله لأصومنّ» ففي صورة عدم القرينة علي تعيين الحال أو الاستقبال طبق المعنى الأول، فعليه الصيام، الآن أو بعد ذلك، وطبق المعني الثاني والرابع فأداء ‌الصوم في الوقت الحاضر واجب.

6. ذكر الوصف في نهاية الجمل المتعددة:

يطرح الشهيد في القاعدة (192) بحثاً أدبياً اختلف فيه أرباب هذا الفنّ، وهو في حالة أنّ الكلام إذا اشتمل علي عدّة جمل، وفي نهايتها أتي بوصف، مثل قول القائل: وقفت داري علي أولادي وأولاد أولادي والطلاب والقرّاء العدول. فهل وصف العدول متعلّق بالكلّ أم بالأخير خاصة؟ يذكر الشهيد الثاني أنّ الوصف بناءً علي تعلّقه بكلّ الجمل فهو قيد لها جميعاً وبدون هذا القيد لا يكون حكم، لأنّ الموضوع لم يتحقّق.

7. أقلّ عدد:

في بحث الأعداد، قالوا: إنّ العدد الأقلّ اثنان، وأمّا الواحد فليس هو جزء العدد، بل هو أصل. فهو يذكر في القاعدة (135) أنّ لهذا البحث جملة ثمرات فقهية في باب الاقرار والوصية والنذر... وغيرها.

بعض أفكاره ونقودها

طرح الشهيد الثاني بعضاً من الأفكار لم يرحّب بها الأصوليون، بل وصارت هدفاً لنقودهم، نذكر أهمّها:

1. مفهوم الوصف:

ذكر الشهيد الثاني حجية المفهوم والشرط بعد أن أورد أقوالاً، واختار القول الثالث وهو التفصيل بين المفهومين. ذكره في القاعدة (25) رغم أنّ المشهور في الوقت الحاضر بينهما تفاوت كبير علي صعيد الحجية وعدم الحجّة.

2. مفهوم الزمان والمكان:

من جملة البحوث التي تعرض لها أيضاً مفهوم الزمان والمكان، ذكره في ذيل القاعدة (28) فيقول: «مفهوم الزمان والمكان حجة عند جماعة ومردود عند المحققين».

3. مدلول الفكرة الواقعة في سياق الشرط والإثبات:

من البحوث التي طرحت في عصر الشهيد الثاني هذا البحث وهو أنّ الفكرة الواقعة (أ) في سياق النفي (ب) في سياق الشرط (ج) في سياق الإثبات، فهي من ألفاظ العموم وهل تدلّ عليه أم لا؟ يري الشهيد أنّ ثلاثتها يدلّ علي العموم. ذكر ذلك ضمن القواعد (53، 54 و 55).

4. دخول المتكلم في عموم الخطاب:

ذكر في القاعدة (60) أنّ المتكلم الذي يدخل في متعلّق عموم الخطاب، فهل هو داخل في خطاب الخبر فحسب أم هو يدخل في أعمّ من ذلك كأن يكون للأمر والنهي أيضاً؟

وقد رتّب علي المسألة عشرة فروع فقهية كلّها تدخل في عملية الاستنباط.

5. بطلان المعاملة المنهي عنها:

يري الشهيد الثاني أنّ النهي في المعاملات كالنهي في العبادات موجب للفساد. يقول في القاعدة (42): «النهي في العبادات يدلّ علي الفساد مطلقاً، وكذا في المعاملات، إلاّ أن يرجع النهي إلي أمر تقارن للقصد غير لازم له، بل منفك عنه، كالنهي عن البيع يوم الجمعة وقت النداء».

6. دخول العبيد في عموم خطابات الشارع:

في نهاية القاعدة (61) يطرح الشهيد الثاني مسألة دخول العبيد والرقّ في عموم الخطابات الشرعية، كالمسلمين والمؤمنين. ورتّب علي ذلك بضع نتائج فقهية وإن كان هذا الموضوع لم يلق ترحيباً من الآخرين.

7. اختصاص الخطابات بالمشافهة:

ذكر في القاعدة (63) أنّ الخطابات مثل «يا أيّها الناس» تشمل الحاضرين في عصر الخطاب فقط، ولا تشمل ما بعدهم يقول: «خطاب المشافهة نحو (يا أيّها الناس) ليس خطاباً لمن بعدهم، وإنّما يثبت الحكم بدليل آخر كالإجماع».

8. الاختصار في بحث الخبر:

من جملة البحوث التي تعرّض لها، واشتهرت في كتب الأصوليين إلي الآن هو بحث حجية خبر الواحد، ومن جهات متعددة، حيث يذكر في الباب (8) من المقصد الثاني من كتابه التمهيد، مطالب عديدة متعلقة بهذه المسأله. وكذا في القاعدة (90) حيث يذكر تعريف الخبر وفروع ذلك، وفي القاعدة (91) يبحث في مفهوم الصدق والكذب، وفي القاعدة (92) حول القرائن المسبّبة للخبر ودخلها في مصداقه. فالموضوع رغم أهميته في علم الأصول، وقد أفرد له الأصوليون أبواباً خاصاً به، إلا أنّ الشهيد لم يتعرّض له إلا اختصاراً، ولعلّ ذلك عدّ من وارد نقص كتابه.

9. تهميش البحوث الأصلية:

فالشهيد الثاني وخلال بحثه حول «المفاهيم» وهو من البحوث المحورية والمهمة في علم الأصول، نجده يوردها في الحواشي أو الملاحق لبحوث أخري. ونري أنّ ذلك نقصاً يلحق بالكتاب.

10. عدم اهتمامه بالبحوث العقلية:

لم يبد الشهيد الثاني اهتماماً بالبحوث المتعلّقة بالعقل، بل يكاد لم يذكرها في كتابه، في وقت تشكّل هذه البحوث أحد مصادر استنباط الأحكام، وتحتلّ مساهة واسعة من علم الأصول، ولها أثر في مقدمات الأدلّة الأخري.

 

 

 



[1] . تاريخ الفقه والفقهاء، ص 299 (فارسي).

 
امتیاز دهی
 
 

خانه | بازگشت | حريم خصوصي كاربران |
Guest (PortalGuest)

كنگره بين المللي شهيدين
مجری سایت : شرکت سیگما