العلاقات بين الأئمة والعلماء في العصور السابقة
«مع التركيز على الشهيدين» 
 
الشيخ محمد علي التسخيري
 عندما نستعرض استراتيجية المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية نجد ان هذا المجمع من بين تطلعاته يتطلع الى مايلي:
1- السعي الى جعل الوضع الذي يعيشه المجتمع الاسلامي المعاصر اقرب ما يكون الى ظروف ووضع عصر الرسول الاكرم(ص) من حيث التأسي بجوانب الاخوة الدينية، والقضاء على أجواء العداوة والعصبية الطائفية بين اتباع المذاهب الاسلامية.
2- اقتداء الأتباع بسلوك أئمة المذاهب الاسلامية بعضهم مع البعض الآخر.
ومن هنا رغبنا في استعراض بعض أنماط التعامل المشار اليها.
انطلاقاً من قوله(ص): خير القرون قرني الذي انا فيه...» ([1]). اولاً، وثانياً من التحذير القرآني من اخطار الابتعاد عن أجواء عصر الرسول التي تتلخص في (قسوة القلوب) التي اصابت بعض اهل الكتاب كما في قوله تعالى: )أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ(([2])،
ولقد كان امير المؤمنين علي(ع) يذكر قومه – وهم الاقرب إلى عصر الرسول – بالحالة الحماسية التي كان عليها الصحابة (رض) ويقارنها بالحالة التي كان عليها اصحابه فيرى بوناً شاسعاً فيقول:
«ولقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله؛ نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا: ما يزيدنا ذلك الا إيماناً وتسليماً، ومضياً على اللقم، وصبراً على مضض الالم، وجداً في جهاد العدو؛ .. فلما راى الله صدقنا أنزل بعدونا الكبت، وانزل علينا النصر، حتى استقر الإسلام مُلقياً جرانه ومتبوئاً أوطانه. ولعمري لو كنا نأتي ما أتيتم، ما قام للدين عمود، ولا اخضر للايمان عود»([3]).
وهذا زين العابدين علي بن الحسين(ع) يتحدث عنهم فيقول: «اللهم واصحاب محمد خاصة، الذين احسنوا الصحابة، والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره، وكانفوه، واسرعوا إلى وفادته، وسابقوا إلى دعوته، واستجابوا له حيث اسمعهم حجة رسالاته، وفارقوا الأزواج والأولاد في اظهار كلمته، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوته، وانتصروا به. اللهم واوصل إلى التابعين لهم باحسان – الذين يقولون «ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان» خير جزائك»([4])،
فإنه كان الأجدر بنا أن نبدأ في تبيين العلاقات في الصدر الإسلامي الأول ولكننا ولكي نصل بسرعة إلى عصر الشهيدين وهو ما نود الحديث عنه بالخصوص.
فاننا في مقالنا هذا سوفر نركز على عصر الامام الصادق(ع)، فما بعده باعتباره عصر نشوء المذاهب الفقهية المعروفة لنلاحظ الحالة العقلانية التي أوجدها الإسلام والتي تجلت في الحوار البناء، والقبول بالتعددية الفكرية، واحترام الآراء، والاعتراف بفضل الاساتذة والسابقين، الأمر الذي انتج تراثاً فكرياً حضارياً، فيه من الغنى الشيء الكثير.
نظرة الأئمة إلى بعضهم البعض
ونكتفي هنا بذكر بعض النماذج:
1_ ذكر ابن حجر في الصواعق المحرقة أن الأمام احمد بن حنبل علق على الحديث القدسي الذي رواه الإمام الرضا عن آبائه بأسمائهم (ع) عن رسول الله(ص) عن جبرئيل عن الله (ولذا سمي بحديث سلسلة الذهب) فقال - أي الإمام أحمد – ما نصه: «لو قرأت هذا الإسناد على مجنون لبرئ من جنته»([5]).
2- روى الشيخ الصدوق – وهو من أعاظم علماء الإمامية عن الإمام مالك بن أنس قوله: «كنت ادخل على الصادق جعفر بن محمد فيقدم لي مخدّة ويقول: يا مالك، إني أحبك، فكنت أسر بذلك، وأحمد الله عليه، وكان لا يخلو من إحدى ثلاث خصال: إما صائماً وإما قائماً واما ذاكراً. وكان من عظماء العباد، وأكابر الزهاد الذين يخشون الله (عزوجل)، وكان كثير الحديث، طيب المجالسة، كثير الفوائد فإذا قال: «قال رسول الله(ص)» أخضرّ مرة، واصفر اخرى، حتى ينكره من يعرفه، ولقد حججت معه سنة فلما استوت به راحلته عند الاحرام كان كلما همّ بالتلبية انقطع الصوت في حلقه، وكاد يخر من راحلته. فقلت: قل يا ابن رسول الله فلابد من أن تقول فقال: يا ابن أبي عامر، كيف أجسر أن أقول: لبيك اللهم لبيك وأخشى أن يقول عزوجل [لي]: لا لبيك ولا سعديك»([6]) وهو القائل:ما رأت عين ولاسمعت أذن ولاخطر على قلب بشر أفضل من جعفر الصادق فضلا وعلماً وعبادة وورعاً.
3- وقال الامام أبو حنيفة عن الامام الصادق: ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد.
4- وقال – يتحدث عن تتلمذه على يديه: (لولا السنتان لهلك النعمان).([7]) يقول الامام السمهودي:«كان الإمام الأعظم أبو حنيفه رحمه الله من المتمسكين بولايتهم، والمتنسكين بودادهم، وكان يأمر أصحابه... بالاقتداء بأنوارهم.([8])
5- وشعر الامام الشافعي في أهل البيت معروف مشهور. وقد لامه البعض عليه وقد علق الإمام الرازي على ذلك بقوله: «وأما مدح علي وحبه والميل اليه فذلك لايوجب القدح بل يوجب أعظم أنواع المدح.»
6- وروى عنوان البصري أنه (كان يختلف إلى الامام الصادق يتعلم عليه فغاب الامام عن المدينة (او انشغل) فنصحه الامام أن يختلف إلى مالك) ([9]).
7- يقول الاستاذ عبدالحليم الجندي «ولئن كان مجداً لمالك أن يكون اكبر أشياخ الشافعي، أو مجداً للشافعي ان يكون اكبر اساتذة ابن حنبل، أو مجداً للتلميذين أن يتلمذا لشيخيهما هذين، إن التلمذة للامام الصادق قد سربلت فقه المذاهب الاربعة لأهل السنة.
لقد يجئ للمناظرة عمرو بن عبيد (144) زعيم المعتزلة الذي لم يضحك ابو حنيفة طول حياته بعد ان قال له عمرو اذ ضحك مرة في إبان مناظرته: يا فتى، تتكلم في مسألة من مسائل العلم وتضحك؟! (يلاحظ ذيل تاريخ بغداد للدمياطي ، ج2، ص 50)والذي يبلغ من وقاره أن يراه الرائي فيحسبه اقبل من دفن والديه! فاذا انتهى الكلام قال عمرو للامام: «هلك من سلبكم تراثكم ونازعكم في الفضل والعلم» (البحار ، ج 47، ص 19).
ويجيء امام خراسان عبدالله بن المبارك، وهو امام فقه، وبطل معارك تلمذ للامام زماناً ولأبي حنيفة، فتعلم ما جعله يخفي بطولاته في الفتوح.. وفي الامام جعفر شعره الذي ورد فيه:
أنت يا جعفر فوق المدح، والمـدح عناء
إنما الاشـراف أرض ولهم أنــت سماء
جـاز حد المدح من قد ولدته الانبياء»([10])
8- يقول ابن ابي حازم: «كنت عند جعفر الصادق يوماً واذا بسفيان الثوري بالباب فقال: ايذن لي، فدخل، فقال له جعفر: انك رجل يطلبك السلطان في بعض الاحيان، ونحضر عنده، وانا اتقي السلطان. فاخرج عني غير مطرود. قال سفيان: حدثني حديثاً اسمعه وأقوم. قال الامام: حدثني ابي، عن جدي عن ابيه عن رسول الله(ص): «من أنعم الله عليه نعمة فليحمد الله، ومن استبطأ الرزق فليستغفر الله، ومن حزنه أمر فليقل: لا حول ولا قوة الا بالله»([11]).
9- وقد اشتهر عن أئمة المذاهب القول بحرية الاجتهاد، وعدم تقليد المجتهدين لغيرهم من المجتهدين مثلهم:
فهذا الامام ابو حنيفة يقول: «اذا صح الحديث فهو مذهبي»([12]).
ويقول: «هذا راى النعمان بن ثابت -0 يعني نفسه – وهو احسن([13]) ما رايت فمن جاء باحسن منه فهو أولى بالصواب»([14]).
وهذا الامام مالك يقول: «إنما انا بشر اخطئ واصيب، فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه»([15]).
ويقول الامام احمد بن حنبل:
«راي الاوزاعي وراى مالك ، وراي ابي حنيفة كله راي وهو عندي سواء، وانما الحجة في الآثار»([16]).
ويقول الامام الصادق(ع) وهو استاذ الائمة : «كل شيء مردود إلى الكتاب والسنة»([17]).
 
بين العلماء من اتباع المذاهب
ورغم احتدام الخلاف الفكري بين العلماء من اتباع المذاهب فاننا نلاحظ في كثير من الأحيان علاقات صفاء ومحبة وتمازج عجيب الى حد كبير، يدرس بعضهم على بعض، ويدرّس البعض فقه المذاهب الأخرى، وينقل مناهجهم الى مذهبه ويطلب بعضهم الإجازة من البعض الآخر. وهناك مجموعة رائعة من كتب الفقه المقارن، ونقل رائع لآراء الآخرين.
ولقد جاء كتاب الخلاف لشيخ الطائفة الطوسي «المتوفى سنة 460هـ» أروع مثال على ذلك وقد نقل بكل أمانة آراء المذاهب الأخرى وبالتفصيل ومنها آراء المذهب الشافعي الى الحد الذي ظن السبكي معه انه من علماء المذهب الشافعي وذكره في طبقاتهم رغم اعترافه بأنه فقيه الشيعة ومصنفهم ولكنه يقول عنه (كان ينتمي الى مذهب الشافعي). ([18])
وهذه ظاهرة غريبة نلمحها في بعض العلماء فتعبر لنا عن امتزاج عجيب بين المذاهب، وقد عبروا عن ابن الفوطي (توفي 723) وهو صاحب (معجم الالقاب) وكان قيماً على أعظم مكتبة في عصره – عبروا عنه بأنه كان شيعياً حنبلياً كما ذكر الشيخ وهبة الزحيلي([19]) بان الطوفي المعروف بدفاعه الشديد عن أصل (المصالح المرسلة) هو من غلاة الشيعة متبعاً في ذلك ابن رجب الذي عده من علمائهم. في حين أن الطوفي كان من علماء الحنابلة في القرن الثامن. ([20]) ودفاعه عن هذا (الاصل) الذي يرفضه الشيعة، وعدم ذكره في فهارس علماء الشيعة يؤيدان كونه حنبلياً.
وهذا محمد ابن أبي بكر السكاكيني العالم الشيعي المعروف كان كل مشايخه من أهل السنة. وقد خرّج له ابن الفخر علاء الدين ابن تيمية (المتوفي سنة 701) ما رواه عن شيوخه وناظره وشهد له بالتفوق وقال عنه : (هو من يتشيع به السني ويتسنن به الرافضي) وقد نسخ صحيح البخاري بيده، وهو صاحب القصيدة المعروفة ومطلعها:
أيا معشر الاسلام ذمي دينكم                  تحير دلّوه بأوضح حجة
وهو صاحب (الطرائف في معرفة الطوائف) الذي مزقه السبكي وأحرقه.
ولو رجعنا الى كتب طبقات الحنابلة لرأينا التقارب العجيب فهذا المحبي كبير السنة في دمشق يمدح البهاء العاملي عالم الشيعة المعروف فيقول عنه (كما في خلاصة الأثر): وهو أحق من كل حقيق بذكر أخباره ونشر مزاياه، واتحاف العالم بفضائله وبدائعه، وكان امة مستقلة في الأخذ بأطراف العلوم والتضلع بدقائق الفنون، وما أظن الزمان سمح بمثله ولا جاد بنده وبالجملة فلم تشنف الاسماع بأعجب من أخباره.
وقد ذكر الخطيب البغدادي أن سيرة سلف السنة هو الأخذ بروايات الثقات من الشيعة.([21])
ومن العروف ان الشيخ الطوسي كان له مشايخ من أهل السنة ومنهم: ابو الحسن بن سوار المغربي،
ومحمد بن سنان
والقاضي ابو القاسم التنوخي([22]) وعده صاحب (الرياض) من الشيعة.
والحديث في هذا الباب يطول. ([23])
 
الشهيدان الاول والثاني نموذجان رائعان للانفتاح على المذاهب الاخرى:
ويعتبر الشهيد الاول وهو محمد بن جمال الدين مكي العاملي الجزيني، من علماء القرن الثامن، والشهيد الثاني وهو زين الدين بن علي العاملي الجبعي من علماء القرن العاشر، يعتبران مثلين رائعين من أمثلة الانفتاح والتمازج الفكري بين العلماء رغم أنهما كانا نموذجين بارزين من أمثلة ما يؤدي اليه التطرف المذهبي من نتائج فجيعة.
فهذا الشهيد الاول يعيش مع علماء عصره، وكان مجلسه لا«يخلو غالباً من علماء الجمهور لخلطته بهم وصحبته لهم»([24])، وقد قال في بعض اجازاته (أنه يروي عن نحو أربعين شيخاً منهم)([25]) وهي إجازته لابن الخازن حيث جاء فيها (فاني أروي عن نحو اربعين شيخاً من علمائهم بمكة والمدينة ودار السلام بغداد ومصر ودمشق وبيت المقدس، ومقام الخليل إبراهيم عليه السلام».([26])
وكان (ره) كما يقول المرحوم صاحب الرياض: «يشتغل بتدريس كتب المخالفين ويقرئهم».([27])
وهذا الشهيد الثاني كان يذكر الصحابة بكل احترام فهو يقول: «ورجعت الى وطني الاول بعد قضاء الواجب من الحج والعمرة والتمتع بزيارة النبي وآله واصحابه صلوات الله عليهم...» ([28] وقد اجتمع الى جملة من علماء السنة؛ ففي سفره الى مصر اجتمع مع «الشيخ الفاضل شمس الدين بن طولون الدمشقي وقرأ عليه جملة من الصحيحين في الصالحية بالمدرسة السليمية واجيز منه بروايتهما... ثم سافر الى بيت المقدس في ذي الحجة (948هـ) واجتمع بالشيخ شمس الدين بن ابي اللطيف المقدسي وقرأ عليه بعض صحيح البخاري وبعض صحيح مسلم وأجازه إجازة عامة ثم رجع الى وطنه واشتغل بمطالعة العلوم ومذاكرته مستفرغا وسعه وفي سنة 952هـ سافر الى الروم ودخل القسطنطينية في 17 ربيع الاول ولم يجتمع مع احد من الأعيان الى ثمانية عشر يوماً وكتب في خلالها رسالة في عشرة مباحث من عشرة علوم وأوصلها الى قاضي العسكر محمد بن محمد بن قاضي زاده الرومي فوقعت منه موقعاً حسنا وكان رجلاً فاضلاً واتفق بينهما مباحثات في مسائل كثيرة... واجتمع فيها بالسيد عبدالرحيم العباسي صاحب معاهد التنصيص وأخذ منه شطراً ... وأقام ببعلبك يدرس في المذاهب الخمسة واشتهر أمره وصار مرجع الأنام ومفتي كل فرقة بما يوافق مذهبها...» ([29] ورحل الى مصر وقرأ بها على ستة عشر رجلاً من أكابر علمائهم وقد ذكرهم مفصلاً، ويبدو أنه استجازهم وروى كتبهم ويقول صاحب رياض العلماء «ويظهر منه ومن إجازة الشيخ حسن وإجازات والده أنه قرأ على جماعة كثيرين جداً من علماء العامة، وقرأ عندهم كثيراً من كتبهم في الفقه والحديث والاصول وغير ذلك، وروى جميع كتبهم وكذلك فعل الشهيد الأول والعلامة».([30]))
وذكر هو بعض هؤلاء:
من قبيل الشيخ زين الدين الجرمي المالكي
والشيخ ناصر الدين اللقاني
والشيخ ناصر الدين الطبلاوي الشافعي
والشيخ شمس الدين محمد بن ابي النحاس
وقال ابن العودي تلميذه: كثيراً ما كان ينعت هذا الشيخ يعني ابن ابي النحاس بالصلاح وحسن الأخلاق والتواضع. ([31])أ
والحديث مفصل في هذا المجال.
وكأن هذا المسلك لم يرق لبعض العلماء وخصوصا للاخباريين منهم فابدوا عدم رضاهم به([32]) وقد اتهمه البعض بالميل الى التسنن. ([33])
وربما جاء الاتهام لأنه (رحمه الله) قام بعمل فريد اذ اعتمد منهج اهل السنة في علم الدراية وطبقه في المجال الشيعي؛ يقول صاحب الرياض: «ثم اعلم أن الشيخ زين الدين هذا هو أول من نقل علم الدراية من كتب العامة وطريقتهم الى كتب الخاصة، وألف فيه الرسالة المشهورة ثم شرحها كما صرح به جماعة ممن تأخر عنه، ويلوح من كتب الأصحاب ايضاً، ثم الف بعده تلميذه الشيخ حسين بن عبدالصمد الحارثي وبعده ولده الشيخ البهائي وهكذا... ([34])
وهنا يقول العلامة الامين: «والعلامة والشهيدان أجل قدراً من أن يقلدوا أحدا في مثل هذه المسائل او تقودهم قراءة كتب غيرهم الى اتباع ما فيها بدون برهان وهم رؤساء المذهب ومؤسسوا قواعده وبهم اقتدى فيه أهله ومنهم أخذوه، وإنما أخذوا اصطلاحات العامة ووضعوها لأحاديثهم غيرة على المذهب لما لم يروا مانعاً من ذلك، وكذلك فعلوا في أصول الفقه وفي الإجماع وغيره كما بين في محله وكذلك في فن الدراية وغيره «وكيف يكون عدم رضا الشيخ حسن بما فعلوا لهذه العلة وهو قد تبعهم وزاد عليهم».([35])
وهكذا نجد التعامل الايجابي البناء بين القادة:
- احترام يصل إلى حد التكريم الرفيع، بحيث يعتبر أحدهم قراءة إسناد فيه اسماء الأئمة على مجنون كافياً لبرئه من جنته.
- وعبارات المودة والمحبة سائدة رغم النقد العلمي احياناً،
- وانبهار واحترام يفوق الوصف،
- وإرجاع من امام إلى امام،
- وتدريس البعض وافتاؤه الناس بالمذهب الآخر،
- واعتراف بالفضل والعلم بأروع التعابير،
- وإلحاح على التعلم رغم الوضع السياسي الحرج،
- واستجازة البعض من البعض الآخر ورواية كتبه،
- واخيراً عدم إلاصرار على الراي، ورد للمنقول عنهم اذا لم يوافق الكتاب والسنة.
- وامتزاج الى حد عدم تبين المذهب لدى البعض،
- وحرية في الاجتهاد وقبول بالتعددية وانفتاح على الآخر،
- ونقل المنهج العلمي لدى الآخر الى علوم المذهب،
فهل يا ترى تقتضي العقلانية غير ذلك؟ وهل احتفظ اتباع الأئمة بمثل هذه الروح بعد ذلك؟!
وصايا إلى الاتباع
وازاء هذا التعامل الجميل بين الأئمة نلاحظ الوصايا التي تترى منهم لاتباعهم، كي يتعاملوا بنفس الروح التسامحية، ويتجاوزوا الخلافات الفرعية في العقيدة والتقييم التاريخي والفقه إلى الموقف المبدئي والتحاب ووحدة الموقف، والتعالي إلى المستويات المصلحية العليا. فلنلاحظ بعض النصوص كما يلي:
1- ذكر التاريخ ان عبدالله بن احمد بن حنبل روى ان قوماً من الكرخيين ذكروا خلافة الخلفاء الراشدين (وربما تنازعوا فيما بينهم) فقال: الامام احمد ناهياً اياهم عن هذه النـزاعات الجانبية العقيمة:
«يا هؤلاء أكثرتم القول في علي والخلافة، والخلافة وعلي؛ إن الخلافة لم تزين علياً، بل علي زينها»([36]).
2- وقد طرد الشيخ الحسين بن روح - أحد النواب الاربعة للامام الثاني عشر المهدي(ع) - خادماً له لأنه سمعه يهين معاوية([37]).
3- واوصى الامام الصادق اصحابه فقال لهم: صلوا عشائركم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وادوا حقوقهم، فان الرجل منكم اذا ورع في دينه، وصدق الحديث وادى الامانة، وحسن خلقه مع الناس وقيل هذا جعفري، يسرني ذلك ويدخل علي منه السرور، وقيل هذا أدب جعفر»([38]).
4- روى ابن ابي يعفور قال: سمعت الصادق يقول: «كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم، ليروا منكم الاجتهاد والصدق والورع»([39]).
5- تذكر لنا الروايات أنه جرى ذكر قوم عند الامام الصادق فقال بعض شيعته: انا لنبرأ منهم، انهم لا يقولون ما نقول، فقال الامام: «يتولونا ولا يقولون ما تقولون، تبرأون منهم»؟ فاجاب الراوي: نعم، قال: «هو ذا عندنا ماليس عندكم، فينبغي لنا ان نبرأ منكم»([40]).
6- وعن الصادق: «من خلع جماعة المسلمين قدر شبر خلع ربقة الايمان من عنقه»([41]).
7- وعن الباقر(ع) في قوله تعالى: (أو يلبسكم شيعاً)، قال: «وهو اختلاف في الدين وطعن بعضكم على بعض»([42]).
8- وقال الصادق: «عليكم بالصلاة في المساجد، وحسن الجوار للناس، واقامة الشهادة، وحضور الجنائز، انه لابد لكم من الناس، ان احداً لا يستغني عن الناس في حياته، والناس لابد لبعضهم من بعض»([43]).
9- معاوية بن وهب قال: قلت له (اي الصادق) كيف ينبغي ان نصنع فيما بيننا وبين قومنا، وبين خلطائنا من الناس، ومن ليسوا على أمرنا؟ فقال: «تنظرون إلى أئمتكم الذين تقتدون بهم فتصنعون ما يصنعون، فوالله إنهم ليعودون مرضاهم ويشهدون جنائزهم، ويقيمون الشهادة لهم وعليهم، ويؤدون الامانة اليهم»([44]).
9- وقال الصادق(ع): «رحم الله عبداً اجترّ مودة الناس إلى نفسه فحدثهم بما يعرفون، وترك ما ينكرون»([45]).
10- وقال زين العابدين(ع): «العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن العصبية ان يعين قومه على الظلم»([46]).
وهكذا نجد الأئمة يؤكدون على العلاقات الحسنة، والتعامل الايجابي، وعدم الغرق في نزاعات غير عملية، وعدم الاساءة والاهانة، والدخول في قلب العمل الاجتماعي، وعدم الاعتزال نتيجة الايمان برأي يخالف الأكثرية من الناس، والسعي للتأدب بأدب الأئمة، وعدم الغرور العلمي، وعدم جعل الاختلاف في الراي سبيلاً للتدابر، والدخول في جماعة المسلمين، واجتناب العصبية واجترار حب الناس وامثال ذلك.
الا أننا نجد الامة – بكل أسف – بعد ابتعادها عن هذه العصور الذهبية - اتجهت إلى الحالات الطائفية البغيضة.
 
الحالة الطائفية اللاعقلانية
نعم لم تستمر تلك الحالة النيرة كثيراً، فسرعان ما ساد التعصب والانغلاق، وتقليد المجتهدين لغيرهم «حتى آل بهم التعصب إلى ان أحدهم إذا ورد عليه شيء من الكتاب والسنة على خلاف مذهبه يجتهد في دفعه بكل وسيلة من التأويلات البعيدة، نصرة لمذهبه ولقوله»([47]).
ونقل الفخر الرازي عن اكبر شيوخه انه قال: قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء، قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله في بعض مسائل، وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات فلم يقبلوها، ولم يلتفتوا إليها، وبقوا ينظرون الي كالمتعجب – يعني كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات مع ان الرواية عن سلفنا وردت على خلافها- ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا الداء سارياً في عروق الأكثرين من اهل الدنيا»([48]).
وقد ذكر الشيخ أسد حيدر اقوالاً اخرى من هذا القبيل([49]).وربما كان اغلاق الاجتهاد وحصر المذاهب نتيجة وعاملاً على المزيد من ذلك.
ولم يقتصر الامر على هذا الحد، وانما انتقل إلى مرحلة نقل الصراع من مرحلة (الخطأ والصواب) إلى مستوى (الكفر والايمان)، الأمر الذي نقل الخلاف إلى الجماهير العريضة، وتسبب في كوارث يشيب لها الوليد.
واشتد الهجوم على العلوم العقلية والمتعاطين بها سواء بين الشيعة([50]). او السنة([51]).
وراحت التهم تطال المذاهب والآراء فتصفها بالهالكة، وانها مجوس الامة وامثال ذلك، وزاد الخلاف على الفرعيات والانشغال بها وهكذا([52]).
وزاد تدخل الحكام (وكانت البلاد قد تحولت إلى اقطاعيات كبيرة) الطين بلة (ومع كل جائحة من عداوة وغضب، اسرفت تهم النبذ والتحريم والتكفير والرمي بالباطل ضد الآخر مقدمة للقتل واحراق الممتلكات واتلاف كتب أصحاب المذاهب ومؤلفات فقهائها ونشر الرعب والكراهية.
وفي تاريخ الجائحات تكررت همجية البطش مع كل سلطة جديدة مرة ضد الشيعة، ومرة ضد السنة.... ([53].)
ولنا أن نراجع ما ذكره ياقوت من التقاتل بين اتباع المذاهب في مدينة (الري) ([54].)
كما لنا ان نتذكر ان الصراع بين الصفويين والعثمانيين - وكل منهما يتمترس خلف خلفية مذهبية – دام اربعة قرون واورث الأمة خراباً ودماراً، واضعفها امام عدوها الغربي.
وسنكتفي بذكر نص للشيخ الطوفي من أئمة الحنابلة ذكره للاستدلال على مبدأ (المصالح المرسلة) مقدماً اياه على النصوص والاجماع، لأنه راى ان النصوص متعارضة، والاجتهادات متضاربة، والاحاديث الموضوعة كثيرة. وفي هذا السياق يذكر بعض انماط الصراع في تلك العصور فيقول:
«ان المالكية استقلت في المغرب، والحنفية بالمشرق، فلا يقار احد المذهبين احداً من غيره في بلاده الاعلى وجه ما. وحتى بلغنا أن اهل جيلان من الحنابلة اذا دخل اليهم حنفي قتلوه، وجعلوا ماله فيئاً، حكمهم في الكفار، وحتى بلغنا أن بعض بلاد ماوراء النهر من بلاد الحنفية كان فيه مسجد واحد للشافعية، وكان والي البلد يخرج كل يوم لصلاة الصبح فيرى ذلك المسجد فيقول: أما آن لهذه الكنيسة أن تغلق؟ فلم يزل كذلك، حتى اصبح يوماً وقد سد باب ذلك المسجد بالطين واللبن فاعجب الوالي ذلك»([55]). ولكن الأمة بوعي علمائها تخلصت من افرازات عصور النـزاع هذه.
غير أننا في الآونة الاخيرة شهدنا عودة غريبة لهذه الحركة سببها عدو الامة القديم الجديد وهو الاستعمار والاستكبار العالمي، الذي يعيش باستمرار هاجس الصحوة الإسلامية، ويخاف منها على مصالحه الاستعمارية.
فهو في هذه الفترة الزمنية، وبعد أن مني بالهزائم المتتالية في نقاط متنوعة من العالم الاسلامي كافغانستان والعراق ولبنان وفلسطين والصومال، وبعد فشل مشاريعه الواحد تلو الآخر، راح يخطط لاحياء النعرات الطائفية، ويحسس رجال كل مذهب بضرورة الدفاع وتحريك الاشكال على الآخر.
ولا ريب أنه – وكما هو الحال دائماً – استفاد من ذوي التعصب وهواة التكفير ومن الجهلاء بالمصالح، وبعد ذلك من العملاء الذين نصبهم في المنطقة، ليصونوا له نفوذه، ويحققوا له مايطمح اليه، بل واستفاد من العدو الصهيوني الغادر ليحقق تنفيذاً واسعاً للخطة الطائفية، ويعطي النـزاعات السياسية في الاصل بعداً طائفياً مقيتاً.
ويبقى أن ينتبه العلماء والعقلاء لهذا التآمر فيعملوا على افشاله والحد من آثاره، والله ولي التوفيق.


[1] - رواه البخاري ومسلم واحمد وغيرهم وجاء في بحار الانوار «وأخرجني في خير قرن من امتي» (ج 16 ص 92).
[2] - الحديد/ 16.
[3] - نهج البلاغة، شرح صبحي الصالح، ص 92.
[4] - الصحيفة السجادية: الدعاء الرابع.
[5] - الصواعق المحرقة: ص 203.
[6] - الخصال للشيخ الصدوق، ج 1، ص 167. وفي تهذيب التهذيب ، ج 2، ص 105 «إما مصل وإما صائم، وإما يقرأ القرآن وما رأيته يحدث عن رسول الله الا على الطهارة ولا يتكلم فيما لا يعنيه، وكان من العلماء والعباد والزهاد الذين يخشون الله وما رأيته قط إلا ويخرج وسادة من تحته ويجعلها تحتي» وهناك مصادر أخرى لهذا الخبر.. وقد ذكر صاحب (روضات الجنات) إن هذا الخبر رواه العام والخاص (ج 7 ص 214).
[7] - التحفة الإثنا عشرية للآلوسي: ص 8 وغيره.
[8] - جواهر العقدين ق 2 ج 1 ص 335، الصواعق المحرقة لابن حجر، ص 110.
[9] - البحار، ج 1، ص 244و غيره.
[10] - الامام جعفر الصادق، ص 220.
[11] - بحار الانوار ، ج 75، ص 201، فيض القدير شرح الجامع الصغير، ج 6، ص 117.
[12] - حجة الله البالغة، ج 1، ص 52.
[13] - توالي التأسيس ، ص 109، طبعة 1406هـ القاهرة.
[14] - ن.م. ج 1، ص 152.
[15] - الاحكام لابن حزم، ج 6، ص 790.
[16] - الايقاظ للغلاف، ص 28.
[17] - وسائل الشيعة، ج 18، ص 79.
[18] - طبقات الشافعية الكبرى للشيخ تاج الدين تقي الدين السبكي ج3 ص 51.
[19] - في بحثه المقدم الى ندوة الفقه الاسلامي بمسقط (شعبان 1408هـ).
[20] - مصادر التشريع ص 80.
[21] - الكفاية في علم الرواية ص 125.
[22] - راجع (الاجازة الكبيرة) للعلامة الحلي.
[23] - راجع مثلاً مقال سماحة الشيخ السبحاني في مجلة (نصوص معاصرة) العدد العاشر ص 91.
[24] - اعيان الشيعة للسيد محسن العاملي ج 10 ص 62.
[25] - ن.م،وذكر ذلك في أمل الأمل ج 1 ص 103.
[26] - سفينة البحار ج 1 ص 721.
[27] - رياض العلماء ج 5 ص 185.
[28] - اعيان الشيعة ج 7 ص 150.
[29] - الكنى والالقاب ج 2 ص 382 - 383.
[30] - رياض العلماء ج، ص 365.
[31] - اعيان الشيعة ج 7 ص 149.
[32] - راجع مثلاً، أمل الأمل ج1 ص 90 ورياض العلماء ج 2 ص 365 ومعجم رجال الحديث ج 7 ص 378.
[33] - كما ذكر ذلك المحدث الجزائري في كتابه (الجواهر الغوالي في شرح عوالي اللآلي) نقلاً عن بعض اولاد الشهيد الثاني «راجع مقال المحققين لكتاب (منية المريد)ص43».
[34] - رياض العلماء ج 2 ص 365.
[35] - اعيان الشيعة ج 7 ص 157.
[36] - تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، ج ، ص 109.
[37] - بحار الانوار، ج 51، ص 357.
[38] - عوالم الامام الصادق للبحراني، ج 2، ص 635.
[39] - الكافي ، ج 2، ص 105.
[40] - وسائل الشيعة، ج 16، ص 160.
[41] - بحار الانوار، ج 85، ص 13.
[42] - تفسير الميزان، ج 7، ص 149.
[43] - وسائل الشيعة، ج 12، ص 6.
[44] - وسائل الشيعة، ج 12، ص 6.
[45] - وسائل الشيعة، ج 11، ص 471.
[46] - الكافي، ج 2، ص 308.
[47] - مختصر المؤمل لشهاب الدين ابي شامة، ص 14.
[48] - التفسير الكبير، ج 16، ص 31 في تفسير الآية 31، من سورة التوبة .
[49] - الامام الصادق والمذاهب الاربعة طبعة مجمع اهل البيت، ج 3، ص 192 .
[50] - راجع كتاب (المعالم الجديدة لعلم الاصول) للامام السيد محمد باقر الصدر .
[51] - راجع مقال الاستاذ الطويل في كتاب قضية الفلسفة، ص 211.
[52] - راجع كتاب (قصة الطوائف) للدكتور الانصاري، فصل الحقبة الطائفية، ص 185.
[53] - ن.م. ص 219.
[54] -معجم البلدان: مادة (ري).
[55] - رسالة الطوفي، ص 116.
 
امتیاز دهی
 
 

خانه | بازگشت | حريم خصوصي كاربران |
Guest (PortalGuest)

كنگره بين المللي شهيدين
مجری سایت : شرکت سیگما