السلطة المعرفية لعلماء جبل عامل و دورها في نشر التشيع
السلطة المعرفية لعلماء جبل عامل و دورها في نشر التشيع
جويدة غانـــــم
          يعتبــر هذا البحث جزءا من خطة أكبر ، أريد من خلالها الاستوفاء لنقاط الفكر و فواصله ، لحركاته و سكناته ، ليس أن أختمه نهائيا، و لكن لأمارس شرط التحرير للفكر الأسير ، الذي يضل معروفا و مجهولا في اتجاه واحد لا في اتجاهات عدة .
          إن العقل العامل نصا و قلما، و حرفا مصوبا نحو آفاق جديدة لاستقراء الأسس المنطقية لعملية المعرفة و نتاجاتها ، التي تحول الذات إلى وجهتها التراسندالتية Transendantale، لتهيئ حضور نمط جديد من العقل الذي اكتسى طابع التحديد و التأطير ، و الترشيد و الأمرية و الرفض و المقاومة، منطلقا من زمنية الزمان و زمنية المكان ، التي أدخلته في سيرورة دائمة تجسدت فيها إرادة المعرفة و إرادة القوة التي هي شرط وجود الوجود .
          الإبداع و الفكر ، التنمية و الاصلاح، النهضة و الوطن، كلها مفاهيم تعبر عن خصائص الانسان الفذ الذي لا يملك حدود جمركية لمعارفه و أفكاره، فتنتشر نحو الشرق و الغرب، و كذا نحو الشمال و الجنوب ، فتكون الكلمة بمثابة الحرف المقدس الذي يتيح فتح بوابات العطاء و الاستمرارية ليس بالخلط و التحريف، و إنما بالمنطق و التحقيق، لكي لا تغترب الذات و يغترب موضوعها، لأنها الجانب الذي يعكس سنن المجتمع و يطرح لنا صيغة جديدة للمعاملات، سواء مع الأحداث و الوقائع و مع النظريات و النصوص أو مع المعارف و النتائج.
          إن الحلقات الحضارية و العلمية لعلماء جبل عامل لا يمكن الفصل بينهما ، لأن مغزى التاريخ في هذه القضية ، تبين تميز و تفرد هذا العقل في الفكر الاسلامي ، هذا المعنى ينبثق منه طموحا إنسانيا نحو المثل العليا و كذلك انبثاق مبدأ أخلاقي أنطولوجي في تشكيلته المعرفية، و كذلك احتوائه و انوجاده على قيمة بنيوية مطلقة تعلن عن إعطاء خاصية جديدة و مفاهيم جديدة للزمان و المكان، تمتزج فيه حرية الإرادة و قوة السلطة، و تنوع المعرفة و سريان الماضي في الحاضر، و الحاضر في الماضي، ذا تمركز لوغوسي خاص، يعكس تجربة فريدة، يفرضها منطق هذا العقل ، الذي يجمع بين توليفات متعددة و متنوعة ، من آداب و سياسة و أصول و علوم ، و بالتالي تحضر السلطة ، و تحضر المعرفة لتكون سلطة المعرفة، التي تنبثق منها مبدأ الكينونة و مبدأ الحضور ، و من هذا المنطلق نتساءل :
ما طبيعة السلطة المعرفية لعملاء جبل عامل ؟
و ما هي استراتيجيتها في نشر التشيع ؟ .
المبحث الأول : مستوى النظرية الشاملة
1- الاسترجاع و الاستدراك :
          إن أحدى السمات الأساسية لطرح موضوع السلطة المعرفية هو الاعتماد على أرضية ناظمة لمختلف المقولات العلمية ، على صعيد النظر و المفهومية لا على صعيد الكرونولوجيا المتراكمة، حيث تنعدم فيها إفرازات المنظومة المرجعية لمختلف المحاور الموجهة لمفارقات العقل العاملي، نتيجة للحدود التي يحولها الفاعل إلى مفعولات،تحول من خلالها المعايير، التي تبحث في الغائية و في الماضي المرجعي ، لكن إذا أمعنا عن الأصل الغائب فإننا نستحضر الغائب و الشاهد، كنداء للعقل المغيب، الذي تعبر عنه ابستيمولوجيا خاصة تمر بتاريخ العلم .
          فكيف يتم إذن هذا الحضور أو هذا الاستحضار ؟
لا يجوز أن يكون تاريخ العلم مجرد تراكم أو كرونولوجيا مزخرفة، و إنما هو اتجاه نحو أفق عميق و أعمق يكون تاريخه تاريخ تحلل و تسديدا للمفاهيم ، و ذلك لإيجاد السلك الناظم للمسائل و الوسائل، و من ثم يتم طرح جدلية ابستيمية هذا العقل الذي عبر عنه عصرا ما ، في الوقت الذي نميــل إلــى استحضاره لمعاودة القراءة قصد الفهم و لم المغزى ، و كذلك لتحرير الإرادة عبر جدلية الرفض و المقاومة .
          فما طبيعة هذه الأرضيــة ؟
المتمعن فيا مضمون النص لمؤلفات العامليين ، يرى مدى السيطرة الشبه كلية على منطقة جغرافية تحيزت في موضوعاتها و مدلولاتها لأن جوهرها تقيم على باطن الباطن ، و هذه الابستيمية كما يشير مطاع الصفدي ، تعبير عن إرادة القول بقول معرفي آخر ، نطرح ضمنه السؤال التالي :
          لماذا سيطرة هذه الابستيمية في مختلف النصوص المكتوبة من آثار الشهيدين إلى مشاييخهم و تلامذتهم و اتباعهم ؟ ، و كونت قوة معرفية استوت على الفاعل و المفعول و الأثر و المأثور .
          من هذا فإن الإبستيمية Epistème  هي الأرضية لتي تقوم عليها المعرفة ، و مجالها المرئي المرتكز و الثابت الذي يوزع خطاباته ، أي الفضاء الذي تنتشر فيه الموضوعات و قانون تواتر مفاهيمها ، و نظام توزع مشاكلها ، و قاعدة توزع أساليبها (1).
ولقد عبر غاستون باشلار على هذه الظاهرة التي تريد أن تربط ماضي المعرفة بحاضرها حيث يتيح لنا هذا التصور الكشف عن حقائق مسبقة تتضمن روابط تحليلية و تركيبية تصحح مسار توجه
الابستيمية العاملية التي تتوخى تركيب و إعادة تفكيك المفاهيم و الأطر و الموضوعات ذات الصلة بالإيرادات الفاعلة التي تعبر عنها قوة الزمان المطلق الذي يحدد منطلق اتساق الروح الباطني و الظاهري لقواعد الموضوعات .




1 ميشال فوكو :نظام الخطاب، ت:محمد سبيلا ، دار التنوير للطباعة و النشر،لبنان،ط1 ،1989 ،ص 55 .
          و يعبر العقل العاملي، عن الاتجاه العقل الجمعي الذي يستقصي جميع العقول الفردية المتكامل في وحدة

واحدة، لأن هذا العقل من صنع الأجيال و له قداسته الزمنية و هيبته الأدبية و الفقهية و السياسية و التاريخية ، فيعلوا عليهم لأنه يمثل سنن المجتمع و قوانينـه و دستــــور المعاملات و الآداب

 التي يتلقاها الفرد بصفة خاصة و المجتمع بصفة عامة ، كما يتصف هذا العقل بالعمومية لأنه صدى لحياة مشترك فيها قوة اجتماعية توجه الأفراد في اتجاه واحد ، كما توجهه إلى الأخذ بقواعد معينة ينخرط و يتوحد الجزء بالكل (1).
          و على هذا الأساس تنبثق استراتيجية جديدة ، تختص بالمقول و الفاعل و المفعول فتتجاوز حالة الضياع و الإبهام الذي كانت تخنقه عدمية صماء ، تمارس قسوتها و بشاعتها لإغتيال عقل وضع في إطار سساتيم مغيبة ومفارقة ، فلا نستغرب التحولات التاريخية التي اصطبغت بألوان العذاب و الاضطهاد و التفريق لأن العقل الشيعي العام لا يمكننا عزله عن مفهومات التضحية و الذود ، بحثا عن نظرية جديدة تؤكد على قيمة الحياة التي تعكس قيمة المنطقة كمان معرفي إيرادوي يستجلي أبعاده بواسطة الفهم الذي يساعدنا على الانفتاح على عالم الأشخاص و ابداعاتهم ، لأن الفهم كما يشر دالتاي يمكننا من معرفة الآخرين و عن طريق معرفة الآخرين نفهم و نستقصي العوامل المحددة التي تعطي للفرد شخصيته الخاصة مثل قدراته المتنوعة م ميولاته القيمية (2) .


1
محمد مصطفى زيدان :علم النفس الاجتماعي ، ديوان المطبوعات الجامعية الجزائر،1986 ،ص54 .
2 نقلا عن محمد سيد أحمد : فلسفة الحياة (دلتاي نموذجا ) ،الدار المصرية السعودية ،القاهرة ،د ط ،2005 ،ص 88 .
          و من ثمة نستطيع أن نقوم ظاهرتي الاسترجاع و الاستدراك ، كحصيلة بنيوية لهذا النمط التاريخي المعرفي

الذي تنحصر مقوماته في تسويغ المفترضات ، التي تفضي طابع الاطلاقية كممهد إلى تجربة جديدة ، تفجر لنا طريق الحافز و طريق الابداع ، الذي هيمن مدة طويلة على نتاجات العامليين ، و من الثابت أن المنظومة المعرفية قد أبانت مدى صلة الواقع بالفكرة ، التي يراد منها تثبيت السلطة دون أن تدري أنها تمارس سلطة ، لكن الوجهة التي تنطلق منها يجعلها تصاغ داخل نسيج معرفي متماسك و متعدد العلوم و المعارف ، و هذه اللحظة هي لحظة القول و تفجيره .

          و إذا كانت الابستيمية تتناول هذا الاسترجاع فإنها تاريخية كشفية يراد منها إماطة اللثام عن مختلف الصور الصورية و التجريبية و من ثمة فهي قبلية ، و آنية في الهناك ، و بعدية في الهناك أي المستقبل ،و بالتالي فهي نظام عام أو ترتيب ، الذي يتحكم في المعارف التجريبية تجعلنا نميز بين أنماط ثلاثة و هي :
أ- معرفة السيادة و الفاعليـة :
          تمكن الذات من إحداث تغيرات على الوسط ، خاصة الطبيعي الذي يترجمه المكان و يعبر عنها بمعرفة العالم الخارجي .
ب- معرفة ثقافيـة :
          التي يمكن أن يحدث بواسطتها تغيير في الأشخاص .
ج- معرفة مقررة :
          تؤدي إلى الخلاص و الحكم ، و يعبر عنها بالمعرفة اللاهوتية (1)
          و من ثمة تنتظم هذه المقررات المعرفية في الإطار العاملي و تريد أن تصف الشروط الإجتماعية التي تسعى إلى تحديد مكونات المعرفة لجماعة مـا يحددها عامل الزمان و المكان و كذلك القوانين التي بموجبها تتوزع المعرفة ، فتتحدد الخيارات التي تراها الجماعة جديرة بالمعرفة على أساس مجموعة قيم سائدة ، وفقا لمصالح ترتبط بروح الجماعة .
2 المبحث الثاني - اكسيومية العقل العاملي:



 1.عبد اللطيف عبادة : اجتماعية المعرفة الفلسفية ،المؤسسة الوطنية للكتاب،الدار التونسية للنشر،ص 104 .


          تنبثق سلسلة من الإجراءات التي تطلق على حدود الشيء الممكن التفكير فيه ، لأنه الأقرب لاستكمال الوجهة

المعرفية التي تقتضي منا الإقرار بمنهج التمثل
Représentation  كحقيقة فهومية تبحث عن جوانية  الشيء المؤدية إلى الحديث عن الظواهر المصورة في إطارات و كيانات و السؤال الذي يطرح :

 كيف تدخل هذه الظواهر و الالتماسات في تكوين المعرفة و البحث عن الغاية القصوى لموضوعها ؟
          نحن نعلم أن المعرفة بقدر ما لها جانب كمي فإنها تحتوي على جانب كيفي ، هذا العامل المختزل في ذاته و لذاته ينفرد في تشكيلات وجودية يستطلع عليها علم الغايات الذي يجعل الأشكال القيمية للفكر تتعلق بالموقف الإنساني الذي يبحث عن صيرورة المنطلق و غايته ، فيتكون من خلالها الانسان المبدع الذي كون نصا مبدعا .
          هذا ما يطالعنا به الشيخ تقي الدين بن ابراهيم بن الحسن بن محمد بن صالح بن اسماعيل الحارث العاملي الكفعمي حيث أن مؤلفاته التي بلغت التسعة و الأربعين ، تبين لنا مدى تفجر القريحة و تلونها بشتى المدارك و المناهل ، كما يقدم لنا جملة من المؤلفات كالجنة الواقية و الجنة الباقية و رسالة في المقصد الأسنى في شرح الأسماء الحسنى ، و هذا شبه ما طرحه أبي حامد الغزالي ، بالإضافة إلى التركيب المبدع و الروح المباشر التي امتلكتها إحدى خطبه التي جمع فيها كل صور القرآن الكريم و التي أعطت نفسا عميقا في اللغة و الخطاب خاصة على مستوى الأداء الوظيفي لتراتيبية النصوص (1).
          أيا يكن ، تصبح الحقيقة المعرفية معلنة في ثياب المتميز بتميز الشخص ، و اختلاف المرجع و تنوع السند ، الذي يدخل في نطاقها لحظات مطلق الفكراوي الذي يمثله روح الشعب على نحو ما يجسده في آثار فنية و سياسية و دينية و أدبية جمالية ، و لابد لهذه الروح أن تصبح باطنة في أعماق أفراد الجماعة حتى يشعر الإنسان أن الجماعة التاريخية التي هو عضو فيها إنما هي ذلك كل العضو الذي لا قيام له (2).

1 حسن الأمين : أعيان الشيعة ،دار المعارف للمطبوعات ،بيروت ،1403 هـ ،1983 ،ص
2 زكريا ابراهيم : هيغل و المثالية المطلقة،المكتبة المصرية،دت،دط ص 70 .

هكذا يغدوا عامل التقارب الزمني الذي دحرج شبكة العامل ساعدت علماء عامل في التميز ، سواء في الأسلوب أو النهج أو في المنطق أو الأداء ، و الملاحظ أن خطابات هؤلاء امتازت بنداء عميق لمفهوم الانسانية ، حيث مكنها الطرح الجديد للعقل من وجود تنوع و تضاد في مختلف نتاجاتها ، أعلنت عن كبرياء هذا العقل و إمكانية فتح فتوحات على مستوى السستمة و القولبة .

          و يطالعنا البهائي في كتابه الكشكول من الجزء الأول و ما قدم محمد الكرمي له أنه يتميز بالعلم الجاد ، و التعددية في شتى الفنون و المعارف ، فالإضافة إلى طيب النفس و سعة الصدر ، و ميله إلى التصوف و العرفان ، كما يشر الكرمي أيضا إلى أنه كان من علماء الشريعة ، فبرع في الفقه و الحديث و التفسير ، و تضلع في جميع العلوم التجريبية ، كما مكنه التنقل عبر الأوطان إلى معرفة طبيعة المعرفة و طريقة تلونها و اختلافها ، فاكتسب من خلال هذا النهج المرجعية الدينية و العلمية و الفقهية و الفكرية حيث شكل لنا سلطة من نوع جديد تجلت لنا من خلال تصانيفه و هي :
1- الحبل المتين في أحكام الدين .
2- مشرق الشمسيين و إكسير السعادتين .
3- العروى الوثقى في التفسير .
4- حاشية على شرح العضدي .
5- رسالة في المواريث .
6- رسالة في ذبائح أهل الكتاب .
          و في الكتاب نفسه أي الكشكول نجده يتميز بالتنوع جمعت بين مختلف التصانيف الأدبية من شعر عربي و فارسي ، في عناوين ناغمة عذبة ، و في بعض الأحيان حماسية جياشة ، تبين مدى صفاء الروح و نقاء السريرة ، و جودة الاختيار للمواضيع و الآراء و الأمثال و الحكم .



ينظر ، بهاء الدين محمد بن الحسين العاملي : الكشكول،مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ،بيروت لبنان،1043هـ ،1983 ،ص6 .
          و الانتقال من النص العربي إلى النص الفارسي، دالة قوية على تفسير ترجمة الانتقال من مكان إلى مكان ،

أو من بيئة إلى بيئة ، و بالرغم من المباعدة الجغرافية بين إيران و جبل عامل ، إلا أن جميع النصوص سجلت فيها جميع الموروثات الثقافية ، هذا المقول يثبت أن العامليين لم يعيشوا لفكرة بل عاشوا لأفكار، و لم يستهويهم علما معينا ، و غنما استهوتهم علوم ، و لم يعيشوا لآفاق مغرقة أو فريدة ، بل عاشوا لأفكار منفتحة على ما لا نهاية من ابستيمولوجية علوم العقال ، إلى ابستيمولوجية علوم الوجود التي توسعت أمام تأثيرات التاريخ فانفجرت تلك التعبيرات الزمانية و المكانية التي كانت كشاهد عصر ، لتتحول إلى شاهد قرن بل قرون ، حيث التحمت الثقافة بالمجتمع و هنا يتقدم علم الاجتماع الثقافي و المعرفي كأدوات تشريحية للخطاب العاملي ، و في هذا يشير بول ريكور :

" إلى أنه لا يمكن أن نتكلم عن الفعل الاجتماعي إلا على سبيل التوجه نحو الغير ، لكن ليس كل هذا ما في الأمر ، علينا أن نظيف إلى مقولة الفعل الاجتماعي ، العلاقة الاجتماعية ، و نحن نعني بذلك مجرى الفعل الذي لا يأخذ فيه كل فرد رد فعل الغير بعين الاعتبار فقط ، بل يحفز فعله برموز و قيم لن تعبر عن خاصيات مرغوبية الخاصة التي أمست عامة فحسب ، إنما عن القوانين العامة نفسها أيضا " (1).
          إذا المعرفة هي علاقة بين طرفين متقابلين، طرف تميل إليه الذات أو تعكسه الذات العارفة ، و طرف آخر موضوعي يتعلق بالأساس بموضوع المعرفة ، و بين الطرفين أو النقيضين الذات و الموضوع ، تصبح المعرفة ممكنة ، كما لا يمكن دراستها إلا من خلال هاتين القضيتين ، لأن الوعي يبحث في ضرورة إدراكه و إعادة تركيبه ، قصد تمحيص المعنى القصدي للأفعال الفكرية و عرض إمكانيات المفاهيم و الدلالات (2).

1 بول ريكور : من النص إلى الفعل، ت:محمد برادة ،حسان بورقية ،عين للدراسات و البحوث الإنسانية و الاجتماعية ،القاهرة،طبعة1 ،2001 ،ص 188 .
2 كمال البكاري : متافيزيق الإرادة ،دار الفكر العربي ،بيروت،ط1 ،2000 ،ص 45 .
          و في كتابه المخلاة يستجمع فيه أحسن المواضيع و الحكم النادرة و الأحاديث فتعددت موضوعاته و تباينت مسائله ، لأن الهدف من وراء هذا القصد هو معرفة المعرفة ، التي احتوى عليها البهاء ، و في تعليقه على تأليف هذا الكتاب المصدر يقول :

" هو كتاب يعني المخلاة كتب في عنفوان الشباب،قد لفقته ولصقته وأنفقت عليه،وضمنته ما تشتهي الأنفس و تلذ الأعين من جواهر التفسير و زواهر التأويل و عيون الأخبار و محاسن الآثار ،و بدائع حكم يستضاء بنورها و جوامع كلم يهتدي ببذورها،ونفحات قدسية تعطر مشام الأرواح "(1).
          و في هذه اللحظة التي يعرض فيها البهائي كتابه فإنه في الوقت نفسه يقدم لنا معنى جديد في المعرفة ليست هي ما انتظمت معرفته ، و إنها هي ما لا ينتظم ، و في لا انتظام  انتظام يعطي للخطاب كينونته و تميزه و تفرده .
          كما أن فهم النص على تعبير بول ريكور هو بسط امكانية جديدة للكينونة التي يعينها النص فيعتبره حدثا و الحدث في هذا المعنى هو تميز الخطاب عن نفسه " الذي يرجع إلى عالم ينوي وصفه ، أو التعبير عنه ، و يكون كذلك كلام عالم ما عن طريق الخطاب ، كما أن اللغة ما هي إلا شرط أولي للتواصل ، حيث يكون الخطاب فيه مكمن كل الإرساليات ، و بهذا التعبير ليس للخطاب عالم فقط بل عوالم موجهة إلى من يفهم مغزاها (2).

1 بهاء الدين بن الحسين العاملي : المخلاة، ت : محمد خليل باشا ،عالم الكتب ،ط1 ،1405هـ 1985 ،ص 7.
2 بول ريكور :من النص إلى الفعل،مرجع سابق ،ص80 .
3 عبد المجيد الحر ، معالم الأدب العاملي ، دار الآفاق الجديدة، بيروت ، ط1 ،1402هـ ، 1982 م ،ص 356 .
 و بالتالي فهو البحث عن لزومية معينة لعقد حوار بين الماضي و الحاضر و الآن ، معقد في جولات ، منطلقا من الجولة الأولى إلى الجولة الأربعون بالإضافة إلى جملة من المؤلفات التي تميزت بالعطاء و الشمولية ، و غزارة الإنتاج و هذا ما يذكرنا به كتاب آمل الآمل للحر العاملي الذي يعرفنا فيه على علماء جبل عامل و أعيانه و فضلائه ، يعرض لنا فيه جملة من الدراسات الفقهية و الأدبية كما تحدث عن الحديث القدسي و الصحيح و الحسن ثم بعد ذلك ينتقل إلى الاجتهاد ليثبت أنه غاية العلم ، كما تحدث أيضا عن العصمة و الغيبيات و كذلك عن أصول العلم و التعليم ، إضافة إلى حديثه عن الأغراض الشعرية التي تميزت بالمدح و الثناء ، إلى العلوم العملية من طب وفلسفة والرياضيات و الهندسة (3).

          و الجدير بالذكر أن كثيرا من العلماء العامليين قد برز و في كل هذه العلوم و استقرت منطقة جبل عامل على هذه الأسس المعرفية ، و من ثم أدى إلى استقرار النظام و الحالة الاجتماعية ، كما أن البهائي كان له أثر و نفوذ علمي واسع لما كانت المنطقة تعج في سباتها العميق، فغابت عنها المعرفة و الفكر و ركدت الحياة الثقافية و عم التفسخ و التحلل ، الذي أدى بدوره إلى وجود مصلحين و حكماء .
          كما يطلعنا حسن الأمين عن أسماء عدة لعلماء عامليين من أمثال الشيخ أحمد آل رعد العاملي الذي درس في مدينة جبة على يد الشيخ الفقيه عبد الله النعمة ، و أبو محمد شرف الدين إبراهيم بن زين الدين صاحب كتاب المدارك الذي شهد له بالعلم و نقاء السريرة ، بالإضافة إلى الشيخ الحريص العاملي الذي يعتبر من طلائع الشعراء في جبل عامل (1).
          و من هنا نصل إلى أن هذا الشكل المعرفي ناتج عن ما يسمى مجتمع المعرفة ، هذا الأخير يفسر لنا حقيقة الذات العارفة التي هي ذات اجتماعية مدركة يحملها الإنسان بين طياته و يتمثلها في شعوره و عقله ، و بالتالي فهو يتعقل مدركاته نتيجة احتكاكه بالآخرين ، و يفسرها في ضوء المعايير السائدة في مجتمعه ، تلك المعايير العقلية التي تمخضت عن بنية المجتمع و أنساقه (2) .
            و بالتالي فإن الحقيقة توجد أينما يوجد أناس صادقون فاعلون ، حيث يساعد الدال إلى إماطة اللثام عن كل رغبة بوصفه قيمة معينة ، كما أن هذه القيمة تصبح فيما بعد تجربة و رغبة كحدوث مشروع أو مهمة أو عمل ، و بالتالي فإن القيمة تنبثق من حيث انبثاق نداء المسؤولية لشخص معين، و هي كمشروع معبر عن صلة الوصل بين مستويين ، النظر و العمل (3).

1 حسن الأمين: أعيان الشيعة،مصدر سابق ،ص 600 .
2 محمد قباري اسماعيل: علم اجتماع الفلسفة،جزء ثاني،(نظرية المعرفة ) ،دار المعرفة الجامعية الاسكندرية ،ص115 .
3 جان بول رزفبر: فلسفة القيم ،ص 38 .
          كما نجد لعلماء جمل عامل اهتمام واضح و متميز بأخذهم لمبادئ الفكر و حريته فقد تعلموا الفلسفة و الحكمة و المنطق، و أتقنوا فن الاستدلالات حيث تطور عندهم فن الحجاج للدفاع عن العقيدة الإسلامية من الثقافات الأخرى .

          إلى جانب هذا لم يتنكروا لفضائل ثقافات الهنـــد و الفـــرس و اليونان و الــروم ، و كـان هـذا الأثر دافع لتقوية الدافع العلمي لأن المعرفة حق إنساني مشترك ، و أن إقامة الفواصل و الحـدود عمــل غير منطقــي يـؤدي إلى التهلكـة و السذاجـة ، كما كانت استفادتهــم قوية بحكم موقعهــم الجغـرافي الذي مكنهــم من الاطـــلاع على كل المعارف ، كما تكون عندهـم ما يسمــى بالعقـل الموسوعي و أصبحـوا علمـاء موسوعييــن ، لدرجــة ما إن سألهــم سائــل عن قضيـة إلا و كانت الإجابة عنها ، و الشيء نفسه طرقوه في علم الكلام و غيرهم من العلوم و هذا ما أقر به ناصر خسرو في إحدى رحلاته .
          إن المعرفة عند العامليين هي تعبير عن إرادة القول بقول معرفـي آخر و بالـتالي نجـد هـذه الابستيمية مميزة في خطاباتهـم لأنهـا هي التي منحـت لها القدرة و البقــاء و كذلـك التميـز ، أي أن لهـا علاقــة قوى ليست من الضــروري أن تكون قائمـة على برهـان أو وسيلة اقنـاع منطقيــة ، لأن أصداء ابستيميتـــها تعكس ذاتهـا عبر الخطـاب المعرفي الســائد ، كما تستنــد هي نفسهــا لتلك المعرفة القوة التي نلمحهــا من خـلال سيطــرة نموذج فكـري معيـن لــه دلالــته السرديــة و الروحيــة و الأنطولوجيــة ، التي تنعكــس حتمــا على سلــوك الانسان سواء في مستوى القول أو السلــوك ، أو على المكتوب و المقـــول ، و كذلك المفعــــول (1) .
          و بالتالي فإن كل المعرفــة و موضوع المعرفــة الذي يخضــع إلـى تحويل أو تغيير يمر بمرحلــة دياليكتيكيـــة تكون على مستــوى صميم الوعي ذاتــــه ، لا في معرفة ذاتــــه و لا في موضوع معرفتـــه فقط ، حيث يجذ هــذا الوعي نفسه يشــرق من جـديد أمــام ناظرين في إطار خبــرة معينــة أو تجربــة خاصة متميــزة و بالتالي بانبثاق موضوعــه هو انبثــاق وجوده (2) .
 

1 مطاع الصفدي : القوة القووية ،( المعرفي السلطاوي ) مركز الانماء القومي ،لبنان بيروت، ع 41 ،أيلول ،تشرين الأول ،1986 ،ص 8 .
2 زكريا إبراهيم: هيغل و المثالية المطلقة ، مرجع سابق ، ص 179 .
 


          كما أن وجوده المعــرفي دون حضوره في مجــال أصول الديــن بقوة ، و هنــــا تأتي الوسائل لنشــر المسائل لتحصيــل الشريعـــة المقرة من الله عــز و جـــل ، قصد تطهيـــر الآدمـــــي و تحصيل سعادتــه ، و من ثم اكتســى هــذا العلم مكانـــة عظيمــة عند الحر العاملي باعتبــاره أول من كتب مجــال الفقــه و التفسيــر (1) .
          و في هــذه الحالة تكون الشرعيــة هي ظاهر الحيــاة الدينيــة و يكون الفقــــه هو المحــدد الذي يضــع الحدود للشريعــة و يضبطهــا .
          كما ارتكــزت السلطـة المعرفيـة في نتاجـات الشيخ الدامــاد ، الذي وصفـــه الحر العامــل أنـه عالــم فاضل جــدير القدر حكيـــم متكلــم ماهــر في العقليات ، معاصــر لشيخنــا البهــائي ، و كان شاعرا بالفارسيــة و العربيــة مجيدا (2) .
          بالإضافــة إلى تعبــده ة زهده ، فكان يغلــب عليــه تحلي الأفكـار و المواقف الفلسفيــة من خلال اتجــاهه الاشراقـي ، و إذا ما تمعنــا في توجهــه العلمي فإنــه أيضا ألــف في كــل المياديـن من بينهـــا كتاب اللوامــع الربانيــة في رد شبــه النصرانيــة .
رسالــــة في المنطق ، رسالــــة في تحقيق مفهــوم الوجود ، كتــاب بعنوان سدرة المنتهــــى ، كـل هــذا الإقرار نتــج عن تلــك البعــاد السيسيولوجيــة التي نبعــت من تركيبــة العاملييــن ووظيفتهم المتميــزة ضمــن منظومــة من القيــم و السلوكــات ، إلى جانب هــذه الظروف و الإمكانيات مـا ذا نستلهـم منــه ؟ .

1 ينظر عبد المجيد الحر: معالم الأدب العاملي .
2 عبد الله نعمة: فلاسفة الشيعة،منشورات مكتبة الحياة،لبنان بيروت،دط،دت، ص 398 .
الجواب مقــدر على تقديــر مستــوى الفكــر و المعرفي و مستــوى الاجتهـاد و التجديد الذي وصلــه العامليــون ، هـذه الجوانب كلهـا تجتمــع لتعيننـا على فهــم الامكانات العقليــة و التاريخيــة و الاستفادة منهــا ي كــل مكـان و زمــان ، و بالتالي ينفتــح النسق المعرفي العاملــي على مـا نهايــة مــن التنظيمــات و الإرادات ، كمــا ينفتح على مفاهيــم جديدة لمختــلف الموضوعـات التي ستدعــم برؤيــة حقيقيـة تبنـى على منج علــم المستقبليــات ليكون النسـق المعرفي العاملـي نسق داخــل مشــروع يتحدث من طبيعــة المكان و إمكانــه .

الأبعـاد القبليــة و البعديــة لإستراتيجيـة السلطة المعرفية:
المبحث الأول :المكــان و فتح الإمكان
          العقل العاملــي يبتعــد عن صيغــة التجزيء ، كما يبتعــد عن منطق الأحاديــة في التفكيــر ، هو عقل تركيبي تعـددي ، يهتــم بالكليــات و كذلك الجزئيــات ، العقل العاملي عقــل موزع و في توزعــه وحدة ، كما ينشــد وحدة متكاملــة في المعرفـــة ، فلا تتجــدد أفكاره فقط داخــل حقولها الخاصة المنتجــة فيهــا ، بل أيضا من حركــة الانفتاح المزدوج على بقيــة الحقول المعرفيــة و القطاعات المجتمعيــة ، و بالتالي تساهم في صنــع الأحداث و تفاعـل الأفكـار و ينبثــق طرحا جــديدا يتـم من خــلاله تحويل الواقــع و إعـادة تشكيــله (1) .
          كمــا أن التصور العام للعلــوم و المعارف كان نتيجــة جهــد إيرادوي ، نابــع من تحديه لأقصــى الظروف و بالتــالي فإنــه وعى هــذه الإرادة ، غير أن هــذا الإوتعاء اكتمــل تدريجيـا في أعلـى درجـات تموضعــه ، حيث يدرك الإنسان إرادتــه و ترك الإرادة ذاتهــا بكل وضــوح ، و لأن الانسان في جوهـره لــه عقــل يدرك و يرتــب و يعي، فإنــه يكشف العلاقات و أسباب الانبثــاق(2) .
          هذه القراءات تستوفي الأفق المعرفي و الثقافي الذي قــدم نفســه من خــلال كرونولوجيــا منطقيــة و لكن الهــدف هو الغــوص في أعمــاق هــذا العقل و آفاقــه لمعرفــة التراث المستبعــد و المهمش ، لأنه ليس نســـق مغلق في ذاتــه بل مفتــوح على ما نهايــة من الأفكــار .

1 علي حرب: تواطئ الأضداد ،الدار العربية للعلوم ناشرون،مؤسسة الاختلاف ،ط 1 ،1429 ،2008 ،ص 61 .
2 كمال البكاري : ميتافيزيقا الإرادة، مرجع سابق ،ص 41 .
          و قــد نجــد أثنــاء قراءتنـا للفكر العاملـي ، عمــلا تأسيسيا لوحدة العقل المختلــف المؤتلــف الذي يعمل على خلخلــة ما هو كامـل و مستوطــن في الساحات الثقافيــة ، ثــم يعمل على ترتيبهــا و تنسيقهــا ضمن أفق معرفـي خـاص ، و كـل هــذه الاجتهاد يرجــع إلـى العوامل الاجتماعيــة و السياسيــة التي مكنــته من الاتصال بالعالــم الغيبي إلــى العالم التصوري أو المتصور ، الذي مكنــه من امتلاك زمــام الابداع و الارتقــاء إلـى الكينـونة المشرقــة .

          هــذا ما اشتغل عليــه العامليــون منــذ بزوغ فـجــرهم إلى غايـــة اليــوم ، و لكـن الغريب و المدهـش هو أن الأفراد الذيـــن تكون منهـم هـذا الصنف من العلمــاء قد أدركوا المصالــح الموجـهة للمعرفــة كوسيلــة لحفظ الذات ، و أن المعرفة هي وسيلــة لحفظ الــذات بالقدر الـذي تعلــم به حفــظ الذات المجردة للمعرفــة ،التي تشكلت في أوساط العمــل و اللغـــة و السيادة (1).
          و من ثمــة نستخلص أن العاملييــن ارتبطوا بمجتمعهــم أشــد الارتباط و كونــوا مجتمــع المعرفــة ، حيث درســوا كل الأنمــاط الفكريــة السائدة في بنيــة مجتمعهــم ، و كــذلك تلك الأنماط المثاليــة و الواقعيــة فيما يتعلــق بمجمــوع القيـم و العادات .

1 بكري خليل : الإيديولوجياو المعرفة، دار الشروك،عمان الأردن،ط 1 ،2002 ،ص 233 .
2 شوقي محمد الزين :تأويلات و تفكيكات ،المركز الثقافي العربي، بيروت لبنان،الدار البيضاء المغرب،ط1 ،2002 ، ص246 .
          مجتمــع المعرفة في مجتمع العاملـي كان وليــد حوافز اجتمــعت في ظروف عامــة و خــاصة تميزت بهــا منطقــة جبـع و جزيـن ، و الحريص ، و بغلبـك و عامــل ، فكانت هــذه الظروف وليــدة لقاء و صــدى لحيــاة مشتركــة ، أنتجــت أثناءها الأثــر المتبادل الذي ولــد قوة اجتماعيـــة سياسيــة لا تقهــر ، ترجمــت لنا خصائص هــذا الانسان الذي ارتقــى إلى أن يكــون انسان كـــامل ، و لا نقصــد بالكمـال ذلك الكمــال المطلق ، و إنمــا الذي تمتزج فيــه كل قوى الإرادة و المعرفــة و الذات و السلطــة ، و مـن ثم فإن المعرفــة " هي سلطـــة لكــن ليس على سبيــل الهوية و التطابــق و إنمـا من خـلال التضايف و التلازم ، مثل تضايــف الدال بمدلولــه ، و لهذا فهي ملازمــة للسلطـة لأنهـا قبل كــل شيء ممارســـة تظهــر في عنصر الخطــاب ، لتخلع عنــه عناصر التجريــد و التصور و التعـالي ، و هي فعــل باعتبارهـا جملة القواعــد الموظفــة لتشكيل الخطـابات و المفهومـات و المنطوقات " (2) .

          إن العالــم الذي نتحـدث عنـه هو العالم العاملــي المتمركز في جبــال عامــل و الغرض من طرقنــا إلى موضوع المكان هو الوصول إلى صورة المعنــى المنبثقــة من هــذه الاستراتيجية الجغرافيــة و التاريخيــة .
          تطلعنــا لفظة المكــان ، بمفهـوم مــا- كـان ، ما كان موجود داخــل حيز أو خارجــه ، في سياق هــذه البنيــة المكانيــة التي تسمــح لنا بتأكيد هــذا المنطق العملي لأي حركــة تقرر معنــاها في إطار التوجــه نحو دراســة النماذج و السلوكـات المعرفيـة ، و في انتقالنـا عبر هـذه المفاهيـم فإننا ننتقــل زمانيــا لتحديد اللحظات الزمانيــة التي كان فيهـا المكان يحتـوي على مـا – كان في زمكـان الحـاضر و زمكـان لا حاضر ، نفككهـا إنطلاقا من ابراز مقولــة الحضور و مــدى انوجادهــا داخل الحقل المعرفـي العاملي قصــد بلوغ الجدوى الحقيقيـــة لسيرورة الانسان ، و من ثمــة فإن الموقف العلمي حيــال هــذه الاشكاليــة يمنح للموضـوع طبيعتــه و للعقــل منطقــه الخاص الذي يستصـاغ بـه .
          و من الطبيعــي أن لا تتعارض هــذه الأمكنــة مع التجربــة الحية التي اثارهــا علماء عامــــل لكــي لا تكون الحقيقــة العلميــة بين فخــي الوهــم و التجاوز ، حيث ينحدر المكــان في إطار استراتيجي و مكــان عيني يحتضي بالاعتــراف لذاتــــه و بذاتـــه ، حيث يتحــقق مبدأ العودة إلى التاريـخ و الفاعليــــة .

1 محمد بن علي الموسوي العاملي : مدارك الأحكام في شرح شرائع الاسلام،مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث،ط1 ،1411 هـ ،1990 ،ص10 .
          جبع و جــزين ، عامل و بعلبك ، إيران و أصفهـان ،  مصر و سوريـا و العراق ، فتوحات جمركيــة لحدود مغلقــة ، كما أنهــا فتوحات معرفيــة للتاريخ و الابستيمولوجيــا ، و لقد شكل الموقع  الجغرافي همزة وصل بيــن بلاد الشيعــة في العراق و إيران ، و نقطــة إشعاع لولاء آل البيــــت في البلاد المجاورة (1) .

          و من ثمــة تتحدد نمطيــة الوجود العاملي بطبقـــة من صفوة العلمـــاء التي كــانت العنصر المحوري لإعادة ترتيــب البيت الإيراني ، كمـا كانت صرحــا لتطر النشــاط الفكري للحركة العلميــة و الأدبيــة و الفلسفيــة ، نلتمــس في طياتها إجلالا و إخــلاصا عقديــا لا متناهيــا في احترام الآباء و الأجـداد و الذود عــن حمــاية الوطــن .
          كما تميــزت منطــقة عامل بمآثــر الشهيديـــن ، الشهيــد محمد بن مكــي ، الذي توســع نشاطــه خارج جبــع و جزيــن ، فانتقــل إلــى دمشق حيث قضــى أغلب عمــره هنـــاك ، يستجمــع أوصال ما تقــطع بين السنــة و الشيعــة ، و خروجــه من مــكان إلـى مكــان كــان نتيجـة ارتبــاط عقدي يريد من خــلاله النصرة لمذهــب أهل التشريـــع (1).
          و مــن ثم فإن الصراع على الأفكــار كــان مطيــة للأذى الذي لحقــه فيما بعـــد و هــذا ما أدى إلــى إعدامــه ، و لــم ينقطــع الامكــان عن المكــان بل ازدادت فتوحاتــه و عــم نفوذه و تقــوت دلالاتــه و رموزه ، و لكنــه حمــل في طياتــه تعبيرا واضحــا عــن القوى الفكريــة و الروحيــة و لم تخــسر مدرستـــه الهيمنــة الفقهيــة و الفكريــة .
          هــذه المرحلــة طوتهــا مراحل متعــددة جعلتهــا تشتغــل لا على مكــان واحــد ، بل على أمكنــة عــــدة تمثلت في الانتقــال من اللا ممكــن إلـى الممكــن و من اللا معرفي إلـى المعرفــي فتأسس مفهوم جــديدا للمكـان و مفهومـا جديدا للزمــان ، و لم تستسلــم المنظومـة المعرفية العامليــة إلــى اليــأس، بل انبثقــت رؤية جــديدة لخصتهــا النماذج المعرفيـة التي سيطـرة بمنهجهــا على انتشــار التشيــع في المناطق التي فتحهـا العامليــون ، فعلــى أي أساس كــان انتشــار هــذا المذهب ؟ .
 

1 عبد المجيد الحر:معالم الأدب العاملي ، مرجع سابق .
 


المبحث الثاني : بروتوبلازم التشيـــــع
          إذا كانت المعرفــة نســق تنطلق منـه الذات العارفــة لإيجاد مفهومـات حياتيــة ، تنطلق من مجهــود نظــري يعمــل على خلخلــة بنى المــاضي داخل مؤسســات الشمول و الكتل و المطلـق ، فإن الأبعـاد الحضاريـة التي تضمنتهـا الخصوصيـة الثقافيـة نفسهـا تتلون وراء ذهنيــة موافقــة لمعقوليــة المرجـع ، تارة في مصطلح الستــر و تــارة في مصطلــح الكشـف ، و من هنــا يغــدوا الإيمــان يتجذر في التاريـخ العاملــي لنشره التشيــع ، فتزاوجت الانجـازات الفكريـة بيـن المكانييـن ، إيران و عــامل ، حيث منحهــا أبعـاد انسانيــة عاليــة في التفوق و التعالــي ، و طبقا لهــذا الأمر" تكون العمليــات التجمعيــة و الإئتلافيــة و الاندماجيــة حركات اجتماعيــة متسلسلــة على الدوام ، و الحاصلــة من جراء تفاعــل العوامل الإجتماعيــة ، فلا نستطيــع أن نستقصي لهــا بدايــة أو نهايـــة إلا بالتصور التخمينــي المستدل عليــه من ظواهـــر العمليـــات الماديــة في التاريـخ " (1) .
          و مقبل هــذه النظرة الكليــة فإننـا مدعوون للوقوف على فعاليــة الفتح و الاكتساح التي عبر عنها المذهــب في أقصى تجلياتــه ، لنتوقف بعــد ذلك عند البطاقــة التي حركة القدرة التوسعيــة للأفعال الذهنيــة من جهة و الأفعال الموجهــة للمواجهة من جهــة ثانــيـة ، و ينحصر في هــذا الصدد موقفيــن رئيسييــن و همــا :
1- الإضطهــاد :

1 زكريا إبراهيم : هيغل و المثالية المطلقة ، مرجع سابق ، ص 326 .
          في هــذه النقطة بالتحــديد نتحـدث عن دلالات جديدة للإنتشــار الذي كــان مكمنــه محنــا و معانات ارتبطــت بماضي شدتــه صراعات خانقــة بين قــوى متناقضــة في المعنــى و المبنــى ، و لكن حجــم المأساة و الألــم كـــون بنيــة قويــة لأنصار التشيع ، للحفاظ على ميكانيزمات التحــدي و العزيمــة و بالرغم من كــل هــذا فإن الألــــم في كثبر من الأحيــان و لــد في النفس تناقضــا خصبــا زاد من عمــق الحياة الباطنــة ، إذ تشعر الذات بتوتـــر حــاد بينمــا هــو كــائن و مــا ينبغــي أن يكون ، و مثل هــذا التوتر الشروع بالقيمـــــة (1) .

            هــذه القيمــة اكتسبهــا العامليــن لمــا فروا من الاستبداد الذي كــان سائدا في بلاد عامــل ، و اتجهــوا صوب إيران أيــن كفلت لهــم أسباب النجــاح و التفوق ، إلــى جانب هــذا سمح لهــم لممارســة شرائــعهم و طقوس معتقدهــم ، الذي كان كانطلاقة للتبليــغ أو التبشيــر بحقائق هــذا المذهب المنعتق في رمزيــة الخلاص و رمزيــة الانتظــار ،" و لكــن لا ينبغــي أن يظــل الرمــز ميتــا ، بل يجب أن يخــاطب الرغبــة ، و أن لــه ذلــك إن لــم يعمد فاعــــل تأويــــل معنــى مضمونــه ، كمــا لو أنــه رسالــة ينبغي قراءتها و فرصــة جديدة لا تعرف إلا انتمائهــا إلى جماعــة ، وولادة جديدة لهويتهـا الخاصـة " (2) .
            و إذا كان الكثير يظهر الانتقال من عاملة إلى إيران بمظهر الولاء ، فإن أهـــم شيء كان دافــع لهــذا الأمر هو الخروج من دائرة العضــال السياسي آلا و هو الاستبداد ، الذي قوض العــدل و أقمع الحريــة التي أدخلتهــم في معانــاة و في تغرب قهــري قاسي ، هــذا من ناحيــة و من ناحيــة أخرى لــم يزل أمر العاملييــن يستظهر قدراته و نتاجاته حتى أصبــح يكتسي طابع المرجعيــة بنوعيهـا الدينيــة و العلميــة ، التي ترتبــت عنها جملــة من المنافع و الفوائــد ، و بالتالي أصبحت مسألــة التشريعــات و الدفاع عن المبدأ و المسلك بأيديهــم .

1 زكريا إبراهيم: مشكلة الانسان، مكتبة مصر ،القاهرة ، الجزء الثاني ، دط،دت ، ص 80 .
2 جون بول رزفبر : فلسفة القيم ، مرجع سابق ، ص 37 .
          و في زمــان قياسي أخفي الفرق بين المواطنيــن الأصليين و المواطنين العاملييــن، و تشكــل المعيار التواصلي بينهمــا ، فأعاد تحريك الحركـة العلميــة الذي وســع من مفهوم التجربــة الحواريـة ، كما أنه غير من مفهوم الكينونـة الذي أخضع إلـى سؤال ابستيمولوجي ارتبــط بشروط فتـح الامكـان في المكـان ، من خلال تجربــة الانتمــاء التي قوبلـت بالاعتراف الرسمي من طرفي حكام إيران و كذلك الشعب الإيراني ، و من ثمـــة عبــرت الذهنيــة العامليــة على امكانيــة أكثر حيوية و استراتيجيــة أكثر توازنـا ، في الكشف عن نيــة شبــه مستترة و هو الإنتصار لعقيدة التشيع ، باعتمادها في نشر المعتقد على سوسيولوجيا ثقافية خاصة ، تتطلب بدورها بلاغة الخطاب ، وقوة البرهان ، و الإقناع المعرفي ، ومن ثم تكون نظاما جديدا في العقلنة ، برز في ألونا شتى من المعارف و العلوم ، و كان هذا الملمح الغالب على نشر المعتقد .

          و إذا كان هذا الأمر قد نحــى عــلى هــذا النحو ، فإن النسق الاجتماعي المتكون قد أضفى معايير و قيمــا مشتركة ، بالإضافــة إلــى أنماط مختلفة من الرموز و الموضوعات ن كرمز الشاهــد و الغائب ، و ولايــة الفقيه ، و الزمان القدسي ، المؤسس في الذاكرة الجماعيــة التي غدت هــاته الهويــة ذاتهــا ، التي ساهــمت في بلورت جديدة للانتشار المذهبي الذي كان مرتكزا على :
* الفعل الاجتماعي
* الموقـــف الفاعل ، و توجهات الفاعل (1).
العاملــي عالمــــي :
          ليس من طبائع البحث العلمــي و طبيعتــه أن يجامل الباحــث بعض التقريرات التي يجدهــا في بحثــه و إنما أن يكون نزيهــا و متحيزا لمبدأ النزاهــة و الصدق المشروع ، لكن بالرغــم من هــذا لا يمنعــه من الاعتراف بموقف معيــن ، لكــي يتمكن من تقــديم المعرفة الممكنــة .
          إن التاريــخ العام لهــذا الفكـر قدم رؤيــة جديدة ، اكتسبتهـا مقولـة التغيير المزاوج لجميع الأنماط الاديولوجيــة ، و التي أدخلته في سيــاق دائرة الصراع ، ليكتسي فكرا نموذجيــا يراد به تحــويل العالم ، و تغيير اتجـاهه ، لأن العلائق الواقعيــة أثبتت ذلك الانتمــاء الذي يمل جوهره إلى المصالحــة أحيانا و التصعيد أحيانا أخــرى .

1 إبراهيم أبراش علم الاجتماع السياسي،دار الشروق،عمان الأردن،ط1 ،1998 ،ص 104 .
          إن النفوذ الذي مكـن العاملييــن من تحقيق هــذا الشرط هو الفكر التعددي التركيبي الذي أخـرجه من الوهـم إلى الحقيقــة ، كما أن النتائــج الثقافيــة التي نتجــت عــن النظريات الشاملــة للعلوم و المعارف أيقظت الوعي العــام للقضـاء على الحقد و الدعوة إلـى عالميــة الحريــة ، و إلـى عالميــة المعتقــد ، إنهـا تقف من أعلى قمــة ماضويــة تتفجر فيها الطاقــة المضادة التي اتخــذت صبغــة متعددة أكسبتهــا نماذج كبــرى في المرجعية التراثية و الحداثيــة ، و إزاء هــذا النمط من التصور يقف العاملي في مواجهــة العالم ،و بالتالي فهــو عالمي لأن أفكاره استدعت رجــالا جــددا نزهــاءا ، من أمثــال زين الدين ، و محمد بن المكــي و البهائي و الحر العاملي .

 العاملي عالمــي لأن خطابــه يجمع بين العودة الجادة للتراث ، و بين المواجــهة الحادة للعدو ، و بين السياســة المرنة مع اخوانــه ، و لـو حاولنا مرة أخرى أن نحدده بصيغــة الإيجاب لوجدنــاه أنــه يحمل علاقــة متفجرة على عــدة تيارات و أنماط سسيولوجيــة ، و أنطولوجيــة ،    " يرد من خلالهــا للبنى المعرفيــة الإيديولوجيـة إلى موارد النظرة الشاملة في التفسيـر و الكشف عن عوامل الحركـة الجوهريــة في المجتمــع ... فاجتماعية المعرفة تنطوي على تحـويل لتلك الفلسـفـة الاجتماعيــة إلى طريقة في الحيـاة و تنقل النظريات و الآراء العقائديــة إلـى حركــة اجتماعيــة سياسيـــة و حقيقية قائمـة "(1).
          كما أن هـذه الحركة الانسانية المتميـزة هي العنصـر الأساسي أو الديناميكي التي جعلـت العقل العاملي خاصـة و العقل الشيعـي عامـة ينتقــل :
المبحث الثالث : من الحوزة العلميـة إلى الجبهـة

1 بكري خليل: المعرفة و الإيديولوجيا ، مرجع سابق ، ص 309 .
          إذا ما تحدثنـا عن العقل العاملي خاصـة و الإنسان العاملي عامـة ، و الظروف المحيطة بمنطقـة لبنـان ، نراه أنه يحتوي على منهـج القدرة في نشــر أفكاره، أو اعتناقــه لأسلوب معيــن في الكتابــة و العلم و المعرفـــة ، هـذه القدرة تجمــع بين خصائص الإرادة الحيــة المنبثقة من السلطـة الاجتماعيـة السائدة ، و التي تهـدف في باطنهـا إلى العمل  على توجيــه الإرادات الفرديـة إلى مستـوى النهوض و الالتزام بأداء الحقوق و الواجبــات .

          غير أنــه في لحمـة هاته الإرادة مجــال ملتصق أشــد الالتصاق في ذهنيــة العاملييــن ألا و هـو مصطلــح الدفـاع ، الذي هــو مكونهـم و دافعـهم ، و هـو ظاهرهم و باطنهــم ، و هـو معرفتهـم و سلطتهـم ، و كذلك هــو آمالهـم ، و هــذا الأمل نابــع من التزام لمآثـر العصبية المتولــدة منذ ثورة الحسيــن المباركــة ، و منذ مــا قبل ثـورة الحسيــن .
          ينبثــق من خــلال هــذه الأطروحة طبيعــة السلوك العاملــي الذي ينتقل من مستـوى المعرفـة و التحليل و التركيــب إلى مستـوى الدفاع و المقاومــة و الاستشهاد ، و يتعرج في خـطى الفكـر الدينـي حتـى تجعلـه قادرا على إنجـاز رسالــة مختصرة ، هادفـة و مثيرة عنوانهــا :
حريــة الفكر و مسألة التحــرير
يمكن اكتساب هـذه الحريـة كما يمكـن تلقينهـا عبر شبكـات الاعتقاد الخاضـع لمقتضى التأويل الذي يعطــى لهـا ، و السياق الذي تنبثـق منـه هذه الحريــة ، كمـا أن العاملييـن قد أدركوا جيــدا معاني فلسفــة الانتشار ، فإنهــم ألصقوهـا حتما بمعتقدهـم الشيعي الذي زاوج بيــن حقول ثلاث و هي :
الانســان و الزمـــن و التراب ، و مــن ثم انكبـت مسألة التحرير وفقــا لهـذه الثلاثيــة التي ارتبطــت بمنهج المقاومــة .

1 نجيب نور الدين : ايديولوجيا الرفض و المقاومة،دار الهادي للطباعة و النشر و التوزيع ،بيروت لبنان،ط1،1425هـ،2004،ص 380 .
          العاملييـن أيضا أدركوا معاني كثيرة جــدا ، ارتبطت بموقفهـم من الحياة الناتجــة عن الحرمـان و الاضطهاد ، و حددوا ذلك في مســائل عــدة ، سلطـة الضوء على عامل جوهــري و أساسي ، احتل مكانــة في الوعي و الشعـور الشيعي ، الذي تمثل في تلك المنظومـة الفكريـة التي احتكمت إلى الحياة و التاريـخ معـا ، و هي نظرة تنبثــق و تتفجر معاليمهـا من خلال عمق مضمونهـا للشهادة و التـاريخ ، حيث يبدوا كـل منهمـا بمثابــة ديناميــة خاصـة لنوع الحضـور في الحيـاة ، إنـه نوع يكشف و يفسر الدور الذي تضطلع به المقاومــة و الموقع الذي تحتلــه (1) .

          المقاومة في فكر العاملييــن هي منهج لتغيير الواقع ، و التي تعتـمد على معادلـة فكر المقاومـة و مقاومــة الفكر ، فالواقع لا يتغيــر إلا إذا تغيــر الفكر و بالتالي تتجســد المقاومة في أعلـى قممها الصوريـة المجردة ، حيث تتملك روح الشعب مدلولات جديدة لتحريك الجماهير المحتلـة قصد تغيير الواقـع و رفض أوضاعــه و استبدالهـا بواقع جــديد يبحث أن أنشودة للخلاص.
          هـذا المفهوم الجديد للثـورة كامن في باطنيــة التأمل الشيعي الذي يسيــر في زمنيـة خاصـة تدعـى زمنيــة المقدس ، الذي يحتوي على مقيــاس حركي و طرقـة عمليـة تسري وفقــا لتكنيكات تتجاوز الاستراتيجيـة العامـة لمفاعيـل الزمان و المكـان ،" فليس في استطاعة الإنسان أن يعيش دائمـا مشتتا في الخارج ، مبعثر بين الأشيـاء ، بل لابد أن يعـود إلـى نفسـه بعد الفعـل لكـي يزيد من خصــب حياته الباطنـة ، و يضاعف من ثراء عالمــه الداخلي ، و هكذا يتمثل البعـد الداخلي للإنسان بوصفـه استجماعا لشتات الذات و امتلاكا لزمــام النفس " (1) .
          و على هـذا الأساس اتخـذ العاملييـن من الأئمة الإثنى عشريـة النموذج الخـالص و المحض لشاهدتهـم دعمتها محنـة الحسيـن عليه السلام في كربلاء ، و قد كـان للشهداء العاملييــن كمحمد بن مكــي و زين الديــن ، الأثر الواضـح في إتباع هــذا النهــج الشريف ، الذي ينبـع من معرفـة عقائديــة خالصــة ، ترفض كل اتعتاق إلى كل متجبر ومتغطرس ، يحتقر الكلمة العادلة و الرافضة لواقع معين ، و الطامحة إلى واقع أفضل ، وبهذا المنوال ستظل الشهادة ، الرمز المقدس الذي يجب أن يتقد س في حياة المجتمع الشيعي ، الذي تتحدد بفلسفة خاصة ، تجلت في ترجمات و أعمال العاملين ، التي تميزت بمايلي :
1- إمتلاك القصد المعرفي .
2- إمتلاك المنهج التطبيقي .

1 زكريا إبراهيم:مشكلة الانسان، الجزء الثاني،المرجع سابق،ص 23 .
3- إتساع المخيال في فهم الآخر .

4- إتساع المخيال في تفكيك شرائط المواجهة مع الآخر .
5- إحتواءه على التعددية في النظر و العمل، و الثقة في النفس .
6- التمكن الواضح والدقيق من دراسته للعقليات و الذهنيات و السلوكات
          وهكذا يغدو الفعل المعرفي له فينومينولوجيا خاصة ، تصمم منهجها لتحقيق أهداف معينة ، و الظفر بأقصى نجاح ممكن ، يؤهله إلى امتلاك الوعـي العام الذي يسيطـر بـه ، قصد تحقيق مشـروع مواجهـة لتحرير المجتمعات المقهـورة من سلطـة الفكر المشوه ، و من سلطة الوضـع ممزق ، كما أن المعرفة الحقيقيـة للاستشهاد ستدفـع العديد من ملاييـن الشعوب العربية و الإسلامية إلى أن تناهض لاهوت الأرض أمريكا و الصهيوني ، و تنقل الوعي من حريـة الفكـر على مسألـة التحرير ، من الدفاع عـن الأرض إلى الدفاع عـن العـرض ،" و لما كانت الشهادة رسالة من أجل الاخرين و في سبيلهـم ، فإنها لا يمكـن أن تكتفي بنفسهـا فلابد لاكتمال منعاها من خروجهـا من مستوى التصور إلى مجـال التنفيـذ ، و السعي إلـى التحقيق ، أي لابد من اكتسابها لحما و دما و عظما و عصبـا،و جعلهـا واقعا حيا معاشــا ، و هـذا ما يجعل منهـا رسالـة دعوة" (1) .

1 نجيب نور الدين:أيديولوجيا الرفض و المقاومة، مرجع سابق ،ص 379 .
          و القيم بعملية النقل النوعية للنظام العربي من نظـام مضطرب و مفكك إلى نظام فاعلـي و موحـد ، يعمل على تعزيز المسار النضالي لجميع حركـات المقاومـة ، التي تريد أن تتجنب الانهيار أمام الحالة الاستعمارية الصهيونية ، و بالتالي ستكون جيل جديدا واعيــا وعيا كافيــا بضرورة استمرارية النضال ، حتى يتمكن من الكشف عن حقيقة التحول التاريخي ، لمجريات الصراع و إدراكه ، و سوف تكون لهذه الشعوب القدرة الكاملة لفهم بنيــة المستعمر ، و امتلاكه للخبرة التاريخيــة الحقيقية لحقيقــة هـذا الصـراع ، و تغذيته بتوفير الأمـن على أراضيـه و من ثمة تتكون سيكولوجيا خــاصة ترتبط بروح التحدي و المعارضة ، كما تبرز الصراع النفسي بين الآنا و الآنا الأعلى و الآنا الآخر أي بين الذات و المجتمع ، بما يمثله من عادات و قوانين ضاغطــة للأمر الذي يدعـم قوة الشخصيـة و يحول بينها و بين الطمــس و الاندثار ، من قبل القواعد و التقاليد الجمعيـة ، و لهذا فإن الشخصية تكتسب قوة و مناعـة في حالات التوحـد كما تكتسب نفــاذ البصيرة و القدرة الفائقة على التغيير و التجديد (1) .

            كما لا يمكننا أن نتحدث عن فقه للمقاومة ، و معادلة للشهادة و الاستشهاد ، بصيغة المفرد ، ما لا يتوفر شرط إحياء الماضي المكبوت في اللاشعور ن و المعنون في إطار فلسفة متوحشة تقوم على إلغاء النحن في مقابل الآنا المجزأ ، الذي لم يستطيع إحياء الهوية الخالدة نتيجة لتصدع في أبنية إدراكاته وعلاقاته ومفاهيمه .
لأن لأمر لايتعلق في البحث عن لحظات مشرقة ، واسترجاع رموز القبلي التاريخي ن و إنما يتحدد باسترجاع شروط الإمكان ، التي يفرضها المكان ن عبر توسع مجال الفعل ، و إدراك مكان القول ولهذا الإعتبار ليست الشهادة مجرد موقف ، و إنما هي حجة و دليل في الواقع و التاريخ ، فهي حجة ودليل يستعان بهما لتحديد ماهية الأمور ، و أداة من أدوات الفصل بين الحقيقة و المخيال على المستوى المعرفي ، وبين الحق و الباطل على مستوى القيمة (2).
ومن ثم تسكن المعرفة وسط معادلات الصراع ، قصد التوظيف الإيديولوجي ، الذي تتحدد مفعولاته ، بتلك الروح المشتركة و المستندة على طبقية الحقيقة ، التي ستحولها وتوجهها ، عبر القوى التي ستحركها و تفعلها .
 
 
 
 

1 محمد علي الكردي :من الوجودية إلى التفكيكية، دار المعرفة الجامعية ،مصر ،1998 ،ص 88 .
2 بكري خليل : ايديولوجيا الرفض و المقاومة ، مرجع سابق ، ص 380 .
 


          إن محاور معالجة قضية السلطة المعرفية لعلماء عامل ، قد يشكل في حد ذاته نظرية إبستيمولوجية ، تتركز على إجماع يتحرك وفقا لتقويمات أنطولوجية ، ترتبط بنداء الحقيقة و التحرر و المواجهة ، إنها تسجل لحظة انبثاق رؤية جديدة تتشكل فيها جميع القوى المعرفية و السياسية و الاجتماعية ، ولعل في هذه الاتجاهات فواعل تعمل بدقة في تحريك مقولات التاريخ و الممارسة .
هذا ما يؤكد جذريا أن العقل العاملي لع مقولاته الخاصة ، التي تنتظم وفقا لأشكال الحتميات المكانية و الزمانية التي فرضت تحديدات على الطراز التالي :
أولا : أن الانتقال المعرفي لمعالم السلطة المعرفية عند العاملين ، ارتكزت على قوة الطموح ، وانطلاقية التجديد في فهم إختيارات الواقع الذي جرهم إلى البحث عن مفهوم الإنسان المبدع ، الذي لا يملك حدودا لأفكاره وأنساقه .
ثانيا : ضرورة تحقيق مبدأ الاسترجاع و الاستدراك للمعرفة العامليـة التي أدخلتها عوامل تاريخية و سياسية في دائرة المستبعد و المهمش ، و البحث عن طرائق جديدة لتفعيلها قصد معاودة قراءة إرادة القــول و إرادة الفعـل .
ثالثا : الاهتمام بموضوعات التي تطرق إليها العاملييـن و ضرورة إخراجها إلى عالــم الثقافـة العالميــة ، لأن نتاجاتها احتوت على الكليــة و الشمولية و التنـوع ، على المستوى العقائدي و أصول الديــن ، و الفلسفة و الرياضيات و الاداب و الفنــون ، و من ثم ضرورة استغلالهـا على أساس مصادر موصولــة لا مراجـع مقطوعـة . بالإضافـة إلى أن تركيبة الإنسان العاملي التي تحمـل موضوعا متشبعـا بروح التحــدي ، كما تحمل في طياتها بذور التغيير و التجـديد و الإخلاص ، حيث تبرز المنظور الأعلى لفلسفة الاعتقـاد التي تضل مفتوحـة على التــــاريخ و الحياة و العمـل ، و على هـذا الأساس تبنــى معالم السلطــة المعرفيــة التي ترتكـز على مبدأ القوة و الإرادة الفاعلــة .
رابعا : احتواء العقل العاملي على مفهوم مجتمـع المعرفة الذي ظلت تخوض فيه الدراسات الغربية من أمثـال دراسات فيبر و شيــلر ، لأنه تمكــن من دراسـة جميع التركيبات الثقافيـة المتصلة بمجتمعــه من خلال المسائل التي طرحهــا ، للكشف عن الحقيقــة التي تضمنت الأشكال العليا للتصور الانوجادي لقضايا الثقافــة و الحياة .
خامسا : اكتسابه لطرح جــديد لمفاهيم الموت و الحياة العالم ، مكنته من تفهم الآخر على حدوده و حـدود غيره ، و من ثم كـان الاستشهاد نسقا في تأملاته و مشاعره كعقيدة منبثقة من مــاضي أليم ، كما أنها الأمل المشرق أشرق بنور المقاومة التي جعلته إنسانا لا يعرف الرجوع إلى الوراء ، و لا تحده حــدود .
و لقد صدق من قـال : " إذا كان المدفع قد انتزع من سيف البطل صولتـه فإن المطبعة انتزعت من قلم الوراق دولتــه ".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
قائمــة المصادر :
* بهاء الدين محمــد بن الحسين العاملــي : الكشكول ،ج 1 .
* بهاء الدين محمــد بن الحسين العاملــي : المخلاة ،ج 1 .
* حســن الأمين : أعيان الشيعـة ،ج2 .
* محمد بن علي الموسوي العاملي : مدارك الأحكام في شرح شرائع الاسلام
* عبد الله نعمــة : فلاسفــة الشيعــة .
* عبد المجيد الحـر : معالم الأدب العاملــي .
قائمــة المراجــع :
* ابراهيم أبراش : علم الاجتماع السياسي .
* بول ريكر : من النص إلى الفعـل .
* شوقي الزيـــن : تأويلات و تفكيكات .
* بكري خلــيل : الإديولوجيا و المعرفـة .
* زكريا ابراهيـم : هيغل و المثالية المطلقة .
*                    : مشكلة الإنسان .
* كمال البكاري : ميتافيزيقا الإرادة .
* عبد اللطيف عبادة : إجتماعية المعرفة الفلسفية .
* ميشال فوكو : نظام الخطاب .
* محمد صبور : المعرفة و السلطة في الوطن العربي .
*محمد مصطفى زيدان : علم النفس الاجتماعي ز
* محمد سيد أحمد : فلسفة الحياة ، دلتاي نموذجا .
* محمد علي الكردي : من الوجودية إلى التفكيكية .
* علي حرب : تواطؤ الأضداد .
* جان بول رزفبر . فلسفة القيم .
المقالات :                  
* مطاع الصفدي : القوة القووية – المعرفي السلطوي - .
 
 
 
امتیاز دهی
 
 

خانه | بازگشت | حريم خصوصي كاربران |
Guest (PortalGuest)

كنگره بين المللي شهيدين
مجری سایت : شرکت سیگما