مواجهة‌ الشهيد الثاني للتيارات الفكرية والعقائدية المنحرفة

مواجهة‌ الشهيد الثاني للتيارات الفكرية والعقائدية المنحرفة

 الشيخ أحمد ترابي

لم يطوي الشهيد الثاني حياته من دون أن يضيف إلى مآثره العلمية والثقافية دورا جهاديا في محاربة الفرق الضالة والمنحرفة، كان ذلك حين استنفدت كل الخيارات الأخرى.

 لم يغفل الشهيد في جميع مراحل حياته الفكرية ونشاطاته الثقافية عن مواجهة التيارات العقائدية والفكرية المنحرفة، ولم يبخل فيما بوسعه من طاقة وإمكانات لتسخيرها من أجل هذه المواجهة. ولعلّ ذلك كان انطلاقاً من شعوره؛ وهو الفقيه والعالم الديني؛ بأنّ ذلك جزءاً من وظيفته الشرعية تجاه الناس، فيما هو الواجب لحمايتهم من التيارات المنحرفة من جهة، وتوسيع نطاق ثقافاتهم الدينية من جهة‌ أخري.

ومن هنا سخّر كلّ امكاناته في سبيل تحقيق هذا الهدف، والوقوف بوجه رياح الانحراف من البدع وما تبثّه الفرق الضالّة من أفكار ومعتقدات منحرفة.

ولعلّ من أبرز النماذج الشاهدة علي نشاطات الشهيد في هذا الإطار هو فتنة ابن جالوش أو يالوش التي عمّت بعض بلاد الاسلام.

وقبل البدء في البحث لا بأس من الإشارة إلي نقطة جديرة بالملاحظة وهي أنّ عصر المماليك كان قد تخلّله إعصار من الاضطراب السياسي والإجتماعي لدرجة أن هزّ عروش هؤلاء المماليك وأفقدهم صوابهم ومقدرتهم علي التمسك بزمام الأمور السياسية والسيطرة علي المسائل والقضايا الاجتماعية التي كانت تحصل آنذاك، ولشدة الصدمات التي كانت تحدث جعلت الجبهات مفتوحة أمام جحافل البدع والتيارات الفكرية والعقائدية المنحرفة، فلم تجد من يقف أمامها.

ومن هذا المنطلق يمكن أن نؤكد علي أنّ هذا العصر كان مسرحاً للاضطرابات الفكرية والعقائدية، وقد طغت عليه صبغة التسامح تجاه كلّ إعصار فكري حادث، إذ لم تسجّل مواجهة من أحد، سواء من السلطة السياسية أو الثقافية ممثلة في العلماء.

وبصورة عامة كان نموذجاً لعصر الهرج والمرج من كثرة ما شهد من تيارات و مواجهات وفرق مستحدثة ضالّة، وفي ظلّ هذه الظروف برز تيار اليالوشي، مدّعي النبوّة.

فتنة اليالوشي مدّعي النبوّة

ابّان ذلك العصر المضطرب بالحوادث والتيارات الضالّة برز شخص باسم محمد يالوش في منطقة جبل عامل في لبنان، وظهر معه تياره المنحرف والمشهور علي مستوي مؤرّخي هذه المنطقة، ورغم ذلك ثمة معطيات لم يبيّنها المؤرخون فيما يخصّ كيفية ظهور هذا التيار وادعاءاته الضالّة من كونه نبياً مبعوثاً.

إلا أنّ الثابت هو أنّ محمد يالوش هذا كان من يعدّ من تلاميذ الشهيد الأول. وبالتدريج أخذ موقعه من محفل حضوره مع تلاميذ الشهيد حتّى اكتسب شهرةً في ذلك.

وقد جاء في بعض المصادر أنّ قاضي القضاة بمصر وبسبب معرفته القديمة بشخصية الشهيد كان قد دعاه لزيارة مصر، وقد لبّي الشهيد دعوته واصطحب معه عشرة من تلاميذه، كان اليالوشي من ضمنهم، فشاهد بأم عينه كيفية احتفال القاضي مع أهالي مصر بمجيء الشهيد وتكريمه. وقد أهدي القاضي في هذا السفر للشهيد مجموعة ‌من الكتب النفيسة كهدية له، وكانت مجموعة فاخرة من الكتب المتنوعة‌ تتناول عدداً من العلوم والمعارف والفنون، فقام الشهيد بتحميل كلّ تلميذ من تلاميذه عدداً منها لغرض استنساخها.

وكان قد عهد الشهيد إلي تلميذه اليالوشي كتاباً حول العلوم الغريبة، ويتناول مسائل في مجال السحر كان قد جذب اهتمام هذا التلميذ بقوة، ولمّا علم الشهيد باهتمام اليالوشي أمر بترك هذا الأمر واتلاف الكتاب لما له من تأثير سيّء عليه، إلا أنّه امتنع وعصي أستاذه في هذا المجال وصار يستنسخ منها بما لا مزيد عليه.

ولعلّ رفضه الانصياع لطلب أستاذه كان من جهة‌ إحساسه بأنّه سوف يتملك القدرة العجيبة في التعامل مع الأشياء المحطية به كما كان يفعل المتصوفة في زمانه.

ومن هنا بدأت بوادر الانحراف تطغي علي أفعاله وسلوكياته، وصار يجمع الأتباع من عوام الناس من خلال السيطرة علي حواسهم وعقولهم، ويريهم أشياءً عجيبة يحسبونها حقيقة، كأن يقف تحت المطر ثم يريهم أن ثيابه لم تبتلّ أبداً! ومن هنا بدأت الفتنة التي عرفت باسمه.

إنّ الاعمال التي كان يقوم بها هذا الشخص قد جذبت العوام الذين كانوا يقطنون القري المحيطة بجبل عامل، وبشكل تدريجي بدأ صيته ينتشر بعدما وجد من يصغي إليه، ويدافع عنه من الناس.

وبعد انتشار وتوسع فتنته أخذ اليالوشي بجمع أنصاره في مكان واحد أعلنه مقراً وقاعدة انطلاق حركته ومن هناك خطط لشنّ الحملات إلي سائر بقاع الأرض.

وقد وقع اختياره علي منطقة‌ جبلية وسط مدينة‌ «الزرارية» وبدأ ببناء‌ قلعة حصينة له، وبرجاً هو إلي الآن معروف باسم برج يالوش.

لقد كان لهذا التيار أثر كبير في المحيط الشيعي، خاصة وأنّ مقرّ قاعدته كان يستقر في قلب منطقة شيعية، ممّا شكّل تهديداً جدّياً من جهة:

1. سرعة انتشار هذا التيار المنحرف إلي سائر المناطق.

2. تحريف ذهنية الرأي العام الشيعي عن المعين الأصيل.

3. جرّ هذا التيار المتطرف المنطقة إلي نزاعات بين أهل السنّة والشيعة.

موقف الشهيد من تيار اليالوشي

كان الأستاذ الشهيد الأوّل مشغولاً آنذاك بتأسيس حوزة جزين العلمية، وبهدف حفظ العلاقات التي كانت قائمة بينه وبين المجامع العلمية‌ بدمشق، سكن لمدة في دمشق واشتغل في البحث والمناقشة وحضور حلقات علماء‌ أهل السنّة وتوضيح ملامح الفقه الشيعي لتلك المجاميع والأوساط لأجل نشر و ترويج مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ولو بصورة مبطّنة، ولمّا أتمّ دوره في دمشق عزم علي الرجوع إلي لبنان و مواجهة فتنة اليالوشي حيث كانت تصله الأنباء حولها بصورة مستمرة.

لقد علم الشهيد أنّ مواجهة فتنة هذا الرجل ليست بالسهلة اليسيرة، وذلك لكثره من أتبعه من أهالي القرى البسطاء، وحماية هؤلاء المستميتة له، لذا فقد وجد من الصعب تغيير عقيدة هؤلاء من جهة، وضعف وسائله الثقافية التي من شأنها التأثير فيهم، فكان من الضروري التفكير في إيجاد سيناريو أبلغ تأثيراً من سابقه، وهو تهيئة عملية مواجهة مسلّحة من خلال تسخير بعض القيادات السياسية والعسكرية في المنطقة، ممن رفضوا فكرة اليالوشي ودعوته المنحرفة، وإعلان الحرب عليه لكسر شوكته واستئصالها بالكامل، وإلا فسوف يُبتلي الوضع بالتصعيد، وقد يجرّ المنطقة إلي حرب أهليته.

ومن هذا المنطلق حاول الشهيد استغلال موقعه العلمي في دمشق، من كونه أحد علماء الاسلام والفقهاء المعروفين بالفقه الشافعي، وسعة إطلاعه على سائر المذاهب، فسعي إلي جذب الحكومة بدمشق ورجالها إلي هذا الاتجاه.

وبالنتيجة فقد نجح الشهيد وبمساعدة سائر تلاميذه من حشد الحشود المقاتلة ودفعها إلي مناطق نفوذ اليالوشي وسحقه وأتباعه بالمرة وإن كانت العملية صعبة للغاية، حيث فقد أكثر طلابه الذين سقطوا شهداء علي هذا الطريق.

وطبقاً للوثائق والشواهد الموجودة فإنّ الهجوم والمواجهة المسلحة قد طالت لأيّام عديدة، وسقط فيها المئات من أصحاب وأتباع الشيخ الشهيد وقد دفنوا جميعاً في مقبرة تُعرف إلي الآن بمقبرة الشهداء.

ومن يزور هذه المقبرة يجد عدداً من الأسماء‌ اللامعة التي كانت تعدّ من تلاميذ الشهيد الأول وأتباعه، وقد بنيت عليها قباب واتخذ إلي جانبها مساجد، ومن جملتهم ضريح تعلوه قبة وإلي جانبه مسجد باسم مسجد محمد شاه، هو إلي الآن محل احترام وتجليل أهالي المنطقة، وبظنّي هذا الاسم ـ وهو فارسي ـ متعلق بأحد تلاميذ الشهيد الذي شدّ رحاله من خراسان طلباً للعلم حتّي حلّ عند الشهيد الأول، وشاركه في نشاطاته حتّي استشهد في هذه الواقعة، والملاحظ أنّه قد أُرّخ لسنة وفاته وهي 782 هـ أو 784 هـ أي كانت شهادته بحدود سنتين أو أربع قبل استشهاده (رحمه الله)[1].

فتنة المتصوفة

لم تكن حركة التصوّف، منذ ظهورها وإلي الآن، علي نسق واحد، بل إنّها في بعض المفاصل الزمنية، وفي بعض المناطق كانت أقرب إلي تعاليم القرآن والسنّة من غيرها من الحركات، بينما في مفاصل أخري، وفي مناطق أخري من العالم الإسلامي كانت أبعد من غيرها عن الوصي والتعاليم النبوية وسيرة أهل البيت.

ومن هنا كانت حركة التصوف تكتسب رونقاً باهراً أحياناً، وأخري تفتقده أشدّ الافتقاد، ولعلّ ذلك يعود إلي الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي كانت تحيط ببلاد الاسلام، والعوامل النفسية والاخلاقيه التي لعبت دوراً في انحدار بعض المجتمعات وسقوطها أو ارتفاعها وسموّها.

وعلي كل حال، شهد القرن الثامن الهجري إعصاراً من حركة التصوف في الأوساط الشيعية والسنّية معاً، واكتسب رونقاً خاصاً به آنذاك. وقد حمل معنيين، أولهما: مخالفة النفس وهواها، والرغبة في الزهد والقناعة، والميل نحو المعرفة القلبية، وثانيهما: الهوس بالتمنيات الروحية، والتطرّف في قمع النفس والتعلّق المادي والإفراط في النزوع نحو الأفكار الروحية، وتأسيس فرق لها القدرة علي إقامة البراهين العجيبة، وادعاء الكشوفات الروحية، والكرامات وسائر البدع الأخري.

ومن هنا كانت نظرة الشهيد الأول للفظة التصوّف إيجابية لو كانت بالمعني الأول، أمّا لو كانت الثانية فقد نقدها وأنكرها بشدة. ولذا ذكر في كتابه الدروس بعض أفكار المتصوفة علي النحو الإيجابي فقال: «والصوفية هم المشتغلون بالعبادة، المعرضون عن الدنيا». (الدروس، ج 2، ص 315).

كما أشار في بعض أشعاره المنسوبة إليه إلي المعني الثاني، وانتقدها، كقوله:

بالشوق والذوق نالوا عزّة الشرف

 

لا بالدلُوفِ ولا بالعُجْب والصَلَف

وقوله:

ليس التصوّف عكازاً ومسبحةً

 

كلا ولا الفقر رؤيا ذلك الشرف

وقوله أيضاً:

وأن تروح وتغدو في مرقّعةٍ

 

وتحتها موبقات الكبر والسرف

وقوله أيضاً:

وتُظهر الزُهدَ في الدنيا وأنت علي

 

عكوفها كعكوف الكلب في الجيف

وغيرها من الأشعار والأبيات التي لاقت صديً واسعاً بين أتباعه ومريديه، وأثّرت في جميع من حوله من الناس والتابعين، فجاء أُكلها طيبا، وصار النّاس يسخرون من أفعال وسلوك المتصوفة الذين وجدوا هذا الفكر وسيلة فعّالة في تمرير مخططاتهم وأفكارهم المنكرة، وأسلوب مربح لبلوغ المرام حيث كانت تضرّ بتعاليم الاسلام ورموزه، فراحوا يواجهونهم في الطرقات و السبل، ويناقشونهم بما لديهم من أفكار، فإذا وجدوها بغيضة وليست بشيء سخروا منهم امام الناس، حتي لم يجدوا بداً من الرحيل والهرب، وإذا وجدوها علي العكس أكرموه.

كل هذا بسبب مواجهة الشهيد الأول لهذا التيار، ومساهمته في استئصال شأفته.

 



[1] . لمزيد الاطلاع راجع مجلة العرفان، العدد الأول والثاني، ضمن المجلد 80، الصفحة 50 مقالة للأستاذ يوسف طباخه بعنوان الشهيد اأول ومشروع القيادة الدينية والسياسية في جبل عامل.

 
امتیاز دهی
 
 

خانه | بازگشت | حريم خصوصي كاربران |
Guest (PortalGuest)

كنگره بين المللي شهيدين
مجری سایت : شرکت سیگما