الندوة الشهيد الثاني..فقهه ومنهجه الاجتهادي

لم نجتمع بهم على طاولة مستديرة، بل سعينا إليهم فرادى، حملنا إليهم أسئلتنا، وكان من الصعب علينا أن نكثف الأسئلة لنلاحق كلّ المساحة المعرفية التي غطاها الشهيد الثاني، حيث طوّر وأبدع وجدّد واجترح الجرأة في أن يعلن الرأي المخالف غير مسايرٍ للمشهور كلما انتهى به دليله لأن يخالف.

اكتفينا ببعض الضوء نستله عبر السؤال الذي راعينا فيه قدرا من التنويع..فجاء هذا الحوار مع أصحاب السماحة الشيخ أحمد المبلغي والشيخ محسن الأراكي والشيخ حيدر حبّ الله.

أعدّ الندوة السيد عبدالرحيم التهامي.

------------------------------------------------------------------

1- أين تضعون الشهيد الثاني في التحقيب التاريخي للفقه الشيعي، وما هي خصائص فقهه، وما هي القيمة المضافة في آراءه ومنهجه الفقهي؟

الشيخ أحمد المبلغي- بعض الشخصيات الفقهية لها دور في الحركة الفقهية على مر التاريخ، وطبعا يوجد في قبل هذه الشخصيات البعض الآخر الذين لم يكن لهم دور وإن كان لهم دور لم يكن بارزا، وهذا لا يعني أن هؤلاء الشخصيات لم يكونوا من الفقهاء أو لم يكن فقههم قويا، طبعا الكثير من الفقهاء المتطلعين موجودون  عبر الحقب التاريخية..ولكن في نفس الوقت عندما نريد أن نقيّم فقههم بالنسبة إلى التاريخ ودورهم في إيجاد الحركة او تقوية الحركة الفقهية أو تطوير الفقه لا نجد لهم دورا معتبرا. لكن الشهيد الثاني من الفقهاء وهذا مسلم به ومن الفقهاء العظام أي انه معروف ومشهور ومن جملة من برز ومن اشتهر حقيقة في هذا التاريخ الفقهي، بل الأمر أزيد وأكثر من هذا، ليس فقط فقيها مشهورا بل له دور في نقل مرحلة من الفقه إلى مرحلة أخرى،  بحيث يمكن القول أنّه  لو لم يكن الشهيد الثاني لم يتطور الفقه ولم يتحرك الفقه إلى الأمام،  إلا أن المهم والذي لابد من ذكره هو عن طبيعة هذا الدور وما هي هذه المرحلة التي تمكن الشهيد الثاني من إيجادها  وخلقها ..هذا هو المهم وطبعا الجواب عن هذا السؤال يحتاج إلى عمق ومطالعة ونظر إلى التاريخ كله حتى نفهم هذا الموقع الذي كان يمثله أو يحتله الشهيد الثاني، حقيقة نحن نجد أن الشهيد الثاني له فقه يتميز بعدة خصائص، وطبعا من خلال سرد هذه الخصائص نتمكن من أن نشخص ونعيين ذاك الدور التاريخي الذي قد أوجده أو قد قام به في هذه الحركة التاريخية.

 من خصائص فقهه أولا أنه كان ينظر إلى منهجية الاجتهاد وكان يخصص لمنهجيته فصلا وكان يبدي آراءه في هذا المجال وكان يذكر بعض العناصر وهل هي ذات ماهية منهجية أو ليست منهجية، طبعا هذا مهم نحن نجد الكثير من الفقهاء قد مروا على العناصر المنهجية مرور الكرام، و أكثر من هذا لم يكن لهم أصلا التفات إلى المنهج والعناصر المنهجية. والشهيد الثاني من خلال الرجوع إلى آراءه وفقهه نجد أنه كان يركز على المنهجية وكان يصر على أن يبرز هذه العناصر التي كانت ترتبط بالمنهج الفقهي، وفي هذا الإطار نجد أنه يصر بحرارة على بعض القواعد الرجالية، نحن عندما ننظر إلى ذاك التاريخ الذي يعيش فيه الشهيد الثاني وذالك التاريخ المتقدم على زمنهم والفترة المتأخرة منه نجد إن الشهيد الثاني  يتميز بوجود رؤية رجالية له وهذا مهم لأن التركيز على الرجال هو التركيز على أصول منهجية في الاجتهاد، وهذا التركيز إما في كتبه الفقهية أو نلحظه في بعض آراءه الرجالية المستقلة، وهذه الحرارة في بحثه حول الرجال قد بلغت إلى حد قد ينتقد بقوة الآخرين، وفي هذا النقد للآخرين كان أحيانا ينتقد حتى الشهيد الأول، وهذا إن دلّ على شيء فهو يدل على تركيزه على الرجال وهذا مهم للغاية.

والمسألة الثانية أنه قد ألف كتابا حول القواعد؛ "القواعد والفوائد" وهذا يدل على أن الشهيد الثاني عندما يخصص فصلا للقواعد فهذا يدل  على شيء/ وهو وجود رؤية منهجية له لأن التركيز على القواعد لا يأتي بشكل عشوائي بل له منطق ومنطلق منهجي في نظرته إلى المنهج وتركيزه عليه .

تارة عندما نشاهد فقهه نرى انه يركز على مقدمات الاجتهاد يعني من جملة القلائل الذين طرحوا مقدمات الاجتهاد ودخلوا في هذا البحث، و ليس كل فقيه قد تعرض إلى هذا، بل جملة من الفقهاء وهم قلائل قاموا بهذا البحث، فماذا يعني الدخول في هذا المبحث ؟ هذا معناه أن يتلون هذا المبحث بلون منهجي وواقع منهجي. فبحث مقدمات الاجتهاد وما يدخل فيه واي شي له تداخل بالاجتهاد هذا بحث منهجي ليس بحثا فقهيا.

إذا فالخصلة الأولى التي نلحظها في فقهه هو عنايته بالبحث الاجتهادي يعني وجود خصلة منهجية له، طبعا له أمثلة وقد أشرت  لبعض ما يتميز به فقهه.

الخصلة الثانية انه كان يركز على النظام التعليمي، فالفقهاء ممن كانت لهم عناية بالنظام التعليمي قليلون، الشهيد الأول من جملة هؤلاء الفقهاء، والعلّامة الحلّي من جملة هؤلاء الفقهاء. الشهيد الثاني أيضا من جملة هؤلاء الفقهاء الذين كانت لهم عناية بالنظام التعليمي، ففي الفقه وفي بعض كتبه كان تأليفه على هذا الأساس، هو كان يعتني بالشهيد الأول ليس فقط لفقهه، بل لأنه كان يجد في الشهيد الأول  أحد الذين أدخلوا تدوين المتون الدرسية او المتون للنظام التعليمي، هذا أيضا من الخصائص التي كان الشهيد الثاني يمتلكها. وهذه المتون لازالت تدرّس في الحوزات حتى يومنا هذا.

 الخصلة الثالثة هي أن الشهيد الثاني من الفقهاء المهتمين بالفقه المقارن ولو أردنا أن نذكر أسماء الفقهاء المهتمين بالفقه المقارن في تاريخنا نجد أن فقهاء هذا الميدان عدة أشخاص نذكر منهم الشيخ الطوسي وبعده العلامة الحلي ثم الشهيد الأول وثم الشهيد الثاني، طبعا هناك أشخاص آخرون إلا أنّ هؤلاء ابرز الفقهاء المهتمين بالفقه المقارن. والدليل على اهتمامه الفائق بالفقه المقارن هو تدريسه الفقه المقارن او الفقه على المذاهب الخمسة وكانت له صلات واسعة مع أتباع وعلماء المذاهب الأخرى. وهذا كله دليل على أنه كانت له همة بالنسبة للفقه المقارن واهتمام بالفقه المقارن، ونجده في بعض كتبه يدخل في بيان الأقوال والآراء، والذي يميز الشهيد الثاني -كما ميز الشهيد الأول- في الفقه المقارن هو أن الفقه المقارن لم يدخله هؤلاء فقط لذكر آراء أهل السنة بل كانوا يفهمون الأسلوب الصحيح لطرح الآراء، وكانوا يراعون الأخلاق السليمة لطرح الآراء، يعني التأدب في طرح الآراء لأتباع المذاهب الأخرى وعلماء المذاهب الأخرى، كان يراعي هذا الامر جدا، هذا جعله رجل من الشخصيات  ذات الاهتمام بالفقه المقارن العارف بأسلوب المقارنة، ويمكن حتى أن يقال انه ليس عندنا كتاب في مجال الفقه المقارن إلا بعض الكتب للشيخ الطوسي وبعض الكتب للعلامة الحلي،  كتاب القواعد والفوائد للشهيد الأول وكتاب  المسالك للشهيد الثاني، ولعل مسالكه يزيد من حيث  الاهتمام الكثير من الكتب المعروفة في مجال الفقه المقارن.

ولو أردنا أن نرصد التطور الذي مر به الفقه المقارن، فالشيخ الطوسي هو الذي فتح هذا الباب بشكل واسع وكان يراعي الإنصاف في ذكر الآراء وكان طرحه للآراء بشكل دقيق مقرونا ومصحوبا بالدقة هذا دور الشيخ الطوسي، إلا أن الشيخ الطوسي دخل في فقه الخلاف أكثر من فقه المقارن، نعم في مبسوطه دخل في الفقه المقارن، والعلامة الحلي عندما جاء بعد الشيخ الطوسي هو أكثر من ذكر أقوال من فقهاء المذاهب الأخرى؛ هذا أولا؛ وطرح بعض المسائل الموجودة لدى علماء أهل السنة والتي لم تكن موجودة عند الشيعة، ويبقى أنّ الدور الذي نهض به العلامة الحلي على هذا الصعيد هو التوسيع من دائرة الفقه المقارن، أما هذا التوسع قد تمثل في طرح مسائل أخرى أكثر. لم تكن لدى الشيعة قبل محاولة العلامة الحلي في تقبل بعض الآراء من اهل السنة، وهذه جرأة وشجاعة تميز بها.

 ثم انتقل الدور إلى الشهيد الأول  ودوره في الفقه المقارن يتمثل في نظره إلى تاريخ المسائل الفقهية لدى أهل السنة، وان يقارن بين ما كان لدى أهل السنة من التاريخ وما كان عند الشيعة او بمعنى أخر انه  كان ينظر إلى المجتمع الإسلامي الذي طرحت المسائل الفقهية فيه، هذه  خصلة موجودة لدى فقه الشهيد الأول ولم تكن موجودة لدى أي شخص آخر، حيث انه كان يدقق في تاريخ المسائل او الظروف التي نشأت المسائل فيها، وهذا مهم للغاية، ونجد الشهيد الأول يقبل بعض الآراء التي لم تكن موجودة لدى المتقدمين من الإمامية وكانت موجودة لدى أهل السنة، ولكن اللون البارز في الفقه المقارن  لدى الشهيد الأول هو محاولته التركيز على الآراء  المأخوذة من فقه أهل البيت وإبرازها في فقه الشيعة وبتعبير اخر تهذيب فقه الشيعة وفقه السنة.

وعندما انتقل الدور إلى الشهيد الثاني فبالإضافة  إلى دخوله في دائرة واسعة من الفقه المقارن مثل الشهيد الأول ومثل العلامة الحلي، نجد أن الشهيد الثاني يبدي أدبا اخلاقيا وعلميا في طرح الآراء وقد سبقت الاشارة الى هذا، ثم ما كان من تدريسه للفقه على وفق المذاهب الخمسة.

 الشيخ محسن الأراكي- تعلمون أن الفقه الشيعي مر قبل الشهيد الثاني  بمرحلتين أساسيتين، المرحلة الأولى وهي المرحلة التي سبقت عصر الشيخ الطوسي(رض) ويمكن أن نعبر عنها بمرحلة النص بما أنّ الفقه الشيعي في مرحلة ما قبل الطوسي كان يعيش عصر الاعتماد على النص الذي روي عن رسول الله (ص) و عن الأئمة (ع)، وهذا فيما يخص الفقه - قبل عصر الطوسي- فقه الرواية أو فقه النص.

ثم جاء الشيخ الطوسي (رض) فادخل الفقه في مرحلة جديدة وهي مرحلة الاستدلال والتفريع، فحاول الشيخ الطوسي أن يستخدم الرواية الفقهية وأن يقيم عليها الدليل، ومن هنا دخل الفقه على يديه مرحلة الفقه الاجتهادي الاستدلالي التفريعي، ويمكن أن نعبر عن هذه المرحلة بمرحلة التفريع . واهتم الشيخ الطوسي في هذه المرحلة  بالفقه المقارن، واستعان بالفقه المقارن في فقه الاستدلال وفقه التفريع، ثم جاء من بعد الشيخ الطوسي عصر العلاّمة الحلّي الذي وسع في مدايات الفقه الشيعي كثيرا؛ طبعا يمكن أن نعتبر المحقق الحلي هو الذي هيأ الأرضية للتطور الذي حصل على يد العلامة الحلي. العلاّمة

ودخل الفقه مرحلة التوسعة والازدهار ومن هنا ألفت الموسوعات الكبرى على يد العلاّمة الحلّي كالتذكرة والمختلف ومنتهى المطلب وغيرها من الموسوعات الفقهية الكبرى التي ألفها ودوّنها العلاّمة الحلي . وقد تميز فقه العلاّمة الحلي بتعميق الاستدلال أولا وبالتفريع- التفريعات الجديدةثانيا، و بالنظر إلى الفقه الآخر ، ولذلك عدّ العلاّمة الحلي على رأس مرحلة جديدة من الفقه عبّر عن من سبق العلاّمة الحلي بمرحلة المتقدمين ومن تأخر عن العلاّمة الحلي بالمتأخرين، فكان الحد الفاصل بين المرحلتين، مرحلة المتقدمين والمتأخرين، وباعتبار العلاّمة الحلي الحد الفاصل بين هاتين المرحلتين صار بنفسه تعبيرا عن هذه المرحلة.

ومع مجيء الشهيد الثاني يمكن أن نعتبر عصره بداية أخرى لمرحلة جديدة  من تطور الفقه الشيعي، وتتميز هذه المرحلة عن المراحل السابقة بخصائص ثلاث: الخاصية الأولى التي يمكن أن نصف بها فقه الشهيد الثاني؛ وبه دخل الفقه مرحلة جديدة؛ هي المنهج الاستدلالي حيث اعتمد الشهيد الثاني في استدلالاته بالإضافة إلى النص على العقل وعلى الإدراكات العقلية إذ كان يعتمد على العقل - العقل بالمفهوم  الشيعي -  ويُقصد بالعقل عند الشهيد الثاني البراءة العقلية أو الاستصحاب العقلي، ويراد به أحيانا العقل البديهي القطعي الذي لا يشك فيه اثنان، فقام الشهيد الثاني بإدخال الاستدلال العقلي في إطار الاستدلال الفقهي وأصبح الاستدلال الفقهي يعتمد على النص الشرعي ويعتمد على العقل إلى جانب النص الشرعي,

 الخاصية الثانية من خصائص فقه الشهيد الثاني أن فقه الشهيد الثاني كان يعتمد على التفريع، وكان من نتائج إطلاعه على فقه المذاهب الأخرى من ناحية، وتصديه للإفتاء بين الناس على طبق مذاهبهم من جهة أخرى أن الشهيد الثاني(رض)كان على اتصال بالجماهير وكانت تعرض عليه المسائل والفروع فيفتي فيها، وكان إلى جانب العمل الفقهي الاستدلالي -البحثي - كان يمارس الإفتاء حيث مكّنه هذا الإفتاء من أن يطّلع على فروع فقهية كانت تعرض عليه من قبل المستفتين فخرج فقه الشهيد الثاني فقها عمليا ينظر إلى الواقع الذي يواجهه الناس المؤمنون في حياتهم وممارساتهم اليومية. وكان الشهيد الثاني متضلعا في التفريع الفقهي بشكل لافت، وكتابه الروضة البهية وكذلك كتابه مسالك الافهام في  شرح شرائع الإسلام شاهدان على قدرته التفريعية. وكانت خصيصته الثالثة، خصيصة الشهيد الثاني الثالثة في قدرته التعبيرية، فقد جمع بين أسلوبين في تعبيره الفقهي؛ الأسلوب الموجز والمركز الذي سلكه في شرحه على اللمعة الدمشقية -الروضة البهية- فقد جمع في كتابه بين الإيجاز والوضوح فكان كتابه موجزا وموضحا ومركز، كتاب الروضة البهية كتاب مركّز لا يحتوي على اهتمام بما يخرج عن الموضوع الفقهي الأساس، كتابه كتاب منهجي من هذه الناحية يركز على الموضوع ولا يخرج من دائرة الموضوع الذي يهتم به علميا، هذا كتابه الروضة البهية الذي اعتمد فيه على أسلوب الإيجاز، أما في كتابه "مسالك الافهام" فاعتمد فيه أسلوب الشرح التوضيحي الميسر فتجد في عبارة الشهيد الثاني في كتابه مسالك الافهام عبارة واضحة ميسرة خالية من الإغلاق والإبهام إلى جانب عمقها العلمي ولم يكن من الميسر انذاك شرح كتاب شرائع الإسلام للمحقق الحلّي الذي كان يعبّر عن قمة الفقه الشيعي الإفتائي فكان الشهيد الثاني أول من فتح باب شرح كتاب شرائع الإسلام شرحا فقهيا موسعا بأسلوبه الواضح التوسيعي، ولعلّ ما قام به الشهيد الثاني من شرح "شرائع الإسلام" هو فتح على هذا الكتاب أبواب الشروح الأخرى، فأصبح شرائع الإسلام محورا بعد عصر الشهيد الثاني للبحث الفقهي ولشروح توسيعية واستدلالية كثيرة من أهمها كتاب "جواهر الكلام" للمحقق النجفي رضوان الله تعالى عليه وتوالت الشروح على الكتاب على اثر ما قام به الشهيد الثاني من شرحه لهذا الكتاب القيّم.

الشيخ حيدر حبّ الله-  لعلّه يمكن تصنيف الشهيد الثاني مع الجيل العلمي الثاني من مدرسة العلامة الحلي، بحسب التقسيم الذي أرتئيه لأجيال هذه المدرسة، وهو الجيل الذي صعد بهذه المدرسة إلى الذروة قبل العصر الإخباري الذي جمّد تناميها، ويقف مع الشهيد الثاني في هذا الجيل كلّ من ولده الشيخ حسن وصاحب المدارك والمقدّس الأردبيلي وأمثالهم، وهم يتمتعون بنزعة متحرّرة نسبياً من تراث المتقدّمين ويتصفون بميول نقديّة، غلا أنّ الشهيد الثاني كان أكثر اعتدالاً من بينهم في حركة النقد هذه للمورث.

ولعلّ من أهمّ ميزات فقهه هو الصياغة القانونية التي قدّمها للفقه الإمامي، فبعد عصر المحقّق والعلامة الحليين يمكننا الحديث عن الشهيد الثاني بوصفه صاحب صياغة قانونية للفقه، ونحن نعرف أنّ المسألة البيانية بالغة الأهمية في ضبط حركة الدقّة الفقهية والقانونية، وأنّ سلسلة الشروط والقيود والضوابط التي تحيط القضية الفقهية تستدعي ضبطاً صياغياً للموضوع لا يتوفر للكثيرين من الفقهاء أنفسهم.

 2- وصف ابن العودي تصانيف أستاذه الشهيد الثاني(ره) بأنها "أبهى من القلائد.. وأنه أقطعها ما شاء من الإتقان والإبداع، وسلك فيها مسالك المحققين وهجر طريق المتقدمين..ما هي تجليات هذا الاختلاف مع طريق المتقدمين وما هي حدوده؟

 

الشيخ أحمد المبلغي- نحن نأخذ الأدب والاحترام منه، ونأخذ التركيز على فقه الإمامية، ونأخذ التوسع والجرأة على طرح المسائل من العلامة الحلي ونستفيد من الشيخ الطوسي تركيزه على بعض الفنون الفقهية الملتصقة بالفقه المقارن مثل  فقه الخلاف، فقه الخلاف غير موجود لدينا، فقه الخلاف علم بارز و فن بارز من الفنون الفقهية الملتصقة بالفقه المقارن نحن ندري أن الفقه المقارن هو نفسه فن من الفنون الفقهية وعلم الخلاف من الفنون التخصصية المرتبطة بالفقه المقارن.

الشيخ محسن الأراكي- طريقة المتقدمين كانت طريقة لا تعتمد على الاستدلال الموسع، فأنت لا تجد في الفقه الذي تقدم على الشهيد الثاني التوسعة في العمل الاستدلالي، الاستدلال كان مختصرا ويقتصر على الاعتماد على نصوص معينة ، وتجد أن الفقهاء الذين تقدموا على الشهيد الثاني بدءا من المفيد ثم الشيخ الطوسي حتى ابن ادريس الذي حاول أن يأتي بشيء جديد في عالم التجديد الفقهي وحتى المحقق الحلّي..وحتى الشهيد الاول تجد في ممارساته الاستدلالية البساطة في الاستدلال أي أن الاستدلال موجود ولكنّه استدلال بسيط ليس استدلالا موسعا أو معمقا..لكنك حينما تقرا أسلوب الشهيد الثاني في ممارسة الاستدلال تجد أنك أمام استدلال موسع ولونا جديد من الممارسة الاستدلالية، وهذا هو المراد لعله من ترك طريق المتقدمين وسلك طريق المحققين، لأن هذه الطريقة الاستدلالية الموسعة المركزة التي لا تكتفي بالاستدلال من جهة واحدة وإنما تجمع بين جهات الاستدلال كلها، ولا تنظر إلى الرواية من جانب واحد النص بل تحاول أن تنقب في النص الروائي وتحاول أن تستكشف من النص الروائي ما وراء ظاهرة النص .. هذه المحاولة التحقيقية هي التي جعلت من طريقة الشهيد الثاني طريقة جديدة لعلها هي التي أرادها تلميذه حين قال بهجر لطريق المتقدمين وسلك فيها مسالك المحققين.

الشيخ حيدر حبّ الله- لا أجد هذا التوصيف دقيقاً؛ بل فيه قدرٌ من المبالغة، فلا يبدو لي أنّ الشهيد الثاني قد هجر طريقة المتقدّمين في مناهج الاجتهاد، إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار الطريقة السائدة بين عصره وعصر الشهيد الأوّل، ففي هذه الفترة ـ أي طوال القرن التاسع الهجري ـ شهدنا ركوداً حقيقيّاً في الاجتهاد الفقهي عند الإماميّة، وربما يكون ظهور شخصيّتين تعاصرتا زمناً وهما المحقق الكركي والشهيد الثاني في أواسط القرن العاشر قد أعاد حركة الاجتهاد إلى سابق عهدها في عصر العلامة الحلي، حيث بدأنا نرى مع هذين الفقيهين نموّاً مطرداً للدراسات الموسّعة في الاجتهاد، مع مثل كتاب جامع المقاصد وروض الجنان والمسالك والروضة وغير ذلك.

 

 3- سافر الشهيد الثاني كثيرا في الحواضر العلمية وتتلمذ على مشايخ المذاهب الإسلامية في عصره، بعض هذا التتلمذ كان لأجل التعرف على مناهج التدريس، كما نجده قد اهتم بالتصنيف واعتمد في ذلك أسلوبا جديدا..بل وألّف في أخلاق العلّم (منية المريد)، هل يمكن أن نقولبناءً على كلّ ذلك- أنّ الشهيد الثاني كان معنيا بشكل أساسي ببناء مدرسة/ حوزة علمية نموذجية؟

الشيخ محسن الأراكي-  فقهاؤنا وعلماؤنا لم يكن من اهتمامهم أن يأتوا بشيء جديد، إذ لم يكن الجديد أمرا مطلوبا عند فقهاءنا المحققين لنفسه، وإنما كان الجديد استجابة لحاجة تفرض على ساحة الفقه فيأتي الفقيه بشيء جديد تلبية لحاجة جديدة، فالجديد ليس مطلوبا، وقد يكون مطلوبا إذا كان تصحيحا لخطا سابق أو تلبية لحاجة مستجدة، ومن هنا نجد أن الشهيد الثاني كانت له هذه الحالة إذ كانت له حالة الاهتمام بتلبية الحاجات الجديدة ، ويبدو أن ارتباطه مع المجتمع الإسلامي العربي العام ( المجتمع الغير الشيعي ) جعله يخرج من بعض الإطارات التي فرضت على الجو الفقهي الشيعي نتيجة للظروف السياسية التي كانت تحكم المجتمعات الشيعية، على سبيل المثال اهتم الشهيد الثاني بصلاة الجمعة، وتأليفه رسالة خاصة باسم تحت عنوان رسالة الجمعة وإصراره في الاستمرار على وجوب صلاة الجمعة وجوبا تعيينيا على الجميع، وهذا كان خروجا عن المألوف، هذا الخروج عن المألوف كان نتيجة لما عاشه الشهيد الثاني من العلاقة الوطيدة بالمجتمعات الغير الشيعية واستطاع أن يصل إلى هذه النتيجة، إن الذهنية التي تحكم الفقه الشيعي التي تخص عدم وجوب صلاة الجمعة وجوبا تعيينيا نشأت هذه الذهنية نتيجة للظروف السياسية التي كان يعيشها فقهاءنا، بما أن الظروف السياسية لم تكن تسمح لفقهاءنا بأن يقيموا صلاة الجمعة ولم تكن تسمح للشيعة بان يجتمعوا في مكان واحد ليقيموا صلاة الجمعة بحريتهم واستمرت هذه الحالة السياسية لمدة قرون منذ عصر الأئمة عليهم السلام وحتى القرون المتأخرة القريبة من عصر الشهيد الثاني.

رأى الشهيد الثاني أن هذه الذهنية الفقهية هي ذهنية قد تولدت نتيجة لتراكمات الظروف السياسية وليست وليدة الدليل الفقهي التي تفرض على الفقيه أن يذهب إلى هذا الاتجاه، فراجع النص فوجد أن النصوص لو لوحظت لوحدها وبمعزل عن هذا الإطار السياسي فهي تفيد الفقيه أن صلاة الجمعة لابد أن تكون صلاة واجبة بالوجوب التعييني، ولابد أن يقضى على هذه الذهنية التي كانت ترى أن صلاة الجمعة لا تجب بالوجوب التعييني، أي تجب اما بالوجوب التخييري أو لا تجب أصلا في عصر الغيبة الكبرى لأنها مشروطة بحضور الإمام أو من نصبه الإمام المعصوم.

هذا كمثال يعبر على أن الشهيد الثاني كان فقيها حرا في تفكيره الفقهي، خارجا عن الإطار المألوف المفروض عليه من خارج النص والدليل، وهذه ميزة في تفكير الشهيد الثاني، هذه الميزة جاءت نتيجة للفحص الفقهي للشهيد الثاني ولم تأتي رغبة منه لكي يأتي بالجديد، بل جاءت استجابة لحاجة علمية والحاجة العلمية هي أن الشهيد الثاني وجد أن النصوص الشرعية تؤكد على أن صلاة الجمعة واجبة وجوب تعييني على خلاف ما كان السائد عليه عند الفقهاء المتقدمين . ولذلك كان الشهيد الثاني المجدد ولكن لم يكن هذا التجديد حبّا في الجديد بما هو جديد، وإنما كان استجابة لمتطلبات استدلالية التي تفرض على الفقيه أن ينظر إلى الدليل قبل أن يخضع للظروف التي تحكم عصره.

الشيخ حيدر حبّ الله- تقول بعض المعطيات التاريخية بأنّه كان بصدد التفكير في بناء وضع ما للحوزة العلمية في بلاد جبل عامل ضمن الظروف التي كانت تسمح بحركةٍ ما في ذلك الزمان، لكنّ التأكّد من أنّ تصنيفاته كانت تقع في سياق مشروع من هذا النوع يبدو غير سهل، (وتحليل أسفاره وعلاقاته موضوع يفتح على الكثير من الأفكار) فمن الواضح أنّ الأسلوب البياني الذي تمتع به الشهيد الثاني كان يميل نحو التوضيح والتشريح والتبسيط بدل التعقيد والغموض، لكنّنا لا نعثر عنده على شيء يتصل بموضوع وضع برامج دراسيّة لبناء أنموذج حوزة علمية في مكان ما، سوى مع كتابي منية المريد والبداية في علم الدراية، وحتى هذين الكتابين لا يؤكّدان لنا ـ إذا تخطينا أيّ وثيقة تاريخية ـ أنّهما جاءا في هذا السياق، فقد ألّف العلماء في المسألة الأخلاقية في التربية والتعليم خارج إطار مشروع مؤسّسي مدرسي، كما أنّ كتاب البداية وبعده الرعاية في علم الدراية والحديث قد يمكن تفسيرهما بالوقوع في سياق إعادة تنشيط علم الحديث في الوسط الشيعي تلبيةً للنزعة التي كان أصّل لها من قبل أحمد بن طاووس في النقد الحديثي واتّبعها العلامة الحلي بجدارة وإخلاص حتى تحوّلت إلى مأخذ على مدرسته في العصر الإخباري. فلعلّ الشهيد الثاني قد رأى غياباً لهذا العلم في الوسط الشيعي فأراد استحضاره مرّةً أخرى متحسّساً أهميّته لا بدافع بناء مشروع تعليمي لحوزة أنموذجيّة.

 

4- عرف عن الشهيد الأول(ره) اهتمامه بالبعد المقاصدي في الشريعة، ويبرز ذلك جليا في كتابه "القواعد والفوائد"، إلى أي حد تبلور هذا البعد المقاصدي في النتاج الفقهي للشهيد الثاني(ره)؟

الشيخ أحمد المبلغي- النزعة المقاصدية أول ما طرحت في فقه الشيعة طرحت من طرف الشهيد الأول لان الشهيد الأول هو الذي طرح هذه الفكرة في كتاب "القواعد والفوائد" إلا أن طرحه لهذه المسألة فتح الباب أمام الآخرين الذين جاؤوا من بعده، ومن جملة من قبل هذه النزعة واقترب من هذه النزعة الشهيد الثاني، ثم أنّ هذه النزعة المقاصدية  ضعفت بضعف القواعد الفقهية في فقه الشيعة، يعني الفكرة المقاصدية نشأت في أحضان القواعد الفقهية عند الشيعة فلو لم يكن اتجاه الفقه الشيعي نحو القواعد لما برزت هذه الفكرة لدى الشيعة ولذلك نجد الشهيد الأول يطرح هذه الفكرة في قواعده، والذين جاؤوا من بعده استفادوا من افتتاحه لهذا التوجه.  إلا أن الاتجاه القواعدي انتهى وانهار بعد مدة وذهب إلى الهامش، وبخروجه من متن الحوزة خرجت النزعة المقاصدية  من داخل الفقه الشيعي، إلا أن آثار هذه النزعة المقاصدية بقيت رسوباتها في فقه الشيعة وتمثلت في قوالب أخرى مثل تركيز بعض الفقهاء على روح الشريعة، أو تركيزهم على قضية المناطات وسيما اهتمامهم بقضية مذاق الشريعة أو الذوق الفقهي، هذه كلها أدبيات وراءها شيء لا يرتبط بالدليل اللفظي او حتى بالدليل العقلي ولا صلة لهذا الذي كامن تحت هذه الأدبيات مثل مذاق الشريعة أو الذوق الفقهي او روح الشريعة وحتى المناطات، ليس هذا أمر يرتبط بقضية الأدلة اللفظية أو الأدلة العقلية بل هي أدلة لو أردنا أن نسميها، فيمكن أن نعطي لها اسما، يمكننا أن نقول أدلة وجدانية وسيما أن كلمة الوجدان قد دخلت جل البحوث العلمية الفقهية لعلمائنا، وقد بلغ ذكر وطرح أدبيات الوجدان إلى حد نلحظها في الكثير من البحوث الفقهية أو الأصولية، الوجدان الفقهي تغطية عامة لما يندرج تحته من الذوق الفقهي او محاولة الحصول على المناسبات القائمة بين الموضوع والحكم أو مذاق الشريعة أو روح الشريعة، فكلها تحت هذه التغطية ؛الوجدان الفقهي. السؤال الموجه ألينا هو :كيف نشأت هذه الأدبيات الوجدانية في الفقه؟ إن احد أسباب نشوء هذه الأدبيات هو تلك الفكرة المقاصدية التي قد طرحها الشهيد الأول وتبعه الآخرون  من الفقهاء الذين جاؤوا من بعده، طبعا هناك عامل آخر وراء هذه الأدبيات الوجدانية؛  قضية الحكمة وهي مشتركة بين السنة والشيعة التي هي تقابل العلة وأن هناك علل الشرائع والذي هو موجود في فقه الشيعة منذ القديم ..إلا أن هناك عاملا آخر في نشوء الأدبيات الوجدانية الفقهية هناك عامل آخر مؤثر وهو  أن البحوث الشيعية الفقهية قد انتهت بالفقهاء إلى بعض المحاولات المتوجهة إلى الكشف عن ارتكازات العقلاء، وهذا ما يجعل فقه الشيعة متميزا عن فقه أهل السنة. فأهل السنة لم يكن لهم اهتمام أو حتى التفات إلى الارتكازات الموجودة والكامنة وراء السير العقلائية، فلهم عناية ضعيفة بالسيّر العقلائية؛ ولكنه ليس اهتماما يمكن رصده عبر أدبيات شفافة أو موسعة.. ولكن الشيعة يتميزون أولا بالطرح الواسع بالنسبة إلى السيّر العقلائية والمتشرعيّة، وثانيا انتقالهم إلى مرحلة ما قبل السيّر وهي الارتكازات .. الارتكازات أمور وجدانية وليست أمورا نعاينها أو نشاهدها.. فقه الشيعة تمكن من تعيين طرق الانتقال إلى هذه الارتكازات الموجودة وراء السيّر، وطبعا هذا عامل مؤثر.

إذا فقه الشيعة متميز بوجود وجدانيات عنده وهل هذه الوجدانيات لهاا ارتباط وصلة بالمقاصد ؟ والجواب أنّ الوجدانيات أساسها غير مأخوذ من الفكرة المقاصدية، لها تأثير ولكنه ليس تأثيرا قويا، الوجدانيات عند الشيعة لها عواملها ولها آثارها، إلا أننا بالإمكان لو أردنا أن نطور هذا الذي موجود عند الشيعة من أدبيات وجدانية، فلو أردنا على تطوير هذا وتفصيله وإبراز ما تحتها من قابليات وطاقات في قوالب علمية .. سنصل حتما إلى فكرة مقاصدية واسعة النطاق، لأن الوجدانيات لها القابلية للتغطية على قضية الفكرة المقاصدية، فالفكرة المقاصدية من جهة ترتبط بعالم الأدلة ومن جهة أخرى ترتبط بتلك القابليات الموجودة في الفقيه  لكي يحاول الحصول على أكثر من اللفظ ، وهذا أمر يحصل في داخل الفقيه ويمكن جعله تحت الوجدانيات الفقهية، والشهيد الثاني لو أردنا أن نقول ما دوره في فتح الباب أمام الوجدانيات نجد له دورا حقيقيا لأنه في كتبه من الأوائل الذين يطرحون قضية الوجدان والذوق الظاهر ومذاق الشريعة أو روح الشريعة. فإذا له دور إلا أن مذاق الشريعة أو الذوق الفقهي قد طرحت بشكل ابرز بعده .

الشيخ محسن الأراكي- هذا البعد المقاصدي كان ملحوظا في الفقه الشيعي منذ عصر السيد  المرتضى (رض)، فإنك ترى في استدلالات السيد المرتضى كثير الالتفات إلى البعد المقاصدي، وكان يعبر عنه بالمصلحة العقلية بما يفرضه العقل على أساس من أن الفقه الشيعي كان يرتكز على قاعدة كلامية - الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد- هذه القاعدة يشير إليها السيد المرتضى كثيرا، وكان يلفت النظر إليها أيضا الشيخ الطوسي أحيانا في استدلالاته الفقهية، هذه الحالة وهذا التوجه استمر في الفقه الشيعي ولكنه توسع على يد الشهيد الأول إذ ركز النظر إلى هذا الجانب، حاول ان يلتفت إلى المقاصد التي تدل عليها الأدلة الشرعية أو تدل عليه الأدلة العقلية القطعية، وكما سبق وذكرنا فان الفقه الشيعي لا يستند إلى العقل الظني ورفض الاعتماد على العقل الظني كما صرح به العلامة الحلي وصرح به قبله أيضا الشيخ الطوسي وكذلك آخرون.العقل الظني لم يكن هو المسند، العقل القطعي كان يلتفت إلى المقاصد أحيانا؛ المقاصد القطعية التي ثبت بالعقل أنها مقاصد الشرع ، فكان هذا محط نظر الفقهاء وخصوصا الشهيد الأول واستمر على هذا المنوال الشهيد الثاني.

فيلفت النظر كثيرا لما يحكم به العقل في استدلالاته الفقهية كما يلفت النظر إلى ما تدل عليه النصوص الشرعية من المقاصد ولذلك أحيانا يستدل لإثبات حكم أو لنفي حكم بما تدل عليه النصوص الشرعية من المقاصد، هذا المنوال صار عليه الشهيد الثاني في مؤلفاته وبالأخص في كتابه "مسالك الافهام".

الشيخ حيدر حبّ الله- إنّ المتتبع لنتاج الشهيدين الأوّل والثاني يجد عندهما بعض التعابير التي توحي بنزعة مقاصديّة، لكنّ صورة هذا الاتجاه لا تبدو واضحة بما يسمح لنا بالحديث عن حركة أو توجّه عام، لاسيما مع الشهيد الثاني، فإنّ النهضة المقاصدية التي عرفت مع الشاطبي (790هـ) يمكن أن تكون قد تسرّبت إلى فكر الشهيد الأوّل المعاصر للشاطبي زمناً، لاسيما مع مشروعه في البحث القواعدي للفقه (القواعد والفوائد)؛ لأنّ فقه القواعد يمكن فهمه بوصفه حلقةً وسطى بين فقه المسائل وفقه المقاصد، فيمكن التنبؤ بنزعة مقاصدية نتيجة عنصري الفقه القواعدي والتزامن بالنسبة للشهيد الأوّل، لكنّ الأمر يبدو عسيراً مع الشهيد الثاني؛ لأنّ النزعة المقاصدية التي أطلقها الشاطبي لا يبدو أنّها شهدت نفوذاً في المؤسّسة الدينية السنيّة نفسها في القرن التاسع الهجري، بل غابت غياباً طويلاً إلى أن أطلق الإسلاميون حركتها في نهايات القرن التاسع عشر مع الشيخ محمد عبده وآخرين.

وبالعودة إلى واقع فقه الشهيد الثاني لا نجد المقاصد منهجاً وإنّما قد نجدها على شكل إثارات هنا وهناك ربما بدت لنقّاد كتابي: الروضة والمسالك، أنّها استحسانات أو أقيسة، ولعلّ ما يؤكّد كلامي أنّ الإخبارييّن لم يأخذوا النزعة المقاصديّة عيباً على التيار الأصولي الذي كان الشهيد الثاني من روّاده المعتدلين، وهذا يعني أن الإخباري لم يلاحظ ـ وهو شديد الحساسية في هذا الموضوع ـ تأثيراً لفكر سنّي مقاصدي في فقه الشهيد الثاني.

 

5- بعد التطوير الكبير الذي أدخله العلامة الحلّي على الفقه المقارن مستكملا دور الشيخ الطوسي في ذلك؛ استأنف الشهيدان الأول والثاني هذا الدور، لدرجة يرى معها البعض أنّ النموذج الأفضل المطروح عبر تاريخ الشيعة في مجال الفقه المقارن هو نموذج الشهيدين.. هل تتفقون مع هذا الطرح؟

الشيخ أحمد المبلغي-  أولا التقريب عندما نطرحه فله مراتب ثلاث ومواضع ثلاثة، أولها الأخلاق والثاني العلم والثالث العمل، والشهيد الثاني كان له بروز تقريبي في هذه المجالات الثلاثة أما من حيث الأخلاق فهو أستاذ التقريب حيث انه لم يشاهد منه أي عمل غير أخلاقي في مجال التقريب، إذا أخلاقه التقريبية المتميزة سيطرت على بحوثه ،هذا اولا، وثانيا العلم فقد كان رجلا مقارنا فبعض كتبه معدة من الفقه المقارن وكان يدرّس الفقه على المذاهب الخمسة وكان يلتقي بالعلماء من المذاهب الأخرى.

وفي مجال العمل فأسفاره ولقاءاته وحتى استشهاده في سبيل خدمة الوحدة، فهو لم يبقى في الدائرة الضيقة للشيعة فهو شهيد التقريب خاله في ذلك حال الشهيد الاول، ولا يقال ان علماء اهل السنة هم الذين افتوا  بقتله لا بل علماء السلطة هم الذين افتوا بقتله، ومعلوم أنّ الكثير من فقهاء اهل السنة كانت لهم ارتباطات أخلاقية وإسلامية وعلمية  مع الشهيد الثاني فلا يمكن ان نحسب عليهم هذا التصرف اذا هو شهيد التقريب.

الشيخ محسن الأراكي- الذي كان يتميز به الشهيد الثاني هو أنه كان يفتي للشيعة وللسنة وبهذا كان يتميزعن فقهائنا الآخرين وإن كانوا على مستوى الاستدلال الفقهي يتعرضون لأراء أهل السنة أيضا كما يتعرضون للرأي الشيعي. ولكن لم يكونوا على مستوى إفتاء السنة  كما هو الحال بالنسبة للشيعة، الموقع العلمي الممتاز الذي تميز به الشهيد الثاني في المجتمع الإسلامي آنذاك جعله في موقع يفتي المسلمين عامة  فكان مطلعا على فقه المذهب الأخرى ويفتي لهم بحسب بحسب مذاهبهم، وهذا جعله متمكنا ومحيطا إحاطة تامة بفقه المذاهب الإسلامية الأخرى، شأنه في ذلك إحاطته وإلمامه بالفقه الإمامي.

الشيخ حيدر حبّ الله -  لا أتفق مع القول الذي يذهب إلى أنّ الشهيد الثاني كان رائداً في الفقه المقارن، ويجب علينا أن لا نقوم بتضخيم المشهد، إنّ العلامة الحلي كان عملاقاً في هذا الموضوع كما يثبته كتاباه: تذكرة الفقهاء، ونهاية الوصول إلى علم الأصول. إنّ الفقه المقارن والأصول المقارن عند العلامة واضحان جداً، أمّا عند الشهيد الثاني فنحن نجد في الغالب أنموذج كتاب (مختلف الشيعة) للعلامة الحلي، وهو كتاب جاء في سياق المقارنة الداخل ـ مذهبية لا الخارج ـ مذهبية، نعم، من الممكن والواقع هنا وهناك أن يتعرّض الشهيد الثاني في كتاباته للفقه السنّي، لكنّ هذا لا يخوّلنا الحديث عن ريادة ولا حتى عن مشروع، ولعلّه لم يكن يرى حاجةً لهذا الأمر في عصره.

نعم، النقطة التي يمتاز بها الشهيد الثاني أنّه لم يكن يعيش حساسية الاقتباس من الاجتهاد السنّي، فمشروعه في إعادة بعث علم الحديث في الوسط الشيعي معتمداً على نقل مكثف للتجربة السنّية، حتى أنّ البعض قد يسمّيها استنساخاً، وذلك مع كتابي: البداية والرعاية في علم الحديث، يعطي مؤشراً أنّه لم يكن ليعيش عقدة التعاون المعرفي مع الآخر الإسلامي، تلك العقبة التي ظلّت مسيطرةً على العقل الإخباري لأكثر من قرنين بعد ذلك، إنّ تلمّذه على علماء أهل السنّة وسفره في البلدان دون أن يعيش قلقاً في هذا الموضوع، يشهد على درجة من الانفتاح ليست بالقليلة، إلا أنّ هذا شيء والحديث عن مشروع اجتهاد مقارن شيء آخر.

 

6- كيف تقيّمون الممارسة الفقهية عند الشهيد الثاني، وهل هنالك في نظركم قيمة كبرى مهدورة أو ملمح جوهري في هذه الممارسة بحاجة إلى إحياء وتطوير؟

الشيخ أحمد المبلغي - بعض الشخصيات لم تهدر الطاقات الكامنة في فقههم بل كلما كان لديهم قد انتقل إلى غيرهم، إلا أن الشهيدين وكذلك العلامة الحلي عندهم بعض الخصائص وطاقات او بعض الإمكانيات التي لم تنتقل ألينا بعد، والدليل على ذلك هو أنّ العامل الأساس في عدم انتقال هذه الإمكانيات هو التاريخ، هو الذي منعنا وحال بيننا وبين ذلك لأن التاريخ له بعض السلبيات والعصبيات او الحركات، طبعا التاريخ هو الذي يجب ان نفتحه وان نمر منه لكي نصل  الى الشهيد الثاني، والتاريخ أصبح هو نفسه مانعا طبعا، هذا الانتقال يصبح ممتنعا والذي يمكن ان يحلل التاريخ ويرفع هذه المانعية هو التاريخ نفسه،لأننا نحتاج إلى تحليل تاريخي كي نفهمه ونتمكن من ان نذهب إلى اكثر شوط تاريخي.

اما اي عناصر قد أهدرت وأي تجارب قد أهدرت للشهيد الثاني يمكن ان نقول أن الاهتمام بالفقه المقارن، تقليد التواصل و الالتقاء بعلماء أهل السنة ومحاولة ترسيخ الانتماء لكل العالم الإسلامي، الأدب العلمي إزاء الآخرين من الشيعة وإزاء اهل السنة، يعني الأدب الأخلاقي، الاهتمام بالنظام التعليمي وإعداد كتب للنظام التعليمي ، أيضا العناية بالبعد المقاصدي هذا موجود لديهم ولم ينتقل الينا، الاهتمام بالقواعد الفقهية والعناية بالمنهجية الفقهية؛ و نحن قد تركنا المنهجية، الاهتمام بعلم الرجال.

الشيخ محسن الأراكي- أرى أنّ من أهم جوانب الفكر الشهيد الثاني  الفقهي هو تحرر الفقيه من مفروضات الحالة السياسية والحالة الاجتماعية، كانت هذه المحاولة موجودة فيما سبق عصر الشهيد الثاني ولكن برزت هذه الحالة في فقه الشهيد الثاني اشد مما برز على فقه غيره من الفقهاء، كما أشرت في رسالة صلاة الجمعة،  فتعتبر خطوة فريدة وشجاعة جدا مما يؤكد على أن الشهيد الثاني كان فقيها متحررا من قيود التي تفرض على الفقيه أحيانا وعلى الذهنية الفقهية في أحيان أخرى..القيود التي كانت تفرضها موروثات المجتمعات التي كان يعيش فيها الفقهاء تترك الأثر على الذهنية الفقهية، فالحالة التي يعيشها الناس مع الفقيه تؤثر بل شك، فحينما يرى الفقيه في مجتمعه أن عملا ما لا يمارسه أبناء عصره بل و أبناء العصر الذي تقدم على عصره، عدم ممارسة المجتمع الذي يعيش فيه لفريضة كفريضة الجمعة تترك في الذهنية الفقهية للفقيه أثرا سلبيا فيما يخص هذه الفريضة وقد تحرر فقيهنا من هذا الأثر كما ذكرنا، وبالإضافة إلى ذلك نجد أن الشهيد الثاني(رض) قد اهتم بالتربية العلمية إلى جانب اهتمامه بالممارسة العلمية، ليس في كتابه "منية المريد" فحسب بل وفي كتبه الأخرى التي ألفها فيما يخص سلوك الطالب والأدب الذي لابد أن يسلكه الإنسان المتأدب بالأدب الإسلامي والإلهي، في كتابه منية المريد في أداب المفيد والمستفيد نجد موسوعة فريدة من نوعها في ما يخص أخلاق العالم والمتعلم، أيضا اهتمامه بدراية الحديث و تدوينه الدراية بهذا الصدد هذا أيضا يشير إلى أنه كان مهتما بأن يكون العمل الفقهي عملا منهجيا مستندا إلى المنهج الاستدلالي الصحيح، فالعالم لابد أن يجمع بين علمية المنهج من ناحية وبين أخلاقية السلوك من ناحية أخرى، وهكذا نجد أن الشهيد الثاني اهتم بأخلاقية السلوك العلمي في كتابه منية المريد واهتم بمنهجية الحوار في كتابه دراية الحديث أو الدراية.

الشيخ حيدر حبّ الله - أعتقد أنّ من ميزات اجتهاد الشهيد الثاني هو العفوية الاجتهادية التي تبتعد عن التعقيد في فهم النصوص الدينية ( المصدر)، وعن العُجمة في تفسير هذه النصوص، يبدو لي أنّه ذو نزعة عرفيّة في الفهم نابعة من وعي حقيقي لدلالات اللغة العربية ومناخها وسياقاتها، وهو أمر يمكن التعويل عليه وتطويره في الاجتهاد المعاصر، كما تبدو لي عملية انفتاحه المعرفي على الآخر نقطةً ايجابية يمكن الاشتغال على تنميتها واعتبارها رصيداً تاريخياً لمشروع التقارب المعرفي بين المذاهب.

يضاف إلى ذلك عنصر الاعتدال في البحث الفقهي وعدم وجود حالة تشنّج إلا في بعض المواضع المعروفة نسبيّاً، مما يستدعي تعميم هذه الثقافة وترشيدها.

 

 

 
امتیاز دهی
 
 

خانه | بازگشت | حريم خصوصي كاربران |
Guest (PortalGuest)

كنگره بين المللي شهيدين
مجری سایت : شرکت سیگما