الجمعة, رمضان 19, 1445  
 
لا ينكر تغيير الأحكام بتغيير الأزمان  

 

 تحرير المجلة

آية الله العظمى الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء  "قدس سره"

 

  



بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة الكتاب

أحمدك الله وأشكرك، واستعين بك مصلياً على نبيك وآله وصحبه الكرام، وبعد:

فقد تكرر عليّ الطلب من بعض الشباب المهذب من طلاّب الحقوق أن أكتب وجيزاً في الأحوال الشخصية والمعاملات المالية على طريقة فقه الإمامية:

ولما كانت (مجلة العدلية) أو مجلة الأحكام هي الكتاب المقرر تدريسه في معاهد الحقوق من زمن الأتراك إلى اليوم نظرت فيه فوجدته مع حسن ترتيبه وتبويبه، وغزارة مادته محتاجاً إلى التنقيح والتحرير،  والإشارة إلى ما فيه من الزيادة والتكرير، وبيان مدارك بعض القواعد والفروع وذكر مبانيها حسب الفن من الأدلة والأصول، والكتاب المزبور على ما يظهر من أسلوبه ويغلب عليه أنه كتاب فقه لا تدوين قانون أو أنه (فقه قانوني: أو قانون فقه) وعلى كلٍ، فقد أمليت هذه الخواطر وجعلتها كتحرير لذلك الكتاب. والغرض المهم من ذلك أمران:

الأول: الشرح والتعليق عليه وحل بعض معقداته ومشكلاته.

والثاني: بيان ما ينطبق منها على مذهب الإمامية وما يفترق، وعسى في مليء ذلك تستبين الوزن بين فقه سائر المذاهب الإسلامية وفقه المذهب الجعفري وما فيه من غزارة المادة وسعة الينبوع، وكثرة الفروع، وقوة المدارك ورصانة المباني، وسمو المعاني، ومطابقة العقل والعرف في الأكثر، ومع بعد النظر، على إننا لا نبخس حق القوم، ولكلٍ وجهة هو موليها. وكلاً وعد الله الحسنى وكل واحد من أعلام فقهاء الإسلام قد استفرغ وسعه وجد وأجتهد (وسعى وكل سعيه مشكور).

ونسئله تعالى أن يجعل مساعينا خالصة لوجهه الكريم، وأن يلهمنا الحق ويصون أقلامنا وأقدامنا من خطوات الخطأ وعثرات الخطايا، ويجعله مؤلفاً نافعاً، وأثراً خالداً.

وأقصى ما أرجوه من المطالعين الأفاضل والشباب المهذب أن يتجردوا عند النظر فيه من بعض العواطف لنا أم علينا حتى ينظروا إلى الأشياء كما هي ويعطوها حقها بمعيار العدل والإنصاف من دون إسراف ولا إجحاف.

اللهم أنتَ وليَ في الدنيا والآخرة توفني مسلماً والحقني بالصالحين.

وقد جرت عادة المؤلفين في الغالب أن يذكروا أمام المقصود مقدمة تشتمل على أمور تفيد مزيد بصيرة في العلم والكتاب ونحن بتوفيقه تعالى تذكر من باب المقدمة أموراً لعلها تنفع في الغرض إن شاء الله.

الأول: أهم شيء يلزم معرفته بادئ بدء. إن الله سبحانه لما تعلقت مشيئته بإيجاد هذا النوع وهو المسمى بالبشر وقضت حكمته أن يعمر به هذه الكرة التي تسمى بالأرض ويمهد له فيها وسائل الرقي بأختياره إلى مدارج القدس ومعارج السعادة في أولاه وأُخراه لذلك أودع فيه غرائز وأوضاع، وفطره على سجايا وطباع، قمينة له بالغرض الذي خلق من أجله ــ فجعل فيه الشهوة والغضب وما يتشعب منهما من الحرص والطمع والطموح والتعالي وما إلى ذلك مما لسنا بصدد إحصائه، ولكن لما كان من لوازم تلك الشناشن التغالب والتكالب، والتشاحن والتطاحن، وسعي بعض في هلاك بعض وحب الأثرة والإمرة، وكان إرخاء العنان لتلك الغرائز وتركها على رسلها مما يعود بنقض الغرض من خلق الإنسان ــ لا جرم أحتاجت القوتان إلى قوة أُخرى تكبح طغيانها، وتمسك عنانها، وتعدل اوزانها، فنفخ فيه من روحه (القوة العاقلة) لتكون هي المسيطرة على جماح تلك القوتين الجبارتين، ولما كانت قوة العقل البشري نوعاً محدودة، وحظيرة إدراكاته ضيقة، وكثيراً ما تكون في كثير من البشر ضعيفة، وما أكثر ما تتغلب واحدة من تنيك القوتين على القوة العاقلة فيصبح العقل أسير الهوى والعاطفة ــ فكان من الضروري في العناية الأزلية مناصرة العقل بمساعد وقائد يرفده في مهمتين:

الأولى: تعريفه ما لا يصل إدراكه إليه من مقادير الخير والشر، ومقائسي السعادة والشقاء.

الثانية: مؤازرته على عامليه، إذا تمردا عليه، وهما الشهوة والغضب ــ الهوى والعاطفة ــ.

فكان ذلك القائد والمساعد للعقل هو الأنبياء والرسل الذين جاؤا بالشرائع الآلهية وأسباب سعادة البشر في الحياتين، وكانت عناية الشريعة الإسلامية بالأخص من بين سائر الشرائع السماوية قد أهتمت أشد الإهتمام بسن القوانين والأحكام وحفظ هذه الحياة التي جعلتها في كفة الحياة الأخرى بل أرجح منها فقالت: (من لا معاش له لا معاد له) وقالت: ليس خيركم من ترك دنياه لآخرته ولا من ترك آخرته لدنياه بل خيركم من أخذ حظاً من هذه وحظاً من هذه، وأعمل لدنياك...وأعمل لآخرتك... وفوق ذلك كله قوله تعالى: [وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا].

وفاقت على الشريعتين قبلها فقالت: [وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا]. ولا رهبانية في الإسلام، [وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ]، وما عتم اليتيم الأمي صاحب الشريعة الإسلامية أن أصبح مؤسس شريعة، ومشرّع قوانين، ومجدد دين، ومحيي أمة، ومنفذ أحكام، وقاضي خصام، ورافع رايات وأعلام، وقائد جيوش، ومحطم عروش، وأمام محراب، وشاهر حراب، ومروج تجارة، ومعلم زراعة وصناعة، إلى غير ذلك من مقومات الحياة المشتركة، والمنافع المتكافئة، والسعادة التي تنتظم الحياتين، وتضمن الفوز في النشأتين. كل ذلك ليعرف البشر ارتباط هذه الحياة بالأخرى وإن السعادة هناك من ههنا.

ثم لما كان من قضاء الله الأزلي وقدره المحتوم إن لا قرار لأحد في هذه الدار وإنها جسر وقنطرة إلى الدار الأُخرى فمات الأنبياء وهلك الحكماء وغاب الأولياء والسفراء، ولكن الله سبحانه حي لا يموت، وحكمته في خليقته لا تعطل، ولما أعزم خاتم الأنبياء على الرحيل إلى جوار ربه لم يترك أمته سدى، ولم يدع الخلائق هملا، ولم تبطل بموته حجج الله وبيناته، وبراهينه وآياته [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] بل ترك فيهم كتاب الله وسنته يستنبط منها العلماء أحكام الوقائع المتجددة، والقضايا الحادثة.

وهؤلاء العلماء هم المجتهدون، وإذا كانوا من أهل الورع والصلاح وحصلت لهم ملكة الاستنباط واستفراغ الوسع في الاستخراج فهم ورثة الأنبياء ومراجع الأمة، وخلفاء الأئمة، ومصابيح الهدى، وفي الحديث: (مجاري الأمور بأيدي العلماء، ومدادهم أفضل من دماء الشهداء).

ومن هنا نعرف إن الاجتهاد باب رحمة على العباد، وما زال باب الإجتهاد مفتوحاً عند الإمامية من عهد صاحب الرسالة إلى اليوم ولكن هذه القضية بيننا وبين أخواننا المسلمين من بقية المذاهب قد تورطت بين تفريط وإفراط، (فالإمامية) فتحوا باب الإجتهاد على مصراعيه حتى أدى ذلك إلى الفوضى المضرة وصار يدعيه، حتى من لا يصح أن يطلق عليه أسم المتفقّه فضلاً عن الفقيه، وبقية المسلمين قد سدوا باب الإجتهاد بتاتاً وأقتصروا على المذاهب الأربعة، وقد ضاع الإعتدال والوسط في هذه الناحية كما ضاع في غيرها، ولا حول ولا قوة..

الثاني: إن مدار العقود والمعاملات على الأموال وليس للمال حقيقة عينية خارجية كسائر الأعيان تتمحض في المالية تمحض سائر الأنواع في حقائقها النوعية، وإنما هو حقيقة اعتبارية ينتزعها العقلاء من الموجودات الخارجية التي تتقوم بها معايشهم وتسد بها حاجاتهم الضرورية والكمالية فمثلاً الحبوب والأطعمة مال لأن البشر محتاج إليها في أقواته وحياته وهكذا كل ما كان مثل ذا من حاجات الملابس والمساكن ونحوها قد انتزع العقلاء منها معنى وصفياً عرضياً يعبّر عنه بالمال وهو من المعقولات الثانوية بإصطلاح الحكيم، ولما كان مدنية الإنسان لا تتم إلاَّ بالحياة المشتركة وهي تحتاج إلى المقايضة والتبادل في الأعيان والمنافع وكان التقايض بتلك الأعيان وهي العروض مما لا ينضبط أرادوا جعل معيار يرجع إليه في المعاملات ويكون هو المرجع الأعلى والوحدة المقياسية فأختاروا الذهب والفضة وضربت سكة السلطان عليهما لمزيد الاعتبار في أن يكون عليهما المدار فماليتهما أمر اعتباري محض لا فرق بينهما وبين سائر المعادن وغيرها من حيث الذات والحقيقة؛ ولذا في هذه العصور حاولت بعض الدول قلب الاعتبار إلى الورق ولكن مع الاعتماد عليهما.

ومهما يكن الأمر، فإن المال لما كانت حقيقته تقوم على الأعتبار فكما اعتبروا الأجناس الخارجية مالاً فكذلك اعتبروا ذمة الرجل العاقل الرشيد مالاً ولكن مع الإلتزام والتعهد فإذا إلتزم لك الثقة الأمين بمال في ذمته وثقت به وجعلته كمال في يدك أو صندوقك وكذا العقلاء يعتبرون إن لك مالاً عنده، أما من لا عهدة له ولا ذمة كالسفيه والمجنون والصغير بل والسفلة من الناس الذين لا قيمة لأنفسهم عندهم الذي يعدك ويخلف ويحدثك فيكذب، ويلتزم لك ولا يفي بإلتزامه فهؤلاء لا ذمة لهم ولا شرف وإلتزامهم عند العقلاء هباء ولا يتكون من إلتزامهم عند العرف مال؛ فالمال إذاً نوعان:

1 ــ خارجي عيني: وهو النقود والعروض.

2 ــ واعتباري فرضي: وهو ما في الذمم أعني الإلتزام والعهدة.

والإلتزام تأثيره لا ينحصر بالمال بل يتمطى ويتسع حتى يحتضن جميع العقود بل كافة الإيقاعات؛ ألا ترى إن البيع إذا صهره التمحيص لم تجد خلاصته إلاَّ تعهداً وإلتزاماً بأن يكون مالك للمشتري عوض ماله الذي إلتزم أنه لك فيترتب على هذا الإلتزام مبادلة في المالين بإنتقال مال كل واحد إلى الآخر وبتحقق النقل والإنتقال كأثر لذلك الإلتزام وهكذا الإجارة والجعالة بل والإيقاع كالعتق والإبراء بل والنكاح والطلاق كلها تعهدات وإلتزامات وإبرام ونقض وحل وعقد تباني عقلاء البشر من جميع الأمم والعناصر على اتباعها والعمل بها كقوانين لازمة. ودساتير حاسمة يسقط عن درجة الإنسانية من لا يلتزم بها في كل عرف ولغة ثم لما انبثق نور الإسلام بشريعته الغرّاء أكدت وأيدت تلك الوضعية الحكيمة والقاعدة القويمة وأقرّت العرف على معاملاتهم وألزمتهم بتعهداتهم وإلتزاماتهم بعمومات [أَوْفُوا بِالْعُقُودِ]، و[تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ] ونظائرها إلاَّ ما ورد النهي عنه بالخصوص كبيع الربا وبيع الغرر وأمثاله. فإن أطلقت العقد لزمك الأحتفاظ بإلتزامك أبداً وان جعلت لكَ خياراً أو جعله الشارع لكَ جاز لكَ نقضه إذا شئت. وحيث عرفت إن العقود ليست سوى إلتزامات يستبين لكَ إنها تحقيقاً ليست سوى نسب وإضافات ضرورة إن الإلتزام معنى يتقوّم بملتزم وملتزم له وملزم به مثلاً البائع والمشتري والبيع أي المعاوضة والمبادلة وما يقارب ذلك ومفاهيم هذه العناوين أعني بيع ــ معاوضة ــ مبادلة. أيضاً معني نسبيه إضافية تتقوم بطرفين عوض ومعوّض ثمن ومثمن. وهذان هما الركنان في عقود المعاوضات لا البائع والمشتري بخلافه في عقود المناكحات فإن الأركان هناك هو الزوج والزوجة لا المهر وتوابعه إذاً فأركان العقد في الأموال مطلقاً ثلاثة ــ الصيغة الدالة على الإلتزام بالمعاملة والعوضان وهما الثمن والمثمن وفي الزواج ــ الصيغة، والزواج، والزوجة. ويعتبر في كل واحد من الأركان في المقامين شروط وأوصاف لو أختل واحد منها بطل العقد.

أما لو أختل شرط في غير الأركان وكانت الأركان بشروطها حاصلة لم يبطل العقد ولكن يحدث فيه خيار تخلف الشرط. وينقلب من اللزوم إلى الجواز ويكشف ذلك عن وقوعه جائزاً. فالأصل في الإلتزامات اللزوم إلاَّ أن يجعل الشارع أو المتعاقدان أو احدهما فيه حق الفسخ فيكون جائزاً بالعرض أو يكون بحسب أصل جعله عند العقلاء غير لازم ومبيناً على الجواز.

وأقصى مبالغ التحقيق إن المالك حين يخرج ماله عن ملكه تارة يقطع كل علاقته منه ويجعل كل سلطته له على المال لغيره وأخرى يخرجه ويترك له ناحية من تلك السلطنة الواسعة وهي حق استرداده أو حق فسخ العقد الذي وقع عليه ويكون أثره رجوع المال إلى مالكه الأول على اختلاف القولين أو الاحتمالين في حقيقة الفسخ، ثم إن بقاء هذه العلقة في المال تارة بجعله أو جعل الشارع كما عرفت وأخرى تون من خصوصيات ذات العقد وذلك كما في العقود الجائزة بطباعها كالهبة والعارية والوديعة وأمثالها وأكثر ما يكون ذلك في العقود التبرعية فالهبة مثلاً من طبيعتها الجواز إلاَّ أن يعرض عليها ما يوجب لزومها مثل كونها معوضة أو لذي رحم عكس البيع الذي من طبيعته اللزوم إلاَّ أن يعرض عليه ما يوجب جوازه وكذا العارية من طبعها الجواز والرجوع بها متى شاء إلاَّ أن يلزمها الشرط كما أن من طبيعتها عدم الضمان إلاَّ أن تكون عارية ذهب أو فضة.

وهذه الخصوصيات والكيفيات اعتبرها الشارع وقيد بها تلك العقود العرفية وضبطها بتلك الحدود نظراً للصالح العام حسب علمه واحاطته في الحقوق المشتركة والنظام الأتم.

ونحن حيث نتكلم في أحكام العقود والمعاملات ننظرها من جهتين وجهتها العرفية ووجهتها الشرعية. فنأخذ بالأعتبارات العرفية بوجه عام ثم نعقبه بالنظر في الأدلة الشرعية ومالها من التصرف الخاص من منع بات أو اعتبار بعض القيود والخصوصيات فنتبعه إن كان وإلاَّ فالعمومات تلزمنا بما عليه العرف العام في معاملاتهم وعسى أن يأتي شيء من شواهد ذلك إن شاء الله.

الثالث: يعرف الفقه بأنه معرفة الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية، وهذا التعريف سواء كان سالماً من النقد أو غير سالم فهو يعطي صوره إجمالية يتميز بها هذا العلم من غيره من العلوم. والمراد المكلّف هو البالغ العاقل القادر. والأدلة هي القواعد الممهدة لتحصيل معرفة الحكم الإلهي الشرعي من الكتاب والسنة والإجماع والعقل والأحكام الشرعية هي ما بلغة الرسول عن الله من القضايا المتعلقة بأعمال المكلفين وضعاً أو تكليفاً. والأحكام التكليفية هي الخمسة المشهورة التي يجمعها الاقتضاء والتخيير والحكم الوضعي هو السبب والشرط والمقتضى والمانع والصحة والفساد والبطلان والعلة التامة والاختلاف بين السبب والشرط وبينه وبين المقتضى بالإعتبار وعلى كلٍ فالأحكام الشرعية هي التي شرعها سبحانه على لسان رسوله الظاهري والباطني لحفظ نظام الهيئة الاجتماعية للبشر وعلاقتهم به جلَّ شأنه أو علاقة بعضهم ببعض.

فهي إذاً لا تخلو أما أن تكون متعلقة بعمل يكون تمام الغرض منه صلة العبد بربه ونفسه أو صلته بأبناء جنسه.

الأول: هو العبادات كالصلاة وأخواتها.

والثاني: ما يكون أهم الغرض منه ضبط النواميس وأهمها ثلاثة: النفوس، والأعراض، والأموال. فما تعلّق بالمال من حيث كسبه وتحصيله لا يخلو أما أن يكون بقول أو عمل. والأول أما أن يكون متقوّماً بطرفين أو بطرف واحد.

والأول وهو العقود أما أن يكون مقابلة مال بمال فهي عقود المعاوضات، وأما أن يكون المال من طرف واحد فهي عقود الإرتفاق والمجانيات كالهبة والصدقات وأمثالها.

أما الذي يتقوّم بطرف واحد فهو الإسقاط والإبراء والتعهدات الإبتدائية.

أما ما لا يحتاج إلى القول من أنواع الكسب فهو العمل وهو أما أن يكون إختيارياً أو قهرياً.

فالأول: كالحيازة والإصطياد واحياء الموات وأمثالها.

والثاني: كالأرث والوصية بناء على ما هو الأصح من عدم حاجتها إلى القبول ومنه الوقف على البطون بل والزكوات والأخماس والنذور فإن جميع هذه الأنواع أسباب للملك القهري من غير قول ولا عمل.

وأما ما يتعلق بالأعراض فهو النكاح الذي شرع لحفظ النسل وتكوين الأسر والعائلات الذي به عمارة الدنيا وحفظ النوع البشري ويتبعه أنواع الفرقة والطلاق والظهار ونظائرها، وأما ما يتعلق بالنفوس فقد يكون فك نفس كالعتق وأخواته، وقد يكون تدارك نفس كالديات والقصاص والحدود. ولما كانت كل هذه الوسائل تستدعي المعاشرة والمعاشرة قد تفضي إلى المعاسرة وهي تفضي إلى الخصومة لذلك جعل الشارع الحكومة والقضاء ليكون لها القول الفصل والقضاء الحاسم للخصومات.

فهذه جملة أبواب الفقه الذي يبحث فيه عن كل واحد من تلك العناوين وعن احكامها وأدلتها وفروعها وقد جمعوها على الجملة في أربعة:

(عبادات): وهي ما يكون الغرض المهم منها الطاعة والإمتثال والنفع الآخروي.

(معاملات): وهي ما يكون الغرض المهم منها المال وتتوقف على طرفين.

(إيقاعات): وهي نسب واضافات يكفي في تحقيقها طرف واحد.

(أحكام): وهي حدود وعقوبات.

وكل ذلك تقريبات يقصد منها الإشارة الإجمالية وبيان الوسائل والغايات ونقول في بيان أوسع وأجمع إن الملحوظ في الفقه هو النواميس المقدّسة والشارع المقدس بحكمته الواسعة شرّع العبادات تنويراً للقلوب وتربية للأرواح. وتهذيباً للأخلاق، وأخذاً بهذا النوع البشري من حضيض البهيمية إلى كمال الإنسانية والملكية، وربط المعاملات بالعقود حفظاً للوئام وضبطاً للنظام.

وجعل القصاص والديات احتفاظاً بالنفوس، وبالجهاد وقتل المرتد حفظ الدين. وبتحريم المسكرات وحدّ شاربها حفظ العقل، وبتحريم الزنا وأخويه الخبيثين حفظ الأنساب، وبتحريم الغصب والسرقة وقطع يد السارق حفظ الأموال. وبتحريم الغيبة والبهتان والقذف والحد عليه حفظ الأعراض، وبجعل منصب القضاء قطع التشاجر والخصومات.

هذه فذلكة مهمات شريعة الدين الإسلامي وأحكامه وفلسفة تشريعها وانموذج أسرارها فهل تجد ديناً أوسع وأجمع وأرصن وأتقن من هذا.

الرابع: من الأمور، إن جميع مدارك الأحكام وأدلتها ترجع إلى قواعد وقوانين عامة بها يستنبط الحكم من الكتاب والسنة وتابعيهما العقل والإجماع.

والأدلة عندنا معشر الإمامية تنحصر بهذه الأربعة، أما غيرنا من فقهاء الإسلام فقد يدخلون الظن والقياس والاستحسان مما ورد المنع الشديد في أخبار أئمتنا (ع) عن الميل إليه فضلاً عن الاعتماد عليه.

والغرض، إن العمدة في استخراج الحكم واستنباطه من الأدلة هي تلك القواعد العامة وهي كثيرة ذكرت المجلة منها مائة مادة سيتضح لك فيما بعد تنقيح القول فيها، وقد أفرد القواعد العامة بالتأليف جماعة من علمائنا الأعلام، والمطبوع المتداول منها اربعة:

الأول (عناوين): المير فتاح المراغي وهو نفيس في بابه، جمع فيه كثيراً من القواعد الفقهية والأصولية وأكثر من تقريرات درس استاذية جدنا موسى بن جعفر كاشف الغطاء وأخيه علي بن جعفر كاشف الغطاء.

الثاني (العوائد): لمعاصره الملا مهدي النراقي (رحمه الله) وهو دون الأول في الإتقان.

الثالث (تمهيد القواعد): للشهيد الثاني (قدس سره)


 

الرابع (القواعد): للشهيد الأول (رضوان الله عليه) وهو أتقن الجميع.

وعلى غزارة مادة هذه المؤلفات قد بقي كثير من القواعد العامة لم يتعرض لها وتوجد جمهرتها في كتب الأصحاب متفرقة في أبواب الفقه، وعلى كلٍ، فنحن نشرع بتوفيقه تعالى بذكر مواد المجلة وبيان ما عندنا من تفسير أو ملاحظة ثم نعقبها بذكر ما يحضرنا من القواعد العامة الكلية التي أعتمد عليها أصحابنا قدّست أسرارهم جميعاً منها ما تيسر وحضر.

بسم الله الرحمن الرحيم

وله الحمد

(مادة 2)

الأمور بمقاصدها

هذا مأخوذ من الحديث النبوي المشهور: (إنما الأعمال بالنيات)، (ولكل أمرء ما نوى). ولكن مورد هذه الأحاديث في غير العقود والمعاملات من العبادات والعادات مثلاً الإحسان إلى شخص إن كان النية والقصد منه التقرب إليه فالأجر عليه وإن كان القصد التقرّب إلى الله فأجره على الله وهو أول حديث في صحيح البخاري: (إنما الأعمال بالنيات وإن لكل أمرء ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى أمرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) إلى آخره، والغرض من هذه الأحاديث بيان وجه القصد لا بيان اعتبار القصد ولزومه إذ هو ضروري من العقلاء ويستحيل صدور عمل من العاقل الغير الغافل بغير قصد.

(مادة 3)

العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني

اعتبار القصود في العقود مما لا شك فيه ولا ريب بمعنى إن العقد إذا خلى من قصد فهو لغو بل كل كلام كذلك ولكن إناطة المدار في العقد على القصد وحده دون اللفظ غير صحيح كيف وقد ورد في السنة الصحيحة (انما يحرم الكلام ويحلل الكلام) بل لا يتحقق العقد إلاَّ باللفظ الخاص ولكن مع القصد فالقاعدة الصحيحة هنا هي ما عبّر عنها فقهاؤنا بقولهم: العقود تابعة للقصود يريدون إن كل معاملة كالبيع وإلاجازة والرهن لها ألفاظ تخصها بحسب الوضع والشرع يعبّر عنها بالعقد ولكنها لا تؤثر الأثر المطلوب من ذلك العقد إلاَّ بقصد معناه من لفظه فلو لم يقصده أو قصد معنى آخر كما لو قصد من البيع الإجارة أو من الإجارة البيع لو مجازاً كان باطلاً لا أن المدار على القصد وحده دون اللفظ كما في مادة المتن أما المثال الذي ذكره وسمّاه بيع الوفا ويسمى عند الإمامية بيع الخيار فهو عند فقهاؤنا أجمع بيع حقيقة ولا يجري عليه شيء من أحكام الرهن وسيأتي تحقيق ذلك في محله إن شاء الله.

(مادة 4،5،6)

هذه القواعد الثلاث كلها ترجع إلى أصل واحد وهي الاستصحاب ووجوب إبقاء ما كان على ما كان المأخوذ من أحاديث (لا تنقض اليقين بالشك) وبناء العقلاء على عدم رفع اليد على الأمر الذي كان متيقناً بعروض الشك فيه ويمكن أن يرجع إليها أيضاً أصل برائة الذمة المذكورة في (المادة 8) بل وإليها يرجع أيضاً ما في (المادة 9) بل و (المادة 10) و (المادة 11) فإن مرجع الجميع إلى الاستصحاب وقوله: الأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته هي القاعدة المعروفة عندنا بأصالة تأخر الحادث مثلاً إذا شككنا إن زيداً مات في هذه السنة فيرث أباه الذي قد مات في السنة التي قبلها أو مات قبل سنتين فلا يرث تحكم بإستحقاقه الإرث لأصالة تأخر الحادث ومرجع ذلك إلى الاستصحاب وعدم رفع اليد عن اليقين بالشك فيه لأن اليقين لا ينقض إلاَّ بيقين مثله.

والقصارى إن المتن ذكر سبع مواد وكلها ترجع إلى قاعدة واحدة كان يجب الاكتفاء بها عن الجميع ولو لم تستند تلك المواد إلى الاستصحاب المدلول على حجيته في علم الأصول بالعقل والنقل لم يكن وجه للاستناد إليها والاعتماد عليها فذكر الاستصحاب يغني عن ذكرها.

(المادة 7)

الضرر لا يكون قديماً فيظهر إنها كالتقييد أو التخصيص لما قبلها فإنه لما قال القديم على قدمه قال إلاَّ الضرر فإنه لا يترك وحينئذٍ تكون هذه المادة هي (المادة 20) الضرر يزال فإنها تعم الضرر القديم والحادث، (ومادة 31) الضرر يدفع بقدر الإمكان فهذه ثلاث مواد تغني عنها واحدة.

(المادة 8)

وهو أصل البراءة فهو أصل أصيل مستقل، ويبتني عليه كثير من الفروع الفقهية وهو وإن كان يتداخل مع الاستصحاب في كثير من موارده ولكن جهة النظر في كل واحد تختلف عن الآخر فإن حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل يقضي بلزوم الامتثال عند احتمال التكليف فيتجه البحث في إن قاعدة قبح العقاب بلا بيان وأمثالها مما دلَّ على البراءة عقلاً وشرعاً هل تقتضي إلاَّ من ضرر العقوبة أم لا في أبحاث ضافية مبسوطة في محلها من فن الأصول. أما ما ذكره في المتن من الاتلاف والاختلاف في المقدار فإستصحاب براءة الذمة يغني عن أصل البرائة بل هو مقدم عليه كما حقق في محله وعند أهله.

(مادة 12)

الأصل في الكلام الحقيقة

هذا الأصل ركن من أركان المباحث الأُصولية ويعبرون عنه بأصالة الحقيقة تارة وأصالة عدم القرينة أُخرى وإذا كانت في العام يعبّر عنها بأصالة العموم وأصالة عدم التخصيص فإذا وردت كلمة في كلام واحتملنا إن المتكلم أراد غير معناها الحقيقي تجوزاً ولا قرينة ظاهراً نقول إنه أراد المعنى الحقيقي لأصالة الحقيقة ولو أعلى بعد ذلك إرادة غيرها لم يقبل منه فلو اعترف مثلاً إنه قتل زيداً ثم قال: أردت قتله الأدبي، لم يسقط عنه القصاص أو الدية إلاَّ أن تكون هناك قرينة حال أو مقال وإلى هذه القاعدة تعود.

(المادة 13)

لا عبرة بالدلالة في مقابلة التصريح

فإن المعنى الصحيح الذي ينبغي أن تحمل هذه المادة عليه هو القاعدة المعروفة عند الأُصوليين من إن النص مقدّم على الظاهر سواء كانت الدلالة من مقال كما في قوله تعالى: [إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا] مع قوله تعالى: [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ] أو من حال كما لو وهبه عيناً فإن فيه دلالة على الإذن بالقبض لكن لو منعه عن القبض سقطت تلك الدلالة ومرجع كل ذلك إلى بناء العقلاء على الأخذ بالظاهر وتقديم الأظهر فالأظهر حتى تنتهي إلى النص الذي لا يحتمل فيه الخلاف فمن تكلم بكلام له ظهوره بالوضع أو بالقرينة وادعى إرادة خلافه لم يقبل منه بل يؤخذ بظاهر لفظه الذي هو الطريق العقلائي للكشف عن ارادته وقصده وإلى ذلك يرجع.

 

(المادة 14)

لا مساغ للإجتهاد في مورد النص

فإن مثل قوله (ص): (البيعان بالخيار ما لم يفترقا) ظاهر بل نص فيما ذهبت إليه الإمامية من ثبوت الخيار بعد الإيجاب والقبول حتى يتفرق المتبايعان وهو الذي يسمونه خيار المجلس ووافقهم الشافعية على ذلك فقول الحنفية إن المراد تفرقهما في الكلام فإذا فرغا من الكلام وتمَّ الإيجاب والقبول فلا خيار وبذلك أنكروا خيار المجلس وهو كما ترى عين الاجتهاد في مقابلة النص وبالجملة فهذه القواعد الثلاث ترجع إلى قاعدة واحدة وهي تقديم النص على الظاهر والأظهر على الظاهر.

(مادة 15)

 ما يثبت على خلاف القياس فغيره لا يقاس عليه

القياس بجميع أنواعه لا عبرة به عندنا معشر الإمامية أصلاً فلو ثبت عندنا بالدليل حكم لموضوع موافقاً للقياس أم مخالفاً فالحكم يقتصر به على موضوعه ولا يتعدى إلى غيره سواء عرفت علة الحكم أو لم تعرف وسواء كانت ظنية أو قطعية. نعم، لو كانت العلة منصوصة كما لو قال: حرمت الخمر لأسكارها، أمكن عند بعضهم تسرية الحرمة إلى غير الخمر من المسكرات وإن لم يسمَ خمراً، أما من يقول بالعمل بالقياس وحجيته فلا ريب أنه لو ثبت عندهم حكم في مورد على خلاف القياس لدليل فإنه يقتصر على مورده وما عداه يبقى على حكم القياس ونظير هذا عندنا ما لو ثبت حكم على خلاف القاعدة فإنه يقتصر فيه على دليله ويرجع في أمثاله إلى حكم القاعدة مثلاً ثبوت الشفعة حكم مخالف لقاعدة السلطنة فيقتصر فيه على مورده وهو عدم تعدد الشركاء فلو تعددوا فلا شفعة وهكذا كثير من هذا القبيل.

(مادة 16)

الاجتهاد لا ينقض بمثله

ينبغي أن يكون المراد بهذه القاعدة إن اجتهاد مجتهد لا ينقضه إجتهاد مجتهد آخر فلو أدى اجتهاد مجتهد إلى ثبوت الدعوى بشاهد مع يمين المدعي مطلقاً أو في خصوص الأموال وحكم لشخص بمال على هذا الرأي ورفعت الدعوى لمجتهد آخر لا يرى ذلك فليس له نقض ذلك لأنه مخالف لأجتهاده، أما غير المجتهدين فهم مخيرون في العمل بين الأخذ برأي هذا أو ذاك تخييراً في الحدوث أو الاستدامة على القولين أما المجتهد نفسه فلا اشكال إنه إذا تبدّل أجتهاده فإنه ينقض اجتهاده السابق باللاحق ولكن بالنسبة إلى الحوادث المتجددة، أما الغابرة فإنها تمضي على اجتهاده الأول ولا ينقضها إلاَّ إذا تبيّن عنده فساد أجتهاده الأول كما لو عثر على دليل قصر في الفحص عنه فأفتى بخلافه فإنه ينكشف في الحقيقة عدم الاجتهاد لأفساده فليتدبر، والخلاصة إن الاجتهاد قد ينقض بالإجتهاد وقد لا ينقض.

(مادة 17)

المشقة تجلب التيسير

هذه المادة هي عين المادة التي بعدها كلاهما يرجعان إلى قاعدة نفي العسر والحرج المدلول عليها بقوله تعالى: [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ]، و[يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ]، مثل إن الله سبحانه أوجب في الوضوء غسل البشرة فإذا كان على بعض أعضاء الوضوء جبيرة يعسر نزعها جاز المسح على الجبيرة عوض غسل البشرة بقاعدة نفي العسر، ومثل قبول شهادة النساء في النسب والولادة لأن الاقتصار على شهادة الرجال في أمثال ذلك يوجب العسر والحرج، وقبول شهادة أهل الخبرة في بعض الموضوعات وإن لم يكونوا عدولاً بل ولا مسلمين وليس من هذا الباب أصلاً القرض والحوالة والحجر. نعم، لعل حكمة تشريع بعضها كالقرض والحوالة هو التسهيل ورفع العسر والحرج فما ذكره في المتن وزاده بعض الشراح من الأمثلة كلها خارجة عن القاعدة كما يظهر بأدنى تدبر.

(مادة 19)

لا ضرر ولا ضرار

هذه من القواعد المحكمة والأساسية في شريعة الإسلام وهي نظير أختها قاعدة رفع الحرج حيث إن الحكمة منهما معاً هو التسهيل على العباد في التشريع ليصح قوله(ص): (جئتكم بالشريعة السهلة البيضاء) وقد ذكروا إن هذه الكلمة من جوامع الكلم وهي أحدى معجزات بلاغته صلوات الله عليه، وقد أفرد شرحها جماعة من أعلام علمائنا رسائل خاصة بها وموجز القول فيها إنها دلّت على حرمة الضرر، وحرمة مقابلة الضرر بالضرر، ووجوب تدارك الضرر، تقول مثلاً لا تضر غيرك بإتلاف ماله، ولا تقابله بالضرر لو أتلف مالك، ولكن يجب عليه تدارك الضرر، ودلّت على معنى أوسع وأعظم بركة ونفعاً من ذلك وهو إن كل حكم في الشرع وضعي أو تكليفي يوجب ضرراً على الشخص أو النوع فهو مرفوع في الإسلام مثلاً الوضوء واجب للصلاة ولكن إذا استلزم الوضوء ضرراً على شخص لمرض وغيره فهو مرفوع.

وهكذا إذا كان لزوم البيع مع وجود العيب في الثمن يستلزم ضرراً على النوع فلزومه مرفوع ويكون العقد جائزاً وخيارياً ولعل منها الخيار إذا ظهر العيب فيما أنتقل إليه وقد ظهر لكَ مما ذكرنا إن:

(مادة 20)

ترجع إليها بل هي أحدى مداليلها وفوائدها مثلاً قاعدة السلطنة تقتضي إن له أن يبني تنوراً في سطح داره، ولكن إذا كان ذلك يوجب ضرراً على جاره فالضرر يزال بقاعدة لا ضرر في الإسلام، وكذا لو سد عليه منافذ الهواء والنور، ومنه جبر المديون على دفع دينه وإذا أمتنع فللحاكم إن يبيع بعض أمواله لأداء دينه وكثير من الفروع في الفقه تبتني على هذه القاعدة وعلم أيضاً إن (مادة 25) (الضرر لا يزال بمثله) من مدلولات هذه القاعدة أيضاً أعني قاعدة لا ضرر وهي الأصل والدعامة وهذه القواعد متفرعة ومبتنية عليها ولا وجه لعدها قواعد في عدادها فلا يجوز قسمة الطاحونة إذا كان في الشركة ضرر على أحد الشركاء وكان في القسمة ضرر على الآخر لأن الضرر كما قدمنا لا يدفع بالضرر وكذا لا يجوز رد المعيب السابق بعد حدوث عيب آخر عند المشتري ورعاية المشتري ليس بأولى من رعاية البائع والجميع يرجع إلى الأصل (قاعدة الضرر) وإنه لا يجوز مقابلة الضرر بالضرر فتدبر ولعل إليها يرجع أيضاً.

(مادة 21)

الضرورات تبيح المحذورات المستفادة من أمثال قوله (ص): (ما من شيء حرّمه الله إلاَّ وقد أحله لمن أضطر إليه) والأصل فيه قوله تعالى: [إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ]، [فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ] فإذا كان بقاء حرمة مال الغير أو حرمة أكل الميتة فيه ضرر من تلف نفس محترمة أو حيوان يموت من الجوع أو العطش فإن الحرمة ترتفع ويجوز تناول طعام الغير أو الميتة أو شرب ماء الغير بغير أذنه غايته أنه يجب الضمان وكل ذلك من لوازم رفع كل ما يوجب الضرر كما عرفت، وإليها يرجع أيضاً.

(مادة 22)

الضرورة تقدر بقدرها وضابط الضرورات المبيحة هي كلما يتوقف عليه حفظ نفس محترمة أو مال محترم هو أكثر من المال المتناول بما يعتد به عرفاً وإن لم يضر بحاله وإلى قاعدة الضرر يرجع أيضاً (مادة 31) الضرر يدفع بقدر الإمكان بل و(مادة 32) و(مادة 33).

(مادة 23)

ما جاز بعذر بطل بزواله هذه المادة لا ترجع عندنا إلى أصل تعتمد عليه وتستند إليه إلاَّ قضية إن الحكم تابع لموضوعه أو إن الضرورة تقدر بقدرها فإذا حكمنا بقبول إشارة الأخرس ثم زال خرسه زال الحكم وهو قبول إشارة الأخرس لزوال الموضوع وهو الأخرس، وهكذا إذا حدث عيب في المبيع قبل القبض وكان للمشتري خيار ثم أرتفع العيب وأقبضه صحيحاً فإنه يزول خياره بزوال سببه على الأصح.

والخلاصة إن هذه المادة ليست متأصلة ولابد من رجوعها إلى أحدى القواعد المتقدمة أو الآتية بل ومثلها:

(مادة 24)

إذا زال المانع بطل الممنوع، مثلاً إذا كان المرض مانعاً من الوضوء فإذا زال المرض عاد الممنوع وهو وجوب الوضوء وإذا كان العيب الحادث عند المشتري مانعاً من الرد بالعيب القديم فإذا زال العيب الحادث وبقي القديم عاد الممنوع وهو جواز الرد بالعيب القديم وكل هذا راجع إلى قضية الموضوع والحكم أو إن الضرورة تقدّر بقدرها على اختلاف الأعتبارات فأحسن التدبر.

(مادة 26)

يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام وهي عين:

(مادة 27)

 الضرر الأشد يزال بالأخف وكلاهما من فروع قاعدة نفي الضرر العامة فإن مقتضى نفي طبيعة الضرر على الإطلاق أن بدفع الأكثر بالأقل والأشد بالأخف عند الدوران لأن الزائد ضرر يجب دفعه كما إنها عين

(مادة 28)

 إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمها ضرراً بارتكاب أخفهما وكذا

(مادة 29)

يختار أهون الشرين، فهذه المواد الأربعة مع الست يكون عشرة مواد مرجعها أجمع إلى قاعدة الضرر، أما قوله في المتن يتفرع عن هذا (أي عن (مادة 26) يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام).

منع الطبيب الجاهل فهو وهم لأن هذا المثال ليس من أمثلة الضرر فإن منع الطبيب الجاهل أو العالم تفويت نفع لا إحداث ضرر والمثال الصحيح لتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام هو ما لو كان في دار انسان شجرة أمتدت أغصانها إلى الشارع وأضرت بالمارة فإن قلعها أو قطع أغصانها المثمرة مثلاً وإن كان ضرراً على مالكها ولكنه ضرر خاص يلزم تحمله لدفع الضرر العام وهكذا الجدار المائل للإنهدام فإنه

يلزم على أولياء الأمر هدمه رعاية بالمارة ودفعاً للضرر العام وهكذا كثير من امثالها كما إنه لو تعارض ضرر أحد الجارين مع الآخر فإنه يقدم الأخف أو لزم أضرار شخص أحد الضررين فإنه يراعي الأخف فالأخف والأهون فالأهون كما تشير إليه قضية السفينة والمساكين في القرآن المجيد [أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ].

(مادة 30)

 درء المفاسد أولى من جلب المنافع

هذا نظير القاعدة المشهورة عند الإُصوليين من الإمامية وهي إن دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة ولكنها ممنوعة على اطلاقها إذ ربما يدور الأمر بين مفسدة حقيرة ومنفعة كبيرة يكون إحرازها أهم من الوقوع في تلك المضرة ومن هذا القبيل الكذب لإصلاح ذات البين أو إستخلاص المال المباح من الظالم وليس من هذا القبيل انكار الوديعة إذا خاف عليها من ظالم أو الكذب لنجاة مؤمن كما توهّم بعض الشرّاح فإنه من قبيل تعارض المفسدتين وتقديم الأخف منهما وعلم مما ذكرنا إنه في مقام دوران الأمر بين دفع المفسدة أو جلب المنفعة لا يمكن الحكم بقول مطلق بتقديم أحداهما على الأُخرى بل لابد من النظر في الأهم منهما في المورد الخاص والقضية الشخصية.

(مادة 32)

الحاجة تنزل منزلة الضرورة..إلى آخره

هذه القاعدة لا تصح على أُصول مذهب الإمامية فإن قاعدة نفي الضرر وإن كانت ترفع الأحكام الواقعية مثل وجوب الغسل والوضوء والصوم وسلطنة الناس على أموالهم ولكنها لا تشرع حكماً ولا تجعل الباطل صحيحاً وإنما ترفع الحرمة التكليفية بالضرورة أي العقوبة فقط لا سائر الآثار، فلو كان بعض البيوع باطلاً وحراماً كالربا فالضرورة لا تجعله عقداً صحيحاً كسائر البيوع وإن أحلته لمن أضطر إليه، فلو ارتفعت الضرورة وجبَ رد كل مال إلى صاحبه مع الإمكان وما ذكره في المتن من بيع الوفاء إن كان في حد نفسه مع قطع النظر عن الضرورة باطلاً كما ينسب إلى الحنفية حيث يعتبرونه كرهن فالضرورة لا تشرع صحته غايته إنها تجوّز استعماله للمضطر إليه كما يجوز الربا للمضطر، وكثرة الديون ومسيس الحاجة لا تقلب الفاسد صحيحاً، ولا تجعل الباطل حقاً، ولا تضع حكماً عاماً كيف والضرورات تقدّر بقدرها كما تقدّم، وإن كان في حد ذاته مشروعاً كما هو الحق عندنا معشر الإمامية ويسميه الفقهاء بيع شرط الخيار أو بيع الخيار، فهو اجنبي عن المقام والحق إنه بيع صحيح كسائر البيوع الخيارية ودليله عموم المؤمنون عند شروطهم والشرط جائز بين المسلمين إلاَّ ما أحل حراماً أو حرّم حلالاً أما ما ذكره بعض الشراح وأطال فيه الكلام بما خلاصته إن غير المنصوص بل المنصوص على عدم مشروعيته وحظره من وسائل الحياة يجوز سلوك الطريق المنصوص على حظره عند الحاجة إليها ثم ذكر لذلك أمثلة كثيرة حتى جوّز الربا والإدانة بالربح للذود عن الحوزة مع نص القرآن بحرمته وبطلانه وكان هذا الباب مفتوح على مصراعيه عند فقهاء المذاهب الأربعة المشهورة ويسمونه باب (المصالح المرسلة) أما عند فقهائنا الإمامية فهذا الباب موصّد بكل ما يتسع له المجال من الأقفا وعندنا إن حلال محمد (ص) حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة، ولا اجتهاد في موارد النص والضرورات لا تغير الأحكام أصلاً وإنما ترفع عقوبة الحرام فقط وملاك الفرق بين الفريقين إن من أصول الإمامية إنه ما من واقعة إلا والله سبحانه فيها حكم وإن جميع الحوادث إلى يوم القيامة قد بين صاحب الشرع احكامها أما بالخصوص أو العموم وكل حادثة تحدث فإن وجدنا فيها نصاً خاصاً عملنا به وإلاَّ استخرجنا خكمها من القواعد العامة المستفادة أيضاً من الكتاب والسنة أو الإجماع ولا يجوز عندنا العمل بالقياس والاستحسان والترجيحات الظنية والمناسبات الوقتية بل لا نستخرج حكم الوقائع إلاَّ من كتاب الله وسنة نبيه عموماً أو خصوصاً ولا يوجد في فقهنا شيء مما يسمى بالمصالح المرسلة أو القياس أو الاستحسان وليس هذا حجراً وتضيقاً في الشريعة السمحة السهلة، فإن باب الإجتهاد مفتوح ولكنه في دائرة محدودة لا يتناول المنصوصات والمسلمات إنها من ضروريات شريعة الإسلام كحرمة الربا والخمر والميسر (القمار) وأمثالها.

نعم، قد نبيح للمريض شرب الخمر إذا توقف علاجه عليه، ولكن لا تجعله حكماً عاماً في بلد أو زمن أو نحو ذلك من المصالح الزمنية ومن الغريب استشهاد المجلة بقضية أهل بخارى وحاجتهم إلى بيع الوفاء الذي يدّعي بعض الشراح إنه منصوص على عدم جوازه وهو وهم غريب وعلى فرضه فكان يمكن لأهل بخارى رفع حاجتهم ببيع بعض أملاكهم بيعاً قطعياً لأنقاذ القسم الباقي منها ولا يحللون ما حرم الله أو يؤجرونها مدة تفي بديونهم، والحاصل إن الحاجة المزبورة ما كان رفعها منحصراً بذلك الطريق المستلزم لتحليل ما حرّم الله بحيث تكون القضية من قبيل (قال الله وأقول) وما لم تكن الضرورة منحصرة لا ترفع الحرمة قطعاً فتدبر جيداً هذا المقام فإنه من مزال الأقدام أو الأقلام.

(مادة 33)

الأضرار لا يبطل..إلى آخره

قد سبق إن هذه المادة هي من بعض فروع قاعدة نفي الضرر التي يستفاد منها حرمة الضرر ووجوب تداركه وحرمة مقابلته بالضرر فالإضطرار إلى أكل طعام الغير الذي هو أضرار به يلزم تداركه بضمانه لصاحبه بالمثل أو القيمة والضرورة إنما رفعت العقوبة ولم ترفع الضمان ولا سائر الآثار.

(مادة 34)

ما حرم أخذه حرّم اعطاؤه

هذه القضية عقلية قطعية في الجملة فإن الضرورة تقضي بأن ما حرّم أخذه حرّمت جميع التصرفات ومنها اعطاؤه ولكن ذاك حيث تكون الحرمة ثابتة حدوثاً واستدامة.

أما لو كانت حدوثاً فقط كما لو قلنا بأن الموات من أراضي الخراج لا يجوز أخذه وحيازته إلاَّ بإذن الإمام فلو حاز أحد المسلمين أرضاً مواتاً وأحياها بدون إذن الإمام فإنه يملكها بالأحياء لعموم من أحيا أرضاً ميتة فهي له وإن فعل حراماً في أخذها بدون اذنه وهكذا غنائم دار الحرب ومثلها في القطع والضرورة.

(مادة 35)

ما حرّم فعله حرّم طلبه

وهذا مطرد في كل حرام ذاتي كالزنا وشرب الخمر والغصب ونحوها، أما الحرام العرضي كما لو حلف أو نذر أن لا يكتب أو لا يخيط وما أشبه ذلك فإنه يحرّم فعله ولا يحرم طلبه بل وكذا في بعض المحرمات الذاتية مثل الصلاة على الحائض فإنها يحرّم فعلها ولا يحرم طلبها، ومثل بعض محرمات الإحرام بل أكثرها فإنها يحرّم فعلها ولا يحرم طلبها.

(مادة 36)

العادة محكمة

يعني إن العادة عامة أو خاصة تجعل حكماً لأثبات حكم شرعي أي تجعل طريقاً لأثبات حكم شرعي وهذا أيضاً مبني على الأصل المقرر عندهم من عدم النص وفقد الدليل الشرعي على حكم جملة من الحوادث خلافاً لما ذهبت إليه الإمامية من عدم خلو واقعة من الدليل على حكمها بالعموم أو الخصوص وعلى فرض خلو واقعة من النص فإن العادة عند الإمامية لا يعتبر بها ولا تصلح لأثبات حكم شرعي، والحديث الذي ربما يتمسك به لذلك من قوله (ص): (ما رآه المسلمون حسناً فهو حسن) على فرض صحته لا يدل على حجية العادة واعتبارها دليلاً شرعياً لأثبات حكم شرعي وليس كل حسن عند الناس حسناً واقعاً أو شرعاً وإن حسن العمل به مداراة ومجاملة مع ابناء جنسه أو ابناء وطنه والعادة التي هي عبارة عن تكرار العمل عند طائفة أو أمة من العقلاء ليس لها أي علاقة بالشرع لتكون دليلاً على حكم من أحكامه وإن لم يكن فيه نص، فلو كان أكل لحم الأرنب أو شرب النبيذ مثلاً لم يرد فيه نص وكان عادة طائفة من المسلمين كأهل البادية مثلاً على أكله فهل يمكن أن نستدل بعادتهم على حليته كلاً. نعم، يمكن أن تكون العادة قرينة ينصرف إليها الإطلاق في مقام المعاملات والاستعمالات فيحمل عليها كلام المتعاقدين لتعيين الموضوع لا الحكم، مثلاً لو كان من عادة بلد إن الحمّال يحمل المتاع إلى باب الدار فاستؤجر حمّال فلا حق للمستأجر بمطالبته بإدخال المتاع إلى داخل الدار ولو انعكس الأمر كان له المطالبة وإن لم يشترط ذلك في العقد فالعادة قرينة تقوم مقام اللفظ في تعيين المراد ولعل إلى هذا يرجع أيضاً قضية العرف العام والعرف الخاص وإن كلام المتكلم يحمل على عرفه العام أو العرف الخاص وإنه لو تعارض العرف العام والخاص فأيهما المقدم إلى كثير من المباحث المحررة عند الاصوليين مما لا طائل فيه فإن الاستعمالات الشخصية تختلف حسب اختلاف الموارد وليس هناك قاعدة كلية مطردة بتقديم أحدهما على الآخر بل اللازم النظر في كل مورد وقع الشك فيه أن يرجع إلى الأصول اللفظية المقررة في تعيين المراد فإن تعارضت فإلى الأصول الحكمية من البرائة والاستصحاب وعلى كلٍ فلو جعلنا العادة من الأصول المتبعة التي يستنبط منها حكم أو موضوع فإليها يرجع:

(مادة37)

 استعمال الناس حجة. و(مادة 40) الحقيقة تترك بدلالة العادة. و(مادة 41) إنما تعتبر العادة إذا اطردت أو غلبت بل هذه المادة ساقطة من أصلها فإن العادة إذا لم تطرد فلا يصدق عليها أسم العادة.

ومثلها (مادة 42) العبرة للغالب الشائع وهذا نظير ما يوجد في كلمات بعض الأُصوليين من إن الظن يلحق الشيء بالأعم الأغلب أي الغلبة توجب الظن بأن الفرد المشكوك يلحقه حكم الغالب الشائع ويأتي هذا تارة في الأقوال وأُخرى في الأفعال والأحوال فلو كان غالب علماء البلد الفقهاء ووقف شخص عقاره على العلماء وشككنا بأن النحوي داخل في الوقف لأنه من العلماء فالغلبة توجب حمل كلامه على الفقهاء وخروج النحوي وهذا يرجع إلى ما سبق من إن الغلبة تكون قرينة على حمل المطلق على أشيع أفراده وهو نظير المجاز المشهور حيث تكون الشهرة قرينة حالية كما إن الشيوع والغلبة كذلك ولو كان الغالب في معاملات شخص الفساد فلو صدرت منه معاملة نشك فيها حملناها على الفساد وإن كان قاعدة حمل فعل المسلم تقتضي حمله على الصحيح ولكن الغلبة الشخصية حاكمة على الغلبة النوعية وحيث إن الغالب على البشر لا يعمّرون أكثر من تسعين فلو غاب شخص وانقطعت أخباره ولم يعلم حياته وموته وقد تجاوز التسعين نحكم بموته بحكم الغلبة هذا على مشرب القوم، أما عندنا معشر الإمامية فلا أثر للغلبة إلاَّ حيث تكون قرينة وتعد من الظواهر التي لا ريب في حجيتها لبناء العقلاء كما قرر في محله من الأصول.

وأما الغلبة في المثال الثاني فلا أثر لها بل المرجع في مثله أصالة الصحة المستندة إلى وجوب حمل فعل المسلم على الصحيح مطلقاً، وفي المثال الثالث المرجع إلى استصحاب حياته حتى يحصل اليقين والقطع بموته ولو إلى مائتي سنة غايته إن الغالب حصول اليقين مع طول المدة وإنقطاع أخباره بموته، أما لو لم يحصل اليقين فلا معوّل على الغلبة.

ومما ذكرنا يظهر الكلام في (مادة 43) المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً فإن مرجعها إلى أن الغلبة والمعروفية توجب حمل اللفظ المطلق على المقيد وتكون الغلبة قرينة حالية على القيد أو الإطلاق فهذه المادة أيضاً مستدركه ومثلها أيضاً (مادة 44) المعروف بين التجار و(مادة 45)التعيين بالعرف كالتعيين بالنص فإن ملاك جميع المواد إلى قاعدة واحدة وهي إن القرينة الحالية كالقرينة المقالية يجب أتباعها والغلبة والعرف الخاص أو العام من أقوى القرائن على توجيه الكلام فلا داعي لتكثير المواد وتضييع الحقيقة.

(مادة 38)

الممتنع عادة كالممتنع حقيقة فلو استأجره على وزن البحر أو كيل الفرات، أو أمساك الريح أو قطع المطر كانت الإجارة باطلة فإن تلك الأمور وإن لم تكن ممتنعة عقلاً ولكنها ممتنعة عادة والقدرة على العمل شرط ركني في الإجارة كالقدرة على التسليم في البيع.

(مادة 39)

لا ينكر تغيير الأحكام بتغيير الأزمان

قد عرفت إن من أصول مذهب الإمامية عدم تغيير الأحكام إلاَّ بتغيير الموضوعات أما بالزمان والمكان والأشخاص فلا يتغير الحكم ودين الله واحد في حق الجميع لا تجد لسنّة الله تبديلا، وحلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه كذلك. نعم، يختلف الحكم في حق الشخص الواحد بإختلاف حالاته من بلوغ ورشد وحضر وسفر وفقر وغنى وما إلى ذلك من الحالات المختلفة وكلها ترجع إلى تغير الموضوع فيتغير الحكم فتدبر ولا يشتبه عليك الأمر.

(مادة 40)

الحقيقة تترك بدلالة العادة

هذه المادة أيضاً مستدركه فإنها ترجع إلى الأخذ بالقرينة الصارفة عن الحقيقة، فالعادة إن كانت قرينة في المورد الخاص من موارد الاستعمال وجب رفع اليد بها عن الحقيقة وإلاَّ فأصالة الحقيقة هي المحكمة ولا عبرة بالعادة ما لم يعلم استناد المتكلم إليها.

 

(مادة 46)

إذا تعارض المانع والمقتضي يقدم المانع

هذه المادة ضرورية بل لا حاجة إلى ذكرها لوضوحها فإن المانع هو عبارة عن الشيء الذي يمنع المقتضي من التأثير بل لا معنى للمعارضة بين المقتضي والمانع. نعم، قد يتزاحم الشيئان في التأثير فأيهما ترجح كان هو المانع للآخر.

(مادة 47)

التابع تابع ..إلى آخره

هذه المادة مخالفة لما عليه أكثر فقهائنا الإمامية من إن الحمل لا يتبع الحامل وحجتهم في ذلك ظاهرة وقوية فإن الحامل يعتبر ظرفاً للحمل فهي كالمال والجواهر في الصندوق فإذا باعَ الصندوق مالكه فهل يحتمل أحد دخول الجواهر والمتاع في البيع ما لم يصرّح وكذلك النخل والشجرة، فإذا باعَ النخلة وعليها ثمرها فإن كان قبل بدو الصلاح اعتبر الطلع الذي عليها كجزء من أجزائها كالسعف والكرب وإن كان بعد بدو الصلاح وصيرورته بسراً ورطباً فهو مستقل وقد باع نخلاً ولم يبع رطباً وثمراً وبالجملة فالعرف نوعاً يعتبر الحامل والمحمول كالظرف والمظروف كل واحد منهما له وجود مستقل عن الآخر فإن ظهرت قرينة أو كان عرف البلد الخاص على دخول أحدهما في الآخر فهو، وإلاَّ فالبيع يختص بما وقع التصريح بأنه هو المبيع لا غير.

ومن هنا ظهر وجه البحث في:

(مادة 48)

التابع لا يفرد في الحكم، فالجنين الذي في بطن الحيوان لا يباع منفرداً عن أمه فإن الجنين بعد أن كان في نظر العرف تابعاً وهو كذلك واقعاً وعقلاً وله وجود مستقل وبطن الحامل ظرف له فما المانع من انفراده بالبيع ووقوع القصد والعقد عليه بخصوصه وهذا واضح جلي حيث لا جهالة.

 


 

 
امتیاز دهی
 
 

 
Guest (PortalGuest)

دبيرخانه كنفرانس‌هاي بين‌المللي
Powered By : Sigma ITID