الجمعة, رمضان 19, 1445  
 
في المواد المتعلقة بحبس المبيع  

 

 تحرير المجلة

آية الله العظمى الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء  "قدس سره"

 

  



كلمة

أمام المقصود

ذكرنا إننا لما وجدنا مجلة (الأحكام العدلية) هي المرجع الأعلى والتي عليها المعوّل من زمن الأتراك إلى اليوم ليس في خصوص العراق بل في عامة الأقطار العربية وغيرها، ووجدناها لأول نظرة في أشد الحاجة إلى التنقيح والتحرير (كتبنا الجزء الأول) وأجزنا للمطبعة نشره وتقديمه إلى (كلية الحقوق) وأساتذتها الأعلام وسائر علماء الحقوق والفقه ونقباء الشرع والقانون وكافة رواد العلم والتحقيق من الطلاب والمعلمين، وكانت محتويات (الجزء المتقدم) لا تعدو أن تكون واحدة من ثلاث شرح، أو انتقاد، أو استدراك، يعني شرح بعض مشكلاتها، والإيماء إلى عثراتها، وضم بعض موادها إلى أخواتها.

وليس الغرض من كل ذلك سوى إن نسد فراغاً ونكمل نقصاناً ونستدرك فائتاً، إتماماً للفائدة، وإعظاماً للمنفعة فإن أجدت فيما أفدت فالمنة لله وحده، وإلاَّ فيكفي حسن النية، وسمو المقصود، وما توفيقي إلاَّ بالله عزَّ شأنه ومن عنايته استمد التوفيق لأتمام بقية الأجزاء على النهج المتقدم أو أقوم قيلا، وأنهج سبيلاً، وقصارانا إن التمحيص والنقد أحب إلينا فيما نكتب من الإطراء والحمد.


 

الباب الثالث

في بيان المسائل المتعلقة بالثمن

الفصل الأول

في بيان المسائل المترتبة على أوصاف الثمن وأحواله

 

(مادة 237)

تسمية الثمن حين البيع لازمه، فلو باع بدون تسمية ثمن كان البيع فاسداً

هذا الحكم ضروري بعد الذي عرفت من إن البيع مبادلة مال بمال يعني أنه نسبة وإضافة بين مالين وهل يعقل تحقق الإضافة بدون طرفين، وكذا لو كان فعلاً وانفعالاً فإنه فعل يتعلق بشيئين وجعل أحدهما مكان الآخر وعليه فحق التعبير أن يقال: لو باع بغير ثمن لم يقع بيع، لا أنه كان فاسداً وقد تكرر بيان إن الثمن والمثمن من مقومات البيع وأركانه. نعم، لو كان الثمن مجهولاً كان بيعاً ولكنه فاسد، فتدبره كما في:

(مادة 238)

يلزم أن يكون الثمن معلوماً

وقد عرفت اعتبار المعلومية فيه وفي المثمن في خمسة أمور: الوجود، والحصول، والجنس، والوصف، والقدر. فلو حصل الجهل بشيء منها كان البيع فاسداً.

(مادة 239)

إذا كان الثمن حاضراً فالعلم به يحصل بمشاهدته والإشارة إليه وإن كان غائباً يحصل ببيان مقداره ووصفه.

المشاهدة لا تكفي إلاَّ إذا كان الثمن أو المثمن غير مكيل ولا موزون ولا معدود وقد تقدم أنه لو باع صبرة حنطة لا يعلم مقدارها فالبيع عندنا باطل ومثله الكلام في الثمن فلو اشترى منه وزنة حنطة بقبضة دراهم لا يعلم عددها كان باطلاً. نعم، عند ارباب (المجلة) الذين يجوزون بيع الجزاف يكون صحيحاً ولكن لا معنى حينئذٍ لقولهم في المادة السابقة وأمثالها مما سبق أنه (يلزم أن يكون الثمن معلوماً) ودعوى أنه يصير بالمشاهدة معلوماً واضحة المنع، فليتدبر.

(مادة 240)

البلد الذي يتعدد فيها نوع الدينار المتداول إذا بيع فيه شيء بكذا دينار ولم يبين نوع الدينار يكون البيع فاسداً.

هذا صحيح والفساد جاء من جهة الجهالة ولكنه يناقضه حكمهم في المادة اللاحقة:

( مادة 241)

إذا جرى البيع بعدد معلوم من القروش كان للمشتري أن يؤدي الثمن من أي نوع شاء..إلى آخره، إذ لا فرق في ذلك بين القروش والدنانير إذا كانت أنواع كل منهما رائجة غير ممنوع تداولها سواء كانت متحدة القيمة أم لا.

(مادة 242)

إذا بيّن وصف الثمن وقت البيع لزم المشتري أن يؤدي الثمن من نوع النقود التي وصفها. مثلاً لو عقد البيع على ذهب مجيدي أو انكليزي..إلى آخره لزم أن يؤدي من النوع الذي وصفه. هذا أيضاً صحيح ومن الغريب ما في:

(مادة 243)

لا يتعين الثمن بالتعيين في العقد مثلاً لو أدى المشتري للبائع ذهباً مجيدياً في يده ثم أشترى بذلك الثمن شيئاً لا يجبر على إداء ذلك الذهب بعينه بل له أن يعطي ذهباً مجيدياً من ذلك النوع غير الذي أراه إياه.

إذا كان البيع من حيث الثمن شخصياً فلا اشكال في أنه يتعين وإذا لم يدفعه بعينه كان للبائع الفسخ. نعم، لو كان كلياً فله أن يدفع أي فرد شاء من ذلك النوع ولا يتعين الذي كان في يده، ومن هنا يعرف الحال في:

(مادة 244)

فإن البيع إن كان شخصياً تعين ما شخصه من الليرات مثلاً أو أبعاضها وإن كان كلياً كان له دفع الأبعاض إلاَّ أن تنقص صيمتها عن الكل، مثلاً: إذا اشترى بخمسة دنانير فله أن يدفع عشرين ربع دينار إلاَّ أن يكون قيمتها أقل من خمسة دنانير مجتمعة كما يتفق أن الفرط مبذول والمجتمع عزيز وهو يختلف بأختلاف الأزمان والبلدان وغيرها، فليلاحظ.


 

الفصل الثاني

في بيان المسائل المتعلقة بالبيع بالنسيئة والتأجيل

قد سبق إن اطلاق العقد يقتضي كون الثمن نقداً وهذا هو الأصل في العوضين كما في (مادة 251) وكان حقها أن تتقدم إلاَّ أن يقيد أو يكون عرف يقتضي التأجيل كما في تلك المادة ثم إن جعل المثمن مؤجلاً فهو السلم وإن جعل التأجيل في الثمن فهو النسيئة كما في:

(مادة 245)

البيع مع تأجيل الثمن وتقسيطه صحيح ويجري هذا في الكلي وفي الأعيان فيجوز أن يجعل الثمن عيناً من النقود أو غيرها ويشترط تأجيل دفعها إلى سنة أو أقل أو أكثر ويلزم في النسيئة تعيين المدة وضبطها بالأشهر أو السنين كما في قوله تعالى: [إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى] فإذا جعله لمدة معلومة كمجيء الحاج أو هبوط الأمطار أو نحو ذلك بطل البيع من أصله لبطلان ركنه وهو الثمن ومنه يعلم:

(مادة 247، 248)

ومن الجهالة المفسدة أن يشترط المشتري دفع الثمن للبائع إذا باع ما اشتراه من الغير.

(مادة 249)

إذا باع نسيئة بدون مدة تنصرف المدة إلى شهر واحد فقط

يصح هذا إن كان هناك عرف خاص في بلد المتبايعين بحيث ينصرف الإطلاق إليه وإلاَّ فهو ممنوع أشد المنع ولا فرق بين الشهر واليوم والسنة فيكون باطلاً.

(مادة 250)

يعتبر ابتداء مدة التأجيل والتقسيط المذكورين في عقد البيع من وقت تسليم المبيع فلو حبسه البائع سنة اعتبر أول السنة التي هي الأجل من يوم التسليم وللبائع حينئذٍ أن يطالبه بالثمن إلى مضي سنة من وقت التسليم أو سنتين من حين العقد.

هذا محل منع بل مقتضى القاعدة اعتبار الابتداء من حين العقد سيّما مع اشتراط تأجيل تسليم المبيع أو التماهل في قبضه من المشتري إلاَّ إن يكون عرف خاص هناك، فليتدبر.

الباب الرابع

في بيان المسائل المتعلقة في الثمن والمثمن بعد العقد

ويشتمل على فصلين:

الفصل الأول

في بيان حق تصرّف البائع والمشتري بالمبيع بعد العقد وقبل القبض

(مادة 252)

البائع له أن يتصرف بثمن المبيع قبل القبض مثلاً لو باع ماله من آخر بثمن معلوم له أن يحيل بثمنه دائنه.

الثمن أما أن يكون كلياً في الذمة أو يكون عيناً شخصية فإن كان كلياً جاز أن يتصرف البائع به قبل قبضه وتعينه بأن يبيعه أو يهبه من المشتري أو غيره غايته أن هبته للمشتري أسقاط وله أن يحيل دائنه عليه فيصير المشتري مشغول الذمة لدائن البائع ولا يعقل هنا التلف قبل القبض، أما لو كان عيناً شخصية فإن تلفت قبل القبض كان التلف على المشتري كما عرفت سابقاً وينحل العقد كما في تلف المبيع قبل القبض ومع وجودها فللبائع أن يتصرف بها كيف شاء قبل القبض وبعده لأنه قد ملكه بالعقد ولا تتوقف ملكيته على قبضه.

نعم، هي ملكية متزلزلة ولكنها لا تمنع من التصرف وبالتصرف تكون مستقرة ولازمة كلزومها بالقبض.

(مادة 253)

للمشتري أن يبيع المبيع لآخر قبل قبضه إن كان عقاراً وإلاَّ فلا

لا فرق عندنا في صحة تصرفات المشتري في المبيع قبل القبض بين أن يكون عقاراً أو غيره كما عرفت من تحقق الملكية بمجرد تمامية العقد وهي كافية لصحة التصرف وأقصى ما يتصور في الفرق بين العقار وغيره إن العقار لا يعرضه التلف قبل القبض غالباً فتكون الملكية مستقرة بخلاف غيره ولكنك خبير إن هذا على فرض تسليمه لا يمنع من التصرف لأن مصحح التصرف هو مطلق الملكية لا الملكية المطلقة وهو واضح.

نعم، قد تقدم في بعض الموارد إن الطعام بل مطلق المكيل والموزون ورد النهي عن بيعه قبل قبضه وعمل أكثر أصحابنا بذلك واختلفوا بين قائل بالتحريم فقط وبين قائل بالفساد أيضاً، وهذا أمر تعبدي والقواعد لا تقتضيه، فليتدبر.

الفصل الثاني

(مادة 254)

للبائع أن يزيد مقدار المبيع بعد العقد فالمشتري إذا قبل في مجلس البيع الزيادة كان له حق المطالبة بتلك الزيادة ولا تفيد ندامة البائع فلو اشترى عشرين بطيخة بعشرين قرشاً ثم بعد العقد قال البائع أعطيك خمساً أخرى وقبل المشتري هذه الزيادة في المجلس أخذ خمساً وعشرين بطيخة بعشرين قرشاً، أما لو قبل بعد المجلس فلا يجبر البائع على إعطاء الزيادة.

هذا حكم كيفي وقول خرافي لا ينطبق على شيء من الأصول والقواعد فإن العقد إذا تمَّ ووقع على صورة فقد انتهى كل شيء ليست الزيادة الخارجة عن العقد إلاَّ وعدَّ مستقل له أن يفي به وله أن لا يفي.

نعم، حيث إنهما ماداما في مجلس العقد لهما خيار المجلس فيمكنهما حل العقد الأول وإيقاعه جديداً بصيغة أخرى على الخمسة وعشرين فيجب الوفاء به ولكنه خلاف الفرض فليتدبر ومثله الكلام بعينه في:

(مادة 255)

من إنه للمشتري زيادة الثمن وأنه ملزوم بها وإن وقع العقد على أقل منها، والجميع جزاف فأفهم ذلك.

(مادة 256)

حط البائع مقداراً من الثمن المسمى بعد العقد صحيح ومعتبر في موضع جازت فيه الزيادة..إلى آخره.

جميع هذه المواد من هذه المادة إلى آخر هذا الفصل (مادة 261) لا مجال لها عندنا معشر الإمامية أصلاً والعقد يلزم على ما وقع عليه من مقدار الثمن والمثمن لا يزيد بعد العقد ولا ينقص سواء حصل التقابض بينهما أم لا، وليس الحط من الثمن بعد العقد أو الزيادة فيه أو في المثمن إلاَّ هبة للزائد أو إسقاط من الثمن المسمى أي إبراء وهكذا، أما العقد الواقع الجامع للشرائط فلا يتغير ولا يتبدل عمّا وقع عليه ولا يحول ولا يزول. نعم، يمكن إزالته بالفسخ من جهة خيار المجلس أو غيره من أنواع الخيارات ويعقدون عقداً آخر على الزائد أو الناقص، وليس البيع بعد وقوعه يبقى كيفياً يتلاعب المتبايعان به كيفما أرادا بل هو أمر إلزامي وتعهد دائمي، وعليه فقد سقط البحث في جميع تلك المواد المبنية على هذا الأساس المتلاشي فتدبره جيداً.

ويترتب على ما ذكرناه من إن دفع الزيادة في الثمن أو المثمن يكون هبة ابتدائية إن له الرجوع فيها في المجلس وبعده قبل القبض وبعده إلاَّ أن يكون هناك أحد الملزمات للهبة المعروفة، أما حط بعض الثمن أو كله فقد عرفت أنه اسقاط وابراء وإنما يتحقق هذا حيث يكون الثمن كلياً في الذمة أما لو كان عيناً خارجية فلا معنى للحط أصلاً، ولعل إلى بعض هذا تشير (مادة 260) فتأملها جيداً.

الباب الخامس

في بيان المسائل المتعلقة بالتسليم والتسلّم

وفيه ستة فصول:

الفصل الأول

في حقيقة التسليم والتسلم وكيفيتهما

(مادة 262)

القبض ليس بشرط في البيع

قد مرَّ عليك إن العقد هو الإيجاب والقبول وإذا حصلا بالشرائط المعتبرة فقد صار المبيع للمشتري والثمن للبائع فيجب على كل منهما أن يدفع إلى الآخر المال الذي انتقل إليه، فالقبض والإقباض أي التسليم والتسلم من آثار العقد وثمراته لا من أركانه ومقوماته إلاَّ في موارد مخصوصة للدليل الخاص كبيع الصرف بالنسبة إلى النقدين وبيع السلم بالنسبة إلى الثمن والهبة فإن القبض في هذه الموارد ركن لا تحصل الملكية إلاَّ به بخلاف سائر أنواع البيوع فإنها تحصل بالعقد ويكون المبيع في يد البائع كأمانة يجب دفعها إلى صاحبها وهكذا الثمن عند المشتري، وقد سبقت الإشارة إلى أنه ليس احدهما أولى بالمبادرة بالدفع من الآخر فإن تبرّع أحدهما أو سبق وجب على الآخر الدفع وإن تشاحا أجبرهما الحاكم على التقابض وتوهم بعض أنه يجب على المشتري متى تمَّ العقد أن يسلّم الثمن إلى البائع أولاً ثم يسلم البائع المبيع إليه كما نصّت عليه (المجلة) هنا، وبعضهم عكس فأوجب على البائع تسليم المبيع حتى يستحق قبض الثمن، والحق ما عرفت من عدم ترجيح أحدهما على الآخر بعد حصول الملكية لكل منهما دفعة واحدة ولكل من الوجهين اعتبارات ظاهرة ولكنها غير معتبرة كما لا يخفى على المتدبر.

(مادة 263)

تسليم المبيع يحصل بالتخلية وهو إن يأذن البائع للمشتري بقبض المبيع مع عدم وجود مانع من تسلم المشتري إياه.

هذه المسئلة (اعني مسئلة القبض) من مهمات مسائل البيوع أو أمهاتها وقد شاع في كلمات فقهاء الفريقين إن القبض هو التخلية وهو من الغرابة بمكان فإن التخلية سواء من البائع للمبيع أو من المشتري للثمن غير القبض فكيف يفسّر عمل شخص بفعل الآخر فتخلية البائع مبيعه غير قبضه للثمن وقبض المشتري غير التخلية بين البائع وبين الثمن ثم إن التخلية أشبه بأمر عدمي فإنها عبارة عن عدم المنع أو عدم المانع فكيف يكون تفسيراً للقبض الذي هو أمر وجودي وهو التسلم والتسليم.

والحاصل إن كلام الفقهاء في التخلية مشوش لا يكاد يتضح وجهه وقد جرت (المجلة) على هذا المجرى من غير امعان وتمحيص، وتحقيق المقام إن كلاً من البائع والمشتري يلزمه قبض وأقباض (أي يلزم البائع تسليم المبيع وتسلم الثمن، ويلزم المشتري تسليم الثمن وتسلم المبيع) حيث لا يكون كل منهما مقبوضاً أو بحكم المقبوض كما في الدين ونحوه، ولكن القبض والأقباض وإن شئت فقل التسليم والتسلم من كل منهما يختلف بأختلاف ما يقع عليه البيع فقد يتحقق الأقباض بالتخلية والإذن فقط وقد لا يتحقق إلاَّ بوضعه في يده أو في صندوقه كما إن القبض قد يحصل بصرف علمه بالتخلية وقد لا يحصل إلاَّ بأخذه بيده وبين هذين الحدين أنواع وأشكال يتحقق بها القبض والإقباض وتندرج أنواع القبض تحت عنوان واحد وهو الاستيلاء على الشيء والسلطنة عليه كما يجمع جميع أنواع الأقباض التسليط والتمكين فقد يتحقق التسليط بصرف التخلية وقد يحتاج معها إلى شيء آخر، ولما أختلفت الأنواع المحققة للقبض والمحققة للأقباض أختلفت تعبيرات الفقهاء وكل واحد نظر إلى جهة وناحية فعبّر بها حتى بلغت الأقوال في بيان القبض حسبما ذكره بعض أعلامنا المتأخرين على ما أتخطره إلى ثمانية وعند التحقيق فهي من باب اشتباه المصداق بالمفهوم ولكل من القبض والأقباض مفهوم واحد إنما الأختلاف والتعدد في محققاته ومصاديقه المختلفة فإقباض أراضي الزراعة هو تخليتها واعلام المشتري بتفريغها وهذا محقق لأقباضها وتسليط البائع  كما إن علم المشتري وسكوته محقق لتسلمها وقبضها سواء تصرف فيها ببعض أنواع التصرف أم لا، ولكن هذا المقدار لا يكفي في مثل الدار أو الدكان والخان بل والبستان حتى يدفع إليه المفتاح مثلاً، كما إن علم المشتري بتفريغها لا يكفي في تسلمه وقبضه حتى يأخذ المفتاح أو يتصرف بنحو من التصرفات وهكذا إلى أن يصل الأمر في مثل الأمتعة والدراهم والدنانير التي لا يكفي في أقباضها رفع اليد عنها بل لابد من وضعها بين يدي المشتري، وتسلمه لها أن يقبضها بيده أو يضعها في جيبه ونحو ذلك كما إن الدابة أقباضها دفع زمامها وتسلمها أخذ الزمام أو الركوب أو سوقها أمامه أو أخذ أذنها وأمثال ذلك، وهكذا الكلام في المكيل والموزن ولكن ثبت بالأدلة الخاصة إن كيل الطعام قبض يعني إن المشتري إذا قال للبائع كل لي وزنة حنطة فكالها كان ذلك بمنزلة قبض المشتري فلو تلف بعد الكيل كان تلفها عليه لا على البائع ولولا الأدلة الخاصة لم نقل بأنه قبض بل قبض الطعام والمتاع عرفاً هو نقله وحمله من مكان البائع إلى مكان آخر يختاره المشتري وعلى كلٍ فالقبض الذي يترتب عليه ذلك الأثر المهم وهو براءة البائع من الضمان هو عبارة عن التسلم والاستيلاء الذي هو فعل المشتري لا التخلية التي هي من فعل البائع.

والمراد من القبض هنا هو القبض العرفي لا اللغوي الذي هو الأمساك باليد وليس للشارع فيه اصطلاح خاص قطعاً فما هو إلاَّ القبض العرفي الذي قد عرفت جوهر معناه وجامع أفراده.

نعم، يبقى الإشكال في موارد الشك في تحقق القبض ولا ريب إن الحكم هو عدم ترتب آثار القبض بمقتضى الاستصحاب، مثلاً إذا أشترى مائعاً من دهن ونحوه وأخذ البائع يصبه في وعاء المشتري فأتفق إن عرض للإناء ثقب في أسفله وصار الدهن يسيل في الأرض من غير علم ولا تفريط ففي مثل هذا يقع الشك في تحقق القبض وعدمه نظراً إلى إن صبه في أناء المشتري تسليم فلا ضمان عليه أو إن استيلاء المشتري لم يحصل بعد فهو تلف قبل القبض فيكون على البائع، ومثله لو قال بائع الدابة للمشتري: خذها، وأرسل الزمام من يده وقبل أن يأخذها المشتري أو يركبها شردت أو ماتت، وأقصى مبالغ الدقة في هذه الفروع والفروض أن يقال: إن براءة البائع من الضمان هل هي منوطة بتسليمه فقط أو بتسليمه وتسلم المشتري أيضاً أو إن تسلّم المشتري يحصل بمجرد تسليط البائع وتمكينه أو يحتاج إلى عناية منه بتصرف أو استيلاء أو نحوه، وحل هذه العقدة وإن كان لا يخلو من صعوبة وتحتاج إلى مزيد من تتبع واستقراء للنصوص وكلمات الأصحاب، ولكن من البعيد جداً إناطة ضمان شخص وعدمه بعمل شخص آخر وعدمه فتدبر ذلك.

أما قبض البعض فلا ريب في أنه يترتب عليه حكمه فإذا تلف الباقي في يد البائع كان عليه ضمانه ويثبت بعده خيار تبعيض الصفقة وجمع مواد هذا الفصل تعود واضحة بعد البيان المتقدم. نعم، المادة الأخيرة:

(مادة 277)

قبض المشتري المبيع بدون إذن البائع قبل أداء الثمن لا يكون معتبراً إلاَّ إن المشتري لو قبض بدون الإذن وهلك في يده أو تعيب يكون القبض معتبراً.

فيها اجمال وتعقيد مخل بالغرض المقصود، وتحريرها ــ أنه لما كان من المعلوم إن الغرض من تسليم البائع المبيع هو حصوله في يد المشتري، ولذا لو كان في يده قبل البيع بعارية أو وديعة سقط وجوب التسليم فكذا لو قبضه المشتري بدون اذن البائع وتسليمه فقد حصل الغرض المهم من التسليم وهو الحصول في يد المشتري وسقط الضمان عن البائع وصار تلفه على المشتري فقد صار هذا القبض معتبراً من هذه الناحية (أي ناحية سقوط الضمان)، ثم إنَّ هذا القبض العاري عن الإذن إن كان بعد دفع الثمن إلى البائع فهو قبض معتبر من جميع الجهات وجميع تصرفات المشتري فيه تكون صحيحة نافذة، أما لو كان قبل دفع الثمن فالقبض المزبور وإن كان معتبراً من حيث إسقاط الضمان ولكنه غير معتبر من حيث نفوذ تصرفات المشتري فيه فلو باع أو رهن أو وهب وقف على اجازة البائع لأن له حق حبسه إلى أن يقبض الثمن فيكون تصرفات المشتري موقوفة لأنها وقعت على متعلق حق الغير فهي أشبه بالفضولي وبيع الراهن للعين المرهونة وإن لم تكن منه.

هكذا ينبغي أن تحرر المسائل ولله المنة وحده.

الفصل الثاني

في المواد المتعلقة بحبس المبيع

خلاصة هذا الفصل قد تقدمت في الأبواب السابقة حيث أوضحنا إن المشتري له أن يحبس الثمن حتى يقبض المبيع وللبائع أن يحبس المبيع حتى يقبض الثمن فإن تبرع أحدهما فبادر إلى التسليم وجب على الآخر الدفع وسقط حق الحبس وإن تشاحا أجبرهما الحاكم على التقابض، وحق الحبس طبعاً إنما هو في غير بيع النسيئة بالنسبة إلى الثمن وفي غير بيع السلف بالنسبة إلى المثمن وفي غير الموارد التي يكون الثمن مقبوضاً للبائع أو المبيع مقبوضاً للمشتري وإذا بادر أحدهما بالتسليم فإن دفع الثاني فذاك وإلاَّ فله استرجاع ما دفع لأنَّ حق حبسه لم يسقط بالكلية بل سقوطه مراعي بدفع الآخر فإذا لم يدفع كان له الاسترداد إلاَّ إذا صرّح بأسقاطه مطلقاً وبهذا تظهر الخدشة في:

(مادة 281)

إذا سلم البائع المبيع قبل قبض الثمن فقد أسقط حق حبسه وليس للبائع أن يسترد المبيع من المشتري، وباقي المواد واضحة.


 

الفصل الثالث

في حق مكان التسليم

تحرير هذا الفصل إن المتبايعين إن علم كل منهما إن المبيع الشخصي في محل غير بلد العقد وأطلقا البيع فالإطلاق يقتضي تسليمه في محل البيع إلاَّ أن تكون هناك قرينة أو عرف خاص يقتضي خلاف ذلك، وإنَّ جهل كل منهما ذلك أو جهل المشتري فإطلاق العقد يقتضي تسليمه في بلد العقد كما لو كان كلياً وإلاَّ كان للمشتري الخيار فيهما، هذا كله مع الإطلاق وإلاَّ فالشرط هو المتبع وما ذكرناه هو حاصل المواد الثلاث (مادة 285، 286، 287) من الغريب هنا الذي لا يعرف وجهه ما نقله بعض الشراح عن بعضهم من إنه إذا باع البائع الحنطة وهي في أرضه واشترط تسليمها في مكان معين صحَّ البيع ولزمه تسليمها حيث شرط إلاَّ إذا اشترط حملها ونقلها إلى دار المشتري فإن ذلك يفسد البيع انتهى.

أما الثمن فإن كان كلياً وأطلق فحقه التسليم في بلد العقد، وإن كان شخصياً فمثل ما تقدم في المبيع الشخصي ويكون الخيار للبائع مع جهله، فتدبر.

الفصل الرابع

في مؤنة التسليم ولوازم اتمامه

ليس في هذه الناحية من البيوع قاعدة مطردة يمكن الاعتماد عليها بقول مطلق وإيكال ذلك إلى عرف البلد في غير موارد الشرط أتقن واحسن كما في:

(مادة 291)

وحيث يكون هنالك عرف خاص أو عام أو شرط فلا إشكال إنما الإشكال حيث لا يكون هناك شيء من تلك الأمور التي يصلح الاعتماد عليها وتشاحا فيمكن أن يجعل المناط إنَّ كلما يتعلق بالمبيع فهو على البائع وكلما يتعلق بالثمن فهو على المشتري وأحسن من ذلك أن يجعل المدار على المصلحة والمنفعة فإن كانت للبائع فمصارفه عليه وإن كانت للمشتري فعليه ويعرف صاحب المصلحة بطلبها وإن كانت لهما فعليهما ولعل منه ما شاع في هذه العصور من إن أجرة كتابة الأوراق والسجلات والطوابع بل وتسجيل البيع في (الطابو) كله على المشتري لأنه لمصلحته واتقان ملكيته وهذه الضابطة وإن لم تكن مطردة كلية فلا إشكال في إنها توافق الغالب ولا يشذ منها إلاَّ النادر.

الفصل الخامس

في بيان المواد المترتبة على هلاك المبيع

تكرر ذكر هذا الحكم المستفاد من النبوي (كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه) وقد مرّت الإشارة إليه قريباً في (مادة 277) وقد ذكرنا في الجزء الأول معنى هذه القضية وتطبيقها على القواعد، وإن التلف يكشف عن انفساخ العقد قهراً حتى يرجع المبيع قبل التلف إلى ملك البائع ويكون تلفه منه ومثله تلف الثمن والقاعدة الكلية هنا هكذا (كل ما تلف في يد مالكه قبل العقد فهو عليه كما إن تلفه بيد من ملكه بالعقد يكون عليه.

(مادة 295)

إذا قبض المشتري المبيع برضاء البائع ثم مات مفلساً قبل أداء الثمن ليس للبائع استرداد المبيع بل يكون مثل الغرماء.

اتفقت الإمامية إن المفلس الذي لا تفي أمواله بديونه وحكم الحاكم بمنعه من التصرف في أمواله ليقسمها على الغرماء بالنسبة فتوزع أمواله بالحصص إلاَّ الغريم الذي يجد عين ماله فإنه يأخذها عيناً، ولا يضرب مع الغرماء وهذا وإن كان مخالفاً للقواعد ولكن النصوص والفتاوي متطابقة عليه ويكون لازم ذلك انفساخ العقد كقضية التلف قبل القبض، أما إذا مات الرجل وكانت تركته لا تفي بديونه ووجد بعض الغرماء عين ماله فإنه لا حق له بأخذها بل يضرب مع الغرماء.

نعم، لو كانت أمواله تفي بديونه فله أخذ عين ماله إذا أراد، ومنشأ الفرق هو النصوص الخاصة عندنا وعبارة (المجلة) مطلقة والحق هو التفصيل كما ذكرناه.

الفصل السادس

فيما يتعلق بسوم الشراء وسوم النظر

هذه القضية ليست من مسائل البيوع ولكنها من هوامش البيع ورتوشه وهي مسئلة مهمة وتعرف عندنا بمسألة (المقبوض بالسوم) وحاصل ما افادته (المجلة) إن المقبوض بالسوم (لأي ما قبضه انسان من المالك لينظر فيه) فإما أن يشتريه بالثمن الذي اتفقا عليه أو يرده فلو اتفق أنه تلف في يد القابض فإنه مضمون عليه لا بالثمن الذي اتفقا عليه لعدم وقوع العقد حسب الفرض بل بالمثل إن كان مثلياً وبالقيمة إن كان قيمياً، ولا فرق عندنا في الضمان بين أن يعينا قيمته أم لا فما ذكرته (المجلة) بقولها: (أما إذا أخذه بدون أن يبين ويسمى له ثمناً كان ذلك المال أمانة في يد المشتري فلا يضمن إذا هلك أو ضاع بلا تعد مثلاً لو قال البائع للمشتري ثمن هذه الدابة ألف قرش أذهب بها فأن اعجبتك اشترها فأخذها ليشتريها فهلكت لزمه قيمتها للبائع، أما إذا لم يبين الثمن بل قال خذها فإن اعجبتك اشترها فأخذها على أنه إذا اعجبته يقاوله ويشتريها فبهذه الصورة إذا هلكت بلا تعد لا يضمن) لا وجه له على التحقيق لوحدة ملاك الضمان وهو قاعدة اليد ومن الوهم الزائف تخيل إنها في الصورة الثانية أمانة فإن البائع لم يقصد دفعها له بصفة الأمانة والوديعة، وقد سبق أول قواعد (المجلة) إن الأمور بمقاصدها والقصارى إن كل انسان قبض مال غيره ليشتريه سواء اتفقا على قيمته أم لا فهو مقبوض بالسوم ومضمون على القابض بقاعدة اليد، فتدبره جيداً.

نعم، لو برء القابض الذي يريد النظر للشراء من عهدة الضمان ورضى المالك فلا ضمان لو تلف بغير تعد لأن المالك قد أسقط حقه ولكنه مبني على صحة اسقاط ما لم يجب كصحة ضمانه وهو محل بحث ونظر وإن كان الأصح عندنا صحته، ومما ذكرنا يظهر البحث في:

(مادة 299)

ما يقبض على سوم النظر وهو أن يقبض مالاً لينظر إليه أو يريه لآخر سواء بين ثمنه أم لا فيكون أمانة في يد القابض فلا يضمن إذا هلك بلا تعدٍ.

فإن المقبوض على سوم النظر إن قبضه لينظر فيه ليشتريه فهو من المقبوض بالسوم يضمنه مطلقاً إذا تلف لأنه قبض معاوضة أي مبني على التعاوض وإن قبض لا للشراء فلا ضمانه لأنه أمانة وكذا قبض الدلال والسمسار لأنه وكيل أو شبهه فلا ضمان مع عدم التعدي.

الباب السادس

في الخيارات

أعلم إن أبواب الخيار من أهم مباحث البيوع وهي المضمار الذي يتسابق فيه فرسان الفقاهة ومهرة التحقيق، وكثير من أعلام الأمامية أفرد لها كتباً مستقلة في التأليف، ذاك لأن فيها المجال الواسع للدقة، وعمق النظر، وبراعة الصناعة والتحقيق، حيث إنها تبتنى على مزيج من الأدلة من عقل ونقل، وعرف وتقاليد، يعني شرع واعتبار وعادة، وعلماء الشرع رضوان الله عليهم منّا ومن الجمهور في تعداد أنواع الخيارات بين مقل ومكثّر، بين من ذكر ثلاثة وبين من زادها على عشرين، والمتوسطون بين من ذكر أربعة عشر كما في (شرائع) المحقق وبين من اقتصر على سبعة كالشهيد الأول في (اللمعة الدمشقية) و(المجلة) أقتصرت أيضاً على سبعة، وحيث إن الأصل والقاعدة في البيع بل في عامة العقود عدا ما خرج بالنص القاطع هو اللزوم وعدم جواز فسخ العقد بعد وقوعه صحيحاً مستجمعاً بشرائطه، ولكن إحاطة علم الشارع الحكيم ورعاية الشريعة لدقائق الحكمة اقتضت تشريع الخيار في العقود اللازمة قلعاً لمواد الفتنة بين البشر وقطعاً لإمراس الشجار والخصومات فيما بينهم فإن الانسان قد تدعوه خاطرة إلى بيع ماله فيجري العقد عليه بأختياره ثم يندم فيتطلب العلل والتخريجات من مضايقة العقد فقد يحدث النزاع والشجار بين المتعاقدين فشرع الخيار لقطع مادة هذا الشجار، وإفساحاً لمجال التروي والتفكير فيما هو الصالح. ولكن تداركا لذلك ولكي لا تذهب مكانة العقد، وتسقط قيمته بالتلاعب، حسب الخواطر والأهواء جعل الخيار مقيداً بقيود، ومحدوداً بحدود، لئلا يقع الاشتمار والفوضى وتنعكس الآية، وتنقلب الحكمة.

ومما لا خفاء فيه إن تعدد أنواع الخيار، وأختلاف أسمائه، وتغاير نسبه وإضافاته، إنما هو لأختلاف أسبابه، والبواعث التي قضت بجعله بعد أن كان هو خلاف الأصل والعمومات كما عرفت.

والأسباب كثيرة ولكن يجمعها على التحقيق ثلاثة أنواع فإن موجب الخيار أما لأمر يعود إلى أحد العوضين كنقص ونحوه، وذلك كخيار العيب والغبن والرؤية والتأخير ونحوها وأما لأمر يعود إلى العقد من حيث حدوثه، وأصل وجوده، وهو أما أن يكون بجعل الشارع كخيار المجلس وخيار الحيوان، وأما أن يكون بجعل المتعاقدين أو أحدهما كخيار الشرط أو شرط الخيار. وبعبارة أوجز إن الخيار أما أن يكون شرعياً أو طبيعياً أو وضعياً:

فالأول: كخيار المجلس والحيوان.

والثاني: كخيار العيب والغبن ونحوهما فإن طبيعة العقد تقتضيه.

الثالث: ما يكون بوضع المتعاقدين وجعلهما كخيار الشرط أو شرط الخيار.

ثم الخيارات بجميع أنواعها أما أن يكون الخيار فيها لكل واحد منهما أو لواحد منهما أو لغيرهما منفرداً عنهما أو معهما أو مع أحدهما كما يجوز أن يكون الغير جماعة أو فرداً مجموعين أو متفرقين على نحو الاختيار أو الخيار أو الاستئمار، ولكل واحد من هذه الانحاء أحكام شخصية وآثار ربما يأتي التنبيه عليها في مواردها إن شاء الله.

الخيار

الخيار أسم مصدر من الاختيار، وأصل المادة الخير وإن اندك لحاظه في أكثر مشتقاتها وهو ــ لغة وعرفاً ــ معنى يرجع إلى حرية الإرادة وعدم الملزم بأحد طرفي الفعل والترك وإن من له الخيار له الأخذ بخير الأمرين من الفسخ والإمضاء، وشرعاً سلطنة على فسخ العقد، وأثره رجوع كل مال إلى صاحبه في باب المعاوضات وما يتاخمه في غيرها أو حق أسترداد العين وأثره انحلال العقد ورجوع كل مال إلى صاحبه وتظهر الثمرة بين الاعتبارين في مواضع:

منها صورة تلف العين فعلى الأول يبقى الخيار لأنه حق في العقد وأثره حينئذٍ يظهر بدفع المثل أو القيمة، وعلى الثاني يزول لزوال موضوعه، ولذا قد يعد التلف من مسقطات الخيار عند بعض كما يسقط حق الرجوع بالهبة عند الجميع.

والخيار حق مالي يصح نقله وانتقاله كما يصح اسقاطه والمصالحة عليه كعامة الحقوق المالية. وهذا هو حكمه العام الذي يلحقه من حيث كونه خياراً، كما إنَّ لكل واحد من أنواعه أحكاماً تخصه من حيث خصوصيته مثل كونه خيار مجلس أو خيار حيوان أو غير ذلك.

وحيث إن خيار المجلس مقدم طبعاً على سائر الخيارات المجعولة شرعاً فالأنسب تقديمه وضعاً فنقول قد عرفت إن مستند:

(الخيار الأول)

خيار المجلس

هو الحديث المستفيض عند عامة المسلمين. (البيعان بالخيار ما لم يفترقا) وهو وغيره من أحاديثنا الخاصة مستند القول بخيار المجلس عند فقهائنا إجماعاً أما فقهاء المذاهب فقد انشطروا في هذه القضية شطرين فأنكرته الحنفية والمالكية وتأول الأولون الحديث تأويلا ــ الطرح خير منه كأجتهاد في مقابل النص حيث قالوا على ما نقل عنهم: خيار المجلس لا يثبت إلاَّ بالشرط، فإذا تمَّ العقد بينهما من غير شرط الخيار أصبح لازماً سواء أقاما بالمجلس أو تفرقا وإنما الذي للعاقد في المجلس بدون شرط هو خيار القول فإذا قال البائع بعتك فله أن يرجع قبل أن يجيبه المشتري، انتهى.

ويحملون الحديث تارة على ان له خيار المجلس بالشرط وأخرى على أن له الرجوع قبل الإيجاب. وهذا من الغرابة بمكان فإن الحديث يقول البيعان بالخيار لا البائع فقط ثم ما معنى إقحام التفرق وتعليق الخيار عليه و(بالجملة) فصراحة الحديث ووضوح معناه كافٍ في ردهم.

أما المالكية فقد اعترفوا بأن الحديث صحيح بل وصريح ولكنهم قالوا إن عمل أهل المدينة على خلافه وعملهم مقدم على الحديث وإن كان صحيحاً.

وهذا شيء لا نعرفه ولا ندري كيف عمل أهل المدينة يطرح الحديث أو ينسخه وعهدة ذلك عليهم، وقد زادوا على الحنفية حيث افسدوا العقد مع شرط الخيار في المجلس والحنفية أجازوه، أما الشافعية والحنابلة فقد عملوا بالحديث واثبتوا لكل من المتبايعين بعد تمامية العقد خياراً في المجلس إلى أن يفترقا بالأبدان فإذا افترقا وجب البيع كما في ذيل الحديث على ما في بعض الروايات وأفرط الشوافع في ثبوت هذا الخيار فقالوا لو اشترط عدمه بطل الشرط العقد لأنه من مقتضيات العقد وكل شرط ينافي مقتضى العقد باطل ومبطل واعتدلت الحنابلة كالإمامية وقالوا إنه يسقط بأشتراط سقوطه فلو قال: بعتك بشرط أن لا خيار لأحدنا في المجلس فقال قبلت صحَّ العقد والشرط، ودعوى كونه منافياً لمقتضى العقد ممنوعة وإنما هو منافٍ لأطلاقه كما سبق تحقيق ذلك في الجزء الأول وهذا اعني شرط عدمه أحد مسقطات خيار المجلس عندنا وعند الحنابلة، كما إن التفرق هو المسقط الثاني والتصرف هو المسقط الثالث عندنا وعند الشافعية والحنابلة والتلف عند بعض هو الرابع، ثم إن الشافعية قصروا هذا الخيار على عقود المعاوضات بشرط أن يكون العقد مما يفسد بفساد أحد العوضين كالبيع والإجارة لا كالنكاح الذي لا يفسد بفساد المهر وأن يكون على عين لازمة فيخرج الإجارة وأن لا يكون التملك قهرياً فيخرج الشفعة فينحصر مورده بالبيع المطلق والسلم والهبة المعوضة والصلح في بعض أنواعه.

أما عندنا فحيث إن خيار المجلس من المجعولات الشرعية لا تقتضيه طبيعة العقد ولا اشتراطه المتعاقدان فيتبع في سعته وضيقه الدليل وهو يقول (البيعان) فيختص بالبيع ولم يقل المتعاوضات ونحوها حتى يعم.

وكما يسقط هذا الخيار بشرط عدمه في متن العقد كذلك يسقط بأسقاطه بعد العقد قبل تفرقهما، ولكن المسقط الأعظم لهذا الخيار هو التفرق من المجلس أي مجلس العقد سواء كانا مجتمعين فيه أو متفرقين في بناء أو صحراء متقاربين أو متباعدين فلو تبايعا وأحدهما في مصر والآخر في بغداد بالهاتف ونحوه كان لهما الخيار حتى يقوم أحدهما أو كل منهما من مكانه وكذا لو كان كل واحد منهما على مركوب من دابة أو سفينة أو سيارة وجرى العقد بينهما، فالخيار ثابت لهما حتى يصدق عرفاً افتراقهما، ولكن العبرة بالتفرق الاختياري لا القهري فلو فرق بينهما ظالم قهراً فإن منعهما أيضاً من التخاير لم يسقط خيارهما إلى أن يزول القهر عنهما، فأما أن يفسخا العقد حينئذٍ أو يمضياه وإن لم يمنعهما وتفرقا بدون فسخ لزم العقد وسقط الخيار ولو أخذ أحدهما قهراً مع منعه وبقي الآخر في مجلس العقد فهل يبقى خيار كل منهما أو يزول خيارهما معاً أو يبقى خيار المقهور دون الآخر وجوه أو أقوال أقربها الأول ولو كان الموجب والقابل واحداً فالمدار لو قلنا بثبوت الخيار وعدم انصراف الدليل عن مثله على قيامه من مجلس العقد، أما لو عقد وهو باقٍ في مكانه فله أن يفسخ أن كان ذا سلطة على العقد والفسخ.

هذه نبذة يسيرة من خيار المجلس وأحكامه واختلاف الفقهاء فيه ولعلماء الإمامية فيه أبحاث طويلة وتحقيقات جليلة، لا مجال لسردها في هذا المختصر.

(الخيار الثاني)

خيار الحيوان

ويظهر إن هذا الخيار من مختصات الأمامية لم أجد له ذكراً عند فقهاء المذاهب، وهو أيضاً من المجعولات الشرعية واحاديث أئمة أهل البيت (ع) به مستفيضة مثل رواية علي بن أسباط عن الرضا (ع): (الخيار في الحيوان ثلاثة أيام للمشتري)، وصحيحة أبن يسار قلت له: (ما الشرط في الحيوان؟، قال: ثلاثة أيام للمشتري، قلت: وما الشرط في غير الحيوان؟، قال البيعان بالخيار ما لم يفترقا فإذا افترقا فلا خيار بعد الرضا)، ومن هنا ذهب الأكثر إلى اختصاص هذا الخيار بالمشتري وتكاد تكون نصاً فيه صحيحة أبن رياب عن رجل اشترى جارية لمن الخيار للمشتري أو للبائع أولهما كليهما؟، قال: (الخيار لمن أشترى نظرة ثلاثة أيام فإذا مضت ثلاثة أيام فقد وجب الشراء)، ولكن ذهب جماعة من الأعلام إلى ثبوته للبائع وللمشتري لصحيحة بن مسلم (المتبايعان بالخيار ثلاثة أيام في الحيوان وفيما سوى ذلك من بيع حتى يفترقا).

ولعل المراد أن المنتقل إليه الحيوان بايعاً كان أو مشترياً ثمناً أو مثمناً يكون له خيار وبهذا يحصل الجمع بين الأخبار، كما في صحيحة أخرى لأبن مسلم (المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا)، و(صاحب الحيوان بالخيار ثلاثة أيام) فإن التعبير بصاحب الحيوان مشعر بعدم الاختصاص بمشتري الحيوان بل يعم بائع ماله بالحيوان وتكون تلك الأخبار خصّت المشتري بالذكر لأنَّ الغالب إن الحيوان مما يشتري لا مما يشترى به.

وعلى كلٍ فأصالة اللزوم في العقود تقضي بعدم ثبوت هذا الخيار لبائع الحيوان بغير والأخبار غير واضحة فيه إن لم تكن واضحة بخلافه وحكمة هذا الجعل والتشريع لا تقتضيه فإن الحكمة في هذا الحكم إن خيار المجلس لما كان عادة لا يكفي للأطلاع على خفايا مزايا الحيوان وخصوصيات صفاته فإن مشتري الفرس مثلاً لا يمكنه الاطلاع عادة على كونها حرونة أو ذلولا وصعبة القياد أو سهلة إلى كثير من أمثال هذا إلاَّ بأختبارها في ركوبها والغارة عليها ولا يعرف مقدار أكلها وصبرها عن الماء إلاَّ بيومين أو ثلاث على الأقل فلذلك جعل الشارع في الحيوانات أعم من الإنسان كالعبد والجارية أو غيره من أنواع الحيوان خياراً زائداً على خيار المجلس افساحاً في المجال لكشف الحال وتفصياً عمّا يوجب الندم وتداركاً لما يخشى من التورط وهذا كله إنما يأتي في من انتقل إليه الحيوان لا من انتقل عنه ولا يذهب بل الوهم إلى إنَّ خيار العيب يغني عن هذا الخيار فإن القضية هنا ليست قضية عيوب أو نقص في الخلقة بل قضية أوصاف تختلف بها الرغبات حسب اختلاف المشارب والأذواق فربِّ شخص يرغب في الجارية السريعة الانتباه مثلاً وربِّ آخر يكره ذلك وهكذا والنظائر كثيرة.

وقد أختلفوا في إنَّ مبدأ هذا الخيار من حين العقد أو من حين التفرق وعلى الأول فلو مضت ثلاثة أيام ولم يفترقا زال خيار الحيوان وبقي خيار المجلس وعلى الثاني لو افترقا بعد ثلاثة أيام كان له ثلاثة أخرى، وعلى الأول يكون قد انتهى الخياران وظاهر الأدلة قد يلوح منها الأول والاعتبار أدل على الثاني. ويسقط هذا بشرط سقوطه في متن العقد وبأسقاطه بعد العقد وبالتصرف الدال على الرضا بالعقد وامضائه لا مطلق التصرف، والفروع هنا أيضاً كثيرة والمباحث واسعة وفيما ذكرنا مع اختصاره كفاية.

(الخيار الثالث)

خيار الشرط

وهذا الخيار مما اتفق عليه الفريقان والأدلة عليه عموماً وخصوصاً مستفيضة ويكفي من العمومات النبويان (الشرط جائز بين المسلمين) و(المؤمنون عند شروطهم) وأمثالها، وكان حق التعبير أن يعبروا عنه بشرط الخيار لا خيار الشرط لأن المراد به هنا أن يشترط الخيار في ضمن عقد البيع أو غيره بأن يقول: بعتك بشرط أن يكون لي خيار الفسخ إلى ثلاثة أيام أو شهر مثلاً، فهو عبارة عن أشتراط الخيار، أما خيار الشرط فهو عبارة عن أن يشترط أحد المتعاقدين على الآخر شرطاً فلا يفي به فيكون له خيار تخلّف الشرط فلو قال: بعتك بشرط أن تأتيني يوم الجمعة فقبل ولم يأته يوم الجمعة فإن للبائع الخياران يمضي العقد أو يفسخه فحق هذا أن يسمى خيار الشرط أي خيار تخلف الشرط وما نحن فيه (شرط الخيار، ويعبر بعض فقهائنا عن ذلك بخيار الاشتراط، ومهما كان فالأمر في التسمية سهل، والمهم هنا:

أولاً: أن تتذكر ما مرّت الإشارة إليه سابقاً من إن الخيار في العقد ليس معناه توقف العقد في تأثيره الملكية والنقل على انقضاء زمن الخيار كما قد ينسب إلى بعض اعاظم علمائنا وفقاً لبعض علماء الجمهور بل المتفق عليه عندنا، إن العقد الصحيح إذا وقع انتقل المبيع إلى المشتري والثمن إلى البائع غايته إن صاحب الخيار له أن يفسخ هذا العقد ويحله فتعود ملكية كل مال إلى صاحبه وعليه يترتب النماء والمنافع في المدة بين العقد والفسخ فإن نماء المبيع تلك المدة إلى المشتري ونماء الثمن فيها للبائع.

نعم، لو اشترط كل منهما خلاف ذلك وأن تكون منافع كل مال لصاحبه الأول فيكون كما لو باعه مسلوب المنفعة تلك المدة أمكن الجزم بالصحة وسيأتي في (مادة 308) ما ينافي ما ذكرناه من كون العقد التام هو المؤثر.

وثانياً: إن مدة الخيار يجوز أن تتصل بالعقد فيشترط الخيار له من حين العقد إلى سنة، ويجوز أن تنفصل فيشترطه في شهر بعد سنة من العقد ولا مانع من صيرورة العقد جائزاً بعد لزومه فإن الشروط تعمل أكثر من هذا.

وثالثاً: يجوز أن يشترطا الخيار لواحد منهما أو لكليهما أو لأجنبي معهما أو مع أحدهما على نحو الاستقلال أو الاشتراك أو المؤامرة أي يكون الشرط إن له الأمر بأن يفسخا أو يمضيا لا أن يكون له ذلك بنفسه وإلى بعض هذا أشارت (المجلة) في:

(مادة 300)

يجوز أن يشترط الخيار بفسخ البيع أو اجازته مدة معلومة لكل من البائع والمشتري أو لأحدهما دون الآخر، وأهم ما في هذه المادة هو لزوم كون مدة الخيار معلومة بعدد الأيام أو الأشهر أو السنين، فلو لم يعين بطل الخيار بل ربما يقال ببطلان العقد أيضاً كل ذلك للغرر وبيع الغرر باطل قطعاً وما يقال من إن الغرر موضوع عرفي وترى العرف بالوجدان يؤجلون ديونهم وكثيراً من معاملاتهم إلى الحصاد وموسم التمر أو الرز أو غيرهما ولا يعدونه غرراً، وتقدم العقلاء على مثله في الكثير من المقامات مدفوع بأن المعلوم من مجموع الأدلة الشرعية إن الشارع لا يصحح المعاملات التي يدخلها مثل هذه الجهالة ويتطلب المعلومية الحاسمة لكل مواد احتمال التشاح الخصومة وإن أقدم عليها العرف تسامحاً منهم ثم يقعون في الخصومة والندامة بعد ذلك وقد نراهم يتشاحون في اليوم أو اليومين فضلاً عن الشهر والشهرين في انقضاء الخيار وبقائه وبقاء أجل الدين وانتهائه فهم يتورطون في البدء تسامحاً، ويتشاحون في النهاية شحاً وحرصاً والشارع الحكيم لا يرضى بمثل ذلك واحكامه مبتنية على الحكمة التامة، والمصلحة العامة، وإقدام العقلاء لا يخرجه عن كونه غرراً فإنهم قد يقدمون على الغرر استرسالاً وتختلف مراتب العقول، ولذا العاقل الرصين لا يقدم على مثل ذلك وكم للعقلاء العاديين من هفوات وخطيئات هي مثار الفتن والخصومات ولعل هذا مراد جدنا (كاشف الغطاء) طاب ثراه حيث يقول: (دائرة الغرر في الشرع أضيق منها في العرف)، والظاهر إن مراده إنها أضيق حكماً وإلاَّ فالشارع لا يجوز أي غرر كان والعرف ما أكثر ما يرتكبون مواضع الغرر.

نعم، قد يتسامح الشارع في بعض المواضع التي يتسامح العرف بها أيضاً مثل اختلاف المكاييل والموازين والحبتين والثلاث وأمثال ذلك مما لا يكون غالباً مثاراً للخصومة والتشاح ولا يعتني بنقصه وزيادته الضئيلة عامة الناس فليس المدار على مطلق الجهالة، بل الجهالة التي يتطرق منها احتمال الخصومة والجدال وإلاَّ فأن مدة خيار المجلس مجهولة ولم تقدح جهالتها لأنها ليست مظنة للتخاصم ويؤيد ما ذكرنا من مداقة الشارع في موارد الجهالة وتشديده في اعتبار المعلومية خبر غياث: (لا بأس بالسلم في كيل معلوم إلى أجل معلوم لا يسلم إلى دياس أو إلى حصاد)...مع إن السلم إلى الحصاد والدياس هو المتعارف عند عامة الناس لا سيما الجاهلين بأحكام الشرع.

ومن هنا يتضح لكَ عدم الفرق في الحكم بالبطلان بين عدم ذكر مدة أصلاً أو ذكر مدة غير معينة فيقول: بعتك واشترطت الخيار لي أو بذكر مدة ولا يعينها أصلاً فيقول: اشترطت الخيار لي في مدة أو يعينها بصفة مجهولة كمجيء الحاج الحصاد ونحوها، وذهب جمع من علمائنا إلى صحة الصورتين الأوليين وجعل مدة الخيار فيهما ثلاثة أيام وأدعوا ورود الأخبار بذلك ولم يعثر الباحثون في كتب الحديث والمتخصصون بعلم الدراية والرواية على خبر واحد فضلاً عن الاخبار ولعل اولئك حملوه على خيار الحيوان المقدر في الأدلة بثلاثة أيام وهو قياس لا يعملون به سيما مع وضوح الفرق بين المقامين.

نعم، ورد من غير طرقنا إن حنان بن منقذ كان يخدع في البيع لشجة اصابته في رأسه فقال له النبي (8): (إذا بعت أو أبتعت فقل لا خلابة وجعل له الخيار ثلاثة أيام)، وهو كما ترى ضعيف سنده وأضعف من ذلك دلالته فالأصح البطلان في الجميع.

أما المادة التي بعدها:

(مادة 201)

كل من شرط له الخيار في البيع يصير مخيراً بفسخ البيع أو اجازته في المدة المعينة للخيار. فكأنها بيان لصحة جعل الخيار لغيرهما وكان يكفي عنها أن يضم إلى المادة المتقدمة للفظة (أو لأجنبي) ونحوها ولا حاجة إلى عقد مادة مستقلة لها. والخيار المجعول بالشرط للأجنبي تابع لجعلهما في الكم والكيف وسائر الجهات على نحو الأصالة في نفسه أو الوكالة عنهما أو أصدار الأمر عليهما أو على أحدهما مع أعلامها أو أعلام أحدهما بل حتى مع عدم علم كل واحد منهما بحضورهما أو حضور أحدهما أو حضور شخص آخر أو أشخاص أو عدم حضور أحد، وكما يحصل الفسخ بالقول كما في:

(مادة 302)

يحصل الفعل أيضاً كما لو باع البائع المبيع أولاً لشخص آخر مع قصد الفسخ وإلاَّ كان لغواً كما في:

(مادة 303 و304)

ولا تمنع الزيادة المتصلة من الفسخ طبيعية كانت كالسمن وطول القامة وقوة البدن أو غير طبيعية كالصبغ وغرس الأشجار ونحوها.

نعم، لو فسخ البائع مثلاً كان للمشتري قلعها أو أخذ ثمنها من الفاسخ أما المنفصلة فقد عرفت إن نماء المبيع قبل الفسخ للمشتري ونماء الثمن للبائع وإذا أجاز في البعض وفسخ في الآخر كان له خيار تبعض الصفقة.

(مادة 305)

إذا مضت مدة الخيار ولم يفسخ ولم يجز من له الخيار لزم البيع وتم، سواء كان عالماً بأنقضاء المدة أو جاهلاً أو غافلاً وسواء تركه لعذر أو لغير عذر حتى لو جنَّ أو أُغمي عليه وآفاق بعد المدة لم يكن له الفسخ لأنه حق مقيد يزول بزوال موضوعه.

(مادة 306)

خيار الشرط لا يورث فإذا كان الخيار للبائع ومات في مدته ملك المشتري المبيع وإذا كان للمشتري فمات ملكته ورثته بلا خيار.

الظاهر إن هذا قول الحنفية أما عندنا فجميع الخيارات تورث لأنها حق مالي فيشمله النص القائل (ما ترك الميت من حق فهو لوارثه) وإلى هذا ذهبت الشافعية والمالكية أما غيرهم فقد فصلوا فجعلوا الأرث لبعض الخيارات دون بعض ولم نجد لهذا التفصيل من دليل غير عليل.

(مادة 307)

إذا شرط الخيار للبائع والمشتري معاً فأيهما فسخ في أثناء المدة انفسخ البيع وأيهما أجاز سقط خيار المجيز فقط وبقي الخيار للآخر إلى انتهاء المدة.

أوضح وأوجز من هذا أن يقال: إذا كان الخيار لكل من البائع والمشتري فأجازة أحدهما لا تسقط حق الآخر بل له الفسخ إلى انتهاء المدة.

(مادة 308)

إذا شرط الخيار للبائع فقط لا يخرج المبيع عن ملكه بل يبقى معدوداً من جملة أمواله فإذا تلف المبيع في يد المشتري بعد قبضه فلا يلزمه الثمن المسمى بل يلزم أداء قيمته للبائع يوم قبضه.

هذا إلغاء للسبب التام عن تأثيره من دون سبب ولا مانع، وقد عرفت إن الخيار لا يمنع العقد التام من تأثيره، غايته أنه يحدث الملكية المتزلزلة لا انه لا تأثير له أصلاً.

نعم، هنا قاعدة أخرى تقدم ذكرها في أوائل (الجزء الأول) وهي إن التلف في زمن الخيار ممن لا خيار له، فلو كان الخيار للبائع فقط وتلف المبيع في يد المشتري فإن تلفه يكون على المشتري، وقد ثبت هذا الحكم على خلاف القواعد بالنص الخاص ولا محيص من حمله على إن التلف يكشف عن تحقق الفسخ القهري قبله فيرجع ملكية المبيع إلى البائع ويكون مضموناً على المشتري بمثله أو قيمته ويأخذ ثمنه الذي دفعه وهذا تكلف وتعسف ألجأنا توجيه الدليل إليه، ولعل أرباب (المجلة) تبعاً للحنفية وغيرهم لما وجدوا إن ضمان الشيء للغير لا يجتمع مع ملكيته وكيف يمكن كون العين ملكاً لأنسان وهو يضمن مثلها أو قيمتها لغيره لذلك التزموا في قضية التلف في زمن الخيار إن المبيع مثلاً لم ينتقل عن البائع إذا كان له خيار، بل هو معدود في أمواله ولهذا يضمنه المشتري لو تلف في يده ويدفع للبائع المثل أو القيمة، ولكنهم بهذا التدبير فروا من سيء إلى أسوء وهو إلتزام كون العقد غير مؤثر مع أنه عقد جامع للشرائط، فاقد للموانع بل وأسوء من هذا أيضاً هو إن العقد الواحد حينئذٍ يؤثر من ناحية ولا يؤثر من أخرى، فإن الثمن يخرج من ملك المشتري الذي لا خيار له ويدخل في ملك البائع ولكن المبيع لم يخرج من ملك البائع فوقعوا في ثلاث مخالفات، عدم تأثير العقد الصحيح، وتأثيره من جهة دون أخرى، واجتماع العوض والمعوّض في ملك شخص واحد وهو البائع، فإنه ملك الثمن والمثمن أيضاً باقٍ في ملكه أو بقاء المال بلا مالك إن قلنا بخروج الثمن من ملك المشتري الذي لا خيار له وعدم دخوله في ملك البائع كما قال به بعض فقهائهم خلافاً لصريح (المجلة) وعلى كل حال فلا دخل لهذا بقضية بقاء المبيع على ملك البائع الذي له الخيار بعد صدور العقد الصحيح منه الذي هو حسب الفرض سبب تام للنقل والانتقال كما مرَّ توضيحه قريباً فليتدبر.

أما فقهائنا فقد عالجوا القضية بما أوردناه لكَ من الالتزام بالانفساخ القهري في توجيه الدليل قالوا: إن العقد يفيد الملكية للبائع ذي الخيار بالنسبة إلى الثمن وللمشتري الذي لا خيار له بالنسبة إلى المثمن على حد سواء، ولكن لو تلف المال في يد من لا خيار له أي المشتري مثلاً سقط خيار البائع وكشف التلف بحكم قاعدة (التلف في زمن الخيار ممن لا خيار له) عن الانفساخ القهري ورجوع المبيع إلى ملك البائع قبل التلف آناماً فيكون تلفه بيد المشتري مضموناً عليه ويدفع للبائع المثل والقيمة ويسترد ثمنه المسمى بحكم الفسخ المفروض وهكذا الكلام في عكسها وكون الخيار مختصاً بالمشتري وتلف الثمن في يد البائع وهذا كما قلنا لا يخلو من تعسف ولكن لا محيص منه وهو أهون بكثير مما ألتزم به أرباب (المجلة) تبعاً لفقهائهم ومن هذا البيان كله اتضح الكلام في:

(مادة 309)

إذا شرط الخيار للمشتري فقط خرج المبيع من ملك البائع وصار ملكاً للمشتري فإذا هلك المبيع في يد المشتري بعد قبضه أو هلك في يد البائع بعد أن قبضه منه المشتري وأودعه عنده يلزمه اداء ثمنه المسمى للبائع فإن المبيع لما استقرت عليه ملكية المشتري لعدم خيار للبائع كان تلفه عليه ويدفع للبائع الثمن المسمى، جريا على مقتضى العقد، هذا على طريقة القوم ولكن مقتضى قاعدة (ان التلف في زمن الخيار ممن لا خيار له) كون التلف هنا على البائع الذي لا خيار له ويسترد المشتري منه الثمن المسمى كل هذا في التلف السماوي.

أما إذا كان بأتلاف فالمتلف إن كان هو البائع وهو صاحب الخيار فهو في الحقيق تصرف عملي، وفسخ فعلي فيجب عليه أن يرد الثمن المسمى إلى المشتري، وإن كان الخيار للمشتري فخياره باقٍ إن شاء فسخ واسترد المسمى من البائع وإن شاء أمضى وأخذ المثل والقيمة منه، وإن كان المتلف هو المشتري والخيار له فقد اسقط خياره بأتلاف العين ولزم العقد واستقر ملك البائع للمسمى وإن كان الخيار للبائع فهو أيضاً على خياره فإن فسخ ردَّ المسمى وأخذ المثل أو القيمة وإن أمضى أستقر له ملك المسمى ورجع المشتري بقيمة المبيع على الأجنبي ولو فسخ رد المسمى وإن كان المتلف أجنبياً بقي الخيار لصاحبه فإن كان هو البائع وأجاز ملك المسمى إلى المشتري ورجع بالقيمة وهل يرجع بها على الأجنبي أو على المشتري أو يتخير وجوه يظهر مداركها بالتأمل كما يظهر الحال لو كان صاحب الخيار هو المشتري فسخ أو أجاز.

بقي في المقام أمور يجدر التنبيه عليها:

الأول: إن القدر المتيقن من مورد قاعدة (التلف في زمن الخيار ممن لا خيار له) هو الخيارات الزمانية أعني ما لها زمان تمتد فيه مثل خيار المجلس والشرط والحيوان أما غير الزمانيات كخيار العيب والغبن والرؤية وأمثالها فيشكل جريان القاعدة فيها سيما على القول بفورية تلك الخيارات إذ ليس هناك زمان حتى يتصور وقوع التلف فيه وكلمات أصحابنا في المقام مختلفة بين من يظهر منه التعميم وبين مصرح بالتخصيص وبين متوقف، وبالرجوع إلى الأخبار التي تحصلت منها القاعدة يترجح منه عدم التعميم.

الثاني: إن مورد القاعدة أيضاً هو البيع الشخصي فإنه هو الذي يتضح فيه حصول التلف وعدمه، أما الكلي فلا معنى لتلفه وأما المصداق الذي يتحقق به قبض الكلي فهو وإن كان قابلاً للتلف  ولكن ليس هو المبيع بل سقوط الكلي به من باب المعاملة الضمنية الارتكازية في قيامه مقام المبيع وليس في هذه المعاملة خيار.

وبالجملة فما تعلق الخيار به لا يلحقه التلف وما يلحقه التلف لا خيار فيه، اللهم إلاَّ أن يقال إن المصداق في نظر العرف هو عين الكلي المبيع فمتعلق الخيار والتلف بنظر العرف شيء واحد وإن كانا بدقة الفلسفة شيئين فليتأمل.

وفي مطولات كتب الأصحاب في هذه الأبواب بحوث سحيقة وتحقيقات دقيقة يضيق عن جرعتها لهوات هذه المختصرات.

الثالث: في التنازع إذا أدعى أحدهما أنه شرط خياراً أو إن مدته زائدة أو إن صاحب الخيار أمضى العقد وأنكر الآخر فالقول في جميع ذلك قول المنكر وإذا أتفقا على الخيار ومقدار المدة وأختلفا في انقضائها لجهل تاريخ مبدئها يقدم قول مدعي بقائها للأستصحاب وإذا تنازعا في الفسخ والإجازة فإن كان في المدة قدم قول ذي الخيار لقاعدة (من ملك شيئاً..إلى آخره) وإن كان بعدها قدم قول المنكر.

استدراك وتكملة

خيار الشرط كما عرفت هو أن يشترط البائع أو المشتري خياراً لهما أو لأحدهما أو لثالث وهو أما أن يكون مطلقاً وهو الذي تقدم الكلام فيه.

وأما أن يكون مقيداً بحال بأن يقول أشترط أن يكون لي الخيار بعد شهر إن جاء ولدي من السفر في هذا الشهر فإن جاء كان له الخيار وإلاَّ فلا، ومن هذا النوع البيع المضاف إلى خياره المسمى عند الإمامية (ببيع الخيار) وعند فقهاء المذاهب (بيع الوفاء) وقد عقدت له (المجلة) فصلاً مستقلاً سيأتي، وقد سبق أنه بيع صحيح عندنا يترتب على آثار البيع سوى أنه عقد خياري جائز، واعتبار ردّ الثمن في هذا الخيار يتصور على انحاء:

1 ــ أن يكون الخيار تعليقاً أو توقيتاً منوط برد الثمن فلا خيار له قبل الرد وله الخيار بعده أي له حق الفسخ فلا ينفسخ إن لم يفسخ ويكون الثمن قبله عند البائع كأمانة إلى أن يفسخ فيملكه والمراد بالرد أيصاله إلى البائع أو وكيله أو وليه أو وصيه أو حاكم الشرع إذا امتنع.

2 ــ أن يكون له الخيار في كل جزء من المدة المعينة مقارناً للرد والفرق بينه وبين الذي قبله إن الخيار هناك بعد الرد فلا خيار قبله هنا في كل زمان ولكن مع الرد.

3 ــ أن يكون الرد فسخاً منه فعلياً أو أنفساخاً قهرياً بحيث متى رد انفسخ أما لأنه انشاء فسخ أو لأنه ينفسخ قهراً نظير شرط المسبب والنتيجة.

4 ــ أن يكون الرد شرطاً لوجوب فسخ البائع فمتى ردَّ المشتري وجب على البائع أن يفسخ ويرجع إلى الإقالة فإن لم يفعل تسلط المشتري على الفسخ، وحاصل الفرق بين هذا البيع الخياري وشرط الخيار المعروف أي المطلق هو أن المشتري في شرط الخيار يفسخ فيسترد الثمن وهنا يرد الثمن فيفسخ فالرد هنا سبب الفسخ والفسخ هناك سبب للرد فتدبره، وفي هذه الرشفة من خضم مسائل هذا البحث كفاية عن الخوض في لججها الزاخرة، أما تصويره وحقيقته عند القوم فسيأتي إن شاء الله.

الفصل الثاني

خيار الوصف

(مادة 310)

إذا باع مالاً بوصف مرغوب فظهر خالياً عن ذلك الوصف كان المشتري مخيراً إن شاء فسخ وإن شاء أخذه بجميع الثمن المسمى، ويسمى هذا الخيار خيار الوصف، مثلاً لو باع بقرة على أنها حلوب فظهرت غير حلوب يكون المشتري مخيراً، وكذا لو باع فصاً ليلاً على أنه ياقوت أحمر فظهر أصفر تخير المشتري.

ليس لهذا الخيار ذكر في كتب فقهاء الامامية المتداولة وليس هو إلاَّ شعبة من خيار الاشتراط التي مرت الإشارة إليه فإن الوصف المذكور في العقد إن ذكر نحو الشرط كان لازماً وتخلفه يوجب الخيار وإن ذكر لا على نحو الشرطية بل على نحو التعريف أو الترغيب لم يكن تخلفه موجباً لشيء من خيار أو غيره وكان من قبيل الدواعي التي لا أثر لحصولها أو عدمه أصلاً، مثلاً لو أشترى أرضاً بداعي جعلها بستاناً يتخيل أنها صالحة لذلك فتبين أنها لا تصلح إلاَّ للزراعة لم يكن له حق الفسخ بخلاف ما لو شرط ذلك في متن العقد وقال اشتريتها بشرط صلاحيتها للبستان فإن له خيار تخلف الشرط لو ظهر عدم صلاحيتها لذلك ودليله أدلة الشروط مثل (المؤمنون عند شروطهم) وغيره مما يدل على وجوب الوفاء بكل شرط مقدور لا يخالف كتاب الله ولا ينافي مقتضى العقد.

ونظراً لكون المقام يتأسس على دعائم الأوصاف والشروط وهي من مباحث المعاملات المهمة ولم أجد حسبما وقفت عليه من كتب الفريقين من أعطاها حقها من البحث والتحقيق ووصل إلى محدد الجهات من تخومها الشاسعة ودلَّ على عروة اتصالها بالعقود ومكانتها منها وكيفية ارتباطها بها والفرق بين الأولى والثانية فنقول والله المستعان بلطفه.

إن الأوصاف هي عبارة عن الأعراض القائمة بموضوعاتها الخارجية التي يعبر عنها الحكماء بما يكون وجودها في أنفسها عين وجودها في موضوعاتها المستقلة في أنفسها وذلك كالكميات والكيفيات من عوارض الأجسام وكالملكات والسجايا والأحوال من عوارض النفوس والمدارك.

أما الشروط التي تستعمل في هذه المسارب وتقرن بالعقود والأوصاف فيراد منها تارة المعنى الأعم من الأوصاف والأحوال والمبادئ والأفعال والغايات وأحوال الغايات والنتائج، وأخرى المعنى الأخص أعني خصوص الأعمال، وقد مرّت الإشارة في أوائل (الجزء الأول) إلى إن هذه الأوصاف هي الدواعي والبواعث إلى الرغبة في اقتناء موصوفاتها وهي وإن كانت لا تقابل بالأعواض ولكن بأعتبارها تختلف الأعواض زيادة ونقصاً بل بالنظر إليها تبذل الأعواض في الأعيان فالدار إنما تشتريها بأعتبار صلاحيتها للسكنى والدابة للركوب أو النسل أو المنافع الأخرى من الصوف أو اللبن ولو تجردت عن كل ذلك لم تبذل بأزائها أي ثمن ولا تنبعث بكَ الرغبة إلى أخذها ولا مجاناً وهكذا جميع الموجودات إنما تنبعث الرغبات إليها بالنظر إلى صفاتها وحالاتها لا بالنظر إلى ذاتها وهذه الأوصاف التي هي ملاك المالية ومنشأ حصول الرغبات في الجدة والملك قد تذكر في العقد على العين التي انبعثت الرغبة إليها بأعتبار تلك الأوصاف، وقد لا تذكر فإن لم تذكر في العقد كانت دواعي صرفة واغراضاً مجردة لا أثر لتخلفها وعدمه لا في خيار العقود ولا غيره (وإنما يحرم الكلام ويحلل الكلام)، وإن ذكرت في متن العقد على نحو الشرطية أو على نحو التقييد فقد صارت جزء من المعاوضة الخاصة بمعنى إن الالتزام الخاص الوجداني الذي أنشأه العاقد قد تعلق بالمعاوضة بين المالين الخارجيين وهما الدرهم وهذا الثوب المخيط أو العبد الكاتب مثلاً وليست الكتابة والخياطة هنا قد ألتزم بها بألتزام لنفسها بل بنفس الألتزام المتعلق بالمعاوضة الذي حصل بنفس العقد فلزوم مثل هذا الوصف أو الشرط لا يحتاج إلى التمسك بعموم (المؤمنون عند شروطهم) بل يكفي فيه عمومات أدلة البيع ووجوب الوفاء بالعقود، وليس مفاد العقد فيما نحن فيه إلاَّ تمليك المبيع المعين بالعوض المعين أي ألتزام البائع للمشتري بتمليك العبد وكونه كاتباً أو كون الثوب مخيطاً فإذا انكشف عدم تحقق الوصف لم تبطل المعاوضة من رأس لأنها بين المالين المشخصين وهما حاصلان موجودان وإنما يبطل اللزوم ووجوب الوفاء بالعقد لأنه إنما وقع على تلك الكيفية الخاصة أعني مبادلة المالين، وكون أحدهما بتلك الصفة الخاصة لا على نحو التقييد الوجداني ولا على نحو الالتزام الاستقلالي حتى يبطل على الأول بقاعدة (المقيد عدم عند عدم قيده) بلحاظ البساطة ويكون إلتزاماً ثانياً على الثاني بل على نحو الإلتزام أو وحدة الإلتزام وتعلقه بأمرين كوحدة الدال وتعدد المدلول، ووحدة الإشارة وتعدد المشار إليه، تخلف أحدهما لا تبطل الدلالة على الآخر.

نعم، حيث إن وجوب الوفاء ورد على ذلك العقد الخاص وبعد زوال الخصوصية لا يبقى وجوب الوفاء، ولكن المعاوضة التي حصلت في ضمن ذلك العقد لا داعي لبطلانها بعد تحقق أركانها، فتبقى جائزة وأمرها إلى المتعاقدين أو إلى من له الشرط فسخاً وأمضاء. ورفعاً وأبقاء، ومعنى رضا المشتري بغير الكاتب أو غير المخيط أسقاط حقه من الوصف الذي ألتزم له البائع به وقضية الشروط والأوصاف في الأعراض تشبه قضية تبعض الصفقة في الأعيان فيكون كألتزام جديد بينهما يجب الوفاء به ولذا ليس له الفسخ بعد الرضاء وأمضاء العقد، وأما الأشكال بأنه لا معنى لتعلق الإلتزام بالوصف في العين الشخصية لأنه أما حاصل فلا معنى لتحصيل الحاصل أو معدوم فيستيحل الإلتزام بوجوده حين العقد، فمدفوع بأن الإلتزام هنا ليس بمعنى فعله وتحصيله بل بمعنى كونه في العهدة يعني إن البائع يجعل على عهدته كون الوصف حاصلاً في الخارج متحققاً في الموصوف وأثر هذا الإلتزام يظهر فيما إذا انكشف عدم تحققه بتسلط المشتري على الفسخ ويستحق استرجاع ثمنه ولا حق له بمطالبة الأرش لما عرفت مكرراً من إن لأوصاف لا تقابل بالأعواض وإن زادت بها قيمة العين بل هي قوام القيمة، أما العيوب وأخذ الأرش لها فذاك أمر آخر سيأتي تحقيق الكلام فيه إن شاء الله.

هذا كله في الأوصاف بمعنى الأعراض، أما الأفعال والغايات وهي الشروط بالمعنى الأخص كما لو باعه العبد وأشترط عليه أن يعتقه أو شرط عليه انعتاقه أو باعه الدار واشترط عليه أن يملكه الكتاب أو يكون الكتاب ملكاً له فحقيقتها إنها ألتزامان في عقد واحد وبعبارة أجلى إن الألفاظ حينئذٍ قد دلّت على إلتزام عقدي وإلتزام شرطي فالشرط في ضمن العقد مثل قوله: بعتك الدار واشترطت لكَ أن أهبك الكتاب عبارة عن ألتزامين مختلفي الأسلوب والصورة متحدي الجوهر والحقيقة بخلاف الوصف فإنه إلتزام واحد بأمرين، ولما كان الشرط إلتزاماً خارجاً عن العقد لم يكف في لزومه ما دلَّ على وجوب الوفاء بالعقد بل كانت قاعدته التي يعتمد عليها أدلة الشروط مثل (المؤمنون عند شروطهم) وبناء العقلاء وأمثالها، وهو وإن كان خارجاً عن الإلتزام العقدي إلاَّ أنه مرتبط به أشد الارتباط وأثر هذا الربط، إن العقد اللازم بدون حصول الشرط يعود جائزاً وسر ذلك أن لزوم العقد وقع منوطاً بحصول الشرط ومع عدم حصوله ينتفي لزومه ووصفه لا حقيقته وذاته ومرجع هذا التقييد في الحقيقة إلى تعليق لزوم العقد على حصول الشرط  وأدلة الشروط تقضي بلزوم هذا القيد ووجوب الوفاء به تكليفاً ووضعاً، فلو أمتنع من عليه الشرط من الوفاء به أو تعذر الشرط عليه كان لمن له الشرط أن يفسخ لأرتفاع اللزوم بأرتفاع قيده. ولولا هذه النكتة الدقيقة والسر العميق لكان مقتضى القواعد بادء بدء أن يبطل العقد بتمامه عند عدم حصول شرطه لأنه وقع على المجموع المركّب والكل ينتفي بأنتفاء بعض أجزائه فهو نظير الشرط في باب العلل والأسباب حيث يقولون (المشروط عدم عند عدم شرطه) ولكن من ذلك الطريق الدقيق والوجه  اللامع حكمنا مع أرتفاع الشرط ببقاء العقد الذي حقه أن يرتفع بأرتفاعه ويبطل ببطلانه، ومن هنا جاز أن نقول إن فساد بعض الشروط لا يستلزم فساد ما أنيطت به من العقود لأن الشروط إلتزامات ثانوية في إلتزامات العقود فالعقد والشرط من حيث الإلتزام لا هو هو، ولا منفصل عنه بل متعلق فيه ومرتبط به أشد الربط، ثم إن كان الشرط فعلاً من الأفعال وجب إيجاده، وإن كان غاية ونتيجة كشرط صيرورة العبد حراً والكتاب وقفاً والدار لكَ ملكاً وقلنا بصحة مثل هذه الشروط وجب الإلتزام بتحققه وترتيب آثاره ويكون العبد حراً، كما لو أعتقه بالصيغة المخصوصة، لا أن يملك ويعتق ويوقف ومثل هذه الشروط لا يتصور تخلفها مع قابلية الموضوع. نعم، تخلقها يكون بنحو آخر، ولبعض أعلامنا المتقدمين كلمة في هذا البحث لعلها تشير إلى بعض ما ذكرنا حيث يقول: (وأشتراط ما سيوجد أمر منفصل عن العقد وقد علّق عليه العقد) انتهى.

ولعل المراد علّق عليه لزوم العقد وإلاَّ فالتعليق في العقود مبطل عند علمائنا كلمة واحدة، فلا جرم إن المراد تعليق لزوم العقد وكثيراً ما يعبرون عن اللزوم بالعقد لأرتباطهما وتلازمهما في الغالب خصوصاً في البيع.

وكان حق هذا البحث أن يذكر في مباحث الشروط ولكن ذكر الأوصاف التي تقابل الشروط سحبنا إليه (والألماس يتلألأ أينما وضع) ليس مكان أحق به من مكان، فتدبره واغتنمه فأنك لا تجد هذه الرقائق في غير هذه المهارق والمنة لله وحده.

ونعود إلى بحث المادة التي في متن (المجلة) إذ تقول: إذا باع بوصف مرغوب فظهر خالياً كان المشتري مخيراً..إلى آخره. وأقول لعلك تفطنت إلى إن قضية الأوصاف لا دخل لها بالوصف المرغوب إن كان المراد المرغوبية عند النوع وفي الغالب كما يظهر من تمثيلهم بالبقرة الحلوب، فإن باب الأوصاف والشروط تدور مدار الرغبات الشخصية فقد يكون لأنسان غرض في الوصف الغير المرغوب عند العموم كما لو أشترط كون البقرة غير حلوب لأنه يريدها للحرث أو السقي لا للبن والنسل مثلاً فإذا ظهر إنها حلوب كانت على خلاف رغبته ونقيض شرطه فلا يمكن إلزامه بها وقد ألتزم له البائع بغير هذا الوصف فلا محيص من أن يكون له الخيار ومثل ذلك لو أشترى عبداً وأشترط كونه أمياً وهو وصف غير مرغوب عند النوع فإن القراءة والكتابة صفات كمال في العبد وغيره ولكنه يريده أمياً كي لا يطلّع على أسراره ومراسلاته فلو ظهر أنه يقرء ويكتب كان له الخيار طبعاً، فلا معنى بل لا وجه لتقييد الشروط والأوصاف بكونها مرغوبة مع إن أدلة الشروط عامة والأعتبار يساعد على عمومها فأفهم ذلك وتدبره، والتقييد بكونه (ليلاً) غالبي لا احترازي فإن المدار في ثبوت الخيار على عدم علم المشتري ليلاً كان الشراء أو نهاراً.

(مادة 311)

خيار الوصف يورث..إلى آخره

قد عرفت إن جميع الخيارات عندنا موروثة ويحتاج كيفية أرثها وأحكام أرث الخيار وتفاصيله إلى بيان واسع ربما يأتي له محل آخر إن شاء الله.

(مادة 312)

المشتري الذي له خيار الوصف إذا تصرّف في المبيع تصرف الملاك بطل خياره

تقدم في القواعد العامة إن كل تصرف دال على الرضا بالعقد وأمضائه فهو مسقط سواء كان من قبيل تصرّف الملاك أم لا، وهذا وسط بين من قال كل تصرف مسقط ومن قال خصوص تصرف الملاك مثل بيعه أو رهنه أو وقفه ونظائرها مما يتوقف صحته على الملكية أو أذن المالك.

ولم تذكر (المجلة) إن خيار الوصف هل هو على الفور أو التراخي يعني هل أنه بمجرد علمه بفوات الوصف يلزمه، أما الفسخ أو الأمضاء فإذا لم يبادر إلى أحدهما سقط خياره أم له ذلك متى شاء، وقد سبق إن الأصل هو الفورية في جميع الخيارات إلاَّ ما ثبت تراخيه بالدليل على التراخي سيّما مع أنه لا يخلو من لزوم الضرر على البائع حيث يبقى الأمر مهملاً إلى وقت غير معلوم. نعم، الفورية ليست على الدقة الحقيقية بل فورية عرفية لا يقدح فيها الساعة والساعتان.

الفصل الثالث

خيار النقد

ذكرنا إن الفقهاء في تعداد أنواع الخيارات بين مقل وبين مكثر فبعضهم قصرها على ثلاثة وبعضهم زادها على عشرين ولكن أكثرها متداخلة يدخل بعضها في بعض فلو أرجعنا كل فرع إلى أصله لم تزد على ثمانية أو تسعة مما ذكروه وشاهد ذلك هذا الخيار الذي جعلوه أصلاً برأسه  وهو على الصورة التي ذكروها ليس إلاَّ من فروع خيار الإشتراط فإنه عبارة عن اشتراط أداء الثمن في وقت معين ولذا لا يوجد في شيء من كتب فقهائنا فإنه بطبيعة أطلاق العقد مستغنى عنه ضرورة إن الاطلاق يقتضي تسليم الثمن نقداً فإن لم يدفعه كان له الخيار متى شاء في المدة المعينة وفي غيرها.

نعم، في أخبار أئمتنا (ع) في هذا المقام خيار أصيل يعرف عند عمائنا (بخيار التأخير) وهو أن البائع مع أطلاق العقد وعدم تسلم المبيع وعدم قبض الثمن ينتظر المشتري إلى ثلاثة أيام فهو في هذه الثلاثة لازم عكس خيار الحيوان ثم يصير بعد الثلاثة جائزاً إن شاء فسخ وإن شاء بقي على الانتظار مع الخيار، وخيار الحيوان يصير بعدها لازماً، ففي رواية علي بن يقطين عن الكاظم (ع) عن الرجل يبيع البيع ولا يقبضه صاحبه ولا يقبض الثمن، قال (ع): (الأجل بينهما ثلاثة أيام فإن أقبضه بيعه وإلاَّ فلا بيع بينهما)، وعنه (ع) أيضاً: (من أشترى بيعاً فمضت ثلاثة أيام ولم يجيء فلا بيع له) ومثلهما أخبار أخرى كثيرة، وظاهر قوله فلا بيع بينهما بطلان البيع رأساً بعد الثلاثة، ولكن العلماء أجمع إلاَّ من شذَّ حملوه على ارتفاع لزوم البيع وقد قلنا أنه كثيراً ما يعبر عن اللزوم بالبيع أو بالعقد للتناسب والتلازم الذي بينهما والأعتبار والحكمة من هذا الحكم تساعد على ذلك، فإن ألزم البائع بالصبر والانتظار مع إن المبيع عنده وفي ضمانه وقد انتقل إلى الغير ومنافعه أيضاً للغير ولم يقبض الثمن ضرر ومشقة شديدة، وتدارك ذلك يحصل بجعل الخيار فإن رأي من صالحه الانتظار، وإلاَّ فسخ بالخيار، فما أكرمها من حكمة سامية وهذا الخيار لم أجده فيما وقفت عليه من كتب القوم ولم يعرفه فقهاء المذاهب على الظاهر، والعجب من (المجلة) وغيرها من مؤلفاتهم يذكرون مثل خيار النقد والخيانة ونحوها التي ليست بشيء ولا يذكرون مثل هذا الخيار الرصين، وفي مؤلفات أصحابنا لخيار التأخير مباحث واسعة وتحقيقات جليلة.

(مادة 313)

إذا تبايعا على أن يؤدي المشتري الثمن في وقت كذا وإن لم يؤده فلا بيع بينهما صحَّ البيع وهذا يقال له خيار النقد.

مقتضى تعبير (المجلة) فلا بيع بينهما كما في أخبارنا ــ إن البيع يكون فاسداً عند عدم الأداء في الوقت، وصرّحت (المجلة) أيضاً في:

(مادة 314)

إذا لم يؤدِ المشتري الثمن في المدة المعينة كان البيع الذي فيه خيار النقد فاسداً، فأين الخيار إذاً فإن العقد إذا فسد عند عدم أداء المشتري للثمن في الوقت المعين لم يكن معنى لثبوت الخيار له وكيف يثبت الخيار بين الفسخ والإمضاء لعقد قد فسخ وانفسخ ثم ما معنى جعل الخيار للمشتري مع إن الشرط للبائع على المشتري وضرر الانتظار والصبر عليه لا على المشتري وخيار المشتري الذي قد لا يفسخ ولا يؤدي الثمن بل يبقى على المماطلة لا يرفع ضرر البائع.

والحاصل، إن هذا كله مشوش مغشوش وخطأ في خطل لا جسم فيه ولا روح، ولا جوهر، ولا معنى، وأعجب من ذلك كله:

 (مادة 315)

إذا مات المشتري المخير بخيار النقد في أثناء مدة الخيار بطل البيع، فأنه إذا كان خياراً قاراً وحقاً ثابتاً، مثل خيار الوصف والشرط فلماذا لا ينتقل إلى الوارث وعلى تقدير كونه وصفاً قائماً بذات المشتري لا يقبل الانتقال إلى غيره مع أنه ممنوع، فلماذا يبطل البيع ولماذا لا يكون لازماً ويؤخذ الثمن من التركة وينتقل المبيع إلى الورثة كسائر أموال مورثهم فتدبر هذه النقوش والرتوش جيداً.

 


 

 
امتیاز دهی
 
 

 
Guest (PortalGuest)

دبيرخانه كنفرانس‌هاي بين‌المللي
Powered By : Sigma ITID