الخميس, رمضان 18, 1445  
 
في قواعد البيع وسائر العقود  

 

 تحرير المجلة

آية الله العظمى الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء  "قدس سره"

 

  



(مادة 98)

تبدل سبب الملك قائم مقام تبدل الذات

هذا التعبير لا يفصح عن الغرض المقصود بهذه المادة وهو إن الأسباب الشرعية مؤثرة كتأثير الأسباب الواقعية فكما إنه لو وهب ماله لشخص وتلف المال لا سبيل له إلى الرجوع بما وهب لزوال الموضوع فكذلك لو باع المتهب المال لم يبقَ للواهب حق الرجوع فيما وهب لأنتقاله عنه الذي هو كتلفه، وكذا لو باع عيناً بخيار وباعها المشتري من آخر بغير خيار فإنه لا يبقى للبائع الأول حق الرجوع ولو فسخ رجع بالمثل أو القيمة كما لو تلفت العين.

(مادة 99)

من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه

أظهر مثال لهذه المادة: الوارث إذا قتل موروثه ليستعجل في ارثه فإنه يحرم شرعاً من الأرث عقوبة له بحرمانه ما استعجل فيه، وكذا لو قتل الموصى له الوصي في وجه، وكذا من طلق زوجته في مرض موته كي لا ترث منه فإنها ترثه لو مات في الحول ولو بعد خروجها من العدة، وكذا لو حابى أحد ورثته ببيع أو هبة يقصد حرمان الباقين فإنها تبطل على الأصح. نعم، يستثنى من هذه المادة ما لو قتل الدائن مدينه بدين مؤجل كي يتعجل فإنه يحل على قاعدة الديون المؤجلة التي تحل بموت من هي عليه ومقتضي المادة أن لا يحل وكذا في منجزات المريض من بيع ونحوه محاباة لا يقصد الحرمان فإنها تصح سواء قلنا بخروجها من الثلث أو من الأصل وقد يعثر المتتبع على غير ذلك من الأمثلة في المستثنى والمستثنى منه.

(مادة 100)

من سعى في نقض ما تم من جهته فسعيه مردود عليه

هذه المادة أشبه بأن ترجع إلى قاعدة عدم نفوذ الإنكار بعد الإقرار أو إلى اصالة الصحة في عمل المسلم أو مطلقاً أو ما أشبه ذلك من الأصول والقواعد وليست هي قاعدة برأسها فإن الواهب له أن يرجع بهبته وقد تمَّ من جهته إلى كثير لا يحصى من أمثال ذلك. نعم، لو باع ثم أدعى فساد المبيع لم يقبل منه ولكن لا لهذه القاعدة بل لأصالة الصحة في فعل العاقل، وكذا لو أقرَّ بدين ثم أدعى الاشتباه فإنه لا يسمع لقاعدة (لا انكار بعد اقرار) وهكذا وبالجملة نقض الانسان لعمله أو قوله يختلف في القبول وعدمه بأختلاف الموارد والأصول والقواعد الجارية في كل مورد بحسبه، هذا موجز القول فيما ذكرته المجلة من القواعد العامة وقد أتضح لكَ جلياً إن بعضها يدخل في بعضها وبعضها مستدرك لا يترتب عليه أثر.

أما القواعد الأساسية منها التي تصلح لأن تكون مدركاً ودليلاً على كثير من أبواب المعاملات والايقاعات فهي كما نتلوها عليك وإليكَ بيانها:

(1)العبرة في العقود للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني:

لعل المراد بهذه المادة إن الألفاظ تتبع ما أريد وقصد منها لا ما هي دالة عليه بحسب وضعها التعييني أو التعيني فلفظ بعت مثلاً وإن كان دالاً بالوضع والإستعمال على نقل الأعيان ولكن لو أريد منه نقل المنافع بدل الإجارة الموضوعة لذلك كان الأعتبار بما قصد واراد ولو مجازاً أو غلطاً لا بما هو مدلول اللفظ بحسب وضعه.

ولكن التحقيق عندنا وهو الظاهر من بعض النصوص ومتون فقهاؤنا إن العقود يلزم فيها استعمال الألفاظ الصريحة الدالة على معانيها بالوضع والمطابقة فلا يصح فيها المجاز والكناية فضلاً عن مخالفة الوضع الشخصي أو النوعي واستعمال البيع في الإجارة قد لا يكون صحيحاً لا حقيقة ولا مجازاً فيكون غلطاً ويقع العقد المزبور مثلاً باطلاً.

نعم، لا ريب إن القصود هي الركن الأعظم في العقود ولكن بقيد الألفاظ الخاصة الموضوعة للدلالة عليها المتحدة بتلك المعاني اتحاداً جعلياً لا بالألفاظ الغريبة عنها. إذ من المعلوم إن للفظ انساً وملابسة مع المعنى الموضوع له المستعمل فيه. ونفورا ووحشة من المعنى الغير الموضوع له، وعلى كلٍ فالصراحة اللازمة سيّما في العقود اللازمة توجب استعمال الالفاظ الدالة على المعاني المقصودة بالوضع والمطابقة لا بالمجاز والكناية فضلاً عن الغلط، فاللازم أن تكون المادة هكذا:

((العبرة في العقود للمقاصد والمعاني مع الألفاظ والمباني))

وقد تقدم بعض البحث فيها في أول الكتاب.

(2) قاعدة الاستصحاب:

وهي ابقاء ما كان على ما كان ودليلها اخبار لا تنقض اليقين بالشك وإليها ترجع المواد الثلاث (4 ــ 5 ــ 6) بل مادة (8 ــ 10) بل و(11).

(3) أصالة البرائة:

التي تنفرد عن الاستصحاب من بعض الوجوه.

(4) قاعدة لا ضرر ولا ضرار:

وإليها يرجع عشر مواد أو أكثر.

(5) أصالة الحقيقة.

(6) المشقة تجلب التيسير.

(7) درء المفاسد أولى من جلب المنافع.

(8) ما حرم أخذه حرّم اعطاؤه.

(9) ما حرّم فعله حرّم طلبه.

(10) العادة محكمة.

ولكن في الجملة كما عرفت ومثلها تغير الأحكام بتغير الزمان ومثلها.

(11) العبرة للغالب الشائع.

(12) الممتنع عادة كالممتنع حقيقة.

(13) إذا تعارض المقتضي والمانع يقدم المانع.

(14) التابع تابع.

هذه المادة مجملة، ولعل المراد بها أن التابع في الوجود تابع في الحكم وقد عرفت أنه لا يطرد.

(15) إذا سقط الأصل سقط الفرع.

(16) الساقط لا يعود كما إنَّ المعدوم لا يعود.

(17) إذا بطل الأصل يصار إلى البدل.

 (18) يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في غيرها.

(19) البقاء أسهل من الابتداء.

(20) لا يتم التبرع إلاَّ بالقبض.

(21) التصرف على الرعية منوط بالمصلحة.

(22) الثابت بالبرهان كالثابت بالعيان.

(23) البينة على المدعي واليمين على المنكر.

(24) البينة حجة متعدية والاقرار حجة قاصرة.

(25) الولاية الخاصة أقوى من الولاية العامة.

(26) اعمال الكلام أولى من اهماله.

(27) ذكر ما لا يتجزء كذكر كله.

(28) المطلق يجري على اطلاقه.

(29) الوصف في الحاضر لغو وفي الغائب معتبر.

(30) الكتاب كالخطاب عند فقهاء المذاهب لا عند الامامية.

(31) اشارة الأخرس بيان.

(32) لا حجة مع الاحتمال الناشيء عن دليل.

(33) المعلق على شرط يجب ثبوته عند ثبوت الشرط.

(34) يلزم مراعاة الشرط بقدر الإمكان.

(35) الخراج بالضمان.

(36) الغنم بالغرم.

(37) الفعل ينسب إلى الفاعل لا الآمر ما لم يكن مجبراً.

(38) إذا اجتمع المباشر والسبب يضاف الحكم إلى المباشر.

(39) الجواز الشرعي ينافي الضمان.

(40)المباشر ضامن وإن لم يتعمد.

(41) المتسبب لا يضمن إلاَّ مع العمد.

(42) جناية العجماء جبار.

(43) لا يجوز التصرف بمال الغير بغير اذن.

(44) تبدل سبب الملك يقوم مقام الذات.

(45) من استعجل الشيء قبل أوانه. عوقب بحرمانه.

هذه مهمات القواعد التي ذكرتها (المجلة) وما عداها فتكرار أو متداخل أو عديم الفائدة، والعجب إن مؤلفيها مع انهم من أفاضل علماء عصرهم ذكروا جملة من المواد العديمة الجدوى أو القليلة الفائدة وأهملوا جمهوراً من القواعد المهمة التي هي دعائم مباني العقود والإيقاعات وابواب المكاسب والمعاملات، ونحن نذكر منها ما يحضرنا على عفو الخاطر والعتيد في الذهن، كأستدراك على مواد المجلة من دون استقصاء واستقراء. وقد يجد المتتبع أكثر منها وإليك بيانها وتندرج في فصول.

الفصل الأول

في قواعد البيع وسائر العقود

1 ــ كل جملة لا يحصل أثرها إلاَّ بأخرى من آخر فهي عقد وإلاَّ فإيقاع أو أذن.

هذه ضابطة التمييز بين العقد والايقاع وهي مطردة في الغالب وقد وقع الخلاف في بعض الأنواع إنها عقد أو ايقاع كالجعالة والوديعة والوصية في بعض الاعتبارات ولعل منشأ الشك أو الخلاف هو عدم لزوم القبول اللفظي فيها وكفاية القبول الفعلي أو كل ما دلَّ على الرضا بالإيجاب كما هو الشأن في جميع العقود الجائزة.

على أن الثمرة بين كون المعاملة عقداً أو ايقاعاً نادرة مثلاً : الوديعة. أمانة مالكية فإن كانت عقداً فهي عقد جائز من الطرفين فلو دعي أن يعزل نفسه ويحلها فتنقلب أمانة شرعية يجب المبادرة إلى ردها وإن كانت إيقاعاً فهي اذن مجرد وليس له عزل نفسه بل تبقى أمانة مالكية حتى يستردها المالك أو يردها الودعي متى شاء، وعلى كلٍ فالبحث في ذلك قليل الجدوى.

2 ــ كل عقد يحتاج إلى ايجاب وقبول لفظين مع التوالي بينهما.

3 ــ كل ايجاب فقبوله بعد موت الموجب باطل إلاَّ في الوصية.

4 ــ كل من له القبول إذا مات قبله بطل إلاَّ في الوصية فإن حق القبول ينتقل إلى وارثه.

5 ــ اصالة اللزوم في العقود.

فكل عقد شككنا إن الشارع جعله لازماً أو جائزاً نبني على لزومه وإذا علمنا بأنه ذو نوعين جائز ولازم وشككنا ان العقد الذي وقع هل هو من الجائز أو اللازم نبني على انه من اللازم فإذا شككنا إن البيع الذي جرى بين زيد وعمر وهل وقع خيارياً أم لا، تحكم بعدم الخيار حتى يثبت خلافه بدليل وهكذا في سائر الموارد.

كل ذلك لأصالة اللزوم في العقود المستفادة من عموم قوله تعالى: [أَوْفُوا بِالْعُقُودِ] و[تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ] وامثالها من الكتاب والسنة وهذا أصل نافع في جملة من العقود التي يشك في لزومها وجوازها، مثل عقد المزارعة والمساقاة وعقد القرض وغيرها فإن قام دليل بالخصوص على جوازها فهو متبع وإلاَّ فأصالة اللزوم في العقود تقضي بالحكم بلزومها.

6 ــ أصالة الصحة في العقود.

وينفع هذا الأصل أيضاً في الشبهة الحكمية والموضوعية فلو شككنا إن عقد المغارسة أو المسابقة المستعمل عند العرف قديماً وحديثاً هل هو صحيح شرعاً أم فاسد أي أمضاه الشارع أم لا بنينا على صحته لعموم قوله تعالى: [أَوْفُوا بِالْعُقُودِ] وامثالها ولو شككنا إن بيع زيد داره من عمرو كان صحيحاً أم فاسداً بنينا على صحته لأصالة الصحة.

ولعل هذا الأصل يرجع إلى أصل أوسع منه وهو اصالة الصحة في عمل المسلم بل في عمل العقلاء فإن الأصل في كل عاقل أن لا يرتكب العمل الفاسد وان لا يأتي إلاَّ بالعمل الصحيح غايته إن الأصل في المسلم أن لا يعمل إلاَّ الصحيح في دينه كما إن غيره يعمل الصحيح في عرقه وتقاليده وهذا الأصل مع أنه أصل عقلائي قد ايدته الشريعة الإسلامية بالأحاديث الكثيرة المتضمنة لمثل (احمل أخاك على أحسن الوجوه ولا تظن به إلاَّ خيراً).

ويؤيده سيرة المسلمين المستمرة فإنهم لا يفتشون عن المعاملات الواقعة من المسلم في بيعه وشرائه واجارته وزواجه وطلاقه وامثالها سواء كانت مع مسلم أو غيره بل يبنون على صحتها ويرتبون آثار الصحة عليها أجمع إلاَّ في مقام الخصومات فيرجع الأمر هناك إلى الإيمان والبينات. فهذا أصل واسع نافع يجري حتى في العبادات والطاعات فضلاً عن العقود والمعاملات وهو القاعدة السابعة.

7 ــ أصالة حمل المسلم على الصحيح ــ بل العاقل مطلقاً.

نعم، يقع البحث والكلام في حدودها وقيودها ومقدار مفادها ومواردها.

8 ــ كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه.

يعني إن خسارته على البائع لا المشتري ويكون العقد مفسوخاً قهراً كأن لم يكن ولازم الفسخ رجوع كل مال إلى صاحبه ويكون تلفه عليه.

والفسخ أما من حينه أو من حين التلف وتطهر الثمرة في الماء بين العقد والتلف فعلى الأول للبائع وعلى الثاني للمشتري.

9 ــ لا بيع إلاَّ في ملك.

10 ــ لا وقف إلاَّ في ملك.

11 ــ لا عتق إلاَّ في ملك.

12 ــ لا رهن إلاَّ في ملك.

هذه القواعد الأربعة مسلمة عند فقهاء الإسلام أجمع على الظاهر، ولا يقدح في الأولى مثل بيع الفضولي والولي والوكيل فإنهم يبيعون للمالك.

نعم، يشكل في بيع الغاصب لنفسه إذا أجازه المالك له أو لنفسه ويندفع بأن الإجازة إن كانت هي الناقلة فلا إشكال وان كانت كاشفة فهي تكشف عن وقوع العقد للمالك لا للغاصب فليتأمل وربما يشكل أيضاً في الثالثة بأن الرجل لا يملك عموديه فكيف لو اشتراهما ينعتقان عليه وفي مثل اعتق عبدك عني ويندفع بأن الأصحاب التزموا حفظاً لهذه القاعدة أن لا تنخرم بتحقق الملكية أناماً بحيث لا تسع غير العتق فبالشراء يملك أباه ثم ينعتق عليه قهراً قبل أن يتصرف أي تصرف بهذا العقد وكذا في الأمر بالعتق فإن المالك إذا أراد عتقه عن الآمر يكون قد نقل العبد إليه واعتقه بالوكالة عنه وبالجملة فهذه القواعد عندنا محكمة مطردة ولا استثناء لها وكلما ورد في الشرع مما هو ظاهر في خلافها فلابد من تأويله ورده إليها. نعم، يشكل الأمر في القاعدة الأخيرة (لا رهن إلاَّ في ملك) في استعارة العين للرهن كما هو المتعارف حتى في هذه العصور، والظاهر أنه من المتفق على جوازه وتطبيقه على القواعد قد يعد من معضلات الفن حتى إن بعضهم إلتزم بأنه ضمان محض وهو واضح الضعف، فأن الضمان نقل مال من ذمة إلى ذمة أو اشتراك الذمم بعهدة المال وذمة المالك المعبر لم تكن مشغولة ولم تصر بعد العارية مشغولة ويمكن التفصي عن الإشكال بأن مفاد القاعدة هو اعتبار الملك في الرهن فلا رهن إلاَّ في ملك أي في ملك الراهن والراهن هنا أي في العارية هو المالك المعبر لا المديون المستعير ولا مانع من أن يرهن الإنسان مال نفسه على دين غيره تبرعاً، إنما الممنوع أن يرهن مال غيره على دين نفسه فهو رهن حقيقة، وعارية صورة.

وأدق من هذا واعمق ــ إن المالك كما إن له أن يجعل ذمته مشغولة بدين الغير فيكون ضماناً بمعناه المعروف ويصير المال في عهدته، كذلك له أن يجعل ماله مشغولاً بدين غيره ويكون دين الغير في عهدة ماله بحيث لو عجز المديون عن الوفاء يكون ماله المرهون هو الذي يفي عنه فهو قد يرجع ببعض الاعتبارات إلى الضمان المصطلح ولكن ضمان ذمة المال، لا ضمان ذمة الرجال، ويصح أن تقول للرجل تارة أن يجعل المال في ذمته وأخرى يجعل ذمته في ماله، وعلى هذا فإن شئت فسمه ضماناً أو عارية أو رهناً ولا مشاحة في التسمية، فتدبره واغتنمه فإنه من منفرداتنا. ولله المنة.

(13) كلما يصح بيعه تصح هبته، وكلما لا يصح بيعه لا يصح هبته.

طرد هذه القاعدة مما لا إشكال فيه في الجملة ضرورة ان البيع مخصوص بالأعيان المالية وجميع الأعيان المالية يصح هبتها فالقاعدة الأولى موجبة كلية مطردة ولكن عكسها غير مطرد فإن المنافع لا يصح بيعها ولكن تصح هبتها، ولو صحَّ بيعها لم يكن فرق بين البيع والإجارة، كما إن كلية الأولى قد تشكل في مثل السلم فإن الكلي الموصوف يصح بيعه ولا يصح هبته.

(14) كلما صحّت إجارته صحت عاريته، وما لا يصح، لا يصح.

الظاهر إن هذه القاعدة صحيحة مطردة في عكسها وطردها فإن متعلق الإجارة والعارية وإن كان هو العين ولكن بأعتبار المنافع فكل عين يصح اجارتها لمنافعها صحت اعارتها لذلك وكذا العكس.

نعم قد يشكل في العين الموقوفة ضرورة أنه يصح اجارتها؛ ولا يصح اعارتها، ويندفع:

أولاً: بمنع عدم صحة اعارتها فإن للمرتزقة أن يعيروها لمن شاءوا كما إن لهم أن يهبوا منافعها لمن أرادوا.

ثانياً: لو سلم عدم الجواز فهذا أمر عرضي والقاعدة تنظر إلى الأشياء بعناوينها الأولية لا التي تلحقها ثانياً وبالعرض فليتدبر.

(15) كلما صحَّ بيعه صحَّ رهنه ــ وما لا ــ فلا.

هذه الكلية مسلمة في طردها لا إشكال فيها لأن البيع كما عرفت يختص بالأعيان وكل عين ذات مالية ــ يصح بيعها كما يصح رهنها، إنما الكلام في عكسها وهي أيضاً مسلمة بناء على المشهور من عدم صحة رهن المنافع.

نعم، يبقى الأشكال في الدين فأنه يصح بيعه ولا يصح رهنه، لأختصاص الرهن عندهم بالأعيان الخارجية ولذا جعلوا القبض شرطاً في صحة الرهن عند بعض وفي لزومه عند آخرين واستدلوا بقوله تعالى: [فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ]، وفي الخبر: (لا رهن إلاَّ مقبوضاً) فتكون القاعدة مطردة في عكسها لا في طردها لأن الرهن حينئذٍ أضيق دائرة من البيع وفي هذه القضية أبحاث دقيقة، وتحقيقات وسيعة، لا مجال لذكرها في هذا المختصر، وخلاصة ما عندنا فيها من التحقيق إن القبض لا نراه شرطاً في الرهن أصلاً لا في صحته ولا في لزومه والمراد بالقبض في الآية والخبر اعتبار كون الرهن عيناً صالحة للقبض فعلاً أي حين العقد فإذا وقع ايجاب الرهن وقبوله وجب الراهن تسليم العين المرهونة إلى المرتهن وثيقة على دينه كما يجب في البيع تسليم المبيع بعد العقد فالقبض من آثار العقد لا من شروطه ولا يكفي في الرهن كونها عيناً فقط وإن لم تكن صالحة للقبض فعلاً كما في البيع ومن هنا يتجه إمكان القول بصحة رهن الدين إذا كان حالاً أو اشتراط حلوله بحيث يمكن قبضه حين الرهن فاغتنم وتدبّر.

(16) كلما يكال أو يوزن لا يصح بيعه قبل قبضه.

وخصه الأكثر بالطعام لما روي عن النبي (ص) أنه قال: (من ابتاع طعاماً فلا يبيعه حتى يقبضه) وعلله بعض فقهاء الجمهور بضعف الملك قبل القبض لأنه لو تلف انفسخ البيع بقاعدة كل مبيع تلف قبل قبضه المتقدمة فيتوالى الضمانات في شيء واحد. وفي هذه القضية أقوال كثيرة ومباحث طويلة موكولة إلى محلها.

(17) الأصل في العقود الحلول إلاَّ مع الشرط في غير الربوي.

يعني إذا باع داره بمائة دينار مثلاً واطلق أو آجرها كذلك فالأصل يقتضي تسليم الثمن نقداً إلاَّ أن يشترط تأجيلها إلاَّ في الربويات فإن التأجيل يبطلها فلو باعه منّاً من الحنطة بمثلها أو يمن من الشعير إلى شهر أو سنة بطل، لأن الربويات يجب بيعها مثلاً بمثل يداً بيد، وكذا في الصرف ونظائره مما يجب فيها التقابض في المجلس ويبطلها التأجيل.

الفصل الثاني

في أحكام الشروط

(18)الشرط جائز بين المسلمين إلاَّ ما أحل حراماً أو حرّم حلالاً هذه من النبويات أيضاً ومثلها.

(19)المؤمنون عند شروطهم إلاَّ ما خالف كتاب الله.

(20) الشرط أملك عليك أم لكَ.

وهذه توضح المراد من الجواز في الأولى و(عند شروطهم) في الثانية، وإن المقصود منه هو النفوذ واللزوم (جاز بمعنى نفذ) لا الجواز بمعناه المعروف. ومعنى كون المؤمن عند شرطه أنه لا ينفك عن شرطه ولا يتخلف عنه بل هو ملتزم به أبدا. وفي تعليق الظرف على المؤمن واسناده إليه إشارة إلى إنَّ الإيمان يلازم الوفاء بالعهد والإلتزام وإن من لا يفي بعهده فليس بمؤمن.

وبالجملة فهاتان الجملتان من جوامع كلمه صلوات الله عليه، ويقع البحث والنظر في فقه الحديثين وإن المراد بما خالف كتاب الله أو أحل حراماً أو حرّم حلالاً ــ ماذا؟ ــ هل هو تحليل الحرام بمعنى التشريع مثل أن يشترط عليه أن يجعل شرب الخمر المحرّم على المكلّف حلالاً له. أو يشترط عليه أن يشرب الخمر على حرمته ويتفرّع على هذا أنه لو شرط بائع الجارية على المشتري أن لا يطأها أو لا يمسها ونحو ذلك، أو شرطت الزوجة في عقد النكاح على الزوج أن لا يطلقها أو لا يتزوج عليها ونحو ذلك، فهل مثل هذه الشروط باطلة لأنها تحرم حلالاً أو لا، بل المراد تحريم الحلال الذي علم من الشرع عدم صلاحيته للتغيير وعدم تأثير شيء عليه مثل الأرث والتسري والتزويج بأكثر من واحدة، فلو شرطت عليه أن لا يورث أولاده أو لا يتسرى أو لا يتزوج بغيرها، كان باطلاً لأنه يحرّم حلالاً غير صالح لأن يتغير بالشرط بخلاف اشتراط أن لا يسافر بها أو لا يخرجها من بيت أبيها وأمثالها من المباحات ذاتاً وتكون بالشرط واجبة الفعل أو الترك وإلاَّ لبطلت الشروط ولم يبقَ لها مورد.

وللفقهاء في هذه المشكلة مباحث مطوّلة وآراء متضاربة شحنوا بها مطولاتهم. وزبدة ما عندنا من الحل فيها بعد الغربلة والتمحيص إن اشتراط شيء من المحرمات الذاتية أو العرضية كما لو باعه واشترط عليه شرب الخمر أو مخالفة النذر أو الصيد في الإحرام أو وطئ زوجته الحائض ونظائر ذلك فهو باطل بلا اشكال لأنه شرط يحلل حراماً ثم اختلفوا أنه يبطل العقد أو لا، وقد عرفت أن الأصح إن مثل هذه الشروط الباطلة غير مبطلة، وأما اشتراط ترك شيء من المباح كترك الطلاق أو ترك الزواج أو عدم السفر، وما إلى ذلك من أنواع الحلال فله صورتان:

الأولى: أن يكون متعلق الشروط ذوات الأفعال مع قطع النظر عن أحكامها بأن يشترط في العقد نفس الفعل أو عدم الفعل فيكون الفعل أو عدمه لازماً بالشرط وإن كان مباحاً بالذات مثل أن تشترط عليه أن لا يطلّقها أو لا يتزوج عليها، وأمثال ذلك.

الثانية: أن يكون متعلق الشروط الأفعال بأعتبار مالها من الأحكام شرعاً تكليفاً أو وضعاً فيكون الغرض من الشرط في الغاية قلب الحكم الشرعي وتغييره فتكون الشروط على هذا مشرّعة مثل أن تشترط في عقد النكاح أن يجعل الزواج بغيرها أو طلاقها حراماً عليه أو يجعل إرثها ثلثاً من تركته لا ربعاً أو ثمناً إلى أمثال ذلك من الشروط المغيرة لنفس الحكم الوضعي أو التكليفي وهذه هي الشروط التي تحرم الحلال وتخالف كتاب الله وشريعة الإسلام لا الذي هو على الصورة الأولى وإلاَّ لكانت الشروط كلها باطلة ولم يبقَ للشروط الصحيحة مورد كما سبق.

(21) كل شرط تقدم العقد أو تأخر فهو باطل.

الشروط المتفق على لزومها بلزوم العقد بعد فرض صحتها ويكون تخلفها موجباً للخيار هي التي تقع ضمن العقد. أما التي تتقدم فإن وقع العقد مبنياً عليها كما لو قال: بعتك على الشروط المتقدمة لزمت وكانت كالمذكورة في العقد. وأما التي تتأخر بعده بفاصل معتد به بحيث يكون منفصلاً عن العقد فلا أثر لها ولا ترتبط بالعقد أصلاً.

(22) شرط الله أحق وأسبق والولاء لمن أعتق.

هذه أيضاً من النبويات قالها (صلوات الله عليه) لما أشترت عائشة بريره وأشترط مواليها أن لهم ولائها عند عتقها فقال (ص): (شرط الله أحق وأسبق والولاء لمن أعتق).

يعني إن هذا شرط يخالف ما شرعه الله في طبقات الإرث فإن أسباب الإرث نسب أو سبب، والسبب أما مصاهرة أو ولاء أو إمامة، والولاء هو ولاء المعتق ولا يمكن أن يتغير بالشرط فيكون لغيره كما لا تتغير سائر أسباب الإرث.

(23) شرط الواقف كنص الشارع.

هذه القاعدة مأخوذة من الحديث المشهور الوقوف على ما يوقفها أهلها، يعني أنه يجب الاقتصار عليها وعدم التعدي حسب الإمكان فلو لم يمكن أو كان في الاقتصار ضرر على الوقف أو المرتزقة جاز التعدي عنها على خلاف بين الفقهاء لا محل لذكره.

(24) كل عقد شرط فيه خلاف ما يقتضيه فهو باطل.

لا إشكال في أن الشرط الذي ينافي مقتضى العقد باطل بل ويبطل العقد لأنه يستلزم عدم الجزم بمضمون العقد، إنما الكلام والبحث في تشخيص منافي مقتضي العقد من غير المنافي وتعيين الضابطة الكلية في المقام فلو باعه العبد وشرط أن لا يعتقه أو باعه الدار وشرط عليه أن لا يبيعها أو لا يرهنها، وأمثال ذلك مما يسلب سلطنة الممالك عن بعض التصرفات فإنها شروط صحيحة اتفاقاً مع إنها تنافي مقتضى العقد.

و(التحقيق) إن المراد بالمنافي الذي يبطل ويبطل العقد هو ما ينافي جوهر العقد وحقيقته مثل أن يبيعه بشرط أن لا يملك أو بشرط أن لا يتصرف أصلاً أو آجره الدار بشرط أن لا يتصرف في منافعها فإن مثل هذه الشروط تعود إلى أبطال صميم العقد وتؤدي إلى شبه التناقض ومرجعها إلى أني بعتك وما بعتك وآجرتك وما آجرتك.

أما لو باعه واشترط عليه أن لا يبيع أو لا يرهن أو آجره واشترط عليه أن لا يؤجر وامثالها فهي لا تنافي صلب العقد وحقيقته وإنما تنافي اطلاقه، يعني إن العقد إذا أطلق كان له السلطنة التامة المطلقة على المبيع ولو قيّد كان له السلطنة المقيّدة، أما لو سلبه مطلق السلطنة بطل، والفرق واضح بين مطلق السلطنة والسلطنة المطلقة والشرط بالنحو الأول باطل وبالنحو الثاني صحيح وهذا في كثير من العقود وأكثر الشروط واضح، والتمييز بينهما بيّن، ولكن قد يشكل في كثير من المقامات مثل ما لو تزوجها بشرط أن لا يطلقها فإنه شرط صحيح ولا ينافي مقتضى العقد بل ينافي اطلاقه ولو تزوجها بشرط أن لا يطأها أبداً ففي مثل هذا الشرط يقع الإشكال في إنه منافٍ لجوهر العقد وحقيقته أو لأطلاقه، وفي أمثال هذا تظهر فقاهة الفقيه وقوة استنباطه ودقة نظره ولطف قريحته.

الفصل الثالث

في القواعد المختصة بالخيارات وأحكام الخيار

(25) البيعان بالخيار ما لم يفترقا، فإذا افترقا وجب البيع.

هذه أيضاً من النبويات المتسالم على صحة روايتها عند عامة المسلمين ولعلها من المتواتر ويثبت بها أول خيار في عقد البيع وهو خيار المجلس الذي اتفقت عليه الإمامية وأكثر المذاهب استناداً إلى إن ظاهر الافتراق هو التفرق بالأبدان وهو المتبادر منه لغة وعرفاً، فيكون معنى الحديث إن البائع والمشتري لهما الخيار بعد اجراء العقد إلى أن يفترقا وما داما مجتمعين في مجلس العقد، فالخيار باقٍ لهما فإذا تفرقا صار البيع لازماً لا خيار فيه من هذه الجهة وعليه فلا مجال لأنكار خيار المجلس وحمل الحديث على معنى بعيد لا يساعد عليه عرف ولا لغة.

(26) المعيوب مردود.

تومي هذه القاعدة إلى خيار العيب ويمتاز عن سائر الخيارات بأن المعيب ثمناً أو مثمناً يوجب الخيار بين الفسخ أو الأمضاء بالأرش، وقد يتعين الأرش في بعض الموارد كما لو حدث عيب جديد يمنع من الرد وقد يتعين الفسخ أو الامضاء بغير ارش كما لو أحاط الارش بالثمن فإن أخذه يستوجب الجمع بين العوض والمعوّض فيتعين الفسخ أو الإمضاء بقبوله معيباً ولا يمكن المطالبة بالارش، وهنا مباحث جمّة وتحقيقات مهمة، عسى أن تأتي الإشارة إلى يسير منها في بابها من هذا الكتاب.

(27) الخيار في الحيوان ثلاثة ثم لا خيار.

تفيد هذه القاعدة (ولعلها نص حديث) خيار الحيوان وهو أحد الخيارات المشهورة وفيه جهات للبحث عند الفقهاء كثيرة منها إنه هل يختص بمشتري الحيوان أم يعم بائعه، وهل يختص بعقد البيع أم يعم سائر العقود الناقلة.

(28) التصرف مسقط للخيار.

لا خلاف عندنا أن تصرف ذي الخيار فيما له الخيار فيه مسقط لخياره والأخبار به مستفيضة. إنما الكلام في مقدار التصرف المسقط فقيل كل تصرف حتى ركوب الدابة ولو قليلاً واستخدام العبد ولو بمثل أسقني الماء. وقيل بل خصوص التصرفات التي لا تصح من غير المالك كتقبيل الجارية وبيعها ورهنها والفقهاء هنا بين افراط وتفريط والأوفق بالأعتبار والجمع بين الأخبار إن كل تصرف دال على الرضا والإلتزام بالعقد فهو مسقط للخيار. وإلاَّ فلا، فلو ركب الدابة يريد اختبارها واستخدم العبد يريد امتحانه لم يسقط خياره.

(29) التلف في زمن الخيار ممن لا خيار له.

مثلاً لو تلف الحيوان عند المشتري في الثلاثة وقلنا بأختصاص الخيار به دون البائع فالتلف بمقتضى هذه القاعدة على البائع ويسترجع المشتري الثمن منه ولازمه انفساخ العقد قبل التلف اناماً حتى يكون التلف في ملك البائع ويرجع الثمن إلى المشتري حسبما يستدعيه كل فسخ أو انفساخ وإلاَّ فليس من المعقول إن تلف مال شخص يكون ضمانه على آخر قهراً عليه وهذه القاعدة نظير أختها المتقدمة ــ كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه والفرق بينهما إن التلف هناك قبل القبض وهنا بعده، والكلام في إن الفسخ من حين العقد أو من حين التلف عين ما تقدم.

(30) كل خيار فإنه يزلزل العقد.

أتفق الإمامية على إن العقد الخياري يقع متزلزلاً وإن كانت آثار العقد تترتب من حينه من الانتقال والملكية ووجوب التسليم وغيرها، غايته إنه لو فسخ صاحب الخيار إنحل العقد ورجع الثمن إلى المشتري والمثمن إلى البائع ويقع الكلام حينئذٍ إن الفسخ هل هو من حينه أو ينحل العقد من اصله ويترتب على ذلك قضية المنافع من حين العقد إلى حين الفسخ وعلى الأول تكون منافع المبيع في تلك المدة للمشتري ومنافع الثمن للبائع وعلى الثاني بالعكس ونسب إلى بعض أعاظم فقهاء الإمامية إن العقد لا يؤثر إلاَّ بعد انقضاء زمن الخيار وصيرورة العقد لازماً وهو غريب شاذ. وعلى كلٍ فالعقد الخياري يقع مراعي فأما أن ينحل وينتقض أو يلزم ويبرم ثم إن الجواز واللزوم قد يتحاوران على العقد وذلك في شرط الخيار فقد يشترط الخيار لنفسه بعد سنة في ثلاثة أيام فإذا مضت الثلاثة ولم يفسخ لزم فهو جواز بين لزومين ولو شرط له خياراً بعد خيار المجلس بشهر، مثلاً فيكون لازماً في الشهر فقط فهو لزوم بين جوازين وربما يتحقق أمثال هذا في غير خيار الشرط من أنواع الخيارات كما يظهر للمتتبع النبيه.

(31) الأصل في الخيار الفورية.

حيث قد عرفت إن الأصل في العقود اللزوم سيّما البيع فلا يخرج عن هذا الأصل إلاَّ بمقدار اليقين فإذا دلَّ الدليل على الخيار في الجملة لزم الاقتصار على المتيقن وهو الفور فإن فسخ ذو الخيار فوراً وإلاَّ صار العقد لازماً.

نعم، لو كان في دليل الخيار دلالة على التراخي صراحة أو اطلاقاً أمتد زمن الخيار بمقدار ما يدل عليه الدليل ومن هنا قسموا الخيار من حيث الفور والتراخي إلى ثلاثة أنواع:

الأول: ما هو على التراخي أما من نفس دليل الجعل كخيار المجلس وخيار ثلاثة الحيوان وخيار ثلاثة التأخير وخيار العيب أو بجعل المتعاملين كخيار الشرط وشرط الخيار.

الثاني: ما هو على الفور كخيار الرؤية على المشهور فإذا باع عيناً بالوصف ثم وجدها على خلافه كان له الفسخ فوراً، فإن لم يفسخ لزمه العقد ولكن اطلاق بعض الأخبار قد يستفاد منه التراخي على اشكال.

الثالث: ما يصلح لكل منهما وهو الخيار المجعول بجعلهما كخيار الشرط كما عرفت، أما خيار الغبن أو العيب فقيل على الفور ولعله المشهور وقيل على التراخي وهو الأقرب عندنا.

الفصل الرابع

في الدين والرهن والضمان

الدين في مقابل العين وهو اشتغال الذمة بكلي للغير أو الكلي الذي اشتغلت به الذمة للغير، مثلاً إذا اشتغلت الذمة بدرهم فهو كلي لأن كل درهم في الخارج يصلح أن يكون مصداقاً له والتعيين في الوفاء للمديون.

وسبب اشتغال الذمة يكون اختيارياً تارة كما في العقود مثل القرض والبيع والإجارة ونحوها، وقهرياً أخرى كالواجبات المالية الشرعية مثل الكفارات والضمانات والنفقات وغيرها. ويكون حالاً ومؤجلاً حسب الجعل، والرهن هو الوثيقة على الدين، ويمكن جعل الوثيقة على العين كالعارية والمقبوض بالسوم ونحوها ولكن لا يسمى رهناً.

أما الضمان فهو عند الجمهور اشتغال الذمم بحق واحد فهو عندهم من الضم والنون زائدة فيصح أن يقال أنه ضمَّ ذمة إلى أخرى. وعند الإمامية انتقال الحق أو نقل الحق من ذمة إلى اخرى فهو من الضمن والنون أصلية والمراد بالحق المضمون هو الدين أي الحق الثابت في الذمة فعلاً أو بالقوة القريبة كدرك الثمن أو المثمن وكنفقة الزوجة مدة شهر أو سنة وهذا هو الذي يصح الرهن عليه ومن هنا تتجه القاعدة.

(31) كلما جاز الرهن عليه جاز ضمانه.

وهي كلية مطردة في طردها، أما عكسها وهو ما لا يجوز الرهن عليه لا يجوز ضمانه فقد ينفض بدرك المبيع فقد قيل أنه لا يجوز الرهن عليه لأستلزامه بقاء الرهن في الغالب مؤبداً لجواز أن لا يظهر له مستحق بخلاف الضمان فإنه لا محذور فيه ولا يخفى ما فيه.

(32) كل دين حال لا يتأجل.

تأجيل الحال يحتاج إلى سبب جديد وهو نادر منها اشتراط تأجيله في عقد لازم. ومنها ضمان الغير له مؤجلاً.

(33) كل دين مؤجل لا يكون حالاً.

إلاَّ برضاهما أو موت المديون للخبر المشهور (إذا مات الميت حلّت ديونه) وسره زوال ذمته بموته فينتقل الحق في ماله وهذا نظير ما ذكرنا سابقاً من اشتغال ذمة المال لا ذمة الرجال يعني انتقل الحق من ذمته إلى تركته.

(34) الراهن والمرتهن ممنوعان من التصرف.

الظاهر أنه حديث أو مضمون حديث والأصل والاعتبار أيضاً يقتضي ذلك إذ لو أطلق التصرف للراهن في العين المرهونة كما كان قبل الرهن زال الوثوق، أما المرتهن فليس له إلاَّ حق استيفاء دينه من الرهن لو امتنع الراهن عن الاداء فالعين ومنافعها لا تزال ملك الراهن وإن كان ممنوعاً من استيفائها بنفسه.

(35) المرهون غير مضمون إلاَّ مع التعدي أو التفريط.

لأن العين المرهونة عند المرتهن أمانة والأمانة لا تضمن إلاَّ بالتعدي أو الشرط.

(36) المرتهن أحق برهنه.

وهذه أحدى فوائد الرهن فإن الراهن إذا أفلس أو مات وقصرت أمواله عن ديونه يضرب الغرماء في تركته بالنسبة، ولكن المرتهن يأخذ تمام دينه من الرهن فيبيعها هو أو الورثة أو الحاكم فإن زاد ضمه إلى الأموال للغرماء وإن نقص ضرب معهم بالناقص.

(37) الكفيل غارم.

فإذا عجز المكفول أو أعسر أو تمرد غرم الكفيل أي تعين للغرامة وهذا على رأي الجمهور في الضمان والكفالة وأما عند الإمامية فالمكفول تبرء ذمته من حين الضمان وينتقل الحق إلى ذمة الضامن.

ثم إن الضمان يستعمل في اصطلاح الشرع والمتشرعة والفقهاء في معنيين:

الأول: ما سبق من ضم ذمة إلى ذمة أو انتقاله من ذمة إلى أخرى.

الثاني: غرامة المال وكون خسارته عليه ولكن لما كان خسارة مال كل انسان عليه لم يكن معني لأستعمال الضمان بهذا المعنى لأن الإنسان لا يملك على نفسه شيئاً لذلك لم يستعمل الضمان فيه إلاَّ نادراً وأختص استعمال الضمان في الأكثر بما إذا تحمّل انسان خسارة تلف مال غيره فيقال هو ضامن لفلان أي يملك على ذمته غرامة ماله ويمكن اندراج المعنيين تحت عنوان واحد جامع وهو أن حقيقة الضمان هو كون مال إنسان في عهدة آخر فيندرجان تحت ضمان العهدة وحيث أنه على خلاف الأصل ضرورة أن الأصل عدم تحمل إنسان لعهدة مال غيره فلا يتحقق الضمان مطلقاً وبأي معنى كان إلاَّ بأسباب خاصة بعضها أختياري كالضمان بالمعنى الأول وبعضها قهري وإن كانت بعض مقدماته أختيارية أو لا أختيار فيه أصلاً كالضمان بالمعنى الثاني وله أسباب شرعية كثيرة ويساعد أعتبار العقلاء على سببيتها للضمان أيضاً. وأقوى تلك الأسباب وأكثرها موارد هي اليد.

(38) قاعدة اليد.

المأخوذة من الحديث النبوي المشهور (على اليد ما أخذت حتى تؤدي). وهي أيضاً من النبويات البليغة وجوامع كلمه (صلوات الله عليه) وكتب فيها علماؤنا الأعلام رسائل منفردة وشروحاً ضافية ولا مجال هنا لبسط القول فيها وخلاصته ما تدل عليه أن كل من وضع يده على مال غيره ظلماً وعدواناً أو جهلاً ونسياناً أو غير ذلك فهو ضامن له أي يكون عهدة ذلك المال عليه حتى يرده إلى صاحبه ولازم ضمان العهدة أي يكون المال في عهدتك أن ترده إلى مالكه إن كان المال موجوداً وإن تلف تتداركه برد المثل أو القيمة إليه فتؤديه إليه ببدله بعد تعذر عينه. فاليد سبب للضمان بهذا المعنى ويتفرع على ذلك قضية ترتب الأيادي على العين الواحدة فالغاصب مثلاً إذا باع العين المغصوبة ثم انتقلت من يد إلى يد فكل واحد منهم ضامن ولكن على البدل بمعنى أن للمالك الرجوع على أي شخص منهم ويرجع كل منهم على الآخر ويكون قرار الضمان على من تلفت العين في يده، ولنا في هذا البحث تعليقات نفيسة على كلمات الأصحاب ومباحث دقيقة في هذه القاعدة لا يسعها هذا المختصر (السبب الثاني).

(39) قاعدة الغرور.

المستفادة من بعض الأحاديث وأعتبار العقلاء المعبّر عنها بقولهم: (المغرور يرجع إلى غره) فلو قدم لك شخص طعاماً لتأكله مجاناً أو دابة لتركبها ثم ظهر أنها لغيره فله أن يطالبك بالقيمة أو الأجرة وعليك أن تدفعها له وترجع بما دفعت على من غرّك وأغراك بأنه طعامه وقد بذله لك وهكذا أمثال ذلك في جميع الأبواب. فالغرور من أسباب الضمان كاليد، وينفك الغرور عنها في الموارد التي لابد هناك وبينهما عموم من وجه كما لا يخفى وأبواب الغرور المجرد في البيوع والإجارة وغيرها كثيرة، ويشبه أن يكون من باب التسبيب كالقاعدة الآتية.

(40) الإتلاف.

وهو السبب الثالث من أسباب الضمان وهو ينفك عن سابقيه ومدركه القاعدة المستفادة من الأخبار أيضاً وهي (من أتلف مال غيره فهو له ضامن).

وهي عامة أيضاً كقاعدة اليد، يعني أن التلف كالأتلاف يجري في العالم والجاهل والعامد والغافل، والناسي والذاكر، والصبي والبالغ.

نعم، التلف يختص باليد ويعم السماوي وغيره. كما إنَّ الاتلاف يعم ما لو كان تحت اليد أو لم يكن.

(41) الاحترام.

من أسباب الضمان احترام عمل المسلم، فمن عمل عملاً لمصلحتك مع الأذن من حاكم الشرع أو مطلقاً أو آمرته بأن يعمل لكَ عملاً فقام به فليس معناه أنه عمله مجاناً بل عليك أجرة المثل له لأن عمل المسلم محرم إلاَّ إذا قصد التبرّع أو صرّح بذلك فلو اختلفا في صورة عدم التصريح فالقول قوله لأنه أعرف بقصده ولا يعلم إلاَّ من قبله.

 (42) ما يضمن بصحيحه يضمن بفساده، وما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفساده.

من أسباب ضمان مال الغير قبضه بعقد معاوضة فاسد وعقود المعاوضات كلها ضمانية فالبيع مثلاً صحيحه مضمون بالثمن المسمى ففاسده مضمون أيضاً، ولكن بالمثلا أو القيمة فلو قبض المشتري المبيع بالبيع الفاسد وتلف في يده مع جهل البائع بالفساد كان مضموناً عليه أي على المشتري لأن البيع صحيحه مضمون، ففاسده أيضاً مضمون بمثله أو قيمته، والهبة وأمثالها من عقود الارتفاق والمجان صحيحها غير مضمون ففاسدها غير مضمون فلو قبضت عيناً بالهبة الفاسدة لا تضمنها لأن صحيحها غير مضمون ففاسدها غير مضمون. ومثلها الوقوف والصدقات وإضرابها، ولكن التحقيق إن سبب الضمان في البيع الفاسد ونظائره هو قاعدة اليد وسبب عدم الضمان في الهبة وأخواتها هو التسليط المجاني المسقط لضمان اليد كما سيأتي قريباً والبحث المستوعب في هذه القاعدة موكول إلى محله وحيث عرفت أشهر أسباب الضمانات وأشيعها فأعلم إن للضمانات مسقطات أهمها وأقومها (الأمانات).

(43) الائتمان مسقط للضمان.

وضع اليد على مال الغير يقتضي الضمان حسبما عرفت، ولكن إذا دفعه إليك مؤتمن سواء كان بصفة الأمانة المجردة كما لو كان الدفع لمصلحته فقط كالوديعة التي هي استنابة في الحفظ، فقد سقط الضمان قطعاً فلا ضمان بتلفها إلاَّ مع التعدي والتفريط وهما في الحقيقة إتلاف وإلاَّ فضمان اليد ساقط قطعاً، أو كان أمانة مختلطة كما لو كان الدفع لمصلحة الطرفين مثل العين المستأجرة ومال القراض (المضاربة) ونظائرها أو كانت متمحضة للقابض كالعارية. فحكم الجميع عدم الضمان للائتمان وليس على الأمين غير اليمين. فالضمانات لا تجتمع مع الأمانات أصلاً ولكن بالحد الذي عرفت من الضمان فتدبره جيداً.

(44) الإذن مسقط للضمان.

هذا هو المسقط الثاني فإن الاذن من الشارع أو من المالك وإن لم يكن بصفة الأمانة الخاصة أو العامة يسقط الضمان كما لو أذن لكَ في أكل ماله أو عتق عبده عن نفسك أو ركوب دابته وعطبت ففي كل ذلك لا ضمان وإن كان مقتضي الضمان في الجميع قائماً وهو اليد، ولكن الإذن مانع ومثله الإذن الشرعي وهو الأمانات الشرعية لا المالكية كاللقطة ومجهول المالك بل ومال اليتيم عند الولي ومال الغائب عند الحاكم وهكذا اليد تقتضي الضمان والإذن الشرعي يسقطه فتدبر هذا.

(45) التسليط والإقدام يسقط الاحترام.

مال المسلم وعمله كما عرفت محترم ومقتض للضمان، ولكن لو عمل لكَ عملاً بدون اذنك أو مع نهيك أو باعك بالبيع الفاسد وسلطك على المبيع مع علمه بالفساد فأتلفته أو تلف من نفسه عندك سقط الضمان عنك ولا يستحق الثمن ولا الإجرة لأن التسليط والإقدام قد اسقط احترام ماله وعمله وإذا سقط الاحترام سقط الضمان. نعم، لو كانت العين موجودة كان له استرجاعها طبعاً.

هذه أهم أسباب السقوط بعد الإسقاط والوفاء والدفع والإبراء، كما أن تلك أهم أسباب الضمان عدا ضمان الدرك وأشباهه مما لا يندرج في عنوان الضمان بالمعنى الذي ذكرناه من كونه تلف مال شخص على آخر وضمان العهدة يشمل الكل ويعم الجميع فتدبره.

الفصل الخامس

في قواعد عامة متفرقة يبتنى عليها جمهرة من الفروع

(46) قاعدة السلطنة.

التي تستفاد من النبوي (المال مسلطون على أموالهم) ويترتب عليها كثير من الأحكام، مثلاً للإنسان أن يتصرف في داره كيف شاء ويفتح شبابيك في جداره ولو مع الأشراف على جاره وليس للجار منعه لأن الناس مسلطون على أموالهم إلاَّ أن يستلزم ذلك الأضرار بالجار فيرفع لقاعدة لا ضرر الحاكمة على قاعدة السلطنة. نعم، لو تعارض الضرران رفعت القضية الشخصية إلى حاكم الشرع لينظر أي الضررين أخف فيقضي به أو يجد منفذاً يتخلص منه إلى الجمع بين الحقين وارتكاب أهون الأمرين.

(47) قاعدة الجهالة والغرر.

أتفق الكل على إن الجهالة في العقود اللازمة كالبيع والإجارة ونحوهما مبطلان للعقد يعني أنه لا يصح مع الجهالة في أحد العوضين والتعيين والعلم شرط في صحة العقود بل الايقاعات في الجملة فلو باعه بعشرين ولم يعينها دراهم أو دنانير أو باعه كتاباً ولم يعينه بشخصه أو بوصفه الرافع للجهالة لم يصح العقد، كما إنه قال أحدى نسائي طالق أو أحد عبيدي حر لم يقع طلاق ولا عتق، وهذا مما لا اشكال فيه عند عامة المسلمين في الجملة، ويؤيد الإجماع الشرعي والعقلائي الحديث النبوي المشهور: (نهى النبي عن الغرر)، أو (نهى النبي عن بيع الغرر)، إنما الاشكال والبحث والجدال في ضابطة الغرر والجهالة، وقد اضطربت كلمات الفقهاء واللغويين في تعريفه وتحديده ويتفرع على ذلك فروع كثيرة يختلف حكمها بأختلاف معنى الغرر، وإن مجهول الوجود أو الحصول أو العين أو الصفة أو المقدار لا يصح بيعه. وسيأتي بيان ذلك في محله إن شاء الله.

(48) قاعدة الإحسان.

المستفادة من قوله تعالى: [مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ]. ويتمسك بها في موارد كثيرة مثل ما لو أودع عندك شخص وديعة وخشيت عليها من التلف فنقلتها إلى مكان حريز تأمن عليها فيه وصرفت على نقلها مالاً فإنك تستحق الرجوع به على المالك، وإن لم يأذن لك فيه، ولكنك محسن و [مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ] بل يمكن القول بأن لك حق سعيك وعملك لأن عمل المسلم محترم إن لم تقصد التبرع. وهذا مما يساعد عليه العقل والعرف والاعتبار سيّما في اللقيطة حيواناً أو انساناً حراً أو عبداً، فيجوز بل قد يجب على الملتقط أن ينفق عليها خوف الهلاك ويرجع بها على صاحبها لو وجده بعد ذلك ومن قيمتها إن لم يجده بعد سنة ولكن بمراجعة حاكم الشرع وإن كان حراً فمن عمله أو من بيت المال.

(49) قاعدة نفي السبيل.

المستفاد من قوله تعالى: [لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً] وفرعوا عليها عدم جواز بيع العبد المسلم والأمة من الكافر ولا تزويجها منه فضلاً عن تزويج الحرة المسلمة وألحق بعضهم به بيع المصحف منه.

(50) قاعدة عموم التكليف.

ويعبرون عنها بأن الكفار مكلفون بالفروع كما إنهم مكلفون بالأصول. ومقتضى هذه القاعدة إن الكافر إذا أسلم يجب عليه أن يقضي جميع ما فاته من بلوغه إلى اسلامه من صلوات وصيام وزكوات وغيرها، ولكن يسقط عنه جميع ذلك ببركة:

(51) قاعدة الجب.

المستفادة من قوله (ص): (الإسلام يجب ما قبله) وكانت معاملته (ص) مع المشركين وغيرهم من الكتابيين الذين يدخلون في دين الإسلام تشهد بذلك ولا يكلفه بقضاء شيء مما مضى من الحقوق الآلهية ولا يبقى عليه إلاَّ حقوق البشر من الديون ونحوها. أما الحقوق المالية كالزكوات ونحوها فعند المشهور تسقط ولعل القواعد تأبى.

(52) الاوصاف لا تقابل بالأعواض.

الأعواض هي الأعيان القائمة في الوجود بنفسها من نقود وعروض أو ما يتحصل منها كالمنافع، والأوصاف هي الأعراض التي لا تستقل بالوجود وإنما يتقوم وجودها بوجود غيرها وذلك كعوارض الكم والكيف وأخواتها من المقولات والأعيان هي التي تقابل بالمال في نظر العرف وتكون ثمناً لها هو مثلها في كونه عيناً وجوهراً فالعين تقع في مقابل العين. والثمن يقع بإزاء المثمن، أما الأوصاف التي هي أعراض وليس لها وجود مستقل فلا يقع شيء من الثمن بأزائها كما يقع في مقابل العين ويتوزع على ابعاضها الحقيقية أو الاعتبارية، مثلاً إذا اشتريت فرساً بشرط كونها اصيلة بمائة دينار أو عبداً بشرط كونه كاتبة فهي بأجمعها في مقابل العبد أو الفرس لا في مقابل العبد وكتابته فلا يتقسط شيء من الثمن على الكتابة كما تتقسط على جوارحه. نعم، الكتابة وسائر الاوصاف الحسنة في العبد وفي الخيل تزيد في قيمتها أي في قيمة عينها ويظهر أثر ذلك فيما لو تخلف الوصف المشترط في العقد فإن تخلفه يوجب الخيار بين الفسخ أو الامضاء بالثمن وليس له المطالبة بالتفاوت كما في خيار العيب الذي يوجب نقصاً في أصل الخلقة فيكون اما فقد جزء أو فقد ما هو بمنزلة الجزء فإن السلامة كشرط ضمني إليه ينصرف إطلاق العقد ولا يرتفع أثره إلاَّ بالبراءة من العيوب، فلو ظهر المبيع معيباً بمرض ونحوه كان للمشتري المطالبة بالأرش فوصف السلامة غير أوصاف الكمال وربما يأتي مزيد بيان لذلك في محله بتوفيقه تعالى.

(53) من أحيا أرضاً ميتة فهي له.

هذا أيضاً من الأحاديث النبوية المشهورة ويدل بأطلاقه إن الأرض التي ليس لها مالك مخصوص أو لا يعرف مالكها بالخصوص المفتوحة عنوة أو غيرها إذا احياها انسان ملكها وهذا متفق عليه في الجملة إنما الكلام:

أولاً: في إنه هل يحتاج الأحياء إلى اذن الإمام أو السلطان أم لا؟، ووجه الأول إن الانفال هي للإمام والخراجية وإن كانت للمسلمين ولكن أمرها أيضاً راجع إلى الإمام لأنه ولي المسلمين فلابد من استئذانه بالتصرف فيها وتقبلها منه. ووجه الثاني إن ورود أمثال قوله (ص): (من أحيا أرضاً ميتة فهي له) كأذن عام وتمليك للمحيي.

وثانياً: إن الأحياء هل يفيد ملكية أيديه كسائر الأملاك أم تدور مدار بقاء الأحياء فلو عادت إلى الخراب خرجت عن ملكه أم لا، وتحقيقه موكول إلى محله.

(54) النهي في العبادات يقتضي الفساد مطلقاً، وفي المعاملات في الجملة.

أما وجه دلالته على الفساد في العبادة فواضح ضرورة إن العبادة روحها القربة، وأن يكون العمل مقرباً والنهي يقتضي كونه مبغوضاً، والمبغوض لا يصلح أن يكون مقرباً. أما في المعاملات فالنهي لا يخلو أما أن يكون لذات المعاملة أو لركنها أو غير ركن من اجزائها أو لوصفها اللازم أو لوصفها المفارق أو لأمر خارج عنها، أما النهي لذاتها فمثل قوله(ص): (لا تبع ما ليس عندك)، و(لا بيع إلاَّ في ملك)، وأما لأركانها فمثل قوله: (ثمن الكلب سحت) فإن الثمن والمثمن ركنا المعاملة، وأما لأجزائها الغير الركنية فمثل النهي عن بيع غير البالغ فإن البائع والمشتري وإن لم يكونا أركاناً في المعاملة ولكنهما من جهة لزوم رضاهما جزآن لها.

وأما النهي عن أوصافها اللازمة فمثل النهي عن ملك الرجل عموديه ومحارمه فإن الملكية من آثار البيع اللازمة، وأما لوصفها المفارق فمثل المنع من لزوم المعاملة بخيار أو فسخ فإن اللزوم وصف مفارق لها، وأما ما كان لأمر خارج فمثل النهي عن البيع وقت النداء بقوله تعالى: [فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ]، ومثل هذا النهي لا يقتضي الفساد قطعاً كما إن النهي عن الاركان يقتضيه اتفاقاً، وأما الباقي فمحل خلاف والحق إن المقامات تختلف ويلزم النظر في دليل كل مورد بخصوصه حتى يستظهر منه إن المراد من النهي هو الفساد والحكم الوضعي أو محض الحرمة والحكم التكليفي فمثل حديث نهي النبي (ص) عن بيع الغرر حيث إن الغرر هو الجهالة والإقدام على الخطر وهي ترجع إلى الثمن أو المثمن وهما ركنان فلا ريب في إنه يدل على الفساد، ولكن مثل لا يملك الرجل عمودية يحتمل الحرمة ويحتمل الفساد ويلزم في مثله التأمل والإستعانة بالقرائن لتحصيل الحقيقة وهي من وظائف المجتهد المطلق وباقي البحث موكول إلى محله.

(55) كل شيء لا يعلم إلاَّ من صاحبه فقوله مصدق فيه.

الأشياء التي لا يمكن العلم بها في الغالب إلاَّ من نفس صاحبها لا محيص من لزوم تصديقه فيها وإلاَّ لوقف جريان كثير من الأمور مثلاً إذا انفقت على الوديعة التي عندك مبلغاً لحفظها من التلف فقال لك: المالك أنت متبرع وقلت: قصدت الرجوع بالعوض ولم أقصد التبرع فقصدك لا يمكن العلم به عادة إلاَّ من قبلك فلو لم تصدق فيه لوقف جريان القضية ولم تنحل مثل هذه الخصومة غايته أنه لسد احتمال الكذب تلزم باليمين ونظائر هذا كثيرة ولعل إلى هذا ترجع قاعدة:

(56) النساء مصدقات.

يعني في الأمور التي لا تعلم عادة إلاَّ منهن مما هو مختص بشؤون النساء كالحيض والحمل والخلو من الزوج والدخول وامثالها فلو ادعت إنها ذات زوج أو خلية أو خرجت من العدة فلا أثر لرجوع الزوج، تصدق ولا يطلب اليمين منها إلاّ عند الخصومة.

(57) الضرورة في كل شيء إلاَّ في الدماء.

يعني إن الضرورة تبيح كل محظور إلاَّ الدماء. وإلى هذا أشير في بعض الأخبار (لا تقية في الدماء) ضرورة أن التقية إنما شرعت لحفظ الدماء فلا مجال لجريانها في ضد ما شرعت له فلو قال لك الظالم أقتل المؤمن مثلاً (وهو غير مستحق القتل) وإلاَّ قتلتك لم يجز لكَ قتله.

نعم، لو صال عليك شخص يريد قتلك جاز بل وجب عليك دفعه ولو توقف على قتله جاز. والفرق بين المقامين واضح فالأكراه والجبر لا أثر له في النفوس المحترمة. نعم، لو قال الظالم مع قدرته أحرق بيت فلان وإلاَّ قتلتك جاز لك احراقه ولا ضمان عليك للأكراه والسبب هنا أقوى من المياشر.

(58) لا يدفع الضرر بأضرار الغير.

إذا توجه الضرر عليك ابتداء فأراد الظالم مثلاً أن يأخذ طعامك لا يجوز لكَ أن تدله على طعام جارك لتدفعه عن طعامك لأنه لا يجوز أن يدفع الإنسان الضرر عن نفسه بأضرار غيره. نعم، لو توجه الضرر على الغير ابتداء لا يجب عليك دفعه بأضرار نفسك، فلو قال الجائر اعطني الطعام الذي عندك لفلان وإلاَّ أخذت طعامك جاز أن تعطيه ذلك الطعام ولا يجب عليك الدفع عنه بأعطاء طعامك. فأعرف ذلك.

(59) الإنسان قد لا يملك شيئاً ويملك أن يملك.

يظهر هذا في مثل الشفعة فإن الشريك لا يملك ولكن يملك أن يملك وفي الحيازة وامثالها.

(60) القدرة على التسليم شرط في المعاوضات.

ويظهر منهم اعتبار تحقق القدرة حال العقد ولكن لا نجد مانعاً من كفاية حصولها ولو بعد العقد ما لم يحصل غرراً وجهالة.

(61) كل من صحّت مباشرته لشيء صحّت وكالته إلاَّ الواجبات التعبدية.

هذه ضابطة ما تصح الوكالة فيه شرعاً وهي عامة لا يخرج منها إلاَّ العبادات البدنية ويلحق بها النكاح واليمين والنذر والإبلاء واللعان والقسامة وتحمل الشهادة وأداؤها والظهار، أما العكس أي ما تصح الوكالة فيه ولا تصح مباشرته فقد ذكر له الجمهور أمثلة كثيرة والذي يتم منها على اصولنا، باب الوكالة على التوكيل مطلقاً ومنها توكيل المحل محرماً في إن يوكل محلاً في التزويج وتوكيل المسلم ذمياً أن يوكل مسلماً في شراء العبد المسلم.

(62) أصالة عدم تداخل الاسباب وعدم تداخل المسببات.

فإذا اشتريت مثلاً حيواناً واشترطت لنفسك الخيار ثلاثة أيام لم تتداخل هذه الثلاثة في ثلاثة خيار الحيوان بل يكون لكَ ثلاثة أخرى غيرها لأن الأصل في كل سبب أن يكون له مسبب مستقل، ولو قال لكَ: من تجب طاعته أكرم عالماً وأضف أديباً ــ لا يكفيك ضيافة عالم أديب في امتثال الأمرين بل لابد من التعدد ــ هذا هو مقتضى الأصول والقواعد الأولية وقد يخرج عنها ويصح التداخل، ولكن لدليل خاص كما وقع بالشرع في موارد اشهرها تداخل الأغسال فمن كان عليه غسل جنابة وغسل مس ميت وأراد أن يضم إليها غسل الجمعة كفاه عن الجميع غسل واحد سيّما مع قصدها أجمع، وقد ورد في أخبارنا المعتبرة: (إذا اجتمعت لله عليك حقوق كفاك غسل واحد)، ونظيره ركعتا تحية المسجد وغير ذلك.

(63) كلما جازت الإجارة على شيء مع العلم جازت الجعالة عليه مع الجهل.

توضيح ذلك أنه لو شردّت دابتك أو أبق عبدك وتريد أن تستأجر شخصاً على ردها فإن كان العمل معلوماً زماناً ومكاناً ووصفاً جاز أن تستأجره وتعين المدة لطلبها يوماً أو يومين وإن كان مجهولاً كما هو الغالب لم تصح الإجارة وصحت الجعالة فتقول له أن رجعت دابتي فلك كذا بل ما هو أوسع من ذلك في الجهالة فتقول من رد عبدي فله كذا.

 


 

 
امتیاز دهی
 
 

 
Guest (PortalGuest)

دبيرخانه كنفرانس‌هاي بين‌المللي
Powered By : Sigma ITID