الجمعة, شوال 10, 1445  
 
خيار الغبن والتغرير  

 

 تحرير المجلة

آية الله العظمى الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء  "قدس سره"

 

  



الفصل الرابع

خيار التعيين

ههنا ــ كما يقول العوام ــ تسكب العبرات، وهذا هو المحزن المؤسف أن يسف العلم هذا الإسفاف، وما أدري كيف اشتبه الأمر على أرباب (المجلة) الأفاضل فخلطوا هذا الخلط الشائن، وخبطوا هذا الخبط المزري فإن الخيار الذي يبحث عنه الفقهاء في باب المعاملات هو كما عرفت السلطنة على فسخ العقد وابقاءه لأحد المتعاقدين أو لكل منهما أو لأجنبي، وهذا الخيار الذي ذكروه هنا وسموه خيار التعيين لا علاقة له بهذا المعنى أصلاً، اللهم إلاَّ تشابه الأسم فقط على أنه فرق في الاصطلاح بين الخيار والتخيير فإن الخيار المزبورة عبارة عن تخيير البائع إن يدفع أحد الاشياء المعينة أو بتخير المشتري أن يأخذ ما شاء منها فأي ربط لهذا بقضية فسخ العقد أو أمضائه ولو صحَّ لنا أن نعد هذا في الخيارات لصح لنا أن نعد من جملة الخيارات خيرا الكفارة فإن المكلف بالكفارة مخير بين العتق والاطعام والصيام، وخيار المديون في اداء دينه وبائع الكلي مخير في دفع أي مصداق من مصاديقه. وهلم جرا إلى ما لا يحصى ولا يعد، وهذه لعمر الحق مهزلة من المهازل عند أهل العلم المعقم وأرباب الفن الصحيح، وعلى كلٍ، فإن هذا تخيير لا خيار ولزوم في العقد لا جواز كما هو واضح لأول نظرة، هاك فأنظر..

(مادة 316)

لو بين البائع أثمان شيئين أو أشياء من القيميات كلاً على حدة على إن المشتري يأخذ أياً شاء بالثمن الذي بينه له والبائع يعطي أياً أراد كذلك صحَّ البيع استحساناً وهذا يقال له خيار التعيين. والكلام هنا يتجه إلى جهتين:

الأولى: هل إن هذا خيار على غرار سائر الخيارات المذكورة في أبواب العقود والمعاملات وقد عرفت أنه أجنبي عن ذلك بالمرة فلا فسخ ولا امضاء ولا سلطنة على عقد ولا على عين، واقحامه هنا كأقحام المسمار في الجدار.

الثانية: على علاته هل هو صحيح أو فاسد، ولعله مرَّ عليك منّا غير مرة إن مثل هذا البيع باطل عند جمهور الإمامية وقد اتفقوا على إن بيع عبد من عبدين باطل وإن تساويا في جميع الصفات والحيثيات ولا يقول بصحته منّا إلاَّ الشاذ النادر، إن كان كل ذلك لأنه غرر وبيع الغرر باطل وقد عرفت قريباً إن دائرة الغرر شرعاً أوسع منها عرفاً، بل ألحق أنهما متساويان وليس للشارع في الغرر اصطلاح خاص ووضع جديد ولكن العرف يتسامحون فيرتكبون والشرع لا يسامح ولا يتسامح، وسبق أيضاً إن المعلومية بالعين والمقدار والوصف والوجود والحصول شرط في البيع مطلقاً، إذاً فهو مضافاً إلى أنه أجنبي عن أنواع الخيار بالمرة بيع فاسد عندنا ليس له أي أثر واللازم أن يكون فاسداً عند أرباب (المجلة) أيضاً بمقتضى (مادة 213) المتقدمة بيع المجهول فاسد إلى آخرها وهو ينطبق على ما نحن فيه اتماماً بملاك مطلق الجهالة وإن كانت هناك أشد، ولكنهم هنا حكموا بالصحة ورتب بعض الشراح على المشتري أحكاماً تسعة وعلى البائع سبعة مثل ما في:

(مادة 317)

يلزم في خيار التعيين تعيين المدة أيضاً.

(مادة 318)

من له خيار التعيين يلزم عليه أن يعين الشيء الذي يأخذه في انقضاء المدة التي عينت ولا نجد فائدة في التعرض لباقيها بعد أن كان أصل خيار التعيين لا أصل له وهو عندنا كما عرفت بيع فاسد للجهالة ولا علاقة له بمسائل الخيار بتاً.أنظر:

 (مادة 319)

خيار التعيين ينتقل إلى الوارث مثلاً لو أحضر البائع ثلاثة اثواب أعلى وأوسط وأدنى من جنس واحد وبين لكل منها ثمناً على حدة وباع أحدهما لا على التعيين على أن المشتري في مدة ثلاثة أيام أو أربعة أيام يأخذ أيها شاء بالثمن الذي تعين له وقبل المشتري على هذا المنوال انعقد البيع وفي انقضاء المدة المعينة يجبر المشتري على تعيين أحدهما ودفع ثمنه فلو مات قبل التعيين يكون الوارث أيضاً مجبوراً على تعيين أحدهما ودفع ثمنه، وليت شعري إذا كانت القضية بهذه الصورة وتنتهي إلى الجبر فأين الخيار؟.

ثم إذا كانت مثل هذه الجهالة غير ضائرة في صحة العقد فتخصيص الجواز في القيميات تحكم لا وجه له وتخصيص بعضهم له بثلاثة أشياء فقط كما نقل بعض الشراح أيضاً لا وجه له.

الفصل الخامس

خيار الرؤية

هذا الخيار من الخيارات الأصلية وإن أمكن اندراجه ببعض الاعتبارات في خيار الوصف أو خيار الاشتراط لأنه عبارة عن حق فسخ العقد إذا اشترى عيناً غائبة بالوصف ثم رآها على خلاف ما وصف البائع أو كان المشتري رآها قبل العقد فأشتراها على تلك الرؤية فظهر بعد العقد إنها قد تغيرت فبهذا اللحاظ يمكن درجة في خيار الاشتراط ضرورة أن الوصف أو الرؤية السابقة كانت كشرط ضمني فإذا ظهر فقدانه كان له خيار تخلف الشرط، ولكن الأصحاب تبعاً للأخبار جعلوه خياراً مستقلاً لأن الشرطية غير صريحة فيه وإن كانت ضمنية وسموه خيار الرؤية ففي صحيحة جميل بن دراج عن الصادق (A) في رجل أشترى ضيعة وكان يدخلها ويخرج منها فلما أن نقد المال صار إلى الضيعة فقلبها ثم رجع فأستقال صاحبه فلم يقله فقال أبو عبد الله (A): (أنه لو قلب منها ونظر إلى تسعة وتسعين قطعة ثم بقي قطعة لم يرها لكان له فيها خيار الرؤية) انتهى، ومعلوم إن مورد هذا الخيار هو بيع العين الغائبة وقد عرفت في القواعد العامة ــ قاعدة ــ الوصف في الحاضر لغو وفي الغائب معتبر، وذكرنا هناك إن بيع العين الغائبة لا يصح إلاَّ بالوصف لرفع الجهالة كبيع الكلي في السلم وغيره ولو باع بغير الوصف كان البيع باطلاً من أصله ولو باع بالوصف صحَّ فإن ظهر موافقاً لزم وإلاَّ كان له الخيار ومن هنا يظهر لك الخلل في عبارة (المجلة):

(مادة 320)

من اشترى شيئاً ولم يره كان له الخيار إلى أن يراه فإذا رآه إن شاء قبله وإن شاء فسخ البيع ويقال له خيار الرؤية فإنه ظاهر في صحة شراء شيء بغير وصف ولا رؤية وهو قطعي البطلان حتى عندهم كما ذكروا في بطلان بيع المجهول ومن الغريب حكمهم إن هذا الخيار لا يورث كما في:

(مادة 321)

خيار الرؤية لا ينتقل إلى الوارث فإذا مات المشتري قبل أن يرى المبيع لزم البيع ولا خيار لوارثه.

لعمرك إن هذا من أحكام الجزاف القاسية التي لا يقبلها عقل ولا ذوق فضلاً عن الشرع وكيف يلزم الوارث المسكين بمبيع ما رآه مورثه ولا كان لازماً عليه فتجتمع على الورثة مصيبتان فقد مورثهم وإلزامهم بمال ربما لا يرغبون فيه، ولا رغب مورثهم فيه ولا يكون من صالحهم كما لو كان قد اشترى ضيعة أو مزرعة أو نحو ذلك مما له شأن في نظر حياتهم، ومن هنا نقول ــ وحقاً نقول ــ أنه لو كان الخيار في كل نوع من أنواعه لا يورث فهذا النوع اعني خيار الرؤية يجب أن يكون موروثاً كيف وقد عرفت إن جميع أنواع الخيارات موروثة لأنها بأجمعها حق مالي فيشمله دليل (ما ترك الميت من حق فهو لوارثه) ثم إن دليل خيار الرؤية وإن كان قد ورد في خصوص المشتري إذا أشترى ما لم يره أو ما تغير عمّا رآه ولكن الملاك يجري حتى إلى البائع إذا باع ما لم يره ثم رآه على غير الوصف الذي وصفه هو أو وصفه الغير له، ولذا قال أكثر أصحابنا بعمومه للبائع والمشتري وهو معقول كالقول بشموله لغير البيع من عقود المعاوضات اللازمة مثل الإجارة والصلح والقسمة والخلع وغيرها ويجري في غير الموافق للوصف مطلقاً سواء كان أعلى أو ادنى لما عرفت من إن الرغبات والحاجات يختلف الناس فيها أشد الاختلاف فإذا أشترى حنطة بصفة أنها حمراء أو سوداء ثم ظهرت بيضاء وهي أعلى لا يلزم بها لأن حاجته الخاصة ربما تكون في السوداء، ومما ذكرنا تعرف الخلل في:

(مادة 322)

لا خيار للبائع ولو كان لم ير المبيع مثلاً لو باع رجل مالاً دخل في ملكه بالأرث وكأن لم يره أنعقد البيع بلا خيار للبائع.

(مادة 323)

المراد من الرؤية في بحث خيار الرؤية هو الوقوف على المال والمحل الذي يعرف به المقصود الأصلي من البيع.

هذه العبارة غير وافية ببيان المقصود وذكر المحل هنا لا محل له من الأعراب (كما يقولون) كما إن ذكر المقصود الأصلي لا يتضح به المقصود والتحقيق في المقام أن يقال إن المراد بالرؤية التي يصح معها البيع ويسقط بها الخيار بالوصف الذي يقوم مقام الرؤية فيصح معه البيع حتى مع عدم الرؤية ويدور الخيار مداره وجوداً وعدماً هو ما يوجب العلم بالشيء ويرفع الجهالة عنه والغرر ولا يرتفع الغرر من الأشياء إلاَّ بالأختبار ومعرفة تحقق الغرض المقصود منها والذي من أجله يتطلبه ويريد الحصول عليه ولما كانت المقاصد والحاجات تختلف بأختلاف الاجناس والأنواع، بل بأختلاف كل صنف من كل نوع مثلاً البقر قد يريدها المشتري للذبح والأكل فيختبر سمنها وقد يريدها للحرث فيختبر قوتها وقد يريدها للحليب فيختبر درتها وأخلافها بل أوسع من ذلك ربِّ أشياء لا يرتفع الغرر برؤيتها بالبصر بل لابد من شمها كالعطر من المسك والعنبر وشيء لا يكفي شمه كالسمن والزبد وأمثالها، بل لابد من ذوقه أيضاً ولو أشترى فارة مسك أو جونة عطر ولم يفتحها بل شمها وعرف وزنها واشتراها، ولكن لم يرَ ما فيها ببصره لم يكن له خيار الرؤية بدعوى عدم رؤية المسك بعينه فإن رؤية كل شيء بحسبه وكثير من الأجناس لا يكفي رؤيتها ولا شمها ولا ذوقها، بل لابد من لمسها وكثير منها لابد من ذلك من كيلها ووزنها أو عدها وهكذا، فليس المراد بالرؤية خصوص المشاهدة البصرية بل المراد الأختبار الرافع للجهالة واختبار كل شيء بحسبه، فإذا اشتريت حقة سمن رأيتها بعينك ولكن لم تذقها ولم تشمها كانت بحكم الشيء الذي اشتريته بغير رؤية فلك الخيار بعد الاختبار إذا لم يكن موافقاً لمقصودك، وكنت تريد مثلاً سمن البقر فظهر أنه سمن الغنم فلك الفسخ، وهذا باب واسع لا يمكن اعطاء الضابطة له إلاَّ بما قلنا من أن المراد بالرؤية الاختبار، والاختبار يختلف بأختلاف الأنواع والأجناس بل والأصناف والأغراض فمن أشترى شيئاً أو باعه وقد أختبره بما يليق به من الاختبار الكاشف عن الغرض المقصود منه أي غرضه الخاص لا أغراض النوع والعامة، فإن هذا كما عرفت لا يجدي في باب المعاملات فلا خيار له بعد ذلك وإذا لم يختبره بما يحق له من الاختبار كان له الخيار وهذا هو مراد أرباب (المجلة) وإن قصر التعبير عنه أولاً، ولكن يتضح بقولها مثلاً الكرباس والقماش الذي يكون ظاهره وباطنه متساويين يكفي رؤية ظاهره والقماش المنقوش والمدرب يلزم رؤية نقشه ودروبه والشاة المشتراة لأجل التناسل والتوالد يلزم رؤية ثديها والشاة المأخوذة لأجل اللحم يقتضي حبس ظهرها واليتها والمأكولات والمشروبات يلزم أن يذاق طعمها فالمشتري إذا عرف هذه الأموال على الصورة المذكورة ثم اشتراها ليس له خيار الرؤية.

(مادة 324)

الأشياء التي تباع على مقتضى انموذجها يكفي الانموذج عنها فقط

وحق التعبير أن يضم إليها المادة التي بعدها فيقول: فإن ظهر موافقاً للأنموذج فلا خيار وإلاَّ كان له الخيار ولا حاجة إلى مادة أخرى خلاصتها ذانك الكلمتان، كما إن هذا يغني عن:

(مادة 326)

في شراء الدار والخان ونحوهما من العقار تلزم رؤية كل بيت منها إلاَّ أنه إذا كانت بيوتها موضوعة على نسق واحد تكفي رؤية بيت واحد وهكذا كل ما هو من هذا القبيل مثل الأقمشة والأحذية ونحوها فما يظهر مخالفاً له رده واستبداله وإلاَّ فله الخيار.

فإن جميع هذه المواد يمكن أن تجمع في مادة واحدة موجزة، ولا حاجة إلى الأكثار والتكرار.

(مادة 327)

إذا أشتريت أشياء متفاوتة صفقة واحدة تلزم رؤية كل واحد على حدته

ويلزم أن يضم إليها المادة التي بعدها فإنها جزء متمم لها فيقال بأختصار فإن رأى بعضها ولم يرَ الباقي ثم وجده مخالفاً لما رآه فله الخيار أما بأخذ الجميع أورد الجميع وليس له أخذ ما رآه وترك الباقي، والأصح إن له ذلك ولكن يحدث للبائع خيار تبعض الصفقة فتدبره، ولا يخفى إن الأعمى والبصير سواء في هذه الأحكام فلا يصح للأعمى أن يشتري مجهولاً بل أما أن يختبره بنفسه بالنحو المستطاع له من الاختبار أو يوصف له وصفاً يرفع الجهالة كما يوصف للبصير في العين الغائبة وفي السلم بالنسبة إلى الكلي فإن طابق فلا شيء وإلاَّ فله الخيار ومنه تعرف الخدشة في:

(مادة 329)

بيع الأعمى وشراؤه صحيح إلاَّ أنه يخير في المال الذي يشتريه بدون أن يعلم وصفه، فإن شرائه بدون وصف أو اختبار عندنا باطل وكان ينبغي أن يضم إليها المادتين اللتين بعدها:

(مادة 330، 331)

بكلمتين وهما فإذا أشترى بالوصف فلا خيار، يعني مع المطابقة لا مطلقاً ويسقط خياره بأختباره بلمس الملموسات، وذوق المذوقات وهكذا يكون الشراء صحيحاً لازماً ــ أي مع المطابقة أيضاً.

عرفت سابقاً أنه يصح الشراء بالرؤية السابقة فإن ظهر التغيير كان له الخيار كما في:

(مادة 332)

ثم إن الوكيل والرسول إن كانا مفوضين على الرؤية والعقد والقبض سقط خيار الموكل برؤيتها وإلاَّ فلا ــ ولا وجه لأعتبار رؤية الأول دون الثاني كما في:

(مادة 333، 334)

الوكيل بشراء شيء والوكيل بقبضه رؤيتهما كرؤية الأصيل ثم قال: الرسول من المشتري لأخذ المبيع وارساله فقط لا تسقط رؤيته خيار المشتري، والأصح إن المدار في الجميع على الاعتماد والتفويض وبدونه لا تجدي صرف الوكالة أو الرسالة فتدبره.

(مادة 335)

تصرف المشتري في المبيع تصرف الملاك يسقط خياره

اعلم إن التصرف أما أن يكون قبل الرؤية أو بعدها وعلى التقديرين فخيار الرؤية أما أن يكون فورياً أو غير فوري فإن قلنا بفوريته فكل تصرف بعد الرؤية يكون مسقطاً للخيار بالضرورة ووجهه واضح وإن قلنا بعدم فوريته فلا يسقط إلاَّ بالتصرف الدال على الرضا بالعقد وامضائه سواء كان من قبيل تصرف الملاك مثل الرهن والعتق ونحوهما أم لا.

أما التصرف قبل الرؤية سواء دلَّ على الرضا أم لا، وسواء كان من قبيل تصرف الملاك أم لا، ففي سقوط الخيار به وعدم سقوطه وجهان مبنيان على إن سبب الخيار هو العقد، والرؤية شرط، أو أن السبب هو الرؤية والمخالفة شرط ، فعلى الأول يكون التصرف الدال على الرضا مسقطاً للخيار ويكون مسقطاً فعلياً كما لو أسقطه قولاً، وعلى الثاني لا يكون التصرف مطلقاً مسقطاً لأن الخيار بعد لم يحصل لعدم حصول سببه وهو الرؤية فكيف يسقط قبل تحققه وتحقق سببه وكذا لو أسقطه قولاً فإنه لا يسقط لذلك الوجه بعينه، هكذا ذكر الأصحاب ملخصاً، ويمكن أن يقال لا مانع من سقوطه بالمسقط الفعلي فضلاً عن القولي حتى لو قلنا بأن سبب الخيار هو الرؤية فإنه يكفي لصحة اسقاطه بالقول أو الفعل وقوع العقد على العين الغائبة الذي فيه استعداد للحوق الخيار بحصول سببه وهو الرؤية، فأستعداد العقد لحصول سبب الخيار بعده كافٍ في صحة اسقاطه ويكون من قبيل الدفع لا الرفع.

نعم، لو شرط سقوطه في العقد كما لو قال: بعتك العين الغائبة الموصوفة بكذا واشترطت عليك سقوط خيار الرؤية بطل الشرط قطعاً ولا يبعد بطلان العقد أيضاً فيكون من الشروط الفاسدة المفسدة، وسر ذلك إن العقد على العين الغائبة المجهولة إنما صحَّ بالوصف لها الرافع للغرر والجهالة عنها ومعنى اشتراط سقوط خيار الرؤية


 

اسقاط حق الوصف، وإلغاء أثره وهو الخيار فتكون النتيجة أنه باع عيناً من غير مشاهدة ولا وصف وهو من أوضح مواضع البطلان بخلاف ما لو أسقطه بعد العقد قبل الرؤية، فإن العقد وقع صحيحاً بالوصف ولم يقترن بما يبطله وكان فيه استعداد لأثبات حق وهو الخيار فلا مانع من أسقاط حقه فليتدبر.

ولم تذكر (المجلة) مسائل الاختلاف هنا مع إنها جد مهمة فلو أختلفا في مخالفته الوصف وعدمها فقال البائع مثلاً: بعتك الحنطة الحمراء، وقال المشتري: بل البيضاء، أو قال المشتري تغيرت الدابة عمّا شاهدتها، وقال البائع: لم تتغير فالقول قول البائع في المقامين:

أما الأول: فلأن المشتري يريد أن يثبت له خياراً والأصل عدمه.

وأما الثاني: فلذلك ولأصالة عدم تغيرها فإن التغير أمر حادث فإذا شكَّ فيه فالأصل عدمه فيلتأمل.

(فرع)

لو نسج مقداراً من الثوب أو الحصيرة فأشتراه على أن ينسج الباقي كالحاضر قبل يبطل للجهالة، وقيل يصح لأنه بحكم الموصوف بل يحكم المشاهد، أما لو أعطاه مقداراً من الغزل على إن ينسجه كالموجود فيشتري الحاضر منه ويستأجره على نسج الباقي بتلك الكيفية فلا ينبغي الإشكال في الصحة فلو لم ينسجه على الغرار كان له الخيار.

الفصل السادس

خيار العيب

إضافة الخيار إلى العيب كأضافته إلى الغبن وإلى الرؤية وإلى الشرط من باب إضافة المسبب إلى سببه واضافته إلى المجلس والحيوان أشبه بإضافة الشيء إلى محله، والأصل في دليل هذا الخيار وخيار الغبن هو قاعدة الضرر فإن لزوم العقد الواقع على المعيب ضرر على المشتري مثلاً وهو لا يعلم به ولم يقدم عليه وكل حكم ضرري مرفوع بقاعدة (لا ضرر في الإسلام) فلزوم العقد على المعيب مرفوع ويمكن رده إلى خيار الاشتراط، فإن العقلاء غالباً لا يقدمون إلاَّ على ابتياع الصحيح السليم من الأعيان وإنما لا يشترطون ذلك صريحاً في العقد اعتماداً على أصالة السلامة، فالسلامة في نظر كل متعاقدين شرط ضمني في العقود المطلقة التي لم يؤخذ فيها البراءة من العيوب، فإذا انكشف وقوع العقد على غير السليم فقد تخلف الشرط وتخلف الشرط يوجب الخيار وعليه تحمل عبارة (المجلة):

(مادة 336)

البيع المطلق يقتضي السلامة من العيوب يعني إن بيع المال بدون البرائة من العيوب بلا ذكر أنه معيب أو سالم يقتضي أن يكون سالماً خالياً من العيب، ولكن الأصح أن خيار العيب أصل برأسه والعيب موجب للخيار بنفسه لا من باب تخلف الشرط الضمني ولذا يعد اشتراط السلامة صريحاً في العقد شرط مؤكد لأطلاق العقد وجوده كعدمه وخيار العيب يغني عنه، وقد أشرنا قبل إن طبيعة العقد عند الإطلاق تقتضي وقوعه على الصحيح وظهور العيب أو وجوده يقتضي التدارك بالخيار فجعل الشارع الخيار تأكيداً لما تقتضيه طبيعة الشيء ذاتاً لا تأسيس في التشريع جعلاً كخيار المجلس ونظيره الغبن، فأن طبيعة عقود المعاوضات تقتضي التبادل بين الأموال على نسب متعادلة في الربح والخسران والزيادة والنقصان مثلاً قاعدة الربح عند العقلاء في التجارة أن يكون الربح في العشرة اثنين أو ثلاثة وهذا هو المعدل التي تتراوح فيه الأرباح من الواحد إلى الثلاث، فلو زاد على ذلك عده التجار والعرف إجحافاً وغبناً، ولعل علم الاقتصاد أحق وأحرى من علم الفقه بضبط هذه الموازين وتحديد هذه المقاييس ثم إن العيب إنما يوجب الخيار بشروط:

الأول: أن يكون سابقاً على العقد أو حادثاُ قبل قبض المشتري أو في زمن خياره أما لو حدث بعد قبضه وبعد خياره فلا يكون العيب موجباً للخيار.

الثاني: أن يكون غير عالم بالعيب قبل العقد أو حين العقد أو قبل القبض فلو عقد عليه وهو عالم بعيبه أو قبضه مع علمه بالعيب فلا خيار.

الثالث: أن لا يكون البائع قد برء من العيوب فلو برء وظهر معيباً لم يكن للعيب أثر في الخيار.

الرابع: أن يكون العيب يوجب نقص القيمة فلو كان لا يوجد نقصاً أو يوجب زيادة ففي كونه موجباً للخيار خلاف والأقرب عدم الخيار.

الخامس: أن يكون العيب مما لا يزول بسهولة فلو كان مثل الصداع الطارئ أو الحمى الخفيفة أو الدمل العادي لم يوجب الخيار.

السادس: أن يعلم به حال وجوده فلو علم به بعد زواله لم يكن له أثر.

وقد اتفق فقهاء الفريقين أو أكثرهم على إن البراءة من العيوب تمنع من تحقق خيار العيب ويكشف هذا عن كون سبب الخيار هو نفس العيب لا ظهوره وانكشافه وليس حاله حال الرؤية التي ذكروا أنه لا يصح اسقاط خيارها في العقد أو بعده لأنها أسقاط ما لم يتحقق بعد ولا ينبغي الريب إن نفس الغبن والعيب أسباب للخيار بوجودهما الواقعي لا بالعلم بهما وإنما العلم كاشف وطريق لا يترتب على الواقع أثره إلاَّ به ولعل تعبير أكثر الفقهان إن الخيار يثبت بظهور العيب ناظر إلى ما ذكرنا لا إلى كون الظهور هو السبب كما تخيله بعض، ومن هذا القبيل عبارة (المجلة):

(مادة 337)

ما بيع بيعاً مطلقاً إذا ظهر به عيب قديم يكون المشتري مخيراً إن شاء رده وإن شاء قبله بثمنه المسمى، ثم أنه لا أشكال في إن هذا الخيار كسائر الخيارات عبارة عن السلطنة على فسخ العقد وابقائه لكنه يمتاز بخصوصية عن أترابه، وهي أن المشتري مثلاً كما له الفسخ بالعيب واسترداد الثمن له الامساك والمطالبة بالنقيصة أي التفاوت ما بين الصحيح والمعيب المعبر عنه في كتب أصحابنا (بالأرش) وهو في أصل اللغة دية الجراحات واستعمله الفقهاء في المال المأخوذ بدلاً عن النقص المضمون في بدن أو مال ولم يقدر له الشارع مقداراً معيناً على خلاف في ذلك فالمشهور عند علمائنا إن العيب يوجب الخيار للمشتري في المبيع وللبائع في الثمن بهذا الترتيب:

1 ــ الفسخ والتراد.

2 ــ الإمساك بالأرش.

3 ــ الإمساك مجاناً.

وخالفهم آخرون فقالوا: ليس لأحدهما المطالبة بالأرش مع أمكان التراد وإنما تنتقل النوبة إلى الأرش إذا أمتنع الرد لأحد الأسباب المانعة التي سيأتي ذكرها وهذا هو الظاهر من أكثر فقهاء المذاهب وعليه ينبغي أن تحمل عبارة (المجلة) وإن كانت مطلقة حيث يقول في آخر المادة، وليس له أن يمسك المبيع ويأخذ ما نقصه العيب، انتهى. ضرورة إن استحقاق المطالبة بالأرش أي النقيصة متفق عليه في الجملة ولكن بين قائل به مع أمكان الرد وبين من خصه بصورة الامتناع فأطلاق عبارة (المجلة) غير مراد كما نصت عليه (مادة 250) الآتية من أنه إذا تعذر الرد له المطالبة بنقصان الثمن.

(مادة 338)

العيب ما ينقص ثمن المبيع عند التجار وأرباب الخبرة

قد ذكرنا إن أهم مباحث البيوع أبواب الخيارات. وأهم أنواع الخيار خيار الغبن والعيب، وأهم مبحاث العيب والغبن تعيين الضابطة والتعريف للعيب الموجب للخيار، والغبن الذي هو على ذلك الغرار، وقد اضطربت كلمات علماء الفريقين في ضابطة ذلك والكلمة الدائرة عند فقهاء المذاهب وتأثرتهم (المجلة) فيه هي إن العيب ما ينقص القيمة وهي أبعد كلمة تقال في هذا الموضوع ضرورة إن الصفات الكمالية مثل كتابة العبد وجمال الجارية وفراهة الفرس كلها تزيد في قيمة موصوفاتها وعدمها ينقص القيمة مع إن عدم كتابة العبد ليست عيباً وإن كان وجودها كمالاً وبالجملة فخلل هذا التعبير لا يخفى وإن شاع في كلمات القوم فإنه أبعد شيء عن الحقيقة، وأتقن ما يليق من التحقيق في المقام أن يقال: لا ريب إننا إذا أعمقنا الفكر في الحقائق النوعية من حيث وجوداتها الخارجية، أعني من حيث مصاديقها المتكثرة وتحققاتها المتكررة، نجدها متقومة من أمرين:

1 ــ موجودات متعددة محسوسة قد أرتبط بعضها ببعض حتى صارت كشيء واحد، ونسميها أجزاء أو أعضاء أو ما أشبه ذلك.

2 ــ ومعاني نتعقلها في الذهن ولا نجد إلاَّ آثارها في الخارج ولا تحس بالحس الخارجي وإنما تعرف بالحس الباطني ونسميها أوصافاً وأحوالاً ثم نجد في النظرة الثانية إن من تلك الأجزاء أو الأوصاف ما لا ينفك عن تلك الحقيقة فكل فرد يوجد منها فإنما يوجد ملتئماً من تلك الأمور، وإذا خلا فرد من بعض تلك الأجزاء يعد عند العرف والعقلاء شاذاً وخارجاً عن ناموس تلك الطبيعة فيعرف بذلك أن كل واحد من تلك الأجزاء هو من مقتضيات تلك الطبيعة ولوازم تلك الحقيقة بخلاف بعض الأجزاء التي قد توجد وقد لا توجد وعدم وجودها في بعض الأفراد لا يوجب عده من شواذ الحقيقة وفلتات الطبيعة وبذلك نعرف الأجزاء الأصلية أي ما تقتضيه الحقيقة والماهية من الأجزاء الزائدة الفرعية التي يقتضيها وجود الفرد بشخصيته لا وجود الماهية من حيث هي فنقص جزء من هذه الأجزاء لا يعد عيباً ولا نقصاً في ذلك الفرد، سواء زادت به القيمة أم نقصت بخلاف الأجزاء من النوع الأول فإن فقد شيء منها يعد نقصاً وعيباً سواء زادت القيمة بنقصه أم نقصت، فنقص القيمة أجنبي عن قضية العيب بالكلية، وهكذا الكلام بالنسبة إلى الأوصاف والأحوال نوع منها لا تنفك أفراد تلك الحقيقة عنه إلاَّ شاذاً نادراً فيحكم العرف بأنه من مقتضيات تلك الطبيعة ولوازمها، ونوع آخر قد يوجد وقد لا يوجد، وحيث لا يوجد لا يعد الفاقد شاذاً خارجاً عن ناموسها العام، مثلاً ننظر في أجزاء الإنسان فنجد الشعر على العموم جزء منه لا تنفك أفراد طبيعته عنه ولكنه في حاجبه وأشفار عينيه ونحوها جزء لازم في كل فرد إلاَّ الشاذ النادر، وأما في ناصيته من القذال أو الوفرة ونحوها فغير لازم يوجد في بعض الأفراد ولا يوجد في بعضها ولا يعد فقده شذوذاً وليس الأنزع كفاقد شعر الحاجبين طبعاً، ومن هنا نعرف إن فقدان شعر الناصية ليس عيباً لأنه ليس خروجاً عن مقتضى الطبيعة بخلاف الأخص الذي لا ينبت الشعر على بدنه ومثل ذلك في الأوصاف فإن أجسام البشر تقتضي حسب حقيقتها أن يكون للجسم لون واحد من بياض أو سمرة أو سواد، فلو وجد فرد جسمه كان ملمعاً بالبياض والسمرة مثلاً كان خروجاً عن مقتضى الطبيعة كالبرص والبهق ونحهما وهكذا في كل نوع من الأنواع وكل حقيقة من الحقائق لها أقتضاء خاص من حيث الأجزاء والأوصاف.

نعم، قد ينقلب الأمر وتنعكس القضية فتصير هناك حقيقة ثانوية وضعية تغلب على الحقيقة الأولية الطبيعية، مثلاً الغلفة (يعني عدم الختان) من مقتضيات طبيعة الذكور ومن الأجزاء التي يولد الإنسان ذكر معها ولكن الوضع بل الشرع عند المسلمين أقتضى الخروج عن هذه الحقيقة(1).

فصارت الحقيقة الثانوية هي (الختان) وصارت الغلفة عيباً ويشهد لهذا التحقيق الرشيق من أخبار أهل البيت (G) قصة القاضي أبن أبي ليلى حيث جائه رجل يخصم له فقال: إن هذا باعني هذه الجارية فلم أجد شعراً على رَكَبها (بفتح أوله وثانيه ــ محل نبات الشعر من العانة) وزعمت أنه لم يكن لها قط، فقال له أبن أبي ليلى: أن الناس يحتالون لهذا بالحيل حتى يذهبوه فما الذي كرهت، فقال له: أيها القاضي إن كان عيباً فأقض لي به، فقال: حتى أخرج إليك فأني أجد أذى في بطني، ثم دخل بيته وخرج من باب آخر فأتى محمد بن مسلم (وهو من خواص أصحاب الصادق وأبيه الباقر (H))، فقال: أي شيء تروون عن أبي جعفر في المرأة لا تكون على (رَكَبها) شعر، أيكون هذا عيباً؟، فقال محمد بن مسلم: أما هذا نصاً فلا أعرفه ولكن حدثني أبو جعفر عن أبيه عن آبائه عن النبي (8) أنه قال: (كلما كان في أصل الخلقة فزاد أو نقص فهو عيب) فقال أبن ليلى: حسبك هذا فرجع إلى القوم فقضى لهم بالعيب، انتهى.

وكل هذه الأعتبارات والمعاني حقائق قائمة بنفسها ليس لزيادة القيمة ونقصها دخل في صدق كونه عيباً أو غير عيب، ألاَّ ترى إن الجب أي قطع آلة التناسل عيب بلا ريب لأنه خروج عن مقتضى حقيقة الإنسان الذكر ومع ذلك فهو مما يزيد قيمة المملوك قطعاً ولكن ذلك لا يخرجه عن كونه عيباً يوجب الخيار مع عدم العلم غايته أنه لا موضع لطلب الأرش هنا، إلاَّ بتكلف ربما يأتي محل ذكره، وعلى كل حال فجعل ضابط العيب هو زيادة القيمة ونقصها وإن شاع في كلمات كثير من فقهاء الفريقين ولكنه من الأوهام الشائعة وبعيد عن الحقيقة أشد البعد وقد عرفت إن جميع الصفات الكمالية وجودها يزيد في القيمة وعدمها ينقصها طبعاً، وليست هي بعيوب قطعاً.

(مادة 339)

العيب القديم هو ما كان موجوداً في المبيع وهو عند البائع، هذه المادة وما بعدها:

(مادة 340)

العيب الذي يحدث في المبيع وهو في يد البائع بعد العقد وقبل القبض حكمه حكم العيب القديم الذي يوجب الرد.

(مادة 341)

إذا ذكر البائع إن المبيع عيب كذا وكذا وقبل المشتري مع علمه بالعيب فلا يكون له الخيار بسبب ذلك العيب.

(مادة 342)

إذا باع مالاً على أنه بريء من كل عيب ظهر فيه فلا يبقى للمشتري خيار عيب

هذه المواد لبيان شروط تحقق خيار العيب ومع فقد واحدة لا يثبت الخيار وهي مع الاختصار كون العيب قبل العقد أو قبل القبض وجهل المشتري به حين العقد أو قبله وعدم برائة البائع من العيوب، أما:

(مادة 343)

من أشترى مالاً وقبله بجميع العيوب لا تسمع منه دعوى العيب بعد ذلك، مثلاً لو أشترى حيواناً بجميع العيوب وقال قبلته محطماً مكسراً أعرج معيباً، فلا صلاحية له بعد ذلك أن يدعي يعيب قديم فيه.

(مادة 344)

بعد اطلاع المشتري على عيب في المبيع إذا تصرف فيه تصرف الملاك سقط خياره، مثلاً لو عرض المبيع للبيع كان رضاً بالعيب، فلا يرده بعد ذلك.

هاتان المادتان لبيان مسقطات خيار العيب، وقد أنبأناك من قبل، أن أهم مباحث الخيارات التي هي أهم أبواب البيوع خيار الغبن وخيار العيب، وأهم مباحث خيار العيب ثلاث نواحي:

1 ــ ضابطة العيب الذي يثبت به الخيار.

2 ــ مسقطات هذا الخيار.

3 ــ التنازع بين البائع والمشتري في وجود العيب وعدمه، وحدوثه وقدمه وأمثال ذلك.

وقد تقدم الكلام في الأولى على أبسط بيان وأتقنه، وهذا موضع القول في الناحية الثانية، وهي من ميادين السباق لفرسان التحقيق، وسيأتي الكلام على الثالثة قريباً إن شاء الله تعالى.

أما مسقطات هذا الخيار فهي ثلاثة:

مسقطات الرد فقط، ومسقطات الأرش فقط، ومسقطاتهما معاً، أما مسقطات الرد فأمور:

الأول: أسقاطه بعد العقد صريحاً قبل ظهور العيب أو بعده، بأن يقول: أسقطت حق الرد لو ظهر العيب، ثم إن ظهر العيب يكون له الأرش فقط أما لو أسقط الخيار مطلقاً فالظاهر سقوطهما معاً، أما لو أطلق الالتزام بالعقد فالأرش لا يسقط.

الثاني: التصرف في المعيب سواء بعد ظهرو العيب أو قبله بمطلق التصرف أو خصوص التصرفات الناقلة أي الموقوفة على الملك كالبيع والرهن وأمثالها أو خصوص ما دلَّ على الرضا والالتزام بالعقد احتمالات بل أقوال فيها لتضارب كلمات العلماء أوسع مجال، وأحق ما ينبغي أن يقال هنا من التحقيق أن التصرف لا يخلو أما أن يبقى معه مجال لأمكان الرد أو ينقطع به أمكان الرد شرعاً أو عرفاً كما لو وطئ الجارية أو أحبلها أو تجز وقفية الدار أو جعلها مسجداً ونحو ذلك، ولا إشكال في إنَّ مثل هذه التصرفات مانعة من الرد قولاً واحداً وإذا ظهر العيب يتعين أخذ الأرش، وإذا بقي مجال للرد كما لو ركب الدابة أو لبس الثوب أو سكن الدار فإن ظهر بهذا التصرف إلتزامه بالعقد وأسقاطه الرد، سقط وتعين الأرش وإن لم يظهر منه ذلك فالخيار باقٍ بحاله إن شاء فسخ وإن شاء أمسك مجاناً أو بالأرش، والمرجع من الأخبار في هذه القضية مرسلة جميل في الرجل يشتري الثوب أو المتاع فيجد به عيباً قال: إن كان الثوب قائماً بعينه رده على صاحبه وأخذ الثمن وإن كان الثوب قد قطع أو خيط أو صبغ رجع بنقصان العيب، والصحيح أيما رجل أشترى شيئاً وبه عيب أو عوار ولم يتبرء إليه ولم ينبه فأحدث فيه بعدما قبضه شيئاً وعلم بذلك العوار وبذلك العيب فإنه يمضي عليه بالبيع.

الثالث: تلف العين أو ما هو بحكم التلف كالعتق والرهن ونحوهما فإن الخيار يسقط هنا إجماعاً وإن لم نقل بالسقوط في سائر الخيارات عند التلف فإن الرد في المرسلة المتقدمة أنيط بقيام العين وأي قيام لها مع التلف أو ما بحكمه بل لو انتقل إلى الغير أو أنعتق العبد قهراً فلا رد لعدم قيام العين فإن الظاهر منه أعتبار بقائها على ملك المشتري.

نعم، يمكن إلحاقه بالتصرف لا بالتلف وعلى كلٍ فلو عاد إلى ملك المشتري فالظاهر إن الخيار لا يعود بقاعدة (الساقط لا يعود) وقيل يعود ولا يخلو من وجه ثم إن الأصحاب اتفقوا على إن وطء الجارية عيب يمنع من الرد بالعيب القديم والأصل في ذلك أخبار خاصة منها خير طلحة قضى أمير المؤمنين (A) في رجل أشترى جارية فوطئها ثم رأى فيها عيباً قال: (تقوم وهي صحيحة وتقوم وبها الداء ثم يرد البائع على المبتاع فضل ما بين القيمتين) وفي أخرى. كان القضاء الأول في الرجل إذا أشترى الأَمة فوطئها ثم ظهر على عيب أن البيع لازم وله أرش العيب، وأستثنوا من هذا ــ الحامل ــ فإن الحمل عيب ترد به الأمة فلو وطئها وهي حامل جاهلاً أو مطلقاً بردها مع نصف عشر قيمتها لنكاحه إياها، وفي أخرى عشر قيمتها، وتحمل على البكر حيث يتحقق الحمل مع البكارة كما قد يتفق ويشهد له رواية ثالثة. إن كانت بكراً فعشر قيمتها وإن كانت ثيباً فنصف عشر قيمتها، وربما يخص ذلك بالحامل من مولاها فإنها أم ولد تشبثت بالحرية فلا يجوز بيعها والتفصيل موكول إلى محله.

الرابع: من مسقطات الرد بالخصوص حدوث عيب عند المشتري وتحرير ذلك إن العيب أما أن يكون قد حدث قبل العقد وبقى إلى ما بعده وأما أن يكون حدوثه بعده أما قبل القبض أو بعده والحادث بعد القبض أما أن يكون في أثناء خيار المشتري أو في أثناء خيار البائع أو في أثناء خيارهما وعلى جميع التقادير فأما أن يكون حدوثه بآفة سمائية أو بمباشرة بشر، أما البائع أو المشتري أو أجنبي ويظهر حكم عامة هذه الصور مما تقدم، والمقصود بالبيان هنا إن خصوص العيب الحادث عند المشتري بعد قبضه وانقضاء خياره مانع من الرد بالعيب المقارن للعقد سواء حدث في حينه أو قبله، ولكن إذا كان العيب من فعل البائع أو أجنبي فهو مضمون عليه لا على المشتري ولا فسخ بل يستحق المشتري أرش العيب، والمراد هنا بالعيب الحادث المانع من الرد ــ هو الأعم من العيوب الموجبة للأرش أو الموجبة للخيار حسبما سبق ومن التغيرات الحسية والمعنوية الموجبة نقصاً في المالية ــ فمثل تبعض الصفقة ونسيان العبد الكتابة وخياطة الثوب وصبغه وقطع الأخشاب كلها مانعة من الرد إن أوجبت نقصاً في المالية وإن لم تكن عيوباً أصطلاحية أو عرفية إلاَّ إذا قلنا بأن العيب مطلقاً هو ما يوجب نقص قيمة أمثاله لولا هذا الوصف وعلى كلٍ فهي كما عرفت مانعة من الرد أتفاقاً إلاَّ ما نسب إلى الشيخ المفيد (P) من إن العيب الحادث لا يمنع الرد نطلقاً وهو خلاف المتفق عليه عند أصحابنا بل وعند أكثر فقهاء الجمهور.

نعم، لو رضي البائع به على عيبه فلا أشكال لأن الحق بينهما فإذا تراضيا فلا مانع، هذا لبِّ ما ينبغي أن يقال في مسقطات الرد.

أما مسقطات الأرش فقط فأمران:

الأول: ما لو أشترى ربوياً بمثله فظهر في أحدهما عيب، مثلاً لو أشترى حنطة بمثلها وزنة بوزنة وظهر في احداهن عيب فإن أخذ الأرش لا يمكن لأستلزامه الربا وإجازة بعض فقهائنا ونسبه إلى بعض الشافعية بدعوى، إن عدم الزيادة إنما تعتبر في المتماثلين في ابتداء العقد والأرش غرامة شرعية لا تقدح في العقد السابق حتى تغالى فجوز أخذ الأرش من جنس العوضين فضلاً عن غيره وهو محل نظر فإن الأرش تدارك وصف الصحة فهو كجزء من المبيع ولذا قالوا: الأوصاف أجزاء عقلية، اللهم إلاَّ أن يقال إن الشارع في الربويين قد ألغى وصف الصحة فصار سواء وجوده وعدمه ولذا لم يجوز وزنة ردية بنصف وزنة جيدة وإن تساويا في القيمة وإذا سقط وصف الصحة شرعاً فليس الأرش سوى حكم خارجي، والمسئلة معقدة وقد ألتبس في المقام العيب والصحة بالجودة والرداءة، وهي محتاجة إلى ضرب آخر من التحقيق لا يتسع له المجال.

الثاني: العيب الذي لا يوجب نقصاً في القيمة بل قد تزيد به والمثال المعروف له عند الفقهاء الخصاء في العبيد ولا يخلو من مناقشة ويمكن أن يكون منه العنب إذا فسد فإنه قد يطلب بأكثر من قيمته عنباً للتخليل أو التخمير وأمثلة غير عزيزة.

الثالث: ما يسقط الرد والأرش معاً، وهي أمور:

أحدها: قبول المشتري كل عيب عند العقد قديمه وحادثه وهو أسقاط لحقه فيما يقتضيه العقد على المعيب من الخيار.

ثانيها: براءة البائع من العيوب في العقد تفصيلاً أو إجمالاً، ومرجع البراءة هنا إلى أسقاط كلما للعيب من أثر من خيار أو أرش أو غيرهما أولاً وبالذات لا ثانياً وبالعرض فلو تلف المبيع بالعيب السابق في خيار المشتري لم يسقط ضمان البائع وإن توهم البعض ذلك، ولا ريب إن القدر المعلوم من صحة البراءة من العيوب السابقة على العقد، أما المتجددة الموجبة للخيار كالعيوب الحادثة قبل القبض أو الحادثة في العبد إلى سنة فيشكل صحة البراءة منها لأنها أسقاط ما لم يجب ويمكن تصحيحها بأن العقد يقتضي الخيار عند حصولها ويكفي لصحة الإسقاط وجود المقتضي فليتأمل.

ثالثها: علم المشتري بالعيب فإن أقدامه على المعيب مع علمه يسقط حقه من الخيار لأن الخيار إنما جعل تداركاً لجهله بالعيب فلا وجه له مع العلم.

ثم إن عدد هذه الثلاثة من مسقطات الخيار مبني على إن وجود العيب بذاته مقتضى للخيار فالبرائة تسقط اقتضائه، وإلاَّ فالعقد مع العلم بالعيب أو براءة البائع منه أو قبول المشتري لم يثبت فيه خيار أصلاً حتى يسقط بأحد الأمرين فهي من قبيل الدفع لا الرفع فليتدبر.

رابعها: زوال العيب قبل العلم به سواء كان بعد القبض أو قبله وهو بالنسبة إلى تأثيره في سقوط الرد ظاهر لأن المتبادر هو رد المعيب حال الرد لا رد ما كان معيباً، أما الأرش فقد ثبت بوجود العيب حين العقد وزواله حدث في ملك المشتري فسقوطه بعد ثبوته يحتاج إلى دليل، وربما تبني المسألة على قاعدة (إن الزائل العائد كالذي لم يزل أو كالذي لم يعد) فيسقط الرد والأرش على الأول ولا يسقط شيء منهما على الثاني ولكن لا أثر لهذه القاعدة عند فقهائنا بل يتبعون في كل قضية ما يستفاد من دليلها من الكتاب والسنة.

خامسها: التصرف في المعيب بعد العلم بالعيب فأنه يسقطهما معاً أما سقوط الرد فظاهر، وأما سقوط الأرش فلأن التصرف دليل على الرضا بالمعيب، ودعوى إن الرضا بالمعيب لا يدل على الرضا بالعيب مدفوعة بأن ظاهر الرضا بالشيء قبوله على الاطلاق، أي من دون قيد الأرش وكذا.

السادس: وهو التصرف في المعيب الذي لم تنقص قيمته فإن الرد يسقط بالتصرف والأرش ساقط بعدم النقص.

سابعها: تأخير الرد والمطالبة بالأرش بناء على فورية هذا الخيار كما لا يبعد.

وقد تذكر مسقطات أخرى ولكن ما ذكرناه أشهرها وأظهرها وجدول المسقطات عموماً كما يلي:

مسقطات الرد فقط:

(1) أسقاط الرد في العقد وإلتزام الأرش لو ظهر معيباً.

(2) تصرف المشتري في المبيع تصرفاً مانعاً من الرد.

(3) تلف العين عند المشتري.

(4) حدوث عيب عند المشتري، ومنه تبعض الصفقة.

مسقطات الأرش فقط

(5) العقد على ربويين وقد ظهر العيب في أحدهما.

(6)العيب الذي لا يوجب نقص القيمة، مسقطاتهما معاً.

مسقطاتهما معاً

(7) العلم بالعيب قبل العقد.

(8)براءة البائع من العيوب في متن العقد.

(9) قبول المشتري بكل عيب في متن العقد.

(10) زوال العيب قبل العلم به.

(11)التصرف في المعيب الذي لم ينقص العيب قيمته.

(12) حدوث العيب في المعيب الذي لم ينقصه العيب.

(13) تأخير الأخذ بالخيار فسخاً أو أرشاً أو أمضاء.

(14) التصرف في المعيب بعد العلم بالعيب.

وإلى بعض هذه المسقطات أشارت (المجلة) في:

(مادة 341)

المتضمنة إن قبول المشتري مسقط.

(مادة 343)

المتضمنة براءة البائع، (ومادة 343) هي عين (مادة 341) وإن تضمنت عدم سماع دعواه بعد قبوله بالمعيب.

(مادة 344)

المتضمنة إن التصرف بعد العلم بالعيب مسقط للخيار.

(مادة 345)

المشتملة على بيان إن حدوث العيب الجديد عند المشتري يسقط الخيار بالعيب القديم، فأقتصرت على ذكر أربعة من المسقطات (القبول، البراءة، التصرف، حدوث العيب الجديد) وأهملت ذكر تسعة على أن الذي ذكرته لم تميز فيه بين مسقط الرد فقط من مسقط الأرش أو مسقطهما معاً، وهذه ومضة مما ذكره أصحابنا في هذا المقام ليس لنا فيه إلاَّ طرافة البيان وحسن التحرير.

ثم إن التصرف كما أشرنا إليه سواء كان موجباً للتلف الحقيقي أو الحكمي أم لا، وسواء كان دالاً على الرضا أم لا، لا يوجب إلاَّ سقوط الرد وله المطالبة بالأرش فما في (مادة 344) لو عرض المبيع للبيع بعد اطلاعه على عيب قديم فيه كان عرضه للبيع رضا بالعيب إلى آخره، غير منقح على تقدير إن الرضا بالمعيب ليس رضاً بالعيب فكان اللازم أن تقول لا يرده وله المطالبة بالأرش.

(مادة 346)

نقصان الثمن يصير معلوماً بأخبار أهل الخبرة الخالين عن الغرض، وذلك بأن يقوم الثوب سالماً ثم معيباً فما كان بين القيمتين من التفاوت ينسب إلى الثمن المسمى وعلى تلك النسبة يرجع المشتري على البائع بالنقصان.

إذا تسالم المتبايعان على وجود العيب القديم وعلى مقدار التفاوت بين الصحيح والمعيب فلا أشكال في أنه ينقص من الثمن المسمى بمقدار ذلك التفاوت إذا كان المسمى مساوياً للقيمة كما لو كان قيمة الصحيح عشرين وهي المسمى والمعيب خمسة عشر فيرجع بالربع، أما لو كانت صحيحاً أزيد من المسمى ومعيباً مساوية أو أقل، أنقص من المسمى بتلك النسبة، وكذا لو كان سالماً ومعيباً أنقص من المسمى، أو سالماً ومعيباً أزيد من المسمى، وقد مثل لهذه الصور الأربعة في (المجلة) بقوله: مثلاً لو أشترى ثوب القماش بستين قرشاً وبعد إن قطعه وفصله أطلع المشتري على عيب قديم فيه فقوم أهل الخبرة ذلك الثوب سالماً بستين قرشاً أيضاً ومعيباً بالعيب القديم بخمسة وأربعين قرشاً كان نقصان الثمن بهذه الصورة خمسة عشر قرشاً فيرجع بها المشتري على البائع ولو أخبر أهل الخبرة إن قيمة ذلك الثوب سالماً ثمانون قرشاً ومعيباً ستون قرشاً فيما أن التفاوت بين القيمتين عشرون قرشاً وهي ربع الثمانين قرشاً، فللمشتري أن يطالب بخمسة عشر قرشاً التي هي ربع الثمن المسمى، ولو أخبر أهل الخبرة إن قيمة ذلك الثوب سالماً خمسون قرشاً ومعيباً أربعون قرشاً فيما إن التفاوت الذي بين القيمتين عشرة قروش وهي خمس الخمسين قرشاً يعتبر النقصان خمس الثمن المسمى وهو أثنا عشر قرشياً.

أما لو أختلفا في كونه معيباً أم لا أو اتفقا أو اختلفا في التفاوت بين الصحيح والمعيب فالمرجع في المقامين إلى أهل الخبرة بتلك السلعة في أصل العيب وفي قدر التفاوت، والمراد بأهل الخبرة ــ العارف المتخصص بمزاولة تلك السلعة، الخبير بتلك الصنعة، بيعاً وشراء أو عملاً كالبزازين في الأقمشة والصياغين في الحلي وهكذا، ثم الرجوع إليه والاعتماد على قوله أما أن يكون من باب الأخبار عن القيمة السوقية، وإن هذه الحنطة تباع اليوم في السوق بكذا فهو حينئذٍ أما من باب الشهادة فيعتبر فيها جميع ما يعتبر في الشاهد من الحس والعدالة والتعدد، وإن كان من باب خبر الواحد وقلنا بأعتباره في الموضوعات كفى العدل الواحد، وأما أن يكون أخباراً عن رأيه وأنه بحسب معرفته ومزاولته لهذا النوع يعرف مزايا أصنافه وأفراده ويقول: إن هذا ينبغي أن تكون قيمته كذا من دون نظر إلى أن قيمته السوقية كذلك أم لا فهو حينئذٍ من باب الفتوى ونظير الاجتهاد في باب الأحكام وتعيين حكم المفهوم الكلي لا يلزم فيه التعدد ولا الحس وتكفي العدالة فقط أي حصول الأطمئنان بمعرفته ثم بقوله، وأما أن يكون من باب التطبيق وتعيين المصداق فقط بأن يكون أحكام الأنواع والكليات في السوق معلومة وإنما الشك في اندراج هذا الفرد بأي الأنواع فالعارف الخبير بعين أنه من النوع الفلاني وقيمته معلومة فيكون أشبه بباب الحكومة والقضاء فلا يحتاج إلى التعدد أيضاً، ويكفي الأطمئنان والثقة، وخبر هذه الوجوه الثلاثة أوسطها فإنه من باب رجوع الجاهل إلى العالم، ويسمى في الأحكام فتوى واجتهاد وفي الموضوعات رجوع إلى أهل الخبرة والملاك في المقامين واحد فليتدبر.

فلو اختلف المقومون فقيل يؤخذ بالأقل للأصل وقيل بالأكثر لأنه مثبت وقيل بالقرعة لأنها لكل أمر مشكل نظراً لعدم امكان اليمين لجهل كل من المتبايعين بالواقع حسب الفرض، ويحتمل تعين إلزام الحاكم لهم بالصلح، والأصح لزوم الجمع والعمل بكلا القولين ولو في الجملة فإذا قال أحدهما قيمته مثلاً ستة، وقال الآخر أربعة أخذنا نصف الستة ثلاثة ونصف الأربعة أثنين وجعلنا القيمة خمسة وهكذا، ومدرك تعين هذه الطريقة أمران:

أحدهما: (قاعدة العدل) التي ذكرناها في القواعد العامة.

ثانيهما: (قاعدة إن العمل بالدليلين المتعارضين) ولو في الجملة أولى من طرح أحدهما تماماً والعمل بالآخر، ولذا حكموا بالتنصيف فيما لو تعارضت البينتان في دار بيد رجلين يدعيها كل منهما وفيه جمع بين الحقين في الجملة وحرمان واحد في الواقع من بعض حقه أولى من ارتكاب ما يوجب حرمان صاحب الحق تماماً.

وكل من هذين الدليلين مقنع وإن سالت أباطح الجدل بأعناق المناقشات والإشكالات عليهما، ثم إن الاختلاف أما أن يكون في قيمة المعيب فقط، أو في قيمة الصحيح فقط، أو فيهما معاً. فإن كان الأختلاف مؤلفاً من اثنين جمعت القيمتان وأخذ النصف. وإن كان من ثلاثة أخذ الثلث وهكذا.

هذا بعد الاتفاق على العيب، أما لو أختلفا فيه فقال واحد أنه صحيح لا عيب فيه، وقال الآخر: أنه معيب، فلا ينبغي الإشكال في أن قول مدعي الصحة مقدم إلاَّ أن تكون هناك قرائن مقامية ترجح قول الآخر الذي هو على خلاف الأصل. وههنا أبحاث جمة، وتحقيقات مهمة، تطلب من مؤلفاتنا المبسوطة. وهذه ومضة من تلك البروق كافية إن شاء الله.

(مادة 347)

إذا زال العيب الحادث صار العيب موجباً للرد على البائع

حق المعنى الصحيح أن يقال: عاد الخيار بالعيب فأما الفسخ أو الأمساك مجاناً أو بالأرش، وهذا مبني على القاعدة المتقدمة في ضمن القواعد العامة، إذا زال المانع عاد الممنوع وكان العيب الجديد مانعاً فإذا زال عاد الخيار بالعيب القديم. ثم إن من المعلوم أن ما ذكروه من أن العيب الحادث عند المشتري يمنع من الرد بالعيب القديم أي الذي كان عند البائع وإن المشتري ليس له إلاَّ المطالبة بالأرش، كل ذلك معناه أن المشتري لا حق له أن يلزم البائع بقبول المعيب بالعيب الجديد وحاصله أنهما تساويا في السبب فسقط عن التأثير وليس مراعاة أحدهما بأولى من  مراعاة الآخر، أما لو رضي البائع رد الثمن وأخذ المعيب الحادث والقديم، فذاك تنازل منه وليس للمشتري أن يلزمه بالأرش بالضرورة وهو الوجه في:

(مادة 348)

إذا رضي البائع أأن يأخذ المبيع الذي ظهر به عيب قديم بعد أن حدث به عيب عند المشتري وكأن لم يوجد مانع للرد فلا يبقى للمشتري صلاحية الإدعاء بنقصان الثمن بل يكون مجبوراً على رد المبيع إلى البائع أو قبوله.

أما لو كان قد حصل مانع من الرد كالأسقاط أو زوال العيب قبل العلم فلا رد بل ولا أرش، أو ما أشير إليه في (المجلة) بقولها: حتى إن المشتري إذا باع المبيع بعد الاطلاع على عيبه القديم فلا يبقى له حق في أن يدعي بنقصان الثمن، مثلاً لو أن المشتري قطع الثوب الذي أشتراه أو فصله قميصاً ثم وجد به عيباً وبعد ذلك باعه فليس له أن يطلب نقصان الثمن من البائع لأن البائع له أن يقول: كنت أقبله بالعيب الحادث، فبما أن المشتري باعه كان قد أمسكه وحبسه عن البائع.

وجدير هنا بأن يتفطن بأنه لا داعي لهذا التطويل الذي هو بغير جدوى ولا طائل إذ قد عرفت فيما مرَّ عليك أن تصرف المشتري بالمعيب بعد اطلاعه على العيب يسقط أصل خياره، فلا فسخ ولا أرش ولا غير ذلك وصار العقد السابق لازماً فلو باعه المشتري مع علمه بعيبه فقد إلتزم به ومضى عليه ولا حاجة إلى قول البائع إني كنت أقبله بالعيب الحادث وعدم قوله، وهذا من قبيل ما يقول أهل المعقول من باب التعليل بالعرضي مع وجود الذاتي فإن عدم حقه بالمطالبة بالنقيصة من جهة تصرفه بعد الاطلاع لا من جهة قول البائع وعدم قوله.

وقد ذكرت (المجلة) في بعض موادها المتقدمة قريباً إن تعريضه للبيع مع علمه مسقط لخياره فكيف بوقوع البيع منه، وقولنا إن حدوث العيب يمنع الرد وله المطالبة بالنقصان إنما هو حيث لا تصرف، أما مع التصرف والعلم فقد انتهى كل شيء، فتدبره، ولا تفوتك هذه المزايا في الزوايا.

والقصارى أنه قد ظهر لك من المباحث السابقة جلياً أن موضع تعين الأرش هو تصرف المشتري في المعيب قبل العلم بالعيب تصرفاً يمنع من الرد.

والتصرف المانع من الرد هو الذي لا يبقى معه صدق كون المعيب قائماً بعينه فإن النص جعل قانون الرد هو قيام العين كما في مرسلة جميل المتقدمة: إن كان الثوب قائماً بعينه رده على صاحبه وإن كان قد قطع أو خيط أو صبغ رجع بنقصان العيب، انتهى. وهذا هو الذي تريد (المجلة) بيانه في:

(مادة 349)

كل موضع لا يمكن للمشتري فيه أن يرد المبيع القائم في ملكه للبائع بدون رضائه أو برضائه إذا أخرج المبيع عن ملكه (أي قبل علمه بالعيب) يرجع إلى بائعه بنقص الثمن، بناء عليه الزيادة المتصلة الغير متولدة. وهي ضم شيء من مال المشتري وعلاوته إلى المبيع تكون مانعاً من الرد، مثلاً ضم الخيط والصبغ إلى الثوب بالخياطة وغرس الشجر في الأرض من المشتري مانع من الرد، وبناء على الضابطة التي عرفتها للرد وعدم الرد تعلم إن الزيادات تختلف في ذلك من حيث صدق قيام العين وعدم صدقه، وتحرير المقام يحصل بتنقيح إن الزيادة أما متصلة أو منفصلة.

والمتصلة أما لأنضمام جسم خارجي إليها أو بنمو من نفسها ولو بسبب خارجي.

والمنفصلة أما متولدة أو غير متولدة، فالأولى كالصبغ والخياطة وغرس الأشجار وكلها تمنع من الرد لعدم صدق قيام العين معها، أما الثانية فهي مثل سمن الدابة وكبرها وقوتها، وهذه لا تمنع من الرد ضرورة صدق قيام العين، أما الثالثة فمثل الشاة إذا ولدت والجارية إذا حملت، بناء على إن الحامل والحمل كالمظروف والظرف فهي مبتنية على أن الحمل في الجارية عيب يوجب الرد كما هو المتفق عليه عند أصحابنا وحينئذٍ يكون حدثه عند المشتري مانعاً من الرد بعيب آخر قديم ولكنهم مع أتحاد ملاك المسئلتين أختلفوا هنا بين قائل بأنه مانع مطلقاً وبين من قيده بما إذا كان موجباً لنقص الجارية، وقيل ليس بعيب كما هو الأشهر في غير الجارية كالشاة ونحوها من الحيوانات.

وبالجملة فالمسألة لا تخلو من نظر وفيها خلاف مترامي الأطراف بين أصحابنا، وإذا رجعنا إلى الضابطة وهي صدق قيام العين نجدها أشكل لعدم وضوح إن هذا المقدار من التغيير يمنع صدق قيام العين أم لا كما أن صدق العيب عليه غير معلوم فبض يقول أنه زيادة، وآخر يقول أنه زيادة ولكنها في المعنى نقيصة لأنها معرضة للخطر خصوصاً في الجارية التي يمنعها الحمل من كثير من الأعمال فضلاً عن خطر الولادة والوضع هذا في الحمل الذي ليس هو بتصرف المشتري، أما ما كان بتصرفه فلا اشكال في كونه مانعاً من الرد لأن الوطيء من التصرفات المانعة اتفاقاً كما سبق وإن لم يكن مغيراً للعين فضلاً عمّا إذا غيرها بالحبل وعند الشك في مورد فلابد من الرجوع إلى الأصول العامة المقررة للرجوع إليها عند الشك وعدم الدليل القاطع.

(أما الصورة الرابعة) أعني الزيادة المنفصلة كالحنطة من الأرض والتمر من النخل والأجرة من الدار وأمثال ذلك فلا ينبغي الإشكال في أنها غير مانعة من الرد مطلقاً لصدق قيام العين بالضرورة.

ومن هنا يظهر لكَ وجه تقييد (المجلة) الزيادة المانعة من الرد بأنها هي المتصلة الغير متولدة فإنها هي القدر المتيقن من الزيادة أما ما عداها فبين ما هو محل خلاف وبين ما هو متيقن بعدم المنع فليتدبر.

(مادة 350)

إذا وجد مانع للرد ليس للبائع أن يسترد المبيع ولو رضي بالعيب الحادث بل يصير مجبوراً على أعطاء نقصان الثمن حتى أنه بهذه الصورة لو باع المشتري المبيع بعد أطلاعه على عيب قديم فيه كان له أن يطلب نقصان الثمن من البائع ويأخذه منه، مثلاً إن مشتري الثوب لو فصل منه قميصاً وخاطه ثم أطلع على عيب قديم فيه، ليس للبائع أن يسترده ولو رضي بالعيب الحادث بل يجبر على اعطاء نقصان الثمن للمشتري ولو باع المشتري هذا الثوب أيضاً لا يكون بيعه مانعاً له من طلب نقصان الثمن وذلك لأنه حيث صار ضم الخيط الذي هو من مال المشتري للمبيع مانعاً من الرد وليس للبائع في هذه الحالة أسترداد المبيع مخيطاً فلا يكون بيع المشتري حينئذٍ حبساً وأمساكاً للمبيع.

هذا البيان على طوله مشوش مختل والمعنى الصحيح فيه أنه إذا تصرف المشتري في المبيع قبل علمه بالعيب تصرفاً مانعاً من الرد فليس له إلزام البائع بأخذه، ولا للبائع أن يلزمه برده بل الوظيفة المقررة هنا أخذ الأرش. فإذا طلبه المشتري صار البائع مجبوراً على دفعه، أما لو تراضيا واتفقا على رده فلا أشكال في صحته لأن الحق بينهما فيكون المشتري أسقط حقه من الأرش والبائع أسقط حقه من التصرف وتراضيا على الفسخ ورد كل مال إلى صاحبه كالإقالة أو هي بنفسها، أما لو أمتنع المشتري فليس للبائع جبره على رد العين، لا لقضية إن ضم الخيط الذي هو مال المشتري صار مانعاً بل من أجل إن مثل هذه التصرفات أعني مثل القطع والخياطة والصبغ تمنع صدق قيام العين الذي هو ملاك صحة الرد سواء باعه المشتري أم لا، فتدبر هذا جيداً.

(مادة 351)

ما بيع صفقة واحدة إذا ظهر بعضه معيباً فإن كان قبل القبض كان المشتري مخيراً إن شاء رد مجموعه وإن شاء قبله بجميع الثمن وليس له أن يرد المعيب وحده ويمسك الباقي وإن كان بعد القبض فإن لم يكن في التفريق ضرر كان له أن يرد المعيب بحصته من الثمن سالماً وليس له أن يرد الجميع حينئذٍ ما لم يرضَ البائع، وأما إذا كان في تفريقه ضرر رد الجميع أو قبل الجميع بكل الثمن مثلاً لو أشترى قلنسوتين بأربعين قرشاً فظهرت أحداهما معيبة قبل القبض بردهما معاً وإن كان بعد القبض برد المعيبة وحدها بحصتها من الثمن سالمة ويمسك الثانية بما بقي من الثمن، أما لو أشترى زوجي خف فظهر أحدهما معيباً بعد القبض كان له ردهما معاً للبائع وأخذ ثمنهما منه.

تحرير هذه المادة على وجه التهذيب والتنقيح، بحيث تنكشف الرغوة عن اللبن الصريح، يحتاج إلى مقدار من البسط في البيان فنقول ومنه تعالى نستمد المعونة.

إن تبعض الصفقة لا يتحقق أو البيع صفقة واحدة لا يتحقق موضوعه طبعاً إلاَّ بتحقق تعدد ما، والتعدد أما أن يكون في الثمن أو المثمن، وأما أن يكون في البائع أو يكون في المشتري، فالصور أربع:

أما الأولى والثانية: وهو ما لو اشترى شيئاً واحداً بدراهم أو دنانير مثلاً وظهر العيب فيه أو في واحد منهما. أو اشترى أشياء بدينار فظهر العيب فيه أوفى واحد منها فليس للبائع أو المشتري تعددا أو أتحدا أن يفسخ في المعيب منها ويقبل الصحيح بنسبته من الثمن لأن العيب إن كان في المبيع الواحد أو الثمن الواحد. فإن فسخ في جزء معين منه أو مشاع أستلزم الشركة وهي عيب يمنع من الرد وحينئذٍ فأما أن يقبل الجميع ويطالب بالأرش. وما أن يفسخ في الجميع، وإن كان العيب في واحد من الثمن المتعدد أو المبيع المتعدد فالفسخ في المعيب المعين منها يستلزم التفريق على البائع وهو نقص مانع من الرد، وقد يكون في تفريق أمواله ضرر عليه سواء كان من قبيل المصراعين أو الخفين، أو من قبيل الثوبين أو الكتابين المتباينين فإن الضرر لا ينحصر في الأول غايته أن الضرر فيه أظهر وأكثر ولو قيل لا مانع من أن المشتري يجوز له الرد بخيار العيب ويجبر البائع دفعاً لضرره بخيار تبعض الصفقة ويكون بهذا جمع بين الحقين، قلنا إن هذه استحالة ظاهرة فإن معنى أن للمشتري الرد بالخيار أن له سلطنة أمساك الصحيح ورد المعيب، فلو جعلنا للبائع أيضاً خياراً لكان معناه إن له سلب تلك السلطنة فيكون من قبيل ما يقال هذا أمر يلزم من وجوده عدمه، فسلب سلطنته من أول الأمر يمنعه من رد المعيب وأبقاء الصحيح فقط أولى، وأقوم من هذا وأقوى أن تقول: إن القدر المعلوم من أدلة خيار العيب عامة أو خاصة هو إن له الخيار في رد الجميع أو أمساك الجميع مجاناً أو بالأرش، أما أمساك البعض ورد البعض فهذا مما لم ينهض عليه دليل أصلاً وأصالة اللزوم في العقود تدفعه بل تمنعه.

نعم، لو وقع العقد على شيئين بثمنين كما لو قال: بعتك الثوب بدينار والكتاب بدرهم وظهر في أحدهما عيب أمكن القول بجواز الفسخ وإمساك الآخر لأنه بحكم عقدين على شيئين وإن كان في الظاهر عقداً واحداً، ومع ذلك فلو كان في هذا التفريق ضرر على البائع ولو نوعاً منعناه أيضاً، وقد تبنى المسئلة على أن المعيب عرفاً أو حقيقة ولو بالأعتبار هل هو تمام المبيع ولو باعتبار جزءه فلا يجوز حينئذٍ إلاَّ رد الجميع أو المعيب هو خصوص ما تعلق العيب به وهو البعض المعين فيجوز رده بخصوصه بخيار العيب وقاعدة (المعيوب مردود) أما البعض الآخر وهو الصحيح فلا سبب فيه للرد وهذا الوجه وإن كان لا يخلو من وجاهة ولكنه لا يخلو من نقاش والأصح في وجه المنع ما ذكرناه وصرّح بعض الأعلام أنه لو رضي البائع بأخذ المعيب جاز الحق لا يعدوهما وهذا يؤيد ما ذكرناه قريباً من أن البائع لو رضي بأخذ المعيب بالعيب الحادث صحَّ وكان كالإقالة فتذكر.

أما الصورة الثالثة: فهي ما لو باع اثنان دارهما المشتركة وظهر فيها عيب وأراد المشتري أن يفسخ حصة أحدهما فلا ينبغي الأشكال في جوازه إذ لا ضرر على أحدهما بل العقد في الحقيقة عبارة عن عقدين فلا مانع من فسخ أحدهما دون الآخر وهو واضح.

أما الصورة الرابعة: وهي إذا اشترى اثنان دار واحد وظهر فيها عيب وأراد أحدهما الفسخ وهنا لا أشكال في لزوم تبعض الصفقة الواحدة على البائع الواحد ولزوم الضرر عليه في تبعض داره ودخول الشريك عليه فيها فالمنع فيها لعله أظهر من سائر الصور.

وقد تزيد الصور على ما ذكرنا بتركيب بعضها مع بعض وحكم الجميع يظهر مما ذكرناه.

وأحسب أنك عرفت مواضع الخدشة في هذه المادة فأن التفصيل بين ما قبل القبض وما بعده لا وجه له والحكم في الجميع سواء، ثم التفصيل ثانياً بين ما هو من قبيل القلنسوتين أو الخفين أيضاً لا وجه له فإن نفس التفريق وتبعيض الصفقة عيب وضرر في الغالب فهو من العيوب الحادثة المانعة من الرد ويصدق معه عدم قيام العين لأن المراد بالعين المبيع وهو المجموع لا أبعاضه فليتدبر.

وعلى هذه القاعدة والملاك تتمشى:

(مادة 352)

إذا أشترى شخص مقداراً معيناً من المكيلات والموزونات بل والعدديات، وبعد قبضه وجد بعضه معيباً كان مخيراً إن شاء قبله جميعاً وإن شاء ردّه جميعاً.

أما ردّ المعيب وأمساك الصحيح فلا، لعدم مساعدة الدليل عليه أولاً وللزوم الضرر على البائع ثانياً، ولعدم صدق قيام العين ثالثاً، وإن كان الحكم هو المنع في المكيلات وأخواتها فجريانه في غير المكيلات كالدار والعقار والأقمشة بطريق أولى.

(مادة 353)

إذا وجد المشتري في الحنطة والشعير وأمثالهما من الحبوب المشتراة تراباً فإن كان ذلك التراب يعد قليلاً في العرف صحَّ البيع، وإن كان كثيراً بحيث يعد عيباً عند الناس يكون المشتري مخيراً، هذه المادة والتي بعدها.

(مادة 354)

البيض والجوز وما شاكلهما إذا ظهر بعضها فاسداً فما لا يستكثر في العادة والعرف كالأثنين والثلاثة في المائة يكون معفواً وإن كان الفاسد كثيراً كالعشرة في المائة كان للمشتري رد جميعه للبائع واسترداد ثمنه كاملاً.

مرجعهما إلى العادة والعرف فأنهم يتسامحون بمثل هذه الأجناس تسامحاً بالصدق أو المصداق ولكن إلى حد مخصوص فإذا تجاوز ذلك الحد وأخفاه البائع أو لم يعلمه المشتري كان عيباً بل ربما تنطبق عليه عناوين أخرى كالغبن والتغرير والغش والتدليس والخديعة وأمثالها وكلها محرمة تكليفاً كما هي محرمة وضعاً أي ذات أثر وضعي وهو استحقاق الفسخ أو أخذ التفاوت.

وليس في الإسلام غش ولا خدع ولا خيانة، ومن النبويات المشهورة (من غشنا فليس منّا) و(لا غش في الإسلام) وأمثالها كثيرة، وعلى كلٍ فالتسامح في الجملة في مثل الأطعمة والجوز والبيض والبطيخ والقثاء وأمثالها مما لا أشكال فيه إذا كانت ذات كمية كثيرة لا في الواحدة والأثنين والثلاث، ولكن لا يمكن تحديد ذلك التسامح وتعيين ضابطة له بأنه ثلاثة في العشرة أو أقل أو أكثر وفي تراب الحنطة أنه ربع أو ثمن في الحقة أو أنقص أو أزيد بل يختلف ذلك بأختلاف البلدان والأشخاص والأزمان، على إن تحقق التسامح العرفي في مثل الجوز والبيض حتى في الواحدة والأثنتين غير معلوم فإذا ظهرت فاسدة قد يطلبون أستبدالهما إلاَّ إذا كانت واطئة القيمة جداً كفلس أو أقل.

نعم، لا أشكال في التسامح في مثل التراب في الحنطة والماء في اللبن، ويمكن أن نجعل الضابطة وجوده الاستقلالي ووجوده الفنائي فإذا كان التراب بحيث يرى ويشاهد بين الحنطة كان عيباً وإذا كان فانياً بحيث لا يرى إلاَّ بعد الغربلة والتصفية كان غير قادح، ومع الشك وعدم معرفة حال العرف أو ترددهم فالمرجع إلى الأصول وهي تقتضي لزوم العقد وعدم الخيار ولكن له المطالبة بالنقيصة فليتدبر.

(مادة 355)

إذا ظهر المبيع كله فاسداً لا مالية له فلا أشكال في أن البيع من أصله فاسد لأنه يتقوم بالعوضين ومع فقد أحدهما لا بيع.

إلى هنا انتهى كلام (المجلة) في مباحث خيار العيب وبقيت المسألة الثالثة من المسائل الثلاث التي ذكرنا أنها أهم ما في مباحث هذا الخيار وهي مسألة الأختلاف والتنازع بين المتعاقدين لم تذكر (المجلة) شيئاً منها مع أهميتها وكثرة فروعها، ونحن نذكر رؤوس مسائل الخلاف كرؤوس أقلام وتدع استخراج حكمها إلى (طلاب الحقوق) كتمرين عملي على قوة الأستنباط فإن هذه المسائل أعني مسائل الخصومة والخلاف على أختلاف أشكالها وأنحائها ليس فيها نصوص خاصة، وإنما يستخرج الفقهاء أحكامها من القواعد العامة التي مرَّ عليك أكثرها في أوائل (الجزء الأول) فإن كنت أتقنت دراستها جيداً قدرت على أستخراج هذه الفروع بقليل من التأمل إن شاء الله.

والمبحوث عنه من مسائل الخلاف هو خصوص ما يتعلق بالعيب، أما الخلاف في مقدار المبيع أو جنسه أو قدر الثمن أو نوعه فهذه خلافات عامة في مطلق البيوع ليس محل ذكرها هنا.

إذاً فتنحصر مسائل الخلاف في خيار العيب في ثلاث عناوين:

الأول: في موجب الخيار وهو العيب.

الثاني: في مسقطه.

الثالث: في حصول الفسخ وعدمه.

أما الأول ففي مسائل:

الأولى: لو أختلفا في أصل حدوث العيب فأدعاه المشتري وأنكره البائع، وحكمه واضح.

الثانية: في كون الصفة الحادثة عيباً أو ليست بعيب كما لو صارت الدابة بطيئة السير أو العبد كثير النوم حيث لا يمكن الرجوع إلى أهل الخبرة، أو لم يكن عندهم حل هذه العقدة، وهكذا في سائر مواضع الخلاف.

الثالثة: لو أتفقا على العيب وأختلفا أنه هل كان حدوثه عند البائع فيوجب الخيار أو عند المشتري فلا خيار، فأستخراج حكمها لا يخلو من غموض وفي طيها صور فتارة يعلم تاريخ العقد ويجهل تاريخ الحدوث وأخرى بالعكس، وثالثة يجهل تاريخهما معاً.

الرابعة: لو أتفقا على إن هذه العين معيبة بعيب قديم ولكن البائع يقول: ليست هي العين التي بعتها لكَ، والمشتري يقول: هي، وحكمها أيضاً غامض.

أما الثاني وهو الأختلاف في المسقط ففي طي مسائل أيضاً:

الأولى: لو أختلفا في علم المشتري بالعيب وعدمه وحكمه واضح.

الثانية: لو أختلفا في براءة البائع وعدمها وهو أوضح، وفيه رواية أن القول قول مدعي البراءة، ولكنها ضعيفة ومختصة بموردها وهي مكاتبة جعفر بن عيسى.

الثالثة: لو أختلفا في زوال العيب قبل العلم به واستخراج حكمه يحتاج إلى تأمل.

الرابعة: لو أتفقا على زوال العيب ولكن البائع يقول: هو القديم والمشتري يقول هو الجديد، وهو كسابقه.

الخامسة: لو أختلفا بعد الأتفاق على عيب قديم في عيب مشاهد أنه قديم أيضاً أو حادث عند المشتري.

السادس: لو أدعى البائع رضا المشتري بالعيب بعد علمه به أو أدعى اسقاط الخيار أو تصرفه المسقط لخياره أو حدوثه عند المشتري وأنكر المشتري كل ذلك.

وأما الثالث وهو الأختلاف في الفسخ ففيه أيضاً مسائل:

الأولى: لو اختلفا في الفسخ بعد انقضاء زمن الخيار أو في اثنائه فأدعي المشتري أنه فسخ وأنكر البائع، وإذا لم يثبت الفسخ والفرض أن العيب الموجب محقق فهل يستحق الأرش كي لا يخلو من الحقين أم ليس له ذلك لأعترافه بالفسخ، وأحتمل بعض الأعلام أن له أقل الأمرين من الأرش وما زاد من الثمن على القيمة إن كانت زيادة لأنه بزعمه يستحق الثمن، وعليه رد القيمة إن كانت العين تالفة فيقع التقاص في القيمة من الثمن والزائد منه أن كان أقل من الأرش أخذه وإلاَّ أخذ الأرش فليتأمل.

الثانية: لو أختلفا بناء على فورية خيار العيب في أن الفسخ وقع فوراً أو تأخر وفي طيها أيضاً صور.

الثالثة: لو اختلفا في علم المشتري بالخيار وجهله أو علمه بفورية هذا الخيار وعدم علمه وذاك فيما لو أدعى المشتري بعد العلم بالعيب أنه إنما لم يفسح لجهله بأن له الخيار أو يعلم بأن له خياراً، ولكن كان جاهلاً بفوريته وأنكر البائع ذلك، وعليك أيها الطالب بالتأمل التام في هذا المقام فأن مرجع أكثر الصور إلى تعاقب الحالتين المجهولتي التاريخ أو ما تكون أحداهما معلومة التاريخ والأخرى مجهولة، وإلى الاستصحاب وأصالة تأخر الحادث وأشباه ذلك.

الفصل السابع

خيار الغبن والتغرير

والبحث فيه يقع من ثلاث نواحي: الموضوع، والحكم، والدليل.

معنى الغبن ومقداره، وتأثيره، ومدركه

أما الأولى: فأصله لغة الخدع ووسطه يحرك فيكون في الرأي ويسكن فيكون في المال والمعاملة، وبهذا المعنى أستعمله الشارع والمتشرعة وقيدوه ببعض الأعتبارات فقالوا: هو تمليك ماله بما يزيد على قيمته مع جهل الآخر، وهذا تعريف له من جهة الغابن، أما من جهة المغبون فيكون تملك مال بأزيد من قيمته وتخصيصه يجهل الآخر غير متجه مع إنا نجد الاستعمال أوسع من ذلك عرفاً بل ولغة، ألاَّ ترى إن العارف بالشيء قد يخدعه غيره بلباقته فيضله على علمه ويخدعه على معرفته فيكون علمه فيكون علمه معه فلا ينفعه، ولكن فقهاء الفريقين اعتبروا في تحقق موضوع الغبن المبحوث عنه اتصافه بشرطين:

الشرط الأول: عدم علم المغبون بالقيمة فلو كان عالماً واشتراه بأكثر فلا غبن ولا خيار فيختص بالجاهل بسيطاً أو مركباً أو شاكاً أو ناسياً ويلحق به الظان على تأمل بل قيل إن الشاك الملتفت إلى الضرر ولو أحتمالاً إذا ارتكب فهو مقدم على الضرر وهو ممنوع بل ربما يرتكب برجاء النفع وأمل السلامة، كما هو الغالب في أعمال البشر فأن اليقين بالنجاح متعذر أو عزيز نادر، والمدار على القيمة حال العقد فلا أثر لزيادتها بعده ولو قبل علمه لأنها حصلت في ملكه والعقد وقع على غبن ولا عبرة بالزيادة والنقيصة بعد العقد أتفاقاً، والأثر لعلم الموكول لا الموكل إلاَّ أن يكون وكيلاً مطلقاً لا في العقد فقط، ثم إن أعترف الغابن بجهل المغبون فلا أشكال وإن أنكر فإن كانت بينة فكذلك وإلاَّ فالقول قوله بيمينه لأنه منكر ولأصالة عدم العلم إلاَّ أن يقيم الغابن بينة على علمه أو يمينه إن ردها المغبون عليه أو يكون المغبون من أهل الخبرة بتلك السلعة بحيث يستبعد جهله بها فيتقدم الظاهر على الأصل على تأمل.

الشرط الثاني: أن يكون التفاوت فاحشاً أي بما لا يتغابن الناس بمثله وأضطربت كلمان فقهاء الإمامية وفقهاء المذاهب أيضاً في ضابطة التفاوت الفاحش حتى حكى عن مالك إن التفاوت بالثلث لا يوجب خياراً فإن زاد ثبت الخيار، وهذا إفراط، ويقابله تفريط (المجلة) فيما تقدم (مادة 165) الغبن الفاحش غبن على قدر ربع العشر في الدراهم ونصف العشر في العروض والعشر في الحيوانات والخمس في العقار أو زيادة، وكل هذه التقادير تحكمات وأفتراض بغير دليل، ولو أن زيادة العشر ونصف العشر توجب الغبن لبطلت التجارات وتعطلت المكاسب، ولم يرتزق الناس بعضهم ببعض ولكن (كلا طرفي قصد الأمور ذميم) والأحسن رد هذه الدعوى إلى محكمة العرف وأهل الأختصاص بتلك السلعة فهم يعرفون المقدار المعتدل في الربح وما زاد عليه أو نقص وما يكون غبناً على البائع أو على المشتري ولا يتحقق غبن عليهما في معاملة واحدة على شيء واحد.

نعم، يجوز ذلك في شيئين يباعان في صفقة واحدة ولكل واحد منهما ثمن كما أنبأناك فيما سبق، ولعل لعلماء الأقتصاد في هذا المقام شأن لا ينبغي أن يغفل عنه.

والخلاصة: أنه لو تحقق في المعاملة زيادة فإن علم حالها من غبن أو عدمه ولو بالرجوع إلى العرف وأهل الخبرة فذاك، ومع الشك فالمرجع إلى أصالة لزوم العقد وعدم الخيار إلاَّ أن يكون هناك ضرر ولو شخصي لا نوعي فتكون قاعدة الضرر حاكمة على أصالة اللزوم ويكون له الخيار، هذا عصارة ما ينبغي أن يقال في موضوع الغبن لغة وعرفاً وشرعاً.

أما الحكم والدليل فإنهم جعلوا الغبن بواقعه أو عند ظهوره موجباً لخيار المغبون على حد سائر الخيارات فيتخير بين الفسخ واسترجاع تمام الثمن أو الأمضاء بكل الثمن، وأستدلوا له:

أولاً: بقوله تعالى: [إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ] بتقريب إن البيع تجارة دلّت الآية على مشروعيتها وجوازها وتكون لازمة بالتراضي وحيث إن المغبون غير راضٍ واقعاً بشرائه بأكثر من قيمته فيقع البيع جائزاً غير لازم لفقد شرط اللزوم وهو الرضا فله أمضاؤه وله فسخه، وبقاعدة الضرر.

ثانياً: فإن لزوم العقد على المغبون يستلزم الضرر والخسران عليه وكل حكم يستوجب الضرر مرفوع بحكم القاعدة فاللزوم مرفوع وهو معنى الخيار، ثم أيدوا ذلك بالأخبار الكثيرة الواردة بأن غبن المسترسل سحت وغبن المؤمن حرام وفي رواية (لا يغبن المسترسل فأن غبنه لا يحل) وهكذا، والإنصاف إن هذه الأدلة لا تنهض لأثبات تلك الدعوى لدى الفحص والتمحيص، أما الآية الشريفة فلا تدل على أكثر من أن التجارة أي البيع ونحوه عن تراضٍ نافذ مشروع وليس أكلاً للمال بالباطل أما أنه بغير تراضٍ يكون مشروعاً وجائزاً فأجنبي عنها مضافاً إلى أن المغبون قد رضي بالمعاملة في أولها وهو كافٍ ولا عبرة بالرضا التقديري على ما حقق في محله.

وأما القاعدة فهي وإن دلت على أرتفاع اللزوم المستلزم للضرر ولكن لا تعين إن الوظيفة بعد اللزوم هو الخيار بين الفسخ أو الأمضاء بل لعل الأقرب في مفادها إن الضرر مرفوع والضرر، إنما جاء من جهة الزيادة أو النقيصة فلزوم العقد بالنسبة إلى الزيادة أو النقيصة مرفوع ولازمه أن له حق أسترداد الزيادة من البائع أو مطالبة المشتري بالنقيصة فيما لو باع بأقل من الثمن ويبقى العقد على لزومه بالنسبة إلى القيمة المطابقة فإن لم يدفع الزيادة أو التكملة تسلط المغبون بعدها على الفسخ وهذا المقدار المستدر تدارك له وجبر وبعبارة أجلى أرجاع ماله المأخوذ منه بغير حق إليه أو التكملة لعوض ماله لا غرامة خارجية كما تخله بعض الأعلام ولا هبة مستقلة كما تخيله آخرون، وأثر هذا إن الغابن لو بذل التفاوت لم يكن للمغبون الفسخ وحل العقد واسترداد كل الثمن كما حكم به المشهور حيث جعلوا للمغبون سلطنة الفسخ مهما كان الأمر وهو رأي لا يعتمد على حجة ظاهرة، إذ ليس عندنا دليل يقول إن الغبن يوجب الخيار للمغبون حتى نأخذ بأطلاقه وليس إلاَّ قاعدة الضرر وقد عرفت إن الضرر يتدارك ببذل التفاوت وتبقى أصالة اللزوم في العقود بحالها فلا خيار إلاَّ بعد الأمتناع عن بذل التفاوت ومع البذل فلا حق له في الفسخ.

أما الأخبار الواردة في غبن المسترسل فهي أيضاً أجنبية عن قضيتنا وهي إلى الأحاديث الأخلاقية أو المتكفلة لبيان الأحكام التكليفية أقرب منها إلى بيان الأحكام الوضعية، فالمراد منها بعد التدبر فيها حرمة غش المستنصح في الرأي وخيانة المستأمن لكَ، والواثق بكَ، وهو المعبر عنه بالمسترسل في تلك الأخبار أي المطمئن بك الغير متحذر منك، المرسل نفسه على سجيتها لديك.

أما السحت وإن كان الأموال ولكن الظاهر أن المراد منه في الخبر أن غبن المسترسل حرام كحرمة مال السحت والحاصل إن هذه الطائفة من الأخبار بمعزل عمّا نحن فيه، ثم إن الغبن والتغرير مفهومان متغايران. نعم، هما متلازمان بحسب المعنى اللغوي العام فكل من غررته فقد خدعته وكل من خدعته غررته ولكن بحسب المعنى الخاص قد ينفك أحدهما عن الآخر فقد يتحقق الغبن ولا تغرير كما لو كان جاهلاً فأشترى الشيء بأضعافه من دون أن يكون أحد دعاه أو حبذه له وقد يتحقق التغرير دون الغبن كما لو غرره في أرتكاب عمل ساقط فأرتكبه فهنا تغرير من غير غبن فعطف (المجلة) أحدهما على الآخر وتقييد الغبن بالتغرير واهن غير سديد وأوهن من ذلك اعتبار التغرير في الغبن ثم استثناء المعاملة على مال اليتيم والوقف وبيت المال فإن الغبن إن كان لا يؤثر إلاَّ بالتغرير فهو عام وإلاَّ فالغبن موجب للخيار في الجميع وأخراج تلك المواضيع تخصيص بلا مخصص سوى الاستحسان.

وباب العقود والمعاملات منوطة بقواعد عامة وأدلة كلية يتساوي فيها اليتيم وغيره والتقي والشقي والوقف والملك.

وبالجملة فالمتبع هو الدليل لا الرأي والإستحسان فأفهم ذلك إلتزمه، هذا إذا غبن أحدهما الآخر أو وقع أحدهما في الغبن من نفسه من دون أن يغبنه أحد، أما لو كان الغابن أجنبياً كالدلال ونحوه فالظاهر أنه لا يكون له خيار بل يرجع بالتفاوت على من غره بقاعدة (المغرور يرجع على من غره) على تأمل أيضاً، فما في:

(مادة 357)

إذا غرَّ أحد المتبايعين أو الدلال الآخر وتحقق إن في البيع غبناً فاحشاً فللمغبون أن يفسخ البيع حينئذٍ محل نظر، فإن عمل الدلال أو الأجنبي لا يصحح دخول الضرر على البائع حتى يفسخ بيعه رغماً عليه فالمسألة محل أشكال تحتاج إلى أمعان نظر أزيد من هذا.

(مادة 358)

إذا مات من أغر بغبن فاحش فلا تنقل دعوى التغرير إلى وارثه، بل تنقل على الأصح كما عرفت مكرراً.

(مادة 359)

المشتري الذي حصل له تغرير إذا أطلع على الغبن الفاحش ثم تصرف في المبيع تصرف الملاك سقط حقه.

هذه المادة والتي بعدها تشير (المجلة) فيها إلى مسقطات خيار الغبن وتحرير ذلك وتصويره بأوفى بيان إن خيار الغبن يسقط بتلك المسقطات كسائر الخيارات:

فالأول: أسقاطه بعد العقد بعد العلم بالغبن بلا أشكال بل وقبل العلم به ولا يرد عليه بأنه أسقاط ما لم يتحقق إذ يكفي تحققه الواقعي واقتضاء العقد له كما في اسقاط خيار العيب قبل ظهوره الذي تقدم أنه لا مانع منه كطلاق مشكوك الزوجية وعتق مشكوك الحرية الذي يدور مدار واقعه وكالبراءة من العيوب وبهذا الملاك يصح المصالحة عليه وإن لم يتحقق بعد وإن كان ضم شيء إلى الغبن المحتمل أولى.

الثاني: أشتراط سقوطه في متن العقد ولكن لا يذهبن عنك أن اشتراط السقوط في العقد وأن صحَّ بالنسبة إلى سائر الخيارات ولكن بالنسبة إلى هذا الخيار كخيار الرؤية حسبما عرفت لا يصح، لأنه يستلزم الغرر من جهة الجهل بالقيمة ويمكن تصحيحه بأن المدار في الغرر المبطل أن يشتري الشيء بقيمة مجهولة القدر أو بشيء مجهول القيمة، أما إذا أشترى بقيمة معلومة وإن كانت زائدة على القيمة الواقعية المجهولة فلا غرر أصلاً.

نعم، يشكل ذلك في خيار الرؤية لأن العين الغائبة إنما صحَّ بيعها بغير رؤية لمكان الوصف القائم مقامها ومع تخلف الوصف يكون له الخيار فأشتراط سقوطه معناه إلغاء اعتبار الوصف الذي به صحَّ العقد وبدونه تبطل المعاملة بها تكون على عين غائبة بغير وصف ولا رؤية وكيف كان فالظاهر إن أشتراط سقوط خيار الغبن في العقد لا مانع منه فتدبر.

الثالث: تصرف المغبون بأحد التصرفات المسقطة للخيار بعد علمه بالغبن الدال على الرضا بالعقد وأمضائه جديداً والإلتزام به مع غبنه، أما التصرف قبل العلم بالغبن فلا أثر له لعدم دلالته على ذلك ومع الشك في أن تصرفه عن رضا وإلتزام أم لا فالمرجع إلى استصحاب بقاء الخيار.

الرابع: تصرف المغبون قبل العلم بالغبن تصرفاً متلفا للعين أو بحكم التلف كبيع أو عتق أو وقف وهو محل نظر بناء على إن التلف في سائر الخيارات لا يقتضي سقوط الخيار فما وجه سقوطه هنا بهذه التصرفات التي لا تدل على الرضا بالعقد المغبون به لعدم علمه بالغبن حسب الفرض، فإلحاقه بسائر الخيارات يقتضي أنه مع قيام العين وبقائها عنده على حالها يتخير بين الرد والفسخ على أسلوبهم، ومع التلف حقيقة أو حكماً يسقط الرد لزوال الموضوع ويتعين أما أخذ التفاوت كأخذ الأرش في خيار العيب مع امتناع الرد أو الفسخ ودفع قيمة العين واسترجاع الثمن، كما في خيار الحيوان والشرط وغيرهما، وكلمات الأصحاب هنا غير منقحة ودليلهم غير واضح، ولهم مباحث ذات عرض عريض يكفيك منها، ما تخلنا لك لبابه، وفتحنا عليك بابه، وعلى كلٍ فإلى هذين المسقطين أشارت (المجلة) في:

(المادة 359، 360)

ولكنها خلطت في الأخيرة بين التلف السماوي بقولها: إذا هلك وبين حدوث العيب وبين التصرفات الغير متلفة كالبناء في العرصة، وهذه الثلاثة ليست من نمط واحد بداهة إن التلف وحدوث العيب مسقطات مطلقاً سواء حدثت بعد العلم بالغبن أو قبله.

أما بناء العرصة فإنما يسقط إذا وقع بعد العلم فكان حقه أن يذكر مع أخواته في المادة التي قبلها، والحاصل أن تصرف المغبون إن كان قبل العلم بالغبن فالقاعدة تقتضي عدم تأثيره في أسقاط خياره لو علم غايته إن العين إن كانت موجودة وفسخ ردها وإن كانت مفقودة رد المثل أو القيمة أو أخذ التفاوت، وإن كان بعد العلم فإن كان دالاً على الرضا سقط الخيار مطلقاً سواء كان تلفاً أو بحكمه أم لا وسواء كان من قبيل تصرف الملاك أم لا، هذا كله في تصرف المغبون أما تصرف الغابن فلا ريب في أنه لا يسقط خيار المغبون فإن فسح ووجد عين ما له أخذها وإن لم يجدها وكان الغابن تصرف بها ببيع أو شراء أو وقف أو نحو ذلك، فهل تبطل تلك التصرفات ويسترد العين أو ينتقل حقه إلى المثل والقيمة أو يفرق بين العقد الجائز فيبطل وبين اللازم فيبقى وينتقل إلى المثل أو القيمة ومثله الكلام لو وجدها مستأجرة فهل تنفسخ الإجارة أو بأخذها مسلوبة المنفعة أو يأخذ عوض المنفعة، وكذا لو زاد في الغبن غرساً أو صبغاً أو مزجها بغيرها والفروع هنا كثيرة والمسألة مشكلة والأقرب الرجوع إلى المثل أو القيمة وإبقاء تلك العقود على حالها.

(الخامس من المسقطات) عند البعض التلف، والتلف أما أن يكون أتفاقياً أو بمتلف فإن تلف ما في يد المغبون وكان اتفاقياً فقد عرفت إن البعض ــ ولعله الأشهر ــ يسقطون الخيار معتلين بعدم أمكان الاستدراك أي زوال الموضوع وعرفت إن هذه العلة عليلة وإن التدارك يمكن بالمثل أو القيمة كما في غيره من أنواع الخيارات التي لا يسقط شيء منها بالتلف.

نعم، قد تعترض هنا قاعدة (إن التلف في زمن الخيار ممن لا خيار له) فتزيل موضوع الخيار بأنفساخ العقد قهراً، كما عرفته مفصلاً، ولكنها على الظاهر مختصة بخيار المجلس والحيوان والشرط، ولو تلف ما في يد المغبون بمتلف فأما أن يكون المتلف هو المغبون فلا أشكال في سقوط خياره حينئذٍ ضرورة إن تصرفه الذي هو أهون من التلف مسقط فكيف بالتلف.

نعم، يمكن الخدشة فيه بأن التصرف المسقط هو الدال على الرضا فالأتلاف إن كان عن رضا وإلتزام بالعقد فهو وإلاَّ فلا.

وأما أن يكون الغابن فخيار المغبون بحاله فإن فسخ أسترد من الغابن ما دفعه من المسمى وإن أمضى أخذ منه غرامة العين ــ المثل أو القيمة ــ وإن كان المتلف أجنبياً وفسخ المغبون أسترد من الغابن ثمنه المسمى ويرجع الغابن على الأجنبي بالمثل أو القيمة وإن أمضى رجع على الأجنبي بالمثل أو القيمة، ولو تلف ما في يد الغابن فإن كان أتفاقياً سماوياً وفسخ المغبون غرم له بدل الثمن المسمى وإن أمضى غرم له القيمة أو المثل وإن كان بمتلف فإن كان هو الغابن بنفسه فكذلك في حالتي الفسخ والأمضاء وإن كان المتلف هو نفس المغبون وفسخ رد العين ولا شيء له لأنه قد أتلف ماله وإن أمضى غرم للغابن المثل أو القيمة وإن كان المتلف أجنبياً وأمضى المغبون رجع على المتلف بالغرامة، وإن فسخ تخير بين الرجوع على الغابن لأن يده كانت قد استقرت على ماله فإن غرم الغابن له رجع على الأجنبي وبين الرجوع على الأجنبي لأنه هو المتلف وقرار الضمان عليه فإذا غرم له برئت ذمة الغابن لأن المال لا يضمن مرتين.

هذه صورة مصغرة وجرعة يسيرة من عين غزيرة من فروع هذا الأصل ومصاريع هذا الباب وبقي من مسائل خيار الغبن مسئلتان مهمتان تعرض لها بعض اعلامنا

المتأخرين بأوفى بسط من التحقيق وغلقنا عليه جملة من الملاحظات والنقوش وهما قضية جريان خيار الغبن في غير البيع من عقود المعاوضات المالية اللازمة كالإجارة والصلح والهبة المعوضة وغيرها، وأدلة هذا الخيار من الآية وقاعدة الضرر تقتضي الإطراد في الجميع ولكن الأصحاب لم يذكروه إلاَّ في البيع ولكن هذا لا يقتضي الأختصاص مع عموم الدليل.

الثانية: أختلف الفقهاء في إن هذا الخيار بعد العلم بالغبن هل هو على الفور أو على التراخي وأستدل الأول بما عرفت غير مرة من أصالة اللزوم في العقود وخرج منه لدفع الضرر ساعة علمه بالغبن على اليقين ويبقى ما عداه من المشكوك في عموم أصل اللزوم، وقد مرَّ عليك في نظائره أنه هو الأقرب، وأستدل الثاني بأستصحاب الخيار الثابت حين العلم بالغبن على اليقين فيستصحب إلى ما بعده من الأزمنة المشكوكة أو الأفراد المشكوكة وهذه المسألة أيضاً من المسائل المعقدة وفيها تحقيقات عميقة وثيقة الارتباط بالقواعد الأصولية وعنوانها، إن العام الأفرادي ــ الزماني أو الأحوالي ــ إذا تخصص بفرد أو زمان أو بحال قطعاً ثم شكَّ في الزمان الثاني أو الحال الثاني أنه محكوم بحكم الخاص أو بحكم العام ــ أصالة العموم تقتضي الثاني واستصحاب حكم المخصص يقتضي الأول، مثلاً أصالة اللزوم تقتضي وجوب الوفاء بالعقد والإلتزام به في كل زمان وكل حال خرج حال العلم بالغبن قطعاً وبأدلة خيار الغبن ونشك عند الحال الثاني في بقاء الخيار كالحال الذي قبله أو أنه فرد من العام يجري عليه حكم العموم من وجوب الوفاء، واللزوم هذا عنوان المسألة وتحقيقها بحال إلى محله من الموسوعات ولا يصلح هنا أكثر من هذا.

وبخيار الغبن أنهت (المجلة) أبواب الخيار السبعة، وقد عرفت إن كلاً من خيار النقد والوصف يرجع إلى خيار الشرط، وخيار التعيين لا ربط له بباب الخيارات أصلاً، وهو تخيير لا خيار، وقد وقع في مثل هذا الوهم بعض شراح (المجلة) فأستدرك عليها خياراً سماه (خيار الاستحقاق) وقال أنه من جملة الخيارات إلاَّ أن (المجلة) لم تبحث عنه وإن كثيراً من (الحكام) يقع في المشكلات العظيمة في دعاوي الاستحقاق والقانون المدني الفرنسي بحث عن الأستحقاق بمواد كثيرة، وفسره بما ملخصه:

((إن المشتري إذا اشترى مبيعاً وقبل قبضه أدعاه آخر بالأستحقاق كلاً أو قسماً وضبطه كدابة ضبط نصفها أو دابتين وضبط احديهما ولم يجز البيع انفسخ البيع في القدر المستحق وتخير المشتري مع عدم علمه بين الفسخ في الباقي أو قبوله بنسبته من الثمن))، انتهى.

وقد ذكر فقهاؤنا هذه الصورة في باب (من باع ما يملك وما لا يملك) وإن المالك إذا أجاز وقلنا بتعميم الفضولي لمثل هذا البيع تمَّ العقد ولا خيار للمشتري وإن لم يجز أو قلنا بأن أجازته لا تجدي صحَّ البيع فيما يملك فقط، وبطل من أصله في غيره لا أنه ينفسخ ويكون للمشتري خيار بين الأمضاء في الباقي وبين الفسخ فيه، وهذا هو خيار تبعض الصفقة بعينه والقضية فرع من فروعه، وليس هو خيار مستقل برأسه، أما ما غرمه المشتري على تقدير قبض العين الغير مملوكة للبائع وتصرفاته فيها من غرس وبناء ونحو ذلك فقد ذكروا أحكامها تفصيلاً في باب (المقبوض بالعقد الفاسد) وجعلوا ضمانها على البائع إن كان المشتري جاهلاً والبائع عالماً، وإن كانا جاهلين أو امشتري عالماً والبائع جاهلاً فالضمان على المشتري وإذا كان مغروراً من أجنبي رجع على من غره، إلى تحقيقات كثيرة، ومباحث واسعة، طولاً وعرضاً.

ثم أستدرك على (المجلة) بخيار آخر سماه (خيار الخيانة) وهو ما إذا ظهرت خيانة البائع في البيع بالمرابحة فللمشتري الخيار إن شاء ترك المبيع وإن شاء قبله بجميع الثمن المسمى، انتهى.

ولا ريب أنك تطالب بدليل هذا الخيار فلا تجده وتلجأ إلى القاعدة من صحة العقد ولزومه بمقدار الثمن الواقعي وتسقط الزيادة التي أتت من الخيانة، اللهم إلاَّ أن تتشبث بأذيال خيار الشرط وتقول إن الشرط كان بينهما ذلك وقد خالفه البائع فيتخير المشتري.

إذاً فهو من فروع خيرا الشرط لا خيار مستقل، ومثل ذلك الكلام في بيع التولية لو خان في بيان مقدار الثمن فأعرف هذا وتدبره جيداً.


 


(1) ونظير هذا من أمثلة الأوصاف وإن لم تكن من العيوب (اللحى) فأن مقتضى طبيعة الإنسان الذكر أن تكون له لحية إذا بلغ السن المخصوص، ولكن انعكست القضية بالنظر إلى الحقيقة الثانوية، وصار التواضع التقليدي على حلق اللحى بحيث أوشك أن يعد مقتضى الطبيعة والفطرة وهو كون اللحى عيباً وأزالتها كمالاً، ومن المستظرف هنا قول بعضهم:

رأيت في جلق غزالاً

 

تحار في وصفه العيون

 

فقلت ما الأسم قال (موسى)

 

قلت هنا تحلق الذقون

 

نعم، هذا زمان حلق الذقون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

 


 

 
امتیاز دهی
 
 

 
Guest (PortalGuest)

دبيرخانه كنفرانس‌هاي بين‌المللي
Powered By : Sigma ITID