الجمعة, رمضان 19, 1445  
 
الثمن ما يكون بدلاً للمبيع  

 

 تحرير المجلة

آية الله العظمى الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء  "قدس سره"

 

  



قواعد خاصة بالإقرار

(64) إقرار العقلاء على أنفسهم نافذ أو جائز.

وقد تقدمت الإشارة إلى موجز من القول فيها.

(65) كل اقرار لا يقبل بعده الإنكار.

فلو أقر لزيد بعشرة دراهم ثم أنكر أو أدعى الاشتباه أو الغلط أو أمثال ذلك لم يسمع منه.

(66) كل انكار يصح بعده الاقرار.

وهذا في باب الأموال والحقوق واضح فإنه اعترف يلزم به ولكن يشكل في أبواب النكاح والعدد ونحوها، فلو ادعت زوجيته وأنكر ثم رجع فاقر أو أنكرت هي ثم أقرت فهل يقبل إقراره أم لا. وكذا لو أنكرت رجوعه في العدة ثم أقرت بعد العدة أنه رجع بها في العدة والمسألة تحتاج إلى تأمل.

(67) كل من قدر على انشاء شيء قدر على الإقرار به أي إقراره نافذ فيه.

ومن أمثلة ذلك ما ذكروه في مسائل الرهن وفروعه أنه لو أذن المرتهن للراهن في بيع العين المرهونة فباعها الراهن وادعى المرتهن أنه رجع عن الاذن قبل البيع فهو باطل وادعى الراهن أنه باع قبل الرجوع فهو صحيح قالوا إن الراهن إذا قال: بعت وصدقه المرتهن ثم أدعى الرجوع قبل البيع فالقول قول الراهن والبيع صحيح، وإذا أدعى المرتهن الرجوع وصدقه الراهن ثم ادعى أنه باع قبل الرجوع فالقول قول المرتهن والبيع باطل ومدرك هذا التفصيل هو القاعدة المزبورة فإن الراهن له إنشاء البيع في الصورة الأولى قبل أن يدعي المرتهن الرجوع فينفذ إقراره لأن من قدر على إنشاء شيء نفذ اقراره فيه بخلاف الصورة الثانية فإنه لما أدعى المرتهن الرجوع أولاً وصدقه الراهن لم يكن للراهن أن يبيع في ذلك الوقت لأن الرجوع صار محققاً إما سابقاً أو لاحقاً فلو أراد الراهن إنشاء البيع حينئذٍ لم يصح فلا يصح إقراره بتلك القاعدة أيضاً واستشكلوا في جملة فروع.

ولعل إلى هذه القاعدة ترجع القاعدة المعروفة عند فقهائنا وأفرد فيها بعض أعلامنا المتأخرين رسالة وهي:

(68) من ملك شيئاً ملك الإقرار به.

وهي غير قاعدة الإقرار المعروفة طبعاً ومثلوا لها بالوصي والوكيل وولي الصغير ومتولي الوقف فإنهم إذا أقروا ببيع مال اليتيم مثلاً أو إيجاره أو إيجار الوقف وغير ذلك فإن إقراره نافذ لأنه يملك البيع والإيجار ومن ملك شيئاً ملك الإقرار به وقبول هذا الإقرار مخالف لقاعدة الإقرار فإن إقرار العاقل إنما ينفذ على نفسه لا على غيره والإقرار في هذه المواضع صار نافذاً على الغير، ولكن بذلك الملاك الذي أشارت إليه القاعدة.

وهذه لمحة موجزة من هاتين القاعدتين المفيدتين، والبسط محال إلى موضعه، أما عكس الأولى وهو من لا يقدر على انشاء شيء لا يقبل اقراره فيه فهي مسلمة أيضاً في الجملة ويخرج منها من أقرّ على نفسه بالرق إذا كان مجهول النسب فإنه يقبل مع أنه لا يقدر على انشاء الرق لنفسه وعند الجمهور إن المرأة تقدر على الإقرار بالنكاح مع إنها لا تقدر على انشائه فليتأمل.

(69) كل من أقرَّ بحق لسبب مجهول قبل تفسيره له.

مثلاً لو أقرَّ بأن داري انتقلت لزيد فلو قال بعد ذلك نقلتها بالسبب الجائز كالهبة وقد رجعت بها لا بالسبب اللازم كالبيع فلا رجوع، يقبل قوله ولا يلزم بالدار استصحاباً لبقاء ملك المقر له.

(70) كل من أقرَّ بمبهم يلزم بتفسيره ويقبل قوله فيه.

فمن أقر بأن علي لزيد دين أو مال يلزمه الحاكم بتفسيره ولو فسره بدرهم أو أقل قبل، إلاَّ أن تكون هناك قرينة معتبرة على خلافه.

(71) كل عارية أمانة.

أي لا تضمن بغير التعدي والتفريط ويستثني من ذلك عارية الذهب والفضة أو مطلق العارية مع شرط الضمان.

(72) كل هبة يجوز الرجوع فيها بعد القبض، إلاَّ إذا كان الرجوع بعد التلف أو كانت معوّضة أو هبة الرحم.

(73) كل صدقة لا يجوز الرجوع فيها بعد القبض.

أي بعد قبض مستحقها ويشمل الصدقات الواجبة كالزكوات والكفارات ونحوها والمستحبة كالصدقة المطلقة أو الوقف وأخواته.

(74) كل تصرف من المكره عقداً أو ايقاعاً باطل.

لأن القصد والاختيار شرط ركني في جميع المعاملات والإيقاعات بل والعبادات.

(75) كل معاملة من عقد أو غيره من غير المالك فهي فضولية.

والمراد بالمالك من له حق التصرف فيشمل الوكيل والوصي والولي والمتولي ومعاملة الفضولي في جميع الأبواب موقوفة على الإجازة على تفصيل يأتي في محله إن شاء الله.

(76) القرعة لكل أمر مشكل.

هذه القاعدة مشهورة في كتب الفقه وهي مستفادة من أحاديث مروية من طرق الفريقين وفي بعض أخبارنا: كل أمر مجهول فيه القرعة، ولكن أصحابنا لا يعلمون بها إلاَّ في موارد مخصوصة ويقول بعضهم إنها موهونة بكثرة التخصيص. ويظهر من القرآن المجيد إنها كانت مشروعة في الشرائع السالفة مثل قوله تعالى: [فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ]، وقوله عزَّ شأنه [إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ]، وقد ورد عن النبي(ص) أنه استعملها في العتق حين أعتق رجل ستة مماليك لا مال له سواهم فجزأهم وأقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة، ويظهر من هذه الواقعة إن للقرعة مجالاً واسعاً. لكن الشك يقع في إن مورد القرعة هو الواقع المجهول فقط كما لو طلّق زوجة معيّنة ونسي إنها هند أو زينب فتعين بالقرعة، أو يعم حتى ما لا واقع له أصلاً كما لو طلّق إحدى زوجاته أو أعتق أحد عبيده فهل تجري القرعة هنا أم لا، أما واقعة النبي (ص) فتدل على أوسع من هذا فليتأمل.

(77) لا مقاصة إلاَّ مع اليقين والعجز عن تحصيل الحق.

فلا تجوز مع الظن بالحق فضلاً عن الاحتمال والشك أو التهمة كما لا تجوز مع إمكان تحصيل الحق بطريق الحاكم العادل أو الجائر فإن تعذر وأمكنه أخذ عين ماله من الجاحد أو مجانسه مثلاً أو قيمة جاز له ذلك بلا توقف وإن لم يجد عين ماله وأضطر إلى أخذ جنس آخر بدلاً عن ماله توقف على اذن حاكم الشرع، أما الأخذ من الوديعة ففيه قولان منشأهما روايتان عن النبي (ص) إنه قال: (أدِ الأمانة من أئتمنكَ ولا تخن من خانك)، وقوله لهند: (خذي ما يكفيك وولدك من ماله) أي من مال أبي سفيان ومال الرجل وديعة عند الزوجة.

(78) كل دعوى تسمع مطلقاً.

خلافاً لبعض فقهاء الجمهور فإنهم اشترطوا في سماع الدعوى سبق الخلطة استناداً إلى ما يروي في ذيل حديث (البينة على المدعي واليمين على من أنكر)، إذا كانت بينها خلطة، وبما رووا عن علي (ص): (لا يعدي الحاكم على الخصم إلاَّ أن يعلم بينهما معاملة)، ولم يثبت عند الإمامية شيء من هذه الروايات وقولهم لولا ذلك لأجترء السفهاء على ذوي المروآت فأن وقفوا معهم في الدعوى سقطوا وإن صالحوا ذهبت أموالهم مدفوع بإمكان التوكيل على إن القواعد الكلية لا تقدح فيها العوارض الجزئية.

(79) الكافر لا تسمع شهادته لمسلم أو عليه مطلقاً مع وجود غيره.

ومع عدمه إلاَّ في الوصية كما في الآية في واقعة خاصة، أما شهادته لأهل ملته ففيه خلاف والأصح عندنا إن ذلك منوط إلى نظر الحاكم ووجدانه، وحصول ثقته وأطمئنانه، حسب القضايا الشخصية ولم أجد قائلاً به مع قوته.

(80) لا نذر إلاَّ في طاعة ولا يمين إلاَّ في مباح.

هاتان ضابطتان لمتعلق النذر واليمين فإن النذر عندنا لا يلزم إلاَّ في الراجح ديناً أو دنيا ولا يصح في المباح المتساوي الطرفين. نعم، هو يصح ويلزم باليمين فعلاً أو تركاً ولا يصح اليمين بالمكروه أو المرجوح دنيا فضلاً عن الحرام، ولكن إذا حلف على فعل أو ترك ثم تبدل بعنوانه أو ظهر عدم رجحانه جاز له حل اليمين والعدول إلى ما هو خير منها كما ورد في الأخبار المعتبرة: (إذا وجدت خيراً من يمينك فدعها).

(81) قاعدة العدل.

المستفادة مما ورد فيمن أودع عنده رجل درهمين وآخر درهماً وأمتزجا ثم تلف درهم بلا تفريط ولم يعلم أنه مَنْ صاحب الدرهم أو مَنْ صاحب الدرهمين؟. قال: (يعطي صاحب الدرهمين درهماً ونصف ولصاحب الدرهم نصف درهم)، وحملها بعض فقهاؤنا على الصلح القهري فراراً من المخالفة القطعية، ويمكن تعميمها إلى أمثال موردها فيصح العمل بها في كل مال مردد بين شخصين أو اشخاص ولا سبيل إلى تعيين صاحبه الواقعي بناء على عدم العمل بالقرعة في الحقوق والأموال بل قد يتوسع الأخذ بها حتى فيما ليس له واقع مجهول كما لو دفع مالاً إلى وكيل شخصين لكل منهما عليه دين ولم يعين أحدهما أو كان عليه لشخص دينان أحدهما برهن والآخر بلا رهن ولم يعين ما دفعه عن دين الرهن أو عن الآخر فيحتمل أن له التعيين بعد الدفع ويكون القبض موجباً للملك المراعي بالتعيين على نحو الكشف ويحتمل التوزيع كما تقتضيه قاعدة العدل. ويحتمل استصحاب شغل الذمة بكلا الدينين واستصحاب بقاء المال على ملك الدافع ويكون أمانة عند القابض حتى يلحقه التعيين من الدافع فيملكه القابض، وأقوى الوجوه الأول ثم الثاني. والمسألة سيالة كثيرة الأشباه والنظائر في الأموال وغيرها.

وقد ذكر الفقهاء فرع الدينين في فروع كتاب الرهن وإن الراهن إذا إدعى إن ما دفعه عن دين الرهن يصدق لأنه لا يعلم إلاَّ من قبله.

نعم، لو أعترف أنه لم يعين جاءت الاحتمالات المتقدمة، ويشهد لقاعدة العدل أيضاً من طريق الجمهور ما رواه في (كنز العمال) في أبواب القضاء إن النبي (ص) أتاه رجلان يختصمان في بعير وأقام كل واحد شاهدين أنه له فجعله بينهما.

(82) ذوات الاسباب لا تحصل إلاَّ بأسبابها.

جعل الشارع المقدّس للعناوين الاعتبارية ، المجعولة لحفظ نظام الهيئة الاجتماعية للبشر وتعاون بعضهم مع بعض. وضبطاً للمصالح المتبادلة والمنافع المشتركة.

نعم، جعل لتلك الروابط ضوابط واسباباً خاصة، وأوضاع معينة، فالملكية، والزوجية، والرقية، والحرية وامثالها لا تتحقق بنظر الشرع والعرف إلاَّ من اسبابها التي جعلت لها عقداً وحلاً فلا تعقد إلاَّ بذلك السبب الخاص ولا تحل عقدتها إلاَّ من سبيلها المعين. فأسباب نقل الملكية مثلاً ــ البيع والإجارة والصلح وامثالها وإذا عقدت بسببها الخاص لا تنحل عقدتها أيضاً إلاَّ بأسباب مخصوصة من خيار أو فسخ أو تقابل ونحوها، وهكذا الزوجية قد جعل الشارع لها اسباباً محدودة وهي عقد الزواج مثلاً وملك اليمين ولا ثالث لهما وجعل لحل هذه العقدة وفكها مفاتيح محصورة وهي في عقد الزواج الفسخ والطلاق واللعان والردة والموت، فلا تنحل عقدة النكاح إلاَّ بواحد من هذه الأسباب فلو إن الزوج بعد تمامية العقد أعلن وسجل رفض تلك الزوجية وقال: أني قطعت ذلك الحبل وحللت ذلك العقد وفلانة ليست زوجتي، لم تخرج عن زوجيته ولا تنفصل عن حبالته  إلاَّ بالطلاق ومثله مما جعل الشارع سبباً لحل تلك العقدة ولا تنحل بغيره، وهكذا الحرية والرقية فإن الشارع جعل لرفع العبودية والرقية سبباً خاصاً أو أسباباً محصورة وهي العتق مثلاً أو التنكيل فلو إن المولى أعلن أني رفعت ملكيتي عن هذا العبد واطلقته وأمثال ذلك لم تتحقق حريته إلاَّ بالسبب الخاص وهو العتق الذي لا يحصل إلاَّ بالصيغة الخاصة وهي قوله أنت حر وما يؤدي معناه إن قلنا بالتوسعة وكذلك ملكية زيد للدار لو قال تركت ملكيتها ورفعت يدي عنها ورفضتها لا تخرج عن ملكيته إلا بأن يقول وهبتها أو بعتها أو نحو ذلك، وعلى هذا المنوال جميع هذه العناوين الخاصة لا تزول إلاَّ بأسبابها المقررة، وعلى هذا يتفرّع القدح في القضية المعروفة عند بعض المتفقهة أو الفقهاء وهي إن الاعراض يوجب زوال الملكية وصحة تملك الغير وهذه قضيته غريبة لا تنطبق على القواعد الشرعية وإن كانت شائعة مشهورة والإعراض لا يزيل ملكية ولا يثبت ملكية.

نعم، أقصى ما يفيده الاعراض إباحة الانتفاع بالدلالة التبعية العرفية وإلاَّ فهي أيضاً محل نظر إلاَّ في بعض الموارد كما لو زاد عند أهل البيت طعام فألقوه في الطريق فإن ظاهر يقضي بأباحته لمن أخذه هذا أقصى ما يدل عليه الأعراض في أمثال هذه الوقائع، أما نزع الملكية بحيث تجعله من المباحات يملكه كل من حازه، فمن أين؟ وقد يتوهم إن قاعدة سلطنة الانسان المطلقة على ماله تقضي بأن له نزع ملكيته عنه إذا أراد وحقيقة الاعراض ليس إلاَّ نزع الملكية وهو مسلّط على ماله كيف شاء ولكنه مدفوع بأن الملكية نحو من السلطنة ولا يعقل أن يكون الشيء مقتضياً لعدم نفسه فثبوت السلطنة للإنسان لا يدل على أن له نفي تلك السلطنة ونتيجة العقود والمعاملات ليس نزع السلطنة بل تبديلها وتحويلها فتدبره جيداً.

ويبقى الكلام في مثل الالتزامات الضمنية (كالشروط) في ضمن العقود أو الاستقلالية (كالنذور) وإنها عل تثبت ملكية أو ترفعها وذلك في مثل شرط النتيجة أو نذر الغاية أو لا يصح إلاَّ شرط اسبابها ونذر مبادئها وظاهرهم الاتفاق على ان الشروط والنذور أسباب بنفسها تثبيت الملكية وترفعها كالبيع ونحوه ولعل مستندهم عموم أدلة الشروط والنذور فإن تمَّ الإجماع على ذلك فهو وإلاَّ فللتأمل فيه مجال.

أما الزوجية وفكها بالطلاق أو الفسخ ونحوهما فلا ريب في عدم تأثير الشروط والنذور فيها قولاً واحداً وإنها لا تتحقق بنحو شرط النتيجة وإنما يصح تعلق النذر أو الشرط بفعل أسبابها لأنها مما علم من الشرع إنها لا تحصل إلاَّ بتلك الأسباب الخاصة فاغتنم وتدبره، ثم إن هذه القاعدة أعني قاعدة الأسباب من منفرداتنا لم نجدها في شيء من مؤلفات الأصحاب صراحة اللهم إلاَّ بالإيماء والإشارة وقد استخرجناها من فحاوي النصوص ومتفرق كلماتهم كما إن المناقشة في جعل الأعراض من أسباب نزع الملكية بهذا البيان لم أجد من تعرض لها فيما وقف عليه ولعلها محرره ولم أستحضرها، وحيث بلغ الكلام بنا إلى هذا المقدار من ذكر ما حضرنا من القواعد المستدركة على قواعد المجلة وقد أنهيناها إلى أثنتين وثمانين قاعدة وبضم ما لخّصناه من قواعد المجلة يبلغ الجميع مائة وسبع عشرة قاعدة جلّها أو كلها في خصوص العقود والمعاملات وما يلحق بها من بعض موازين القضاء وحسم الخصومات والنذر واليمين، أما لو أردنا أن تحصي جميع القواعد التي يرجع إليها في عامة أبواب الفقه من العبادات والوصايا وأبواب النكاح والرضاع والأولاد والنفقات والطلاق وما يلحق به من الخلع والظهار والإيلاء واللعان والمطاعم والمشارب والصيد والذباحة والقضاء والميراث والشهادات لأمكن أن تنتهي إلى خمسمائة قاعدة أو أكثر.

أما الشهيد الأول (رضوان الله عليه) فقد جمع في كتابه المعروف (بالقواعد) أكثر من ثلاثمائة قاعدة ولكن الأنصاف إن كثيراً منها لا ينطبق عليها حد القاعدة التي هي قضية كلية يعرف منها حكم جزئياتها أو مصاديقها فإن بيان معنى السبب والشرط المانع وإن القيود بعضها توضيحية وبعضها احترازية، وذكر الوجوه العديدة لقوله (ص): (نية المؤمن خير من عمله) وأمثال ذلك كله مما لا يندرج في مفهوم القاعدة إلاَّ بتكليف بعيد، وعلى كل فشكر الله مساعيهم ووفقنا لأتباع آثارهم في العلم النافع والعمل الصالح.

ولنشرع في القصد الصميم من تحرير ما في المجلة من المعاملات كالبيع والإجارة وأمثالها على النهج والترتيب المسطور فيها وإبداء ما عندنا من الرأي وبيان ما يوافق مذهب الإمامية منها ما يخالفه، ثم نلحقه إذا وفق الله بجز خاص في ما يسمونه بالأحوال الشخصية والله المستعان على أحوالنا العمومية والشخصية ومنه نستمد العناية والتوفيق.

 

((كتاب البيوع))

تمهيد مفيد

عرفت في صدر الكتاب إن الفقهاء حصروا مسائل الفقه في أربعة أنواع: عبادات، ومعاملات، وايقاعات، وأحكام. أو بتعبير ثاني: عبادات، ومعاملات، وعادات، وسياسات.

والضابطة للعبادة الجامعة لجميع أنواعها هو كون العمل ذا مصلحة توجب محبوبيته للشارع فأن توقفت صحته والتقرب به على نية القربة فهو عبادة بالمعنى الأخص وإلاَّ فإن كان راجحاً ومقرباً بذاته وإن لم يقصد به التقرب فهو العبادة بالمعنى الخاص وإلا فإن كان بحيث يمكن التقرب به فهو العبادة بالمعنى الأعم.

والأول: أي العبادة بالمعنى الأخص تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

(بدنية محضة): كالصوم والصلاة والطهارة والإعتكاف.

و(مالية محضة): كالزكاة والخمس والكفارات.

و(جامعة للأمرين): كالحج والعمرة.

والثاني: أي العبادة بالمعنى الخاص فهو مثل الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقضاء، والشهادات، ويمكن أن يكون أكثر الواجبات الكفائية أو كلها من هذا النوع.

الثالث: وهو العبادة بالمعنى الأعم، جميع الأعمال التي فيها رجحان ديني أو دنيوي فإنه لو نوى التقرب بعمل منها وأتى به لله تعالى من وجهه الحسن كان عبادة وعلى هذا فيمكن أن يكون جميع أعمال الإنسان عبادة، ومن هنا كان بعض الأعاظم يقول: (ما عملت في عمري مباحاً قط فضلاً عن المكروه أو الحرام).

وأما المعاملات فالمفهوم الجامع لها: هو الإنشاء فإن كان يتقوم بطرفين فهو العقود وإن تقوم بطرف واحد فهو الإيقاع.

والعقود قسمان: عقود اذنية مجانية، وعقود معاوضات تعهدية إلتزامية.

والأول: مثل الوكالة والعارية والوديعة والهبة ونحوها، وتسمية هذه عقود إنما هو على اصطلاح الفقهاء لتقومها بطرفين وإن أشكل صدق العقد عليها لغة وشرعاً فلا يشملها مثل [أَوْفُوا بِالْعُقُودِ] لأن المراد بها قطعاً العقود الإلتزامية لا مطلق ما أشتمل على ايجاب وقبول ولو سلم صدق العقود عليها عرفاً وشرعاً ولكن وجوب الوفاء إنما هو لهذا النوع الخاص من العقود لمناسبة الحكم والموضوع ضرورة إن تلك العقود من طباعها عدم اللزوم ولا معنى لوجوب الوفاء بها إلاَّ على معنى آخر، وليست العقود الحقيقية سوى القسم الثاني وهي العقود الإلتزامية اللازمة. نعم، يشكل هذا في المضاربة بناء على عدم لزومها مع إنها من العقود الإلتزامية، وعلى كلٍ فهي أيضاً على قسمين:

1 ــ تقديرية: وهي التي يكون حصول أثرها على تقدير خاص وذلك كالمزارعة والمساقات والمضاربة والسبق والرماية والجعالة العقدية، فإن الجميع وإن كان المنشأ منجزاً فعلاً، ولكن على تقدير حصول الربح في المضاربة أو العائد في المزارعة وهكذا بخلاف القسم الثاني وهو:

2 ــ التحقيقية: فإن المنشأ منجز فعلاً بكل تقدير وذلك كالبيع في تمليك الأعيان والإجازة في تمليك المنافع فإن كان تمليك العين بعوض فهو البيع، وإن كان بغير عوض فهو الهبة، وكذا في المنافع فإن كان تمليكها بعوض فإجارة وإلاَّ فعارية بناء على كونها تمليكاً مجانياً، أما لو جعلناها إذناً وإباحة أو تمليكاً للإنتفاع فهي خارجة عن العقود، ومن هنا يظهر إن الهبة المعوضة لا يراد بها المعاوضة بين الموهوبين وإلاَّ لخرجت عن حقيقة الهبة بل المراد التعاوض بين نفس الهبتين فهو تمليك مجاني مشروط بأن يقابل بتمليك مجاني، فلو قال: وهبتك هذا بهذا بطل هبة. وهو حينئذٍ أما بيع صحيح بناء على عدم اختصاص حقيقته بألفاظ مخصوصة وجواز استعمال ألفاظ عقد في عقد آخر وإلاَّ فبيع فاسد وعلى كلٍ لا تكون هبة، لأنَّ الهبة مأخوذ في حقيقتها المجانية وعدم العوض للمال الموهوب.

أما الصلح فهو أعم من الجميع وهو عبارة عمّا يفيد التسالم وقطع الخصومة فقد يفيد فائدة البيع تارة وتارة فائدة الإجارة. وهكذا يختلف بأختلاف موارد الاستعمال. ثم إن بعض العقود قد يجري فيها القسمان فيكون نوع منها بنحو الإذن والإباحة ونوع بنحو العهد والإلتزام والإلزام كالوكالة فإن القدر الجامع فيها وإن كان إباحة التصرف ولكن قسماً منها يكون على نحو العقد والإلتزام ومنه الوكالة بجعل، ويتوقف هذا النوع على الإيجاب والقبول ويكون أثره السلطنة على التصرف بحيث لو عزل ولم يعلم الوكيل بالعزل كان تصرّفه نافذاً.

أما الأذني المحض فبمجرّد رجوع الموكّل عن الإذن يبطل تصرف الوكيل وإن لم يعلم، وهذه هي الثمرة بين القسمين، كما إن بعض العقود قد يكون جامعاً للجهتين فيكون من جهة عهدياً إلتزامياً، ومن جهة أُخرى اذنياً صرفاً، وذلك كالإجارة فإنها من جهة تملك المستأجر المنفعة من النحو الأول ومن جهة قبض العين واستيلائه عليها من النحو الثاني، وهو من الأمانات المالكية، وكل العقود الإذنية كالوديعة والعارية وغيرها من هذا القبيل.

ولنرجع إلى تحرير مواد (المجلة) في البيوع:

المقدمة

في بيان الاصطلاحات الفقهية في البيوع

(مادة 101)

الإيجاب

كلام يصدر من أحد العاقدين لأجل إنشاء التصرّف وبه يوجب ويثبت التصرف.

الإيجاب مصدر أوجب، كما إن الوجوب مصدر وجب، ومادة هذا الثلاثي وإن وردت في اللغة لمعاني كثيرة، ولكن أجمعها وأوسعها بل لعل أكثرها ترجع إلى واحد وهو الوقوع والسقوط ومنه (فإذا وجبت جنوبها) و(وجبت الشمس) وغير ذلك وإلى هذا المبدأ يرجع الإيجاب المستعمل في باب العقود فإن المراد به إيقاع تمليك ماله لغيره بعوض فمعنى قولك: أوجب البيع، أي جعله أمراً واقعاً محققاً كما تقول أنتَ تجاه أمر واقع، وهذا الإيقاع هو الذي تعبر عنه بالإنشاء فتقول إنشاء تمليك ماله أو انشاء تمليك عين بعوض والجميع يرجع إلى الإيجاد أي الإيجاد الإنشائي الجعلي لا الإيجاد التكويني، فالإيقاع الإيجابي في العقود هو الإنشاء الإيقاعي في باب الإيقاعات وكل منهما يحصل منه معنى ربطي بين اثنين وإنما الفرق بينهما:

أولاً: إن الطرف الآخر يقع المبدأ له وفي الإنشاء الإيقاعي يقع عليه.

ثانياً: إن الموجب يعمل عملين عن نفسه وعن الطرف الآخر فيملَك (بالتشديد) ماله ويتملك مال المشتري، وفي الإنشاء الإيقاعي يتقوّم الأمر بعمل واحد ولذا لا أثر فيه لقبول الآخر وعدم قبوله بخلاف الإيجاب في العقود فإنه لما تضمن عملاً يتعلق بغير الموجب أحتاج إلى أمضاء الآخر وموافقته على ذلك العمل المتعلق به فكأن أمر المعاملة لا يتم إلاَّ بالقبول، فالقبول ليس إلاَّ إمضاء ومطاوعة لفعل الموجب وينحل أيضاً إلى تملك وتمليك، ولكن من الرضا بفعل الموجب لا من فعله مباشرة.

فظهر من هذا البيان إن الموجب هو الذي يملّك ويتملّك سواء تقدّم لفظه أو تأخر، والقابل هو الذي يرضى ويطاوع فعل الموجب تقدم كذلك أو تأخر فقضية الموجب والقابل ليست قضية تقديم أو تأخير وإنما الفرق بينهما جوهري ومعنوي وحالهما يشبه في الجملة الكسر والإنكسار وإن كان أيضاً بين المقامين فروق من جهات، ولكن الغرض تصوير إن القبول لا يختلف تقدم أو تأخر أو تقارن فلو جوّزنا تقدم القبول على الإيجاب وفاقاً لبعضهم سيّما بمثل أشتريت وابتعت ونظائرها وقال الموجب بعده بعت واشتريت ونحوهما، فالأول قبول، والثاني إيجاب، لأن الأول مطاوعة لعمل الثاني أما إن المطاوعة هل يصح تقدمها ليصح تقدم القبول أم لا معنى لتقدمها فلا يصح فسيأتي البحث فيه في (مادة 169) إن شاء الله، وجلِّ الغرض من هذا التحقيق بيان ما في عبارة (المجلة) من الخلل في ضابطة الموجب والقابل وتمييز أحدهما عن الآخر وربما أتضح لكَ إن الخلل فيها من وجهين:

الأول: في جعل المدار على الأول والآخر والأولية والآخرية ليس لها أثر في المقام أصلاً.

الثاني: جعل الإيجاب ما يصدر لأجل إنشاء التصرف وهذا أشد وهنا من الأول فإن الذي ينشأ بالإيجاب والقبول ليس هو التصرّف بل ينشأ بهما التمليك والتملّك أو النقل والأنتقال أو المبادلة بين المالين أو ما أشبه ذلك من الألفاظ التي يشار بها إلى معنى واحد وهو ما يقع ويتحصل من العقد وبالعقد، والتصرف أثر ذلك المعنى أي أثر الملكية المنشأة بالعقد وتلخص من كل ما ذكرنا إن الميزان العدل أن يقال إن الإيجاب هو ما ينشأ به أحد العاقدين تمليك ماله وتملّك مال غيره والقبول هو الرضا بذلك والإلتزام به.

(مادة 103)

العقد إلتزام المتعاقدين وتعهدهما أمراً، وهو عبارة عن ارتباط الإيجاب بالقبول

العقود ألفاظ وأقوال، وهي من مقولة الفعل، والإلتزام صفة نفسانية من مقولة الكيف، والإرتباط وصف قائم بالإيجاب والقبول وهو من مقولة النسب والإضافات فلا ربط لكل واحد من هذه المفاهيم المتغايرة بالآخر ولا وجه لتفسير بعضها ببعض.

فالعقد ليس إلتزاماً ولا ربطاً ولا إرتباطاً وإنما هو الإيجاب المرتبط بالقبول إي الإيجاب المقترن بقبوله. وليس المنشأ بالإيجاب الإلتزام بل الذي ينشؤ به هو التمليك أو المبادلة ولازمه عقلاً وشرعاً هو التعهد والإلتزام ولا شيء منهما بمدلول للإيجاب لا بالتضمّن ولا الإلتزام فضلاً عن المطابقة وليس الإيجاب كما عرفت إلاَّ جعل ملكية زيد لدارك أمراً واقعاً، وحيث انك أنشأت هذه الملكية واوقعتها وجعلتها أمراً واقعاً فيلزمك عقلاً وشرعاً أن تلتزم بها ولا تنقضها فالإلتزام حكم من أحكام العقد لا نفس العقد ولا جزء منه بل ولا لازم له بل عرض من عوارضه المفارقة وكذا الكلام في الارتباط فإنه وصف اعتباري ركني لركني العقد وهما الإيجاب والقبول لا جزء منه ولا مدلول له وإنما هو معنى حر في غير مستقل باللحاظ حتى يفسر به العقد على إن الوصف المعتبر في الإيجاب والقبول هو الربط لا الارتباط فإن المتعاقدين يربطان كلاً منهما بالآخر ولكنه قد يرتبط وقد لا يرتبط وحال الربط والارتباط حال العقد والإنعقاد نظير الكسر والإنكسار فإذا كان العقد صحيحاً جامعاً للشرائط شرعاً وعرفاً تقول عقدته فأنعقد وإن لم يكن كذلك تقول عقدته فلم ينعقد كما تقول كسرته فإنكسر تارة وكسرته ولم ينكسر أخرى، وهكذا الربط والارتباط. وبهذا البيان يتضح المراد بــ:

(مادة 104)

الانعقاد تعلق كل من الإيجاب والقبول بالآخر على وجه مشروع يظهر أثره في متعلقهما، وكان حق التعبير أن يقال الانعقاد وقوع الإيجاب والقبول بنحو يترتب عليه الأثر المقصود من العقد، فانعقاد البيع أن يقع الإيجاب والقبول بنحو مؤثر للملكية وانتقال المبيع إلى المشتري والثمن إلى البائع، وانعقاد النكاح أن يكون الإيجاب والقبول مؤثراً زوجية كل من الرجل والمرأة للآخر وهذا هو الأثر المطلوب من العقد وبعبارة أجلى إن العقد مؤثر والإنعقاد أثر والأول موضوع، والثاني حكم أو هو سبب والأخير مسبب إلى كثير من أمثال هذه العبارات الدالة على معنى واحد ومن كل ذلك ظهر لكَّ إن الانعقاد  ليس هو التعلق بل هو أثر الإيجاب المتعلق مع بقية الشرائط فتدبره جيداً.

(مادة 105)

البيع مبادلة مال بمال على وجه مخصوص ويكون منعقداً وغير منعقد

شاع عند فقهاء الفريقين تعريف البيع بالمبادلة المزبورة ومن المعلوم أن المراد بها الإشارة إلى حقيقة البيع من بعض وجوهها لا من كل وجه وإلاَّ فالبيع ليس مبادلة بل تبديل وليس تبديل مال بل تبديل عين بمال لتخرج الإجارة وكيف كان فلا يراد بأمثال هذه العبارات التعريف الحقيقي إذ ليس البيع سوى مفهوم اعتباري ليس له جنس وفصل حقيقة حتى يعرف بهما ولكن يقصد بذلك الإشارة إلى ذلك المفهوم بأخص لوازمه التي تحكي عنه وينبغي أولاً معرفة للبيع أطلاقين:

أحدهما: ما هو من فعل البائع فقط حيث يقول للمشتري بعتك داري بكذا وبعته فلم يقبل وأمثال ذلك من الاستعمالات الشائعة الكثيرة.

الثاني: ما هو المركب من فعل البائع والمشتري وهما الإيجاب والقبول وهو الأكثر استعمالاً سيّما عند الفقهاء والمتشرّعة بل وعند العرف حيث يقال (باع فلان داره) و(قد وقع البيع صحيحاً، أو وقع فاسداً) وهو مقصود المؤلفين في الفقه بقولهم كتاب البيع وعقد البيع وأمثال ذلك، والتعريف الحقيقي أو التقريبي تارة يكون بلحاظ المعنى الأول وأُخرى بلحاظ المعنى الثاني.

والتعبير بمبادلة مال بمال لا ريب انه ناظر إلى اطلاقه بالمعنى الأول أعني فعل البائع فقط، ومغزى هذه الجملة الإشارة الدقيقة إلى إن جوهر البيع مبادلة ما بين المالين أصالة ويلزمه المبادلة بين المالكين والملكيتين تبعاً بخلاف الإرث والهبة فإن التبادل فيهما بين المالكين أصالة ويستلزم تبدّل الملكيتين تبعاً وليس ثمة تبادل في المال طبعاً لأن المال واحد، ولكن هذه الخاصة لا تخص البيع فقط بل تعم جميع المعاوضات المالية وتحليل جذرها الدفين إن الملكية نوع من الجدة وهي نوعان، اضافة مقولية وهي من أضعف مراتب الجدة، وإضافة اشراقية وهي من أعلى مراتبها كواجدية الحق جلَّ شأنه لمخلوقاته والمضاف هنا عين الإضافة فملكية الإنسان لأمواله عبارة عن إضافة بينه وبين المال واحد طرفيها المالك وطرفها الآخر المال وعند المعاوضة يبدل النسبة من طرف المال فيحولها من هذا المال إلى مال آخر لا أنه يرفع الملكية كلها أو يبدلها من طرف النسبة إليه، وملكيته لماله وسلطنته عليه تخوّله تبديله بمال آخر وتحويل نسبة هذا المال إليه بنسبة ذاك المال لا تحويل نفس الملكية والسلطنة ضرورة إن الغرض المهم في المعاوضة المالان فقط فالتبديل إنما يكون بالنسبة إلى جهة المال ويتبعها جهة المالك بل يمكن أن يلاحظ عدم التبديل إلاَّ في جهة المال فقط نظراً إلى إن تلك النسبة والإضافة إلى المالك باقية بحالها وإنما تبدل طرفها الثاني، فقد كانت مرتبطة بذلك المال وبعد البيع والمبادلة ارتبطت بالمال الآخر فهو أي البيع حقيقة تبديل مال بمال فقط لا تبديل مالك بمالك ولا تبديل ملكية بملكية.

نعم، هي في الهبة تبديل مالك بمالك وملكية بأخرى وكذلك في الإرث، وما يقال من أنه ليس للملكية ملكية حتى يقدر على نقلها إلى الغير وليس له على السلطنة سلطنة حتى يتمكن بها من التصرف في ذات سلطنته مدفوع بأنه لا حاجة إلى ملكية أخرى وسلطنة ثانية، لأن كلما بالعرض لابد وأن تنتهي إلى ما بالذات والاشياء كلها تظهر بالنور والنور ظاهر بنفسه لا بنور آخر والماهيات كلها توجد بالوجود والوجود موجود بنفسه لا بوجود آخر كي يتسلسل. نعم، السلطنة على الشيء لا يمكن اسقاطها ونزعها ولكن لا يمكن خلعها على الغير ودفعها وهذا البحث على اختصاره من العلم المخزون فتدبره واحتفظ به.

وقد تجلى لك صحة أن يقال إن البيع تمليك عين بعوض والهبة تمليك مال بلا عوض ويكون المراد بالتمليك هو ذلك التبديل المنشأ بقول البائع بعت فإن لحقه القبول حصلت المبادلة واقعاً وتمَّ العقد وتحقق المعنى الثاني للبيع وإلاَّ فهو بيع بالإطلاق الأول فقط ولم تحصل سوى المبادلة إنشاء، والانشاء كما يقال خفيف المؤنة، وهناك اطلاق ثالث للبيع يستعمل في مقام النذور والعهود والايمان والشروط، فإذا نذر أو حلف أو شرط في عقد لازم إن يبيع داره لا يحمل على ارادة محض الإيجاب بحيث يبرء بمجرد قوله بعت داري وإن لم يكن هناك قبول ولا على ارادة العقد أي مجموع الإيجاب والقبول فإن ذلك غير داخل في قدرته بل يحمل على إرادة الإيجاب في محل القبول أي الإيجاب المتعقب بالقبول فيهيأ الناذر مشترياً حتى يكون قبوله محققاً ويبرأ من نذره أو يمينه ويفي بشرطه كما قد يطلق على معنى رابع وهو أثر العقد فيقال البيع انتقال المال بعوض فيكون من قبيل اطلاق السبب على المسبب، أما التقييد بالوجه المخصوص كما في (المجلة) فهو مستدرك لا فائدة فيه لأنه إن أُريد به (ألفاظ بعت وشربت) ونحوهما من الصيغ والخاصة فهو أشبه بالدور وإن أريد به معنى آخر فهو مبهم واللازم في التعاريف الإيضاح لا الإبهام.

(مادة 106)

البيع المنعقد هو البيع الذي ينعقد

على الوجه المشروع وينقسم إلى صحيح، وفاسد، ونافذ، وموقوف.

لعل المراد بالوجه المشروع: الوجه المذكور في المادة المتقدمة يعني أنه مبادلة مال بمال كي تصح القسمة ولو كان المراد بالمشروع ما هو الصحيح شرعاً لم يتجه تقسيمه المزبور كما هو واضح وعلى كلٍ، فالأقسام الأربعة أصطلاح (ولا مشاحة في الاصطلاح) ولكن الاقسام الصحيحة للبيع من حيث النفوذ وعدمه ثلاثة، فإن البيع أما أن يقع صحيحاً شرعاً صالحاً للتأثير أو يقع باطلاً لا أثر له والأول أما أن يكون أثره فعلاً فيكون منجزاً أو يكون تأثيره مراعي بأمر متأخر عنه:

فالأول: هو عقد المالك الجامع للشرائط.

والثاني: هو عقد الفضولي المراعي بالإجازة.

فحق القسمة المتجهة إن يقال: البيع أما صحيح أو فاسد، والصحيح أما نافذ أو موقوف، فالقسمة ثلاثية لا رباعية، وتعبير (المجلة) مختل حيث جعلت المقسّم قسمياً.

وعندنا إن الفاسد والباطل سواء إذ المدار على التأثير وعدمه وهما سواء في عدم التأثير وإن اختلف السبب.

(مادة 107)

البيع الغير منعقد هو البيع الباطل

كأنهم اصطلحوا على البطلان فقد الأركان مثل بيع الصغير أو المجنون أو بيع ما ليس بمال، والفساد على فقد الشروط كعدم القدرة على التسليم أو بيع المجهول. والبطلان والفساد عندنا شيء واحد، كما سبق.

(مادة 108)

البيع الصحيح هو الجائز والمشروع ذاتاً ووصفاً أي من حيث ذاته وتمامية أركانه ومن حيث استجماع شرائطه وعدم موانعه.

(مادة 109)

البيع الفاسد هو المشروع أصلاً لا وصفاً

يعني يكون صحيحاً بأعتبار ذاته فاسداً بأعتبار بعض أوصافه الخارجية وقد تقدم تفسيره.

(مادة 110)

البيع الباطل لا يصح أصلاً

وهذا واضح بعد معرفة إن البطلان فقد الأركان.

(مادة 111)

البيع الموقوف بيع يتعلق به حق الغير كبيع الفضولي حق المقام أن يقال أن الموقوف هو العقد الذي يتوقف تأثيره على إجازة غير العاقد أما لكونه مالكاً أو لتعلق حق له في أحد العوضين والأول كبيع الفضولي والثاني كبيع الراهن الموقوف على إجازة المرتهن وبيع المحجوز عليه لسفه أو فلس الموقوف على إجازة الولي أو الحاكم.

(مادة 112)

الفضولي هو من يتصرف بحق الغير بدون اذن شرعي

لا يخفى قصور هذا التعبير بل عدم مطابقته لمعنى الفضولي وحقه إنَّ يقال هو من يتولى العقد بدون إذن لا من المالك كالوكيل ولا من الشارع كالولي.

(مادة 113)

البيع النافذ هو الذي لا يتعلق به حق الغير

وهذا تعريف بالأعم إذ ليس كل بيع لا حقَّ فيه للغير يكون نافذاً بل هو الجامع لشرائط العقد الفاقد للموانع وأخصر من ذلك هو المؤثر من حينه، وينقسم إلى لازم وغير لازم.

(مادة 114)

واللازم هو النافذ العاري عن الخيارات

قد مرّت الإشارة إلى إن العقود من حيث الجواز واللزوم على ثلاثة أنواع:

(1) لازمة من الطرفين ذاتاً كالبيع والإجارة والصلح والحوالة والنكاح والصدقة وغيرها. وقد يدخلها الفسخ والجواز لسبب عارض ولكن هي بأطلاقها لازمة.

(2) ما يلزم بالنسبة إلى أحد الطرفين كالرهن بالنسبة إلى الراهن لا المرتهن والخلع بالنسبة إلى الزوج لا الزوجة.

(3) العقود الجائزة من الطرفين كالشركة والوكالة والمضاربة والوديعة وغيرها.

(مادة 115)

البيع الغير اللازم هو البيع النافذ الذي فيه أحد الخيارات

هذا تعريف بالأخص بل الغير اللازم ما يجوز لكل واحد من الطرفين أو أحدهما حله لذاته أو لخيار فيه، كي يشمل العقود الجائزة.

(مادة 116)

الخيار كون أحد العاقدين مخيراً

هذا أشبه ما يكون بتفسير الشيء بنفسه أو يشبه كونه دوراً، بل الخيار كما سيأتي في بابه إن شاء الله، هو سلطنة أحدهما أو كليهما على حل العقد وفسخه مطلقاً أو في حدود خاصة، أو حق استرجاع كل منهما لماله على أختلاف الراثين في حقيقة معنى الخيار.

(مادة 117)

البيع البات هو البيع القطعي

هذه مستدركة فإن البات إن كان هو اللازم فقد تقدم، وكذا إن كان هو النافذ، وإن أرادوا به المنجز في قبال المعلق فالمعلق فاسد والبات هو الصحيح وقد تقدم أيضاً فتدبره.

(مادة 118)

بيع الوفاء

هو البيع بشرط إن البائع متى ردَّ الثمن يرد المشتري إليه المبيع وهو في حكم الجائز بالنظر إلى انتفاع المشتري به وفي حكم الفاسد بالنظر إلى كون كل من الطرفين مقتدراً على الفسخ وفي حكم الرهن بالنظر إلى أن المشتري لا يقدر على بيعه إلى الغير.

بيع الوفاء هو المعروف ببيع الخيار أو بيع الشرط أي شرط الخيار لا خيار الشرط.

وقد تقدم أنه عند أصحابنا الإمامية بيع صحيح نافذ كسائر البيوع الخيارية ولا وجه للحكم بأنه بيع فاسد وكون كل من الطرفين مقتدراً على الفسخ لا يجعله فاسداً وإلاَّ لفسدت أكثر البيوع الخيارية كما إن كون المشتري لا يقدر على بيعه لا يصيّره بحكم الرهن على إن عدم قدرته على البيع محل كلام وسيأتي تمام البحث فيه في محله إن شاء الله.

(مادة 119)

بيع الاستغلال

هو بيع المال وفاء على أن يستأجره البائع، هذه أيضاً مستدركة وهو بيع الوفاء بعينه ولا فرق بين أن يستأجره البائع أو غيره ولا ثمرة عملية في البين.

(مادة 120)

البيع بأعتبار المبيع ينقسم إلى أربعة أقسام:

القسم الأول: بيع المال بالثمن وبما أنه أشهر البيوع يسمى بالبيع المطلق.

القسم الثاني: بيع الصرف.

القسم الثالث: بيع المقايضة.

القسم الرابع: السلم والاستصناع.

لا يخفى خلل هذا التقسيم وعدم نظمه ولا وجه لأدخال السلم ورديفه هنا فأعلم إن البيع ينقسم بأعتبارت شتى إلى أقسام شتى، وقد أدخلت (المجلة) بعضها في بعض والقسمة المحررة أن يقال ينقسم البيع بأعتبار:

أولاً: جنس العوضين إلى ثلاثة أقسام لأنها أما أن يكونا معاً من النقدين، أي الذهب والفضة المسكوكين أو كلاهما من العروض أي غير النقدين، أو أحدهما من النقدين والآخر من غيرهما:

فالأول: بيع الصرف.

والثاني: المقايضة.

والثالث البيع الشائع.

ولا يحسن رسمه بالمطلق فإن الجميع مطلق من وجه ومقيّد من آخر.

ثم ينقسم: ثانياً: بأعتبار تعجيل العوضين أو تأجيلهما إلى أربعة أنواع أيضاً لأنه أما أن يكونا معاً حالين معجلين وهذا لا يحتاج إلى تقييد في العقد بل يكفي ارسال العقد واطلاقه. ولنسمه البيع المرسل أو المعجل، وأما أن يكون الثمن معجلاً والمثمن مؤجلاً وهذا بيع السلم ويدخل فيه الاستصناع كما سيأتي، أو يكون الأمر بالعكس فهو بيع النسيئة، أو يكونا معاً مؤجلين وهو بيع الكلي في الذمة بالكلي ويمكن جريانه في الشخصي أيضاً وقد يحمل عليه بيع الكالي بالكالي في بعض تفاسيره.

ثم ينقسم: ثالثاً: بأعتبار ذكر البائع رأس المال الذي أشترى به السلعة التي يريد بيعها وعدم ذكره أيضاً إلى أربعة أقسام فانه:

أما أن لا يذكره أصلاً كما هو الغالب والشائع وهو (المساومة).

وأما أن يذكره ويبيع بذلك المبلغ بدون زيادة وهو (التولية).

وأما أن يزيد عليها شيئاً من الربح فهو (المرابحة).

وأما أن ينقص عنها شيئاً فهو (الوضيعة).

وكان على أرباب (المجلة) أن يذكروا ذلك، وهناك تقسيمات أخرى أيضاً يأتي كل قسم في محله وبما ذكرنا ظهر تحرير:

(مادة 121 و122 و123 و124)

الاستصناع وسيأتي أنه أما أن يكون إجارة أو سلماً.

(مادة 125) الملك ما ملكه الإنسان سواء كان أعياناً أو منافع

هذا أيضاً تفسير الشيء بنفسه كتفسير الماء بالماء والأحسن أن يقال: إن الملك إضافة بين الإنسان وبين الأموال تقتضي سلطنته عليها ثم الأموال أعيان ومنافع وحقوق ومثله ما في:

(مادة 126)

المال هو ما يميل إليه طبع الإنسان ويمكن إدخاره إلى وقت الحاجة منقولاً أو غير منقول.

لا تليق بالكتب العلمية مثل هذه التعاريف التي يشبه أن تكون عامية وقد عرفت في صدر الكتاب أنه ليس للمال حقيقة سوى اعتبار العقلاء وليس اعتبارهم جزافاً بل له مدرك صحيح فإنهم يجعلون للموجودات الخارجية قيمة ومالية بأعتبار المنافع التي تستغل منها، وبمقدار الحاجة إليها والإنتفاع بها والثمرات المرتبة عليها فالأطعمة إنما اعتبر العقلاء لها مالية بالنظر إلى ما وجدوا من مسيس الحاجة إليها وتوقف حياة البشر عليها وهكذا الأراضي والحيوان والمعادن كلها كانت مالا بملاك الحاجة والمنفعة، ولما كانت مالية الشيء عند العقلاء بأعتبار المنفعة به إذن فنفس المنفعة أحق بأن تكون مالاً وأن تقدر لها قيمة، وكذلك الحقوق مثل حق الشرب والاستقاء وحق المرور بل وحق الخيار وحق الشفعة كل هذه الأمور أموال لأنها بنظر العرف ذات منفعة يبذل بأزائها المال فأن شئت فقل: إن الأموال هي الأعيان والمنافع والحقوق، وأما المالية فهو اعتبار عقلائي في الأعيان الخارجية ومنافعها وناشيء من الحاجة إليها واختلاف الرغبات فيها ثم جعلوا لتلك الأشياء المقوّمة للمعايش والتي تختلف الرغبات فيها معياراً يكون ميزاناً فاختاروا للتبادل النقدين وصيروهما المقياس العام ثم توسعوا في ذلك فجعلوا الورق وما اشبهها من نحاس وغيره بدلاً عنها ومرتكزاً عليها فالمال كما ذكرنا اعتبار محض ولكن تارة يكون بالجعل المحض وأخرى يتكون من جهة المنفعة والحاجة  وغزارة الآثار والخواص وعلى كلٍ فلا دخل للميل وعدمه في مالية الشيء وعدمها، كما لا دخل أيضاً للإدخار وعدمه فيها. فالفرس مال وإن كنت لا تميل إليها، والوردة ليست مالاً وإن كان كل أحد يميل إليها وهكذا.

نعم، الغالب إن المال تميل إليه النفوس ولكن ليس هو ملاك المالية ولا دخل له في حقيقتها أصلاً وإن كان يلازمها في الغالب وإنما تدور المالية مدار اعتبار العقلاء الناشيء من الحاجة والمنفعة المعتد بها لا المنافع التافهة كالحشرات والقاذورات ونحوها وإن كان ينتفع بها في التسميد ونحوه فتدبّر واغتنمه.

(مادة 127)

المال المتقوّم يستعمل في معنيين:

الأول: ما يباح الإنتفاع به.

والثاني: المال المحرز، فالسمك في البحر غير متقوّم وإذا أصطيد صار متقوماً بالأحراز.

هذان المعنيان غير متقابلين ولا متعادلين. وهذا نظير أن تقول الإنسان أما كاتب أو أبيض مع إن الأبيض يكون كاتباً والكاتب يكون أبيضاً. وما يباح الانتفاع به قد يكون محرزاً. والمحرز قد ينتفع به، وتحرير هذه المادة على الصناعة العلمية. إن المال الذي عرفت حقيقته وهو المال المتقوّم أي الذي يكون له في حد ذاته قيمة، تارة تكون ماليته فعلية وأخرى تقديرية:

فالأول: كالأعيان التي في قبضة الإنسان المحرزة عنده.

والثاني: كالأموال التي لم يحصل الاستيلاء عليها ولم تحرز في سلطة أحد مثل السمك في البحر والمعادن في الأرض والطيور في الهواء فإذا صيدت الطيور أو استخرج المعدن صارت ماليتها فعلية وإلاَّ فهي أموال حقيقية ولكنها تقديرية ومعنى كونها مالاً حقيقة له أن ملاك المالية قائم فيها وهو الحاجة وعظيم المنفعة وحيث إنها لم تقع بعد في اليد فليست بمال فعلاً، ثم الأموال الفعلية إن كانت بحيث يباح الانتفاع بها المنفعة المهمة منها كالأكل في اللحوم والشرب في المعايعات واللبس في الجلود فهي ذات مالية فعلية شرعية وإن كانت لا يباح منها عند الشارع المنفعة المهمة المقصودة منها، ولكن يستبيحها من لا يلتزم بالشرع أو من يتدين بشرع يبيحها كالخمرة ولحم الخنزير وربما يبذل الكثير من البشر المال الغزير بأزائها فهي ذات مالية فعلية ولكنها غير شرعية فهي أموال غير مشروعة لا يصح بيعها وشراؤها وأي معاملة عليها لأن المالك الحقيقي أسقط ماليتها ولا تصح المعاوضات عنده إلاَّ على الأموال، فالشاة المذكاة مال فعلي حقيقة شرعاً وعرفاً بخلاف الميتة فإن الشارع لما حرّم أكلها وهي المنفعة المقصودة من مثلها سقطت عن المالية وإن كان فيها كما في الخمرة منافع كثيرة، ولكن حرمة شرب هذا وحرمة أكل تلك في الشريعة الاسلامية المقدسة اسقطها وإن كانت ماليتها محفوظة عند من لا يتدين بهذه الشريعة أو النازغين فيها والكاذبين في الانتساب إليها، هكذا يجب إن تحرر المسائل ولله المنة.

(مادة 128) و(مادة 129)

هاتان المادتان غنيتان عن البيان وكل أحد يعرف المال المنقول وغير المنقول فلا حاجة إلى تعريفهما.

أما الأشجار والغروس فهي من غير المنقول بخلاف الثمار والزروع على إن الثمرة بين المنقول وغيره في الفقه نادرة.

(مادة 130)

النقود: جمع نقد وهو عبارة عن الذهب والفضة

لا يخفى ما فيه من التسامح فإن النقود هي المسكوكات من الذهب والفضة لا مطلق الذهب والفضة، أما غير المسكوك منهما أو المسكوك من غيرهما فهو من العروض، والنقود يعتبر في صحة التعامل بهما أمران: سكة السلطان، والوزن المخصوص ويجري عليها حكم المعدود من جهة وحكم الموزون من جهة أخرى فلا يصح فيها الربا كما يصح في المعدودات وإن كانت تعد من المعدود ولكن الوزن الخاص ملحوظ فيه وسكته في الغالب دليل على مقدار وزنه فتغني عن اعتباره، أما المسكوكات النحاسية وأمقالها من غير الذهب والفضة فالأقوى إنها من المعدودات فقط والوزن غير ملحوظ فيها أصلاً وإن كان الأحوط أجتناب الربا فيها فلا يجوز بيعها بالتفاضل، أما الورق والأنواط القائمة مقام النقدين فالأقوى عندنا إنها تعتبر نقوداً فيحرم فيها التفاضل وتجب فيها الزكاة ويعتبر في بيعها التقابض في المجلس وكلما يجري على النقدين يجري عليها.

(مادة 131)

العروض جمع عرض (بالتحريك) وهي ما عدا النقود والحيوانات والمكيلات والموزونات كالمتاع والقماش.

الظاهر إن ما عدا النقدين والأراضي داخل في العروض سيّما الأطعمة والفواكه والأفرشة وسائر الأدوات التي يحتاج إليها في مرافق الحياة.

(مادة 132)

المقدرات: ما تتعين مقاديرها بالكيل أو الوزن أو العدد أو الذراع..إلى آخره.

المقدرات هي ذوات الكم من الجسم التعليمي المشتمل على الأبعاد الثلاثة وذوات الكم إن كان متصلاً فإما أن يكون المطلوب منه معرفة ثقله فيعتبر بالوزن (والكيل طريق إليه) أو المطلوب معرفة أمتداده وطوله وعرضه فيعتبر مساحته بالذراع وإن كان الكم منفصلاً فبالعدد فمقادير الأجسام تعرف بالكيل أو الوزن أو العدد أو الذارع، ولكن الكيل يرجع إلى الوزن، والذراع يرجع إلى العدد فأصول المقاييس اثنان: وزن وعدد.

نعم، هنا قسم آخر لم تذكره (المجلة) يغني عن الوزن والعدد وغيرهما في غير المعدود والمكيل والموزون وهي المشاهدة كما في الأحطاب والزروع جزة وجزتين وقطفة وقطفتين، بل وكثير من الأفرشة والألبسة كالعبا والقباء والثياب المخيطة والكتب والأواني الزجاجية وغيرها وكثير من الآلات والأدوات فكان يلزم ذكرها ولعلها أكثر من المكيل والموزون والمعدود.

تحرير وتحوير

يظهر إن أصحاب (المجلة) الفوها المتأثرين بظروفهم الخاصة والمحيط الذي كانوا فيه الذي كان أكثر أهلية ممن لا يعرفون الأذروا من العربية ولا يعرفون ذلك أيضاً إلاَّ تلقيناً وتحقيناً، وقد أضطرتهم تلك الظروف أن يذكروا في (المجلة) كثيراً من المواد التي يجدها العربي الأصيل (بل والدخيل) من الفضول والتوافه ومن قبيل توضيح الواضحات مثل (مادة 133) المكيل ما يكال، (مادة 134) الموزون ما يوزن، (المادة 135) المعدود ما يعد، (المادة 136) المذروع ما يقاس بالذراع، وهكذا إلى أن تصل المهزلة إلى (مادة 160) البائع هو من يبيع، (المادة 161) المشتري هو من يشتري، (المادة 162) المتبايعان هنا البائع والمشتري...

فهل يليق بالكتب العلمية سيّما التي تدرس في المدارس العالية أن تشتمل على مثل هذه السفاسف التي هي اليوم من قبيل ما يقال (السماء فوقنا) والتي لا يترتب على نشرها أي فائدة.

(وفسّر الماء بعد الجهد بالماء)

وإذا كان لأصحاب (المجلة) عذر من جهة ظروفهم فأي عذر لمن يعنيهم الأمر اليوم في إبقاء هذه المواد على ما هي عليه مما لا يتناسب مع عصرنا ومحيطنا، وما العذر في ترك هذا الكتاب على علاّته من دون تحرير أو تحوير.

وما دفعنا إلى النهوض  بهذه الأعباء إلاَّ خدمة للعلم وتسهيل السبيل إلى الأسس الرصينة لنشأتنا الحديثة ونشئنا الناهض وتمرينهم على طلب الحقائق الجوهرية وعدم الجمود على تسطير المواد والصناعة اللفظية، والرصانة والمتانة هي الهدف الأسمى في كل شيء سيّما في العلوم والقضايا الحقوقية، وبالله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وأكثر المواد المسطورة هنا أعني في ذيل هذه المقدمة من ذلك الأسلوب الواهي، واللازم أن نقتصر على المهم النافع منه، مثل:


 

(مادة 145)

المثلي ما يوجد مثله في السوق بدون تفاوت يعتد به

أختلف فقهاؤنا في تعريف (المثلي) وما يقابله وهو (القيمي)، وليس المراد التعريف والحد الحقيقي طبعاً بل القصد اعطاء الضابطة للتمييز بينه وبين القيمي حتى يستراح إليه عند الشك في موارد الضمانات حيث إنَّ المثلي يضمن بالمثل القيمي يضمن بالقيمة فلابد من ضابطة يتميز بها المثلي من القيمي.

وقد اختلفت كلمات فقهائنا في تعريف المثلي وعرفه المشهور بأنه: ما يتساوى اجزاؤه من حيث القيمةٍ. يعني إذا كانت (حقة الحنطة) قيمتها درهم فربعها ربع درهم وهكذا بخلاف القيمي فإن الحيوان الذي تكون قيمة مجموعه ألفاً قد لا تكون قيمة نصفه مائتين والجوهر الذي وزنه مثقال قد يكون قيمته ألفين ولكن ربعه قد لا تبلغ قيمته مائة، وبالجملة كلما يكون لهيئته الاجتماعية مدخلية في ثمنه فهو مثلي وإلاَّ فهو قيمي.

ثم أطالوا النقوض على هذا التعريف وطال النقض والإبرام وعرفوه بتعاريف أخرى تحرياً للأقرب إلى الحقيقة مثل قولهم: (المثلي ما تماثلت أجزاؤه وتقاربت صفاته)، وعرفه آخر بما تساوت أجزاؤه في الحقيقة النوعية يعني أن أسم الحقيقة النوعية كما يصدق على مقدار مجموع منه كذلك يصدق على كل واحد من ابعاضه حتى القبضة بل الحبة والحبات منها، ولا بأس بهذا التعريف وإن كان ينتقض بكثير من القيميات كالجوهر، فإن أسم النوع الصادق على مجموعه بصدق على أبعاضه، وقد اتفقوا على إن الجواهر بجميع أنواعها قيمية كما أتفقوا على إن المسكوكات بل مطلق الذهب والفضة المثلية، والتحقيق عندنا في المقام: إن هذا البحث (أعني تعريف المثلي والقيمي) ينبغي أن يكون ساقطاً من أصله إذ لم يرد في دليل من كتاب أو سنة، هذان اللفظان حتى يلزمنا البحث عن معناهما وطلب المائز بينهما وأدلة الضمان كقاعدة اليد وغيرها لم تتعرض لبيان ما به الضمان وإنما مفادها إن المال في عهدة واضع اليد أو المتلف أو الغار أو غير ذلك وقد أوضحنا إن معنى الضمان هو العهدة عقلاً وعرفاً بل ولغة وشرعاً ومقتضاه وجوب رد العين إذا كانت موجودة ورد الأقرب فالأقرب إليها إذا كانت تالفة وحيث إن الأقرب إلى العين بعد تلفها هو المثل مطلقاً سواء كان مثلياً على مصطلحهم أو قيمياً بل ندور مدار صدق كونه مثله عند العرف فإن تمكن من غير عسر وحرج من تحصيل مثله وجب ليدفعه إلى المضمون له سواء كان تحصيله من الأسواق أو من البيوت أو غير ذلك، وسواء أمكن بثمن المثل أو أقل أو أكثر إذا لم يبلغ الإجحاف فيلحق بالمتعذر وإذا تعذر المثل أو تعسر رجع إلى القيمة، أما قيمة يوم القبض أو يوم التلف أو يوم الدفع أو أعلى القيم فيما بينها على الخلاف الذي مرّت الإشارة إليه: والفرق كالصبح واضح بين هذه الطريقة وطريقة المشهور فإنهم بعد أن قسموا الأشياء إلى مثلية وقيمية أوجبوا ضمان المثل بمثله والقيمي بقيمته فلا حق للضامن بدفع المثلي عن القيمي مع التمكن. كما لا حق له بدفع القيمة عن المثل في المثلي مع تيسير إلاَّ مع التراضي الذي هو كمعاملة جديدة.

أما على اختيارنا فالواجب عليه تحصيل المثل ودفعه مهما كان الشيء ولا يهمنا كونه مثلياً أو قيمياً، فإن تعذّر أو تعسر لزمه دفع القيمة.

أما تعريف (المجلة) فيمكن تطبيقه على ما ارتأيناه، سوى إن التقييد بوجوده في السوق مستدرك، ولو عبروا عنه بما يمكن تحصيل مماثله بدون تفاوت يعتد به وبدون مشقة وإجحاف، والقيمي ما يتعذر تحصيل مثله أو يتعسر إلاَّ بأجحاف لكان أقرب إلى الصواب، ويؤيد ما اخترناه من إن الأصل في الضمان هو المثل، قوله تعالى: [فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ]، [وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا] أما القيمة فهي بدل قهري تقضي به الضرورة والأحوال الاستثنائية فتدبره.

(مادة 152)

الثمن ما يكون بدلاً للمبيع ويتعلق بالذمة.

(مادة 153)

الثمن المسمى هو الذي يسميه ويعينه المتعاقدان وقت البيع بالتراضي سواء كان مطابقاً لقيمته الحقيقية أو ناقصاً عنها أو زائداً.

هاتان المادتان ــ مادة واحدة ــ لأن الذي يكون بدلاً للمبيع هو المسمى الذي قد يساوي القيمة السوقية وقد ينقص وقد يزيد، ثم إن المسمى الذي يكون بدلاً للمبيع قد يتعلق بالذمة وقد يكون عيناً شخصية فقصره على الأول مما لا وجه له على الظاهر، وتحرير القضية إن البيع مضافاً إلى ما تقدم له من الأقسام ينقسم أيضاً بأعتبار كلية العوضين أو جزئيتهما إلى أربعة أقسام لأنهما أما أن يكونا معاً عينين شخصيتين فالبيع شخصي أو يكونا معاً كليين فالبيع كلي أو يكون المبيع شخصياً والثمن كلي في الذمة ولعله الغالب أو يكون بالعكس كما هو في السلم بالنسبة إلى المبيع فإنه كلي أبداً، أما الثمن فيصح أن يكون جزئياً وكلياً وتختلف هذه الأقسام في الأحكام سيّما من حيث التلف قبل القبض ثمناً أو مثمناً، كما سيأتي كل واحد في محله.

(مادة 154)

القيمة هي الثمن الحقيقي للشيء

لعله غير خفي على النبيه أن ليس لشيء من الأعيان المتقومة أعني الماليات قيمة حقيقية بل تختلف قيم الأعيان بأختلاف المكان والأزمان والقلة والكثرة والرغبات المنبعثة عن الحاجة أحياناً وعن التوسع والترفه في الأكثر فرب سلعة في بلد لها قيمة وفي بلد آخر تجاورها أكثر منها أو أقل بل وفي بلد واحد قد تختلف قيمة الشيء الواحد بأختلاف الأيام والفصول، وهذا يكشف عن كون الأشياء ليس لها قيمة حقيقية بل ليس لها حقيقة القيمة إلاَّ أمر اعتباري يختلف بأختلاف الظروف التي ينشأ منها الاعتبار فقول (المجلة) إن القيمة هي الثمن الحقيقي ناشئ من عدم إمعان النظر، والظاهر أنهم يريدون أن الثمن الحقيقي في مقابل الثمن المسمى وهي قيمة الشيء في حد ذاته، ولو عبروا بأن ثمن الشيء بذاته هو قيمته السوقية، أي لا ثمنه المسمى لكان أقرب إلى الصواب.

(مادة 155)

المثمن هو الشيء الذي يباع بالثمن

هذا أيضاً مضافاً إلى كونه من الواضحات لا يترتب عليه أي فائدة.

(مادة 156)

الدين ما يثبت في الذمة كمقدار من الدراهم في ذمة الرجل، ومقدار منها ليس بحاضر، والمقدار المعين من الدراهم، أو من صبرة الحنطة الحاضرتين قبل الافراز فكلها من قبيل الدين.

وهذا أيضاً من الخلط الغريب فإن الدين لغة وشرعاً وعرفاً ليس إلاَّ الكلي الذي يتعلق بالذمة في مقابل العين التي يتحقق في الخارج وجودها الشخصي فالدين هو الكلي والمعين هو الشخص، وهذا مما لا يختلف فيه اثنان.

نعم، الكلي المطلق لا يقيد الاطلاق وبعبارة أصح مطلق الكلي قسمان: قسم منه في الذمة وهو الدين وأسباب تعلقه بالذمة كثيرة وأحد أفراده عقد القرض لا القراض وقسم منه في الخارج وهو الذي يسميه فقهاؤنا (الكلي في المعين) مثل صاع من صبرة معينة وشاة من قطيع معين فإنه أي الصاع أو شاة كلي لأنه صادق على كثيرين وهي كل صاع من الصبرة وجزئي لأنه في الخارج لا في الذمة وهو مردد في معين وهي الصبرة أو القطيع وعلى كل حال فلا علاقة له بالدين أصلاً ويظهر الفرق بينه وبين الصاع المشاع بالإشاعة الكسرية في أمور لا مجال لها هنا وربما يأتي الإشارة إليها في موضع آخر إن شاء الله.

وما بقي من المواد المذكورة هنا أي في المقدمة كلها واضح، والجدير إن نشرع بعد الفراغ من مواد المقدمة في مقاصد الكتاب وأبوابه:


 

 
امتیاز دهی
 
 

 
Guest (PortalGuest)

دبيرخانه كنفرانس‌هاي بين‌المللي
Powered By : Sigma ITID